الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

وتنفرد الشيوعيّة عن بقيّة الاشتراكيّين بأمرين :

أحدهما : إلغاء الملكيّة الخاصّة إلغاءً نهائيّا من غير فرق بين ثروات الإنتاج وثروات الاستهلاك.

وثانيهما : توزيعها المال بين الأفراد لكلّ على حسب حاجته ، ويستخدم من كلّ على حسب قدرته ، فيكلّف العامل بالعمل على قدر استطاعته ، ويدرّ عليه المعاش بما يسدّ حاجته.

فعلينا هاهنا أن نعيد ذكر ما هتف به أبو ذر في شتّى مواقفه ، وما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في باب الأموال ، وما قال في حقّه عظماء الصحابة من الإطراء له والدفاع عنه بعد هتافه بما هتف ، وما يؤثر فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الثناء الجميل وعهده إليه بما ينتابه من النكبات. فننظر إليها نظرة مُستشفّ للحقيقة فنرى هل ينطبق شيء منها على موادّ الشيوعيّة والاشتراكيّة؟ أو ينحسر عنه ذلك الإفك المفترى داحراً إلى حضيض البهت والافتراء.

إنّ من قول أبي ذر لعثمان : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أبا بكر وعمر ؛ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش جبّار.

ومن قوله له أيضاً : اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان : مالك وذلك لا أُمّ لك؟ قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تجد أبا ذر هاهنا يلفت نظر عثمان إلى عهد الرسالة ثمّ إلى عهد الشيخين ويدعوه إلى اتّباع تلكم السير ؛ ومن جليّة الحال عند هاتيك الأدوار الثلاثة اطّراد الملكيّة الخاصّة ، ووجود أهل اليسار من الملاّكين والتجّار ؛ وحرّيتهم في ثروتي الإنتاج والاستهلاك ، واختصاص كلّ ماليّة من نقود أو عقار أو ضياع أو مصانع أو

٤٨١

أطعمة بأربابها ، ومن النواميس المسلّمة عند نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لا يحلّ مال امرئٍ إلاّ بطيب نفسه (١) وفي الذكر الحكيم : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (٢) ، فتجده يعزو الأموال إلى أربابها ويحرّم أكلها بالباطل إلاّ أنْ تستباح بتجارة شرعيّة تستتبع رضا المالك الخاصّ ، وهناك آيات كريمة كثيرة تربو على خمسين آية لم يعدها عزو الأموال إلى مالكيها. تقدّم شطر منها في صفحة (٣٤٠).

فأبو ذر في هذا الموقف يدعو إلى ضدّ الدعوة الاشتراكيّة الملغية للملكيّة الخاصّة ، ويرى مخالفة ذلك من المنكر الذي يجب النهي عنه ، فلم يردعه عمّا مضى فيه قول عثمان : مالك وذلك لا أُمّ لك.

ومن قوله لمعاوية لمّا بنى الخضراء : إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف.

فأبو ذر هاهنا يجوّز أن يكون المال مقسوماً إلى مال الله وإلى ما يخصّ للإنسان نفسه ، فيرتّب على الأوّل الخيانة ، وعلى الثاني السرف ، ولم ينقم على معاوية نفس تصرّفه في المال وإنّما نقم عليه أحد الأمرين الخيانة أو الإسراف ، ولو كان ملغياً للملكيّة لكان الواجب عليه أن ينتقد منه أصل تصرّفه في تلكم الأموال.

وتراه يسمّي مال المسلمين من الفيء والصدقات والغنائم مال الله ؛ وقد روى ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً لعثمان حيث قال له : أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، ودينه دخلا» وصدّقه في حديثه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وهذه التسمية لم تكن قصراً على عهد أبي ذر ومعاوية وإنّما كانت دارجة قبله

__________________

(١) مرّ الحديث ص ١٢٩. (المؤلف)

(٢) النساء : ٢٩.

