الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

وأضاعوه وأيّ فتىً أضاعوا؟ وأضاعوا فيه وصيّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وناوأه قوم ليسوا له بأكفاء.

ولو أنّي بُليت بهاشميٍ

خؤولته بنو عبد المدانِ

لهان عليَّ ما ألقى ولكن

تعالوا وانظروا بمن ابتلاني

(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١)

نظرة في مقال

أصدرته لجنة الفتوى بالأزهر

جاء في جريدة الوقت المصريّة العدد الثاني لسنتها الأُولى الموافقة سنة (١٣٦٧) ما نصّه :

لجنة الفتوى بالأزهر تقول : لا شيوعيّة في الإسلام.

عن الأهرام الغرّاء

كانت وزارة الداخليّة قد أحالت إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر كتاباً تناول فيه مؤلّفه مذهب العالم الصحابيّ أبي ذر الغفاريّ غفر الله له ، وخلص من بحثه إلى القول بوجود الشيوعيّة في الإسلام ، وذلك لكي تعرف الوزارة رأي الدين في ذلك ، وما إذا كان هذا الكتاب يمكن تداوله. وقد أحال فضيلة الأستاذ الأكبر هذا الموضوع إلى لجنة الفتوى في الأزهر ، فاجتمعت برئاسة فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم المفتي السابق ورئيس هذه اللجنة ، وبحثت موضوع الكتاب بحثاً مستفيضاً ، ثمّ أصدرت فيه فتواها وقد تلقّت وزارة الداخليّة هذه الفتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر. وهذا نصّها بعد الديباجة :

__________________

(١) الصف : ١٤.

٥٠١

لا شيوعيّة في الإسلام

إنّ من مبادئ الدين الإسلاميّ احترام الملكيّة ، وإنّ لكلّ امرئٍ أن يتّخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبّه ويستطيعه ويتملّك بهذه السبل ما يشاء ، هذا وقد ذهب جمهور من الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنّه لا يجب في مال الأغنياء إلاّ ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب الزوجيّة أو القرابة ، وما يكون لعوارض موقّتة وأسباب خاصّة كإغاثة ملهوف وإطعام جائع مضطرّ ، وكالكفّارات وما يتّخذ من العدّة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا ، ولسائر المصالح العامّة المشروعة كما هو مفصّل في كتب التفسير وشروح السنّة وكتب الفقه الإسلاميّ. هذا هو الواجب. غير أنّ الإسلام يدعو كلّ قادر من المسلمين أن يتطوّع بما شاء من ماله يصرفه في وجوه البرّ والخير مع عدم الإسراف والتبذير في ذلك كما قال الله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (١) وكما قال عزّ وجلّ في وصف عباده الذين أثنى عليهم : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢) وكما تدلّ عليه السنّة في أحاديث كثيرة. وذهب أبو ذر الغفاري رضى الله عنه إلى أنَّه يجب على كلّ شخص أن يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده ـ في سبيل الله ـ أي في سبيل البرّ والخير ، وأنّه يحرم ادّخار ما زاد عن حاجته ونفقته ونفقة عياله.

هذا هو مذهب أبي ذر ولا يُعلم أنّ أحداً من الصحابة وافقه عليه. وقد تكفّل كثير من علماء المسلمين بردّ مذهبه وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين

__________________

(١) الإسراء : ٢٩.

(٢) الفرقان : ٦٧.

٥٠٢

بما لا مجال للشكّ معه في أنّ أبا ذر رضى الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحقّ أنّ هذا مذهب غريب من صحابيّ جليل كأبي ذر ، وذلك لبعده عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح ، ولذلك استنكره الناس في زمنه واستغربوه منه.

قال الآلوسي في تفسيره (١) بعد ما بيّن مذهبه ما نصّه : وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك ، وكان الناس يقرءون له آية المواريث ويقولون : لو وجب إنفاق كلّ المال لم يكن للآية وجه. وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حلّ مستغربين منه ذلك. انتهى.

ومن هذا يتبيّن أنّ هذا الرأي خطأ وصاحبه مجتهد مخطئ مغفور له خطؤه بل مأجور على اجتهاده ، ولكنّه لا يُتابع فيما أخطأ فيه بعد تبيين أنّه خطأ لا يتّفق هو وما يدلّ عليه كتاب الله وسنّة رسوله وقواعد الدين الإسلاميّ.

ولمّا كان مذهبه داعياً إلى الإخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضى الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة ـ وكان أبو ذر وقتئذٍ في الشام فاستدعاه الخليفة ، فأخذ أبو ذر يقرّر مذهبه ويفتي به ويذيعه بين الناس ، فطلب منه عثمان أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس ، فأقام بالربذة ـ مكان بين مكة والمدينة.

وقال ابن كثير في تفسيره (٢) : كان من مذهب أبي ذر رضى الله عنه تحريم ادّخار ما زاد على نفقة العيال. وكان يفتي بذلك ويحثّهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضرّ بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى عثمان وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده ، وبها مات رضى الله عنه في خلافة عثمان.

__________________

(١) روح المعاني : ١٠ / ٨٧.

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٥٣.

٥٠٣

وجاء في فتح الباري (١) للحافظ ابن حجر ما خلاصته : أنّ دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة ، ولذلك أمر عثمان أبا ذر أن يقيم بالربذة مع أنّ في بقائه بالمدينة مصلحة كبيرة لطالبي العلم لما في بقائه بالمدينة من مفسدة تترتّب على نشر مذهبه.