٤٨٢

وبعده ، هذا عمر بن الخطّاب وقوله لأبي هريرة لمّا قدم من البحرين : يا عدوّ الله وعدوّ كتابه أسرقت مال الله؟ قال : لست بعدوّ الله ولا بعدوّ كتابه ؛ ولكنّي عدوّ من عاداهما ، ولم أسرق مال الله (١).

وقال الأحنف بن قيس : كنّا جلوساً بباب عمر فخرجت جارية ، فقلنا : هذه سُرّ سُرّيّة عمر ، فقالت : إنّها ليست بسُرّيّة عمر إنّها لا تحلّ لعمر ، إنّها من مال الله. قال : فتذاكرنا بيننا ما يحلّ له من مال الله ، قال : فرقى ذلك إليه فأرسل إلينا ، فقال : ما كنتم تذاكرون؟ فقلنا : خرجت علينا جارية فقلنا : هذه سُريّة عمر. فقالت : إنّها ليست بسُريّة عمر إنّها لا تحلّ لعمر ، إنّها من مال الله ، فتذاكرنا بيننا ما يحلّ لك من مال الله. فقال : ألا أُخبركم بما أستحلّ من مال الله؟ حُلّتين : حلّة الشتاء والقيظ (٢).

وقال عمر : لا يترخّصنّ أحدُكم في البرذعة أو الحبل أو القتب ؛ فإنّ ذلك للمسلمين ليس أحد منهم إلاّ وله فيه نصيب ، فإن كان لإنسان واحد رآه عظيماً ، وإن كان لجماعة المسلمين ارتخص فيه وقال : مال الله (٣)؟!

ومن قوله في حديث : البلاد بلاد الله ، وتحمى لنعم مال الله ، يحمل عليها في سبيل الله (٤).

وفي حديث من قوله : المال مال الله ، والعباد عباد الله ، والله لو لا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر (٥).

__________________

(١) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٦٩ [ص ٣٤٢ ح ٦٦٧] ، راجع ما أسلفناه في : ٦ / ٢٥٤ الطبعة الأُولى و ٢٧١ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٢) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٦٨ [ص ٣٤١ ح ٦٦٣]. (المؤلف)

(٣) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٦٨ [ص ٣٤٢ ح ٦٦٥]. (المؤلف)

(٤) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٩٩ [ص ٣٧٧ ح ٧٤١]. (المؤلف)

(٥) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٩٩ [ص ٣٧٧ ح ٧٤٢]. (المؤلف)

٤٨٣

وكان عمر كلّما مرّ بخالد قال : يا خالد أَخرِج مال الله من تحت استك (١).

وهذا مولانا أمير المؤمنين يقول في خطبته الشقشقيّة (٢) : «إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع».

وفي خطبة له عليه‌السلام : «لو كان المال لي لسوّيت بينهم ، فكيف و [إنما] المال مال الله؟ ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف» (٣).

ومن كتاب له إلى عامله بآذربيجان : «ليس لك أن تفتات في رعيّة ، ولا تخاطر إلاّ بوثيقة ، وفي يديك مال من مال الله عزّ وجلّ وأنت من خزّانه» (٤).

ومن كتاب له إلى أهل مصر : «ولكنني آسي أن يلي أمر هذه الأُمّة سفهاؤها وفجّارها فيتّخذوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، والصالحين حرباً ، والفاسقين حزبا» (٥).

ومن كتاب له إلى قُثَم بن العباس : «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة» (٦).

وروي أنّه عليه‌السلام رفع إليه رجلان سرقا من مال الله ، أحدهما عبد من مال الله والآخر من عُروض الناس. فقال عليه‌السلام : «أمّا هذا فهو من مال الله ولا حدّ عليه ، مال

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس : ص ٢٥٧ الطبعة الأُولى وص ٢٧٤ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٢) أسلفنا مصادرها في الجزء السابع : ص ٨٢ ـ ٨٧. (المؤلف)

(٣) نهج البلاغة : ١ / ٢٤٢ [ص ١٨٣ خطبة ١٢٦ والزيادة منه]. (المؤلف)

(٤) نهج البلاغة : ٢ / ٦ [ص ٣٦٦ كتاب ٥] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٣ [٤ / ١٣٤]. (المؤلف)

(٥) نهج البلاغة : ص ١٢٠ [ص ٤٥٢ كتاب ٦٢]. (المؤلف)

(٦) نهج البلاغة : ص ١٢٨ [ص ٤٥٧ كتاب ٦٧]. (المؤلف)

٤٨٤

الله أكل بعضه بعضاً» الحديث. نهج البلاغة (١) (٢ / ٢٠٢).