وممّا ذكرنا يتبيّن أنّ ما في هذا الكتاب ـ الشيوعيّة في الإسلام ـ لا يتّفق هو ومبادئ الإسلام وقواعده. كما يتبيّن أنه لا شيوعيّة في الإسلام بالمعنى الذي يفهمه الناس ، والذي صرّح به صاحب هذا الكتاب وسمّاه شيوعيّة الإسلام ، ومن أجل هذا نرى ألاّ يذاع مثل هذا الكتاب بين الناس لئلاّ يتّخذها المفسدون في الأرض الهدّامون للنظم الصالحة ذريعة للإخلال بالنظام وإفساد عقول ضعفاء الإيمان والجاهلين بمبادئ الإسلام.

قال الأميني : إنّ وزارة الداخليّة أو شيخ الأزهر لو أحال كلّ منهما النظر في هذه المهمّة إلى لجنة عارفة بحال أبي ذر ، واقفة على مقاله ، مطّلعة على كتب الحديث والسير والتفاسير ، بصيرة بما فيها من الغثّ والسمين خالية عن الأغراض ، بعيدة عن النعرات الطائفيّة ، لحكمت بما هو الحقّ الصراح ، وعرفت أنّ ما دعا إليه أبو ذر لم يكن خارجاً عمّا سردته هي في مفتتح مقالها من اعتبار المالكيّة لكلّ إنسان ، وما يجب عليه إنفاقه من المال ، وما يتطوّع به الرجل من النفقات ، وقد أوقفناك قبل هذا على كلّ ذلك ، وأنّ هياجه لم يكن موجّهاً إلاّ إلى أناس معلومين كانوا يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقون منها في سبيل الله ، ويحرمون الأُمّة من منافعها المفروضة لها فضلاً عن المندوب إليها والمرغّب فيها. وبذلك كلّه تعرف أن ما عزت إليه اللجنة الحاكمة ـ من غير بصيرة ـ من وجوب إنفاق ما فضل من المال على حاجة الإنسان ونفقته ونفقة عياله زور من القول ، وفند (٢) من الرأي ، وليتها أشارت إلى مصدر ما ادّعته من

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.

(٢) الفند : الكذب ، والمحرّف من الكلام.

٥٠٤

مذهب أبي ذر الذي حسبته مخالفاً لجمهور الصحابة والتابعين ، وقد أسلفنا لك جملة ممّا أثر عنه في ذلك ، وليس في شيء منه أيّ دلالة على ما ادّعته من العزو المختلق ، وليتها بيّنت العلماء الذين تصدّوا لنقض مذهب أبي ذر ، وأشارت إلى ما جاءوا به في تدعيم حجّتهم ، ولعلّها أرادت بهم المؤرّخ محمد الخضري ، وأحمد أمين ، وصادق إبراهيم عرجون ، وعمر أبي نصر ، ومحمد أحمد جاد المولى بك ، وعبد الحميد بك العبادي ، وأمثالهم من المحدثين المتسرّعين الذين مُنيت بهم البلاد والعباد.

وأسلفنا لك أيضاً قول عظماء الصحابة في أبي ذر وموافقتهم له على حقيقة رأيه ، واستيائهم لما نكب به من جرّاء ذلك ، وإجماع صلحائهم على أنّ ما جاء به كان رأياً صحيحاً دينيّا محضاً مستفاداً من الكتاب والسنّة.

وعجيب استغرابها مذهب أبي ذر وهي لا تعرفه ، وأعجب منه اعتذارها له ببعده عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح مع قولها باجتهاد أبي ذر ، أيّ اجتهاد هذا من عيلم أخذ المبادئ من مشرّعها يبعد حامله عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح؟ نعم ؛ كم وكم عند القوم من المجتهدين البعيدة آراؤهم عن مبادئ الإسلام كابن ملجم قاتل الإمام أمير المؤمنين ، وأبي الغادية قاتل عمّار ، وابني هند والنابغة قائدي الفئة الباغية ، وأمثالهم (١) لكن شتّان بين هؤلاء وسيّد غفار!

أوَليس ممّا يُضحك الثكلى ويبكي كلّ مسلم أن يُحسب أنّ مذهب أبي ذر بعيد عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح؟ وهو الذي لم يعبد الصنم قبل إسلامه وصلّى سنين قبل المبعث الشريف مولّياً وجهه إلى الله وهو محسن ، وهو ربع الإسلام ورابع المسلمين ، وقد طوى جُلّ سنيّه على عهد النبوّة في صحبة الرسول الأعظم ولم يفتأ متعلّماً منه ، مصيخاً إلى كلّ ما يدعو إليه ويهتف به ، فتنتقش كلّ تلكم

__________________

(١) ممّن أسلفنا ذكرهم في الجزء السابع : ص ١٠٥ ، ١٠٦. (المؤلف)

٥٠٥

المثل العليا في نفسه كما تنتقش الصور في المرآة الصافية ، بل تثبت فيها كما تثبت في العدسة اللاقطة.

كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدنيه دون الصحابة إذا حضر ويتفقّده إذا غاب ، وكان شحيحاً على دينه حريصاً على العلم ، وقد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كلّ شيء حتى عن مسّ الحصى في الصلاة ، وقد صبّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدره ما صبّه جبريل وميكائيل في صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرّفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته بأنّه شبيه عيسى هدياً وسمتاً ونسكاً وبرّا وصدقاً وخلقاً وخُلقاً (١).

وما ظنّك برجل قال فيه باب مدينة علم النبيّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سُئل عنه : «وعاء ملئ علماً ثمّ أوكى (٢) عليه» (٣).

أو ليس من العجب العجاب أنّ من هو هكذا وهو في عهد النبوّة لم يزل في مدينة الرسول يتلقّى منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ إفاضاته ، ويستقي من مستقى الوحي يكون مذهبه بعيداً عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الواضح ، ويكون رأي كعب الأحبار اليهوديّ حديث العهد بالإسلام أو من بعده بعد لأي من عمر الدهر ـ وقد نمى وترعرع وشبّ وشاب في عاصمة الفراعنة يوم غشيت الحقائق ظلمات بعضها فوق بعض ـ قريباً منها ، ويكون صاحبه عارفاً بها حاكماً على مثل أبي ذرّ بما حكم؟! كأنّ الحقائق الإسلاميّة نصب عينه دون سيّد غفّار ، أو معلّقة على شحمة أُذنه يسمع رنّتها دون ذلك الصحابيّ العظيم!