كما أنّ التسمية بمال المسلمين أيضاً كان مطّرداً قبل هذا العهد وبعده ، قال عمر ابن الخطّاب لعبد الله بن الأرقم : اقسم بيت مال المسلمين في كلّ شهر مرّة ، اقسم مال المسلمين في كلّ جمعة مرّة. ثمّ قال : اقسم بيت المال في كلّ يوم مرّة. قال : فقال رجل من القوم : يا أمير المؤمنين لو أبقيت في مال المسلمين بقيّة تعدّها لنائبة. سنن البيهقي (٦ / ٣٥٧).

وقال عمر في خالد لمّا أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف : إن كان دفعها من ماله فهو سرف ، وإن كان من مال المسلمين فهي خيانة (٢). الغدير (٦ / ٢٧٤).

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة له في ذكر أصحاب الجمل : «فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها» نهج البلاغة (٣) (١ / ٣٢٠).

وقال لعبد الله بن زمعة : إنّ هذا المال ليس لي ولا لك وإنّما هو فيء للمسلمين. نهج البلاغة (٤) (١ / ٤٦١).

ومن كتاب له إلى زياد بن أبيه : «وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنّك خُنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدنّ عليك شدّة» نهج البلاغة (٥) (٢ / ١٩).

وفي كتاب لعبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز : إنّي قد أخرجت للناس أُعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه : انظر كلّ من أدان في غير

__________________

(١) نهج البلاغة : ص ٥٢٣ رقم ٢٧١.

) انظر : تاريخ الطبري : ٤ / ٦٧ حوادث سنة ١٧ ه‍ ، البداية والنهاية : ٧ / ٩٣ حوادث سنة ١٧ ه‍.

(٣) نهج البلاغة : ص ٢٤٧ خطبة ١٧٢.

(٤) نهج البلاغة : ص ٣٥٣ رقم ٢٣٢.

(٥) نهج البلاغة : ص ٣٧٧ كتاب ٢٠.

٤٨٥

سفه ولا سرف فاقض عنه. فكتب إليه : إنّي قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه : أن انظر كلّ بكر ليس له مال فشاء أن تزوّجه [فزوّجه] وأصدق عنه. فكتب إليه : إنّي قد زوّجت كلّ من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. الأموال لأبي عبيد (١) (ص ٢٥١).

ولكلّ من التسميتين وجه معقول ، أمّا التسمية بمال الله فلأنّه لله سبحانه وهو الآمر بإخراجه ومعيّن النُصب ، ومبيّن الكمّيات المخرجة ، ومشخّص المصارف والمستحقّين ، وأمّا التسمية بمال المسلمين فلأنّهم المصرف والمدرّ له ، فلا غضاضة على أبي ذر لو سمّاه بأيّ من الاسمين ، ولا يعرب أيّ منهما عن مبدأ سوء.

وما رواه الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٦٦) من طريق عرّفناك رجاله في (ص ٣٢٦ ـ ٣٢٨) وأنّه باطل لا يُعوّل عليه ، من أنّه لمّا ورد ابن السوداء (٣) الشام لقي أبا ذر فقال : يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول : المال مال الله ، ألا إنّ كلّ شيء لله ، كأنّه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمّي مال المسلمين مال الله : قال؟ يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال : فلا تقله. قال : فإنّي لا أقول : إنّه ليس لله ولكن سأقول : مال المسلمين.

فهذا بعد الغضّ عن إسناده الباطل ومتنه الركيك وبعد الإغضاء عن أنّ مثل أبي ذر الذي هو من أوعية العلم وعلب الفضائل وحملة الرأي السديد ليس بالذي يحرّكه ابن السوداء اليهوديّ فيعيره أُذناً واعية ، ثم يمضي لما ألقاه عليه من التلبيس

__________________

(١) الأموال : ص ٣٢٠ ح ٦٢٥.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٨٣ حوادث سنة ٣٠ ه‍.

(٣) يعني عبد الله بن سبأ اليهودي الممقوت لكافّة فرق المسلمين خصوصاً الشيعة منهم ، فإنّه محكوم عليه عندهم بالكفر ، وقد نقم عليه وعلى أصحابه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لإلحادهم. (المؤلف)

٤٨٦

فيخبط الجوّ ويعكّر الصفو. فقصارى ما فيه أنّ أبا ذر وجد معاوية متذرّعاً بهذه التسمية إلى الحيف في أموال المسلمين والتقلّب فيها على حسب الميول والشهوات بإيهام أنّ المال مال الله ، فهو مباح لعبيده يتصرّف كلّ منهم فيه كيف شاء ويتملّك منه ما شاء كالمباحات الأصليّة ، فأراد أبو ذر أن يدحر حجّته الداحضة ورأيه الضئيل بأنّ المال للمسلمين كافّة بأمر من مالكه الأصليّ جلّت آلاؤه ، فليس لأحد أن يستبدّ بشيء منه دونهم ، ويستغلّه بحرمانهم واكتناز الذهب والفضّة ، وفيهم أمسّ الحاجة إلى مقدّراتهم.

ويُعرب عن رأي معاوية ما جرى بينه وبين صعصعة بن صوحان ، رواه المسعودي في مروج الذهب (١) (٢ / ٧٩) من طريق إبراهيم بن عقيل البصري ، قال : قال معاوية يوماً وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب عليّ وعنده وجوه الناس : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي ، وما تركت منه كان جائزاً لي ، فقال صعصعة :

تمنّيك نفسك ما لا يكو

ن جهلاً معاويُ لا تأثم

فهذا الحوار بين أبي ذر ومعاوية في منتأى عن إثبات المالكيّة ونفيها ، وليس فيه إلى المبدأ الاشتراكيّ أيّ طرف رامق ، وتُعرب عن رأي معاوية خطبة الأرحبي المذكورة (ص ٣٤٤).

ومن كلمات أبي ذر قوله لمعاوية لمّا بعث إليه بثلاثمائة دينار : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.

فإنّك تشهد هاهنا أبا ذر يقسّم المال إلى العطاء المفترض الذي منع منه عامه ذلك ـ لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ـ وإلى المال المملوك الذي يُخرج منه الصلة

__________________

(١) مروج الذهب : ٣ / ٥٣.

٤٨٧

بطوع من صاحبه ورغبة ، فإنّ الصلة من المروءات وهي لا تكون إلاّ من خالص مال الرجل ، ومن غير الحقوق الإلهيّة ، ومن غير الأموال المسروقة ، فأين هو عن إلغاء الملكيّة الذي هو الحجر الأساسي للاشتراكيّين؟ على أنّه ليس عندهم صلة ولا غيرها من حقوق الإنسانيّة ، وإنّما هي عندهم أُجور على قيم أعمال الرعيّة.

رواياته في الأموال :

وأمّا ما رواه أبو ذر في باب الأموال عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينادي بما لا يلائم الاشتراكيّة قطّ ، وإليك جملة منه :

١ ـ «ما من مسلم ينفق من كلّ مال له زوجين في سبيل الله عزّ وجلّ إلاّ استقبلته حجبة الجنّة كلّهم يدعوه إلى ما عنده». قلت : وكيف ذلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن كانت رجالاً فرجلين ، وإن كانت إبلاً فبعيرين ، وإن كانت بقراً فبقرتين».

وفي لفظ : «من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنّة» (١).

ففيه إثبات المال لكلّ إنسان بالرغم من المبدأ الاشتراكيّ ، والترغيب بالتطوّع بالإنفاق في سبيل الله من كلّ نوع زوجين.