هب أنّا تنازلنا للّجنة الحاكمة عن كلّ ما قلناه ، ولكن هل يسعنا التغاضي عمّا جاء به الحفّاظ وأئمّة الحديث من طرق صحيحة عن نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إطراء

__________________

(١) راجع في كلّ ذلك صفحة : ٣١٢ ـ ٣١٦ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) يقال : أوكى القربة وأوكى عليها إذا شدها.

(٣) راجع : ص ٣١١ من هذا الجزء. (المؤلف)

٥٠٦

الرجل والثناء عليه وإكباره وتقرير هديه وهداه مع عدم استثناء شيء من أطواره في أولياته أو أخرياته؟ وهو العارف بعلم النبوّة بكلّ ما ينهض به أبو ذر بعده ، فهلاّ بدر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ردعه عمّا سينوء به بدل أمره إيّاه بالصبر على ما ينتابه من جرّاء ما قام به ودعا إليه؟ بدل عدّه ما أصابه من المحن ممّا هو لله وفيه؟ بدل إخباره بكلّ ما يجري عليه من النفي والجلاء مقصوراً على ذلك من غير ردع؟

ونسائل اللجنة الحاكمة عن الذين استنكروا مذهب أبي ذر واستغربوه منه من الصحابة أهُم من علية الصحابة أو من أذنابها؟ وبطبع الحال أنّها ستجيبنا أنّهم الحكم ابن أبي العاص ، وأخوه الحارث بن الحكم ، ومروان بن الحكم ، والوليدين عقبة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن خالد ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإن شئت قلت حثالة من بني أُميّة البعداء عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الواضح ، ومن حذا حذوهم في الإكباب على حطام الدنيا واكتناز المال من غير حلّه ممّن أقلقوا السلام ، وجرّوا الويلات إلى خليفة الوقت ، وحرموا ضعفاء الأُمّة عن حقوقهم ، وولغوا في الدماء المحرّمة وأثاروها حروباً دامية ، وألقحوها فتنة شعواء ، فلم تزل عداءً محتدماً تتلقّاها الأجيال من بعدهم حتى انتهت إلى عصرنا الحاضر ، وهو الذي حفز اللجنة الحاكمة على رميها القول على عواهنه ، ولكن صافق أبا ذر على رأيه الصحيح الموافق لمبادئ الدين الإمام أبو السبطين وشبلاه الإمامان وصلحاء الأُمّة كلّهم ومن استاء لنكبات أبي ذر ونقم بها على خليفة الوقت.

حنّ قدح ليس منها (١) :

لقد جرّأ تقحّم هذه اللجنة الجائرة في حكمها جبران ملكون الصحافي

__________________

(١) مثل يُضَرب للرجل يفتخر بقبيلة ليس هو منها ، أو يتمدّح بما لا يوجد فيه. مجمع الأمثال : ١ / ٢٤١ رقم ١٠١٨.

٥٠٧

النصرانيّ صاحب جريدة الأخبار العراقيّة في سنتها العاشرة (١٣٦٨ ه‍) في عددها المتسلسل (٢٥٠٣) الصادر في جمادى الأولى ، فطفق يرقص لما هنالك من مكاء وتصدية ، والمسكين لا يعرف مبادئ الإسلام ولو عرفها لاتّبعها ، ولا مبالغ رجالات المسلمين ولو عرفهم لنزّههم وذبّ عنهم ، لكنّه حسب ما لفّقوه حقيقة راهنة وصبّها في بوتقة من القول هو أربى في إفادة ما حاولوه ، غير أنّه يطفو عليه القوارص واللواذع قال :

لكن أبا ذر الغفاري يعتقد أنّه يتعيّن على كلّ فرد أن ينفق في سبيل الله كلّ ما يفيض عن حاجته وحاجة أُسرته ، ولكن لم يُعرف أنّ أحداً من الصحابة شاطره هذا الرأي ، وإنّما عارض الكثير من عقلاء المسلمين وحكمائهم في هذا المبدأ ، فلا شكّ إذن في أنّ أبا ذر كان مخطئاً في رأيه ، ولا ينبغي اتّباعه بعد أن ثبت أنّه خطأ ، وأنّ رأيه لا يتّفق مع القرآن ولا السنّة ولا المبادئ الإسلاميّة وتعاليمها. انتهى.

ونحن هاهنا لا نعاتبه ولا نستعتبه ، أمّا الأوّل فإنّ الرجل كما قلناه بعيد عن كلّ ما يجب أن يقرب منه في أمثال هذه المباحث حتى يتسنّى له الحكم الباتّ فيها ، وإنّما أحسن ظنّه بأولئك المتقوّلين زاعماً أنّهم هم الأقرباء من المبادئ الإسلاميّة العرفاء بحقيقة ما حكموا به ، ولو كان الأمر كما زعم لكان الحقّ معهم ، وإن كان لنا أن نؤاخذه بأنّ مرحلة حسن الظنّ لا يكتفى بها في باب القضاء الحاسم على عظيم من عظماء الأُمّة ، فكان من واجبه أن يستفرغ وسعه في تحقيق تلكم المزاعم وهو في عاصمة من عواصم الإسلام ـ بغداد ـ وبمطلع الأكمة منه عاصمة الدنيا في العلم والدين ـ النجف الأشرف ـ وفيها العلماء ، والمؤلّفون ، والمحقّقون ، والجهابذة ، وعباقرة الوقت في كلّ جيل ، فكان من السهل عليه أن يستحفي الخبر هنالك أو هاهنا ، ولهذا لسنا نستعتبه لخروجه عن الطريقة المثلى في القضاء ، ونحن نعدّ هذه وأمثالها سيّئة من سيّئات اللجنة الحاكمة وهي المؤاخذة بها. وكأنّي بها وهي تحسب أنّها تحسن صنعاً ، وتبتهج بما نشرته من الحكم الساقط وقذف عظيم من عظماء الأُمّة بما تبرأ منه ساقة