٢ ـ «في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البقر صدقتها ، وفي البرّ صدقته».

٣ ـ «ما من رجل يموت فيترك غنماً أو إبلاً أو بقراً لم يؤدّ زكاته إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها».

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده : ٥ / ١٥١ ، ١٥٣ ، ١٥٩ ، ١٦٤ [٦ / ١٨٧ ح ٢٠٨٣٤ ، ص ١٩٠ ح ٢٠٨٥١ ، ص ١٩٩ ح ٢٠٩٠٤ ، ص ٢٠٦ ح ٢٠٩٤٢]. (المؤلف)

٤٨٨

وفي لفظ : «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدّي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة ...» الحديث (١).

فهي تثبت الماليّة وأنّه لا فريضة على الإنسان في ماله غير الزكاة ، وهي من بعضها ، وأنّ الباقي لصاحبه ، رضي الاشتراكيّ أو غضب.

وأمّا ما وقع له مع كعب الأحبار في مشهد عثمان ـ وهو من عمدة ما تشبّث به المتحاملون على أبي ذر وقاذقوه ـ ممّا أخرجه الطبري بإسناده الواهي عن السريّ الكذّاب الوضّاع ، عن شعيب المجهول الذي لا يعرف ، عن سيف بن عمر الوضّاع المتّهم بالزندقة الذين عرفت حالهم في صفحة (٣٢٦ ـ ٣٢٧) من طريق ابن عبّاس قال : كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة ، وكان يحبّ الوحدة والخلوة ، فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار ، فقال لعثمان : لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتى يبذلوا المعروف ، وقد ينبغي لمؤدّي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات. فقال كعب : من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجّه ، فاستوهبه عثمان فوهبه له وقال : يا أبا ذر اتّق الله واكفف يدك ولسانك. وقد كان قال له : يا ابن اليهوديّة ما أنت وما هاهنا؟ والله لتسمعنّ منّي أو لأدخل عليك (٢).

ومرّ (ص ٢٩٥) في لفظ المسعودي (٣) : أنّ أبا ذر حضر مجلس عثمان ذات يوم ، فقال عثمان : أرأيتم من زكّى ماله هل فيه حقّ لغيره؟ فقال كعب : لا يا أمير المؤمنين ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٥٢ ، ١٥٨ ، ١٦٩ ، ١٧٩ [٦ / ١٨٩ ح ٢٠٨٤٤ ، ص ١٩٧ ح ٢٠٨٩٢ ، ص ٢١٤ ح ٢٠٩٨٠ ، ص ٢٢٨ ح ٢١٠٤٧] ، الأموال لأبي عبيد : ص ٣٥٥ [ص ٤٤٣ ح ٩٢٢] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٤٤ [١ / ٥٦٩ ح ١٧٨٥]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الطبري : ٥ / ٦٧ [٤ / ٢٨٤ حوادث سنة ٣٠ ه‍]. (المؤلف)

(٣) مروج الذهب : ٢ / ٣٥٧.

٤٨٩

فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له : كذبت يا ابن اليهوديّ ثم تلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) ، الآية (١). فقال عثمان : أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب : لا بأس بذلك. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال : يا ابن اليهوديّ ما أجرأك على القول في ديننا! فقال له عثمان : ما أكثر أذاك لي! غيّب وجهك عنّي فقد آذيتني. فخرج أبو ذر إلى الشام (٢).

فإنّما دعا أبو ذر في هذه الواقعة إلى العطاء المندوب المدلول عليه بقوله : ـ ينبغي ـ الوارد في رواية الطبري ، وبالآية الكريمة الواردة في حديث المسعودي : وهو من واجبات البشريّة وفروض الإنسانيّة التي ضيّعتها الشيوعيّة الممقوتة ، والأحاديث المرغّبة لكلّ ممّا ذكر أبو ذر أكثر من أن تحصى.

جاء من طريق فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ في المال حقّا سوى الزكاة» ثمّ قرأ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). الآية المذكورة. وروى بيان وإسماعيل هذا الحديث عن الشعبي.