٥٠٨

المسلمين ، وتراه دفاعاً عن بيضة الإسلام المقدّس ، وكفاحاً للشيوعيّة الهدّامة ، وردماً لثلمة أتت على الدين من ذلك المبدأ التعس ، وكأنّها جاءت بقرني حمار (١) لمّا استشهدت على ما ارتأته بأقاويل أُناس زورٍ عن مواقف الحقّ والصدق.

شهود اللجنة :

لقد استشهدت اللجنة على ما أرادت بكلام الآلوسي وابني كثير وحجر ، كأنّها لم تجد في أبي ذر كلاماً لغير هؤلاء من ناصبي العداوة لأهل البيت وشيعتهم ، وما أذهلها ـ أو تذاهلت هي ـ عمّا قدّمناه من الكلمات فيه! وما كان أغناه عن الركون إلى هذه التافهات المختلقة المائنة! لكنّا نعذرها على ذلك لأنّها تتحرّى ما يدعم دعواها ، وما أشرنا إليه من الكلمات السابقة تنقض تلكم الدعوى وتدحرها ، ولذلك اقتصرت في النقل على بعض تلكم الكلم ، وإنّما أسقطت البعض الآخر ممّا لفّقوه للتهافت الظاهر بينها ، فكأنّها شعرت بذلك فحذفته ، وهي تحسب أنّ البحّاثة لا تراجع تلك الكتب ولا تقف على تناقضها ، أو أنّ الآراء لا مناقشة في حسابها ، وليس وراءها محاسب ولو بعد حين ، فنقول هاهنا : أمّا الآلوسي فإليك تمام كلامه في تفسيره (١٠ / ٨٧) قال في تفسير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) :

أخذ بظاهر الآية فأوجب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضى الله عنه ، وجرى بينه لذلك وبين معاوية في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضى الله عنه في المدينة ، فاستدعاه إليها فرآه مصرّا على ذلك حتى إنّ كعب الأحبار قال له : يا أبا ذر إنّ الملّة الحنيفيّة أسهل الملل وأعدلها ، وحيث لم يجب إنفاق كلّ المال في الملّة اليهوديّة وهي أضيق الملل وأشدّها كيف يجب فيها؟ فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدّة

__________________

(١) مجمع الأمثال : ١ / ٢٩٦ رقم ٨٧٣.

٥٠٩

وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضى الله عنه بأُمّه وشكايته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله فيه : إنّك امرؤ فيك جاهليّة ، فرفع عصاه ليضربه وقال له : يا يهوديّ ما ذاك من هذه المسائل. فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان رضى الله عنه فلم يرجع حتى ضربه ، وفي رواية : إنّ الضربة وقعت على عثمان ، وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه ، وكان الناس يقرؤون له آية المواريث ويقولون : لو وجب إنفاق كلّ المال لم يكن للآية وجه ، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حلّ مستغربين منه ذلك ، فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها ، وأشار إليه بالذهاب إلى الربذة ، فسكن فيها حسبما يريد ، وهذا ما يُعوّل عليه في هذه القصّة. ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره. انتهى.

في هذه الكلمة مواقع للنظر :

١ ـ قوله : أخذ بظاهر الآية. إلخ. ليس للآية ظاهر غير باطنها ، وليس فيها إيجاب لإنفاق جميع المال المؤداة زكاته الفاضل عن الحاجة ، فأيّ ظهور فيها يعاضد ما عزوه إلى أبي ذر حتى يسعه الأخذ به والتعويل عليه؟ وإنّما هي زاجرة عن الاكتناز الذي بينّاه في صفحة (٣٢٠) ولم يؤثر قطّ عن أبي ذر المصارحة ولا الإشارة إلى شيء ممّا عزاه إليه ، بل أوقفناك على أنّ كلّ ما روي عنه أو فيه منافٍ لذلك.

٢ ـ ما رتّبه على ذلك من وقوع النزاع بينه وبين معاوية ، وقد أسلفنا في صفحة (٢٩٥) عن صحيح البخاري من أنّ النزاع بينهما كان في نزول الآية لا في مفادها ، فكان معاوية يزعم أنّها نزلت في أهل الكتاب وأبو ذر يعمّمها عليهم وعلى المسلمين ، ومرّ أيضاً مراد أبي ذر من الإنفاق ومقدار المنفق من المال وأنّه ليس ما فضل عن الحاجة وإنّما هو ما ندب إليه الشرع واجباً أو تطوّعاً ، ولم يكن إنكاره إلاّ على الاكتناز الذي هو لدة الاحتكار في الأطعمة ، يحرم الملأ من منافع النقدين ونمائهما ،

٥١٠

ويحرم الفقراء خاصّة عن حقوقهم المجعولة فيهما من ناحية الدين ، وقد فصّلنا القول في هذه كلّها.

٣ ـ ما رواه من قصّة كعب الأحبار : لقد أقرأناك المأثور من هذه القصّة وكيفيّة الحال فيها واختلاف ألفاظها ، وليس في شيء منها أكثر ما لفّقه الآلوسي من قول الرجل لأبي ذر : إنّ الملّة الحنيفية. إلخ. ومن استعاذته بظهر عثمان ، وعدم اكتراث أبي ذر لذلك ووقوع الضربة على عثمان ، وليته ذكر لما تقوّله مصدراً ولو من ٣ ـ أضعف الكتب أو من مدوّنات القصّاصين ، لكنّه أراد أن ينشب على أبي ذر ثورة وهو في عالم البرزخ بوقوع الضربة على عثمان ؛ غير أنّه أخفق ظنّه وأكدى أمله بفضل التنقيب الصحيح.

ونذكر لك هنا لفظ أحمد في مسنده (١) (١ / ٦٣) من طريق مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر : أنّه جاء يستأذن على عثمان بن عفّان رضى الله عنه فأذن له وبيده عصاه ، فقال عثمان رضى الله عنه : يا كعب إنّ عبد الرحمن توفّي وترك مالاً ، فما ترى فيه؟ فقال : إن كان يصل فيه حقّ الله فلا بأس [عليه]. فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما أُحبّ لو أنّ لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبّل منّي أذر خلفي منه ستّ أواق». أُنشدك الله يا عثمان أسمعته؟ ثلاث مرّات. قال : نعم.

ومنه يتجلّى أنّها قضيّة في واقعة ترجع إلى مال عبد الرحمن بن عوف الذي ترك ذهباً قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وبلغ ربع ثُمنه ثمانين ألفاً ، وقد أُعطي له ذلك بغير استحقاق من مال الله الذي يستوي فيه المسلمون ، فكانت أثرة ممقوتة واكتنازاً منهيّا عنه ، وما كانت فتوى كعب تُبرّر شيئاً من عمله ، لأنّه لم يكن من نماء زرع أو نتاج ماشية أو ربحاً من تجارة حتى يطهّره إخراج حقوق الله منه ، وإنّما كان المال كلّه لله ، وأفراد المسلمين فيه شرع سواء ، وإن كان لابن عوف فيه حقٌّ فعلى زنة بقيّة المسلمين فحسب.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٠٢ ح ٤٥٥. وما بين المعقوفين منه.

٥١١

والعجب من هذا الاستفتاء ومن توجيهه إلى كعب خاصّة ـ وهو يهوديّ قريب العهد بالإسلام ـ وفي المنتدى مثل أبي ذر عالم الصحابة ، والمستفتي جدّ عليم بحقيقة ذلك المال لأنّه هو الذي أدرّه عليه جزاء حسن اختياره للخلافة يوم الشورى ، ولم تكن ثروته الشخصيّة تفي بتلكم العطايا الجزيلة ، فليس لها مدرّ إلاّ مال الله ، فعلى أبي ذر البصير بمواقع أحكام الشرع أن ينكر تلكم المنكرات على من استباح ذلك العطاء ، وعلى من استباح أخذه واكتنازه ؛ وعلى من حاول أن يُبرّر تلكم الأعمال. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وإن كانت توجب نظريّة أبي ذر هذه الشيوعيّة أو الاشتراكيّة فقد سبقه إليها الخليفة الثاني ببيان أوفى وتقرير أوضح ، أخرجه الطبري في تاريخه (١) (٥ / ٣٣) من طريق أبي وائل ، قال : قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسّمتها على فقراء المهاجرين.

وأخرجه ابن حزم في المحلّى (٦ / ١٥٨) فقال : هذا إسناد في غاية الصحّة والجلالة.

وفي عصر المأمون (٢) (١ / ٢) : حرّم عمر بن الخطّاب على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة لأنّ أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد وموال ، كلّ ذلك يدفعه لهم من بيت المال ، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة.

نعم ؛ عزبت عن اللجنة نظريّة الخليفة الثاني في ناحية المال ، أو أنّ عظمة الخلافة صدّتهم عن الجرأة عليه ، لكنّ أبا ذر لم يكن خليفة فتمنعهم عظمته عن التقوّل

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٢٦ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٢) لمؤلفه أحمد فريد رفاعي ، المفتش في وزارة الداخلية المصرية سابقاً.

٥١٢

عليه ، وقد مات في المنفى فريداً وحيداً لا يجد من يعينه أو يدافع عنه أو يجهّزه بعد موته فيتوثّب عليه حتى الخنافس والديدان ، غير أنّ له يوماً آخر يُحشر فيه أُمّة واحدة ، هنالك تُبلى السرائر ويُعلم ما ارتآه أبو ذر وما رُمي به ، ذلك يوم مشهودٌ له الناس ، والحكم هنالك لله الواحد القهّار.

٤ ـ ما عزا إليه من الحدّة ، وهو ينافي تشبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه بعيسى بن مريم في هديه وخلقه ونسكه وزهده (١) فهو ممثّل المسيح عليه‌السلام في هذه الأُمّة ، وأنّى تقع الحدّة منه؟ إلاّ أن يدعوه إليها الدين كما هو من خصال المؤمنين الموصوفين بالوداعة بينهم ، والخشونة في ذات الله ، وأبو ذر في الرعيل الأوّل منهم ؛ فليس من المستطاع أن نخضع لصحّة هذه الرواية ، وفيها الوقيعة من أبي ذر فيمن يعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرّبه ويدنيه ويحبّه.

فلا تكاد تنهض حجّة على مفادها ولو جاءت بسند صحيح ؛ لأنّ المعلوم من حال أبي ذر هو ما أخبر به النبيّ الصادق الأمين ، وعلى فرض صحّتها قضيّة في واقعة لا تعدو أن تكون فلتة ليست لها لدة ، ولعلّها صدرت منه قبل تحريم ذلك كما ذهب إليه شرّاح صحيح البخاري (٢) وبمثلها لا يمكن أن تثبت لأبي ذر غريزة الحدّة فيحمل ما صدر منه في المقام عليها.