أخرجه (٣) ابن أبي حاتم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والدارقطني ، وابن جرير ، وابن المنذر.

__________________

(١) البقرة : ١٧٧.

(٢) هذه القضيّة كما ترى وقعت قبل إخراج أبي ذر إلى الشام وهي السبب الوحيد في نفيه إليها ، فهذا اللفظ يكذّب ما في رواية الطبري من أنّ أبا ذر كان يختلف من الربذة إلى المدينة ... إلخ. ولم يختلف اثنان في أنّ أبا ذر في مدّة نفيه إلى الربذة لم يأتِ قطّ إلى المدينة كما مرّ في : ص ٣٣٣. (المؤلف)

(٣) سنن الترمذي : ٣ / ٤٨ ح ٦٦٠ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٧٠ ح ١٧٨٩. الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ١١ رقم ٨٨٨ ، سنن الدارقطني : ٢ / ١٢٥ ح ١١ ، جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٩٦.

٤٩٠

راجع (١) سنن البيهقي (٤ / ٨٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (١ / ١٥٣) ، تفسير القرطبي (٢ / ٢٢٣) ، تفسير ابن كثير (١ / ٢٠٨) ، شرح سنن ابن ماجة (١ / ٥٤٦) تفسير الشوكاني (١ / ١٥١) ، تفسير الآلوسي (٢ / ٤٧).

وأخرج البخاري في الصحيح (٢) في كتاب الزكاة (٣ / ٢٩) من طريق أنس قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء (٣) وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس : فلمّا أنزلت هذه الآية : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ الله تبارك وتعالى يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنّها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بخ ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين» ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه.

وأخرجه (٤) مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي مختصراً.

وأخرج أبو عبيد في الأموال (٥) (ص ٣٥٨) من طريق ابن جريج قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ذا ينفقون؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ١٣١ ، الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ١٦٢ ، فتح القدير : ١ / ١٧٤.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٣٠ ح ١٣٩٢.

(٣) بيرحاء ـ بفتح الموحّدة والراء المهملة ـ : موضع بقرب المسجد بالمدينة يعرف بقصر بني جديلة [معجم البلدان : ١ / ٥٢٤]. (المؤلف)

(٤) صحيح مسلم : ٢ / ٣٨٨ ح ٤٢ كتاب الزكاة ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٠٩ ح ٢٩٩٧ ، السنن الكبرى : ٦ / ٣١١ ح ١١٠٦٦.

(٥) الأموال : ص ٤٤٦ ح ٩٣٣.

٤٩١

مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١). قال : فتلك التطوّع والزكاة سوى ذلك.

وقال أبو عبيد في الأموال (٢) (ص ٣٥٨) : إنّ هذا مذهب (٣) ابن عمر وأبي هريرة ، وأصحاب رسول الله أعلم بتأويل القرآن وأولى بالاتّباع ، و [هو] (٤) مذهب طاووس ، والشعبي أنّ في المال حقوقاً سوى الزكاة مثل برّ الوالدين ، وصلة الرحم ، وقرى الضيف ، مع ما جاء في المواشي من الحقوق.

وفي الأموال (٥) (ص ٣٥٧) من طريق أبي حمزة قال : قلت للشعبي : إذا أدّيت زكاة مالي أيطيب لي مالي؟ قال : فقرأ عليّ هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى آخر الآية المذكورة.

فنداء أبي ذر في موقفه هذا نداء القرآن الكريم ونداء المشرّع الأعظم ونداء تابعيهما من الصحابة والتابعين ، ولا يردّ ذلك إلاّ مثل كعب الأحبار الذي هو حديث عهد باليهوديّة ، وقد اعتنق الإسلام أمس ، على حين أنّه لم يسلم طيلة عهد النبوّة وإنّما سالم على عهد عمر ، ولا أدري هل حدته إلى ذلك الحقيقة؟ أو الفَرَق من بطش المسلمين وشوكتهم؟ أو الطمع في العطاء الجاري؟ ولا أدري أيضاً أنّه في مدّة إسلامه القصيرة هل أحاط خبراً بنواميس الإسلام وفروضه وسننه أو لا؟ ولا أحسب ، كما أوعز إليه أبو ذر الناظر إليه من كثب ، حيث قال له : يا ابن اليهوديّة ما أنت وما هاهنا؟ وكان من حقّه أن يؤدّب بالمحجن كما فعله سيّد غفار ـ ساء الخليفة أم سرّه ـ

__________________

(١) البقرة : ٢١٥.

(٢) الأموال : ص ٤٤٦ ح ٩٣١.

(٣) في المصدر : فهذا غير مذهب ...

(٤) من المصدر.

(٥) الأموال : ص ٤٤٦ ح ٩٢٩.

٤٩٢

لأنّه لم يكن أهلاً للفتيا ، فأفتى تجاه عالم من علماء الصحابة الذي ملء إهابه العلم بالكتاب والسنّة ، وحشو ردائه الفروض والسنن ، ولا يُفرغ إلاّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أظلّت الخضراء وما أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر».

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

وإثبات العطاء مندوباً ومفترضاً فرع إثبات الماليّة للأشخاص ، ولا تتّفق معه الشيوعيّة بحال ، وأين يقع أبو ذر منها؟

٤ ـ «ثلاثة يبغضهم الله : الشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والغنيّ الظلوم».

وفي لفظ : «إنّ الله يبغض الشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والمكثر البخيل».

وفي لفظ : «إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور ، والبخيل المنّان ، والتاجر الحلاّف» (٢).

في هذه الروايات ذكر اختلاف طبقات الناس وحدودهم بما يملكون ، ففقير وغنيّ ، ومكثر وتاجر تتقوّم تجارته برأس ماله ، والاشتراكيّ يرى أنّ الناس شرع سواء بالنسبة إلى الأموال.

٥ ـ قلت : يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يصلّون ويصومون ويحجّون.

__________________

(١) التوبة : ٧٩.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ١٥٣ ، ١٧٦ [٦ / ١٩٠ ح ٢٠٨٤٨ ـ ٢٠٨٤٩ ، ص ٢٢٣ ح ٢١٠٢٠] ، وأخرجه أبو داود ، وابن خزيمة في صحيحه [٤ / ١٠٤ ح ٢٤٥٦] ، والنسائي [في السنن الكبرى : ٤ / ٢٦٩ ح ٧١٣٧] ، والترمذي في باب كلام الحور العين وصحّحه [٤ / ٦٠١ ح ٢٥٦٨] ، وابن حبّان في صحيحه [٨ / ١٣٦ ح ٣٣٤٩] ، والحاكم [في المستدرك : ٢ / ١٢٣ ح ٢٥٣٢] وصحّحه. راجع الترغيب والترهيب للمنذري : ١ / ٢٤٧ ، و ٢ / ٢٣٠ ، ٢٣٨ [٢ / ٣٣ ، ص ٥٨٩ ، ص ٦١٠]. (المؤلف)

٤٩٣

قال : «وأنتم تصلّون وتصومون وتحجّون». قلت : يتصدّقون ولا نتصدّق. قال : «وأنت فيك صدقة : رفعك العظم عن الطريق صدقة ، وهدايتك الطريق صدقة ، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة ، وبيانك عن الأرتم (١) صدقة ، ومباضعتك امرأتك صدقة» قال : قلت : يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال : «أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم؟». قال : قلت : نعم. قال : «فتحتسبون بالشرّ ، ولا تحتسبون بالخير؟».

وفي لفظ : قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأُجور ، يصلّون كما نصلّي ويصومون كما نصوم ويتصدّقون بفضول أموالهم ، قال : فقال رسول الله : «أو ليس قد جعل الله لكم ما تصّدّقون؟ إنّ بكلّ تسبيحة صدقة وبكلّ تحميدة صدقة». الحديث.

وفي لفظ : قيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذهب أهل الأموال بالأجر. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ فيك صدقة كثيرة فاذكر فضل سمعك وفضل بصرك». الحديث.