وكأنّ الرجل هاهنا ذهل عمّا ذكره في كتابه مسائل الجاهليّة (ص ١٢٩) من قوله : إنّ أبا ذر رضى الله عنه قبل بلوغه المرتبة القصوى من المعرفة تسابّ هو وبلال الحبشي المؤذّن فقال له : يا ابن السوداء. فلمّا شكا بلال إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم قال له : «شتمت بلالاً وعيّرته بسواد أُمّه؟» قال : نعم. قال : «حسبت أنّه

__________________

(١) راجع : ص ٣١٢ ـ ٣١٤ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) راجع فتح الباري لابن حجر [١ / ٨٧] ، وإرشاد الساري للقسطلاني [٣ / ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ح ١٤٠٦] ، وعمدة القاري للعيني [٨ / ٢٦٢ ح ١١]. (المؤلف)

٥١٣

بقي فيك شيء من كبر الجاهليّة». فألقى أبو ذر خدّه على التراب ثمّ قال : لا أرفع خدّي حتى يطأ بلال خدّي بقدمه. انتهى.

وهكذا رواه البرماوي ، وذكره القسطلاني في إرشاد الساري (١) (١ / ١١٣) وقال : زاد ابن الملقن : فوطأ خدّه.

هذا أبو ذر وهذا أدبه وكرم أخلاقه ، وإنّه لعلى خلق عظيم.

٥ ـ ما ادّعاه من كثرة المتعرّضين لأبي ذر ... إلخ. ليته سمّى واحداً من أولئك المتعرّضين ، أو سمّى مصدراً ولو من أتفه المصادر يصافقه على هذه الدعوى ، وإنّما كانت الصحابة يومئذٍ بين مصافق لأبي ذر على هتافه ، ومُسلّ له على نكبته ، ومُستاء على ما أصابه من الأذى ، وناقم على من فعل به ذلك ، لم يكن عندئذٍ من يردّ عليه قوله ويحفظ آية المواريث ، وأبو ذر ناسيها وهو وعاء ملئ علماً بشهادة من أعلم الأُمّة باب مدينة علم النبيّ صلّى الله عليهما وآلهما.

كان من العزيز على صلحاء الصحابة المنابأة (٢) بالفادح الجلل تسيير أبي ذر إلى الربذة لكرههم ذلك ونُبوِّ (٣) سمعهم عنه ، وكان الصحابيّ الصالح يسترجع مراراً لمّا قرع سمعه ذلك النبأ المزري ، وكان يقول : ارتقبهم واصطبر ، اللهمّ إن كذّبوا أبا ذر فإنّي لا أُكذّبه ، اللهمّ وإن اتّهموه فإنّي لا أتّهمه ، اللهمّ وإن استغشّوه فانّي لا أستغشّه ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً ، ويسرّ إليه حين لا يسرّ إلى أحد (٤).

ولعلّ الآلوسي يريد بمن ذكرهم من المتعرّضين طغمة آل أُميّة المتّخذين مال الله

__________________

) إرشاد الساري : ١ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ح ٣٠.

(٢) كذا ، ولعله رحمه‌الله أراد : المُنابة : من نابه أمر إذا نزل به أو أصابه.

(٣) نبا سمعه نبوّا : أي تجافى وكره.

(٤) راجع من هذا الجزء صفحة : ٣١٥. (المؤلف)

٥١٤

دولاً ، وعباده خولاً ، ودينه دخلاً ، وكتابه دغلاً ، غير أنّهم ما كانوا يجادلون بالقرآن ، وما كانوا يعرفون منه إلاّ ظاهراً من قوله تعالى : (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا) (١) وكانت مجادلتهم مجالدة بالحراب والعتاد ، وكان قولهم في ذلك صخباً وجلبة ، فتبعهم الآلوسي تحت جامع النزعة.

٦ ـ حسبانه بأنّ خروجه إلى الربذة كان مللاً منه من تعرّض الناس وازدحامهم عليه مستغربين منه رأيه ، بعد أن استشار عثمان فأشار إليه بالذهاب إليها فسكن فيها حسبما يريد. وهذه أُكذوبة أخرى ، فقد مرّ فيما تقدّم أنّه نُفي إلى الربذة ، ومُنع الناس عن مشايعته ، فلم يدنُ منه أحد إلاّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وابناه الإمامان وعمّار معهم ، وما جرى بينهم وبين مروان ، ثمّ ما جرى بين الإمام وبين عثمان ، وما قال له مشايعوه من كلمات التسلية ، وما قاله أبو ذر نفسه لمن زاره في الربذة ، وقول عثمان لعمّار : يا عاضّ أير أبيه أتحسب أنّي ندمت من تسييره؟ إلى كلمات أخرى كلّها صريحة في تسييره على صورة غير مرضية ، ونقمة الصحابة جمعاء على من فعل به ذلك. وقد عرفت قبل هذه كلّها إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك النفي والإخراج بالرغم من أشواق أبي ذر المحتدمة على جواره مرقد النبيّ الأعظم ، فراجع تفاصيل هذه الجمل فيما تقدّم من صحائف هذا الجزء. لكن الآلوسي أراد أن يخفّف وطأة النقد على من والاه وردّ النقمة عنه فصدّر للقصّة صورة خياليّة ، وحسب أنّ التنقيب لا يكشف عن عوارها ، وليت اللجنة الحاكمة لم تتغافل عن أنّ هذه الجملة الأخيرة تنافي ما استشهدت به من كلام ابني كثير وحجر ، فقد اعترفا بأنّ خروج أبي ذر إلى الربذة كان تسييراً بلا اختيار منه ، غير أنّهما حاولا الاعتذار عن قِبَل من ارتكب ذلك.

٧ ـ قوله : هذا ما يُعوّل عليه في هذه القصّة ... إلخ. انظر إلى هذا الرجل كيف

__________________

(١) القصص : ٧٧.

٥١٥

يحاول أن يغمط الحقائق الثابتة حسب ميوله وأهوائهِ ، وهو يزعم أنّ الأُمّة ستتّخذ ما لفّقه أصلاً متّبعاً ، فتمحو الكتب وتلقي الستار على صفحة التاريخ ، وتحذف الأحاديث من مدوّناتها ، وتضرب صفحاً عن غير كتابه ممّا ثبت فيها كلّ ما نفاه هو كما قدّمنا لك ذلك في أبحاثنا هذه. وقصارى القول أنّ العلماء في هذه المسألة فريقان : فقسم سرد تلكم الأحوال سرداً تاريخيّا أو أخرجها إخراج الحديث من غير تعرّض لما لها أو عليها وقد عرفت هؤلاء ، وفريق يعترف بكلّ ما هنالك غير أنّه يعتذر عمّن ارتكب هاتيك الأحوال بأنّها كانت لحفظ أبّهة الخلافة ، وصيانة منصب الشريعة ، وإقامة حرمة الدين (١) وليس أحد من هؤلاء من الشيعة حتى يجعل الآلوسي روايتهم غير معوّل عليها ، وهل من الجائز أن لا يتفطّن أعلام القوم وحفّاظهم في كلّ تلكم القرون الخالية لما جاء به الآلوسي ، وحسبوا أُولئك ما روته الشيعة صحيحاً وجعلوه من مطاعن عثمان المتسالم عليه عندهم ، وجاؤوا ينحتون له الأعذار في تبريره؟ وبعد هذه كلّها فلا عذر للجنة الحاكمة في أن تعتمد على مثل هذه الكلمة التي مزيجها الكذب ، وحشوها الأغلاط ، والعوار مكتنف بها من شتّى نواحيها ، هذا حال الشاهد الأوّل الذي استشهدت به اللجنة الحاكمة.

الشاهد الثاني : أمّا شاهد اللجنة الثاني وهو ابن كثير ، وما أدراك ما ابن كثير؟ وما أدراك ما كتاباه في التفسير والتاريخ؟ مجاميع الفحش ، وموسوعات البهت ، وكراريس الدجل ، ومن تدجيله هاهنا ما ادّعاه من نسبة تحريم ادّخار ما زاد على نفقة العيال إلى أبي ذر وأنّه كان يفتي به ويحثّهم عليه ... إلخ. على حين أنّه لا يوجد لأبي ذر أيّ فتوى تصرّح أو تلوّح بذلك التحريم أو حثّ له على ذلك أو أمر به أو تغليظ فيه غير ما لفّقه الأفّاكون في الأدوار المتأخّرة من عزو مختلق ، نعم ؛ وربما يتّخذ

__________________

(١) راجع الرياض النضرة : ٢ / ١٤٦ [٣ / ٧٤ ـ ٧٥] ، الصواعق : ص ٦٨ [ص ١١٤] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٦٨. (المؤلف)

٥١٦

مصدراً لهذه الأفائك ما شوّه به الطبري صحيفة تاريخه من مكاتبة السريّ الكذّاب من طريق شعيب المجهول عن سيف الساقط المتّهم بالزندقة ، الذين عرفت موقفهم من الدين والصدق والأمانة وعرفت حال روايتهم خاصّة في (ص ٣٢٦ ـ ٣٢٨) ؛ وغير خاف ذلك على مثل ابن كثير ومن لفّ لفّه ، لكنّهم نبذوا الرجل نبذةً ليسقطوه عن محلّه ، ويسقطوا آراءه عن الاعتبار فتشبّثوا بالحشيش كالغريق ، لكنّهم خابوا وفشلوا ، وإنّما المأثور عنه تلاوة الآية الكريمة ، ونقل السنّة الواردة عن نبيّ الإسلام في اكتناز الذهب والفضّة ، وأمّا الآية الكريمة فقد عرفت مقدار دلالتها وأنّ الخلاف الواقع بين أبي ذر ومعاوية إنّما هو بالنسبة إلى نزولها دون المفاد ، وأنّه لو صحّت النسبة لوجب قذفهما معاً أو تبرئتهما معاً.

على أنّ لأبي ذر في ما ادّعاه من شأن الآية مصافقين ، فروى ابن كثير نفسه عن ابن عبّاس : أنّها عامّة. وعن السدي أنّه قال : هي في أهل القبلة. فهو أيضاً يوافقه في الجملة.

وفي تفسير الخازن (١) (٢ / ٢٣٢) : قال ابن عبّاس والسدي : نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين ، وقال القرطبي في تفسيره (٢) (٨ / ١٢٣) : قال أبو ذر وغيره : المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين ، وهو الصحيح لأنّه لو أراد أهل الكتاب خاصّة لقال : ويكنزون بغير (والذين) فلمّا قال : (والذين) فقد استأنف معنىً آخر يبيّن أنّه عطف جملة على جملة ، فالذين يكنزون كلام مستأنف وهو رفع على الابتداء ، قال السدي : عنى أهل القبلة.

وقال الزمخشري في الكشّاف (٣) (٢ / ٣١) : ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون

__________________

(١) تفسير الخازن : ٢ / ٢٢١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٨ / ٧٩.

(٣) الكشّاف : ٢ / ٢٦٦.

٥١٧

غير المنفقين. وقال البيضاوي في تفسيره (١) (١ / ٤٩٩) : ويجوز أن يراد به المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدّون حقّه. وقال الشوكاني في تفسيره (٢) (٢ / ٣٣٩) : والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك. وقال الآلوسي في تفسيره (١٠ / ٨٧) : والمراد من الموصول إمّا الكثير من الأحبار والرهبان ، وإمّا المسلمون وهو الأنسب لقوله : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ).

فرأي أبي ذر أخذاً بمجاميع هذه الكلمات ، هو الصحيح والأنسب والأولى ، وما تفرّد به بل ذهب إليه آخرون ، فلما ذا لا يقذفون هؤلاء بما قُذف به أبو ذر؟ وهل لأبي ذر حساب آخر يسوّغ الفرية عليه دون أولئك؟ نعم. نعم.

وأمّا السنّة فقد روى نظير ما رواه غير واحد من الصحابة ، لكن القوم لم يضمروا على أحد منهم من الحقد ما أضمروه على أبي ذر لمكان رأيه في الإمامة منذ الصدر الأوّل ، ونزعته العلويّة التي لم يزل مجاهراً بها ، ومناوأته للبيت الأمويّ ، فحاولوا تشويه ذكره وتفنيد رأيه بكلّ ما تيسّر لهم ، فمن أولئك الصحابة :

١ ـ عبد الله بن مسعود ، قال : دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بلال وعنده صبرة من تمر فقال : «ما هذا يا بلال؟» قال : أُعدّ ذلك لأضيافك. قال : «أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنّم؟ انفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».

رواه البزّار (٣) بإسناد حسن والطبراني في الكبير (٤) وقال : «أما تخشى أن يفور له بخار في نار جهنّم».

٢ ـ أبو هريرة ، قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد بلالاً فأخرج له صبراً من تمر فقال :

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ١ / ٤٠٣.

(٢) فتح القدير : ٢ / ٣٦٦.

(٣) البحر الزخّار (مسند البزّار) : ٥ / ٣٤٨.

(٤) المعجم الكبير : ١ / ٣٤٠ ح ١٠٢٠ وفيه : يفور لها بخار من جهنم.

٥١٨

«ما هذا يا بلال؟» قال : ادّخرته لك يا رسول الله ، قال : «أما تخشى أن يجعل لك بخار في نار جهنّم؟ أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».

رواه (١) أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن.

٣ ـ أسماء بنت أبي بكر ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا توكي فيوكى عليك». وفي رواية : «انفقي ـ أو انفحي ـ أو انضحي ـ ولا تحصي فيحصي الله عليك ، ولا توعي فيوعي الله عليك». رواه (٢) البخاري ومسلم وأبو داود.

٤ ـ بلال مرفوعاً : «يا بلال مُت فقيراً ولا تمت غنيّا» ، قلت : وكيف لي بذلك؟ قال «ما رزقت فلا تخبأ ، وما سُئلت فلا تمنع». فقلت : يا رسول الله وكيف لي بذلك؟ قال : «هو ذاك أو النار».

رواه الطبراني في الكبير (٣) ، وابن حبّان في كتاب الثواب ، والحاكم (٤) وصحّحه.

٥ ـ أنس بن مالك ، قال أُهديت للنبيّ ثلاث طوائر فأعطى خادمه طائراً ، فلمّا كان من الغد أتته بها ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألم أنهَكِ أن ترفعي شيئاً لغد؟ فإنّ الله يأتي برزق غد». رواه (٥) أبو يعلى والبيهقي ، ورجال أبي يعلى ثقات.

٦ ـ أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدّخر شيئاً لغد.

__________________

(١) مسند أبي يعلى : ١٠ / ٤٣٠ ح ٦٠٤٠ ، المعجم الكبير : ١ / ٣٤٢ ح ١٠٢٥ ، المعجم الأوسط : ٣ / ٢٧٢ ح ٢٥٩٣.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٢٠ ح ١٣٦٦ ، ص ٩١٥ ح ٢٤٥١ ، صحيح مسلم : ٢ / ٤٠٩ ح ٨٨ و ٨٩ ، كتاب الزكاة ، سنن أبي داود : ٢ / ١٣٣ ح ١٦٩٩ ـ ١٧٠٠.

(٣) المعجم الكبير : ١ / ٣٤١ ح ١٠٢١.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٣٥٢ ح ٧٨٨٧.

(٥) مسند أبي يعلى : ٧ / ٢٢٤ ح ٤٢٢٣ ، شعب الإيمان : ٢ / ١١٩ ح ١٣٤٨.

٥١٩

رواه (١) ابن حبّان في صحيحه والبيهقي.

٧ ـ سمرة بن جندب ، مرفوعاً : «إنّي لأَلجُ هذه الغرفة ما ألجها إلاّ خشية أن يكون فيها مال فأتوفّى ولم أنفقه». رواه الطبراني في الكبير (٢) بإسناد حسن.

٨ ـ أبو سعيد الخدري ، مرفوعاً : «ما أُحبّ أنّ لي أُحداً ذهباً أبقى صبح ثالثة وعندي منه شيء إلاّ شيء أُعدّه لدين» (٣).

رواه البزّار وهو إسناد حسن وله شواهد كثيرة.

٩ ـ أبو أمامة : إنّ رجلاً توفّي على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يوجد له كفن ، فأُتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «انظروا إلى داخلة إزاره» فأصيب دينار أو ديناران ، فقال : «كيّتان» (٤).

١٠ ـ توفّي رجل من أهل الصفّة فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيّة». ثمّ تُوفّي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيّتان».

رواه (٥) أحمد والطبراني من عدّة طرق ، وابن حبّان في صحيحه من طريق عبد الله بن مسعود.

١١ ـ سلمة بن الأكوع ، قال : كنت جالساً عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأُتي بجنازة ثمّ أُتي

__________________

(١) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ١٤ / ٢٧٠ ح ٦٣٥٦ ، شعب الإيمان : ٢ / ١٧١ ـ ١٧٢ ح ١٤٦٤.

(٢) المعجم الكبير : ٧ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ح ٧١٠٥.

(٣) مجمع الزوائد : ١٠ / ٢٣٩.

(٤) الكيّتان : أي لذعة على كلّ دينار كنز.

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٣٤٤ ح ٢١٧١٨ ، المعجم الكبير : ٨ / ١٠٥ ح ٧٥٠٦ و ٧٥٠٨ ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ٨ / ٥٤ ح ٣٢٦٣.

٥٢٠