وفي لفظ : «على كلّ نفس في كلّ يوم طلعت فيه الشمس صدقة عنه على نفسه». قلت يا رسول الله : من أين أتصدّق وليس لنا أموال؟ قال : «لأنّ من أبواب الصدقة : التكبير ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، وأستغفر الله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتُسمع الأصمّ والأبكم حتى يفقه ، وتدلّ المستدلّ على حاجة له وقد علمت مكانها ، وتسعى بشدّة ساقيك إلى اللهفان المستغيث ، وترفع بشدّة ذراعيك مع الضعيف ، كلّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك» (٢).

__________________

(١) قال ابن الأثير في النهاية : ٢ / ١٩٤ بعد روايته الحديث : كذا وقع في الرواية ، فإن كان محفوظاً فلعله من قولهم : رتمت الشيء إذا كسرته ، ويكون معناه معنى الأرَتّ ، وهو الذي لا يفصح الكلام ولا يصحّحه ولا يبينه.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ١٥٤ ، ١٦٧ ، ١٧٨ [٦ / ١٩١ ح ٢٠٨٥٦ ، ص ٢١٠ ح ٢٠٩٥٨ ، ٢١١ ح ٢٠٩٦٢ ، ٢١٢ ح ٢٢٠٩٧٢ ص ٢٢٦ ح ٢١٠٣٨] ، صحيح مسلم : ٣ / ٨٢ [٢ / ٣٩٣ ح ٥٣ كتاب الزكاة] ، سنن البيهقي : ٤ / ١٨٨. (المؤلف)

٤٩٤

وفي هذه الأحاديث تقرير الأغنياء وأهل الدثور والأموال على أحوالهم المنوطة بالوفر المخصوص بهم واليسار الممنوح لهم وأنّه ليس منهم ، وذكر الصدقة من فضول أموال المثرين ، والتأسف على ما يفوت الفقراء من صدقاتهم بالأموال فرضاً وتطوّعاً ، وأين يثبت الاشتراكيّ مالاً لأحد فيثبت له فضولاً؟ ومتى يرى في العالم غنيّا غير غاصب؟ وأنّى يُبقي موضوعاً للصلات والصدقات وفروض الإنسانيّة؟ لكن روايات أبي ذر تثبت كلّ ذلك.

٦ ـ أمرني خليلي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبع : أمرني بحبّ المساكين والدنوّ منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي.

وفي لفظ : أوصاني حِبيّ بخمس : أرحم المساكين وأجالسهم ، وأنظر إلى من هو تحتي ولا أنظر إلى من هو فوقي (١).

... وممّا لا غبار عليه أنّ المراد من الدون والتحت في الحديثين : من هو دونه في المال ليشكر الله سبحانه على تفضيله عليهم ، ولا ينظر إلى من فوقه لئلاّ يشغله الاستياء أو الحسد على تفضيل غيره عليه عن الذكر والشكر والنشاط في العبادة ، وأمّا الأعمال والطاعات والملكات الفاضلة ، فينبغي للإنسان أن ينظر إلى من هو فوقه فيها ليتنشّط على مثل عمله فيتحرّى شأوه ، ولا ينظر إلى من هو دونه فيفتر عن العمل ويقعد عن اكتساب الفضائل والفواضل ، وربّما داخله العجب.

ففي الحديثين إثبات الماليّة والتفاضل فيها بالرغم من المبدأ الشيوعيّ.

٧ ـ ليس من فرس عربيّ إلاّ يؤذن له مع كلّ فجر يدعو بدعوتين يقول : اللهمّ

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٥٩ ، ١٧٣ [٦ / ١٩٩ ح ٢٠٩٠٦ ، ص ٢١٩ ح ٢١٠٠٦] ، حلية أبي نعيم : ١ / ١٦٠. (المؤلف)

٤٩٥

خوّلتني من خوّلتني من بني آدم ، فاجعلني من أحبّ أهله وماله إليه. أو : أحبّ أهله وماله إليه (١).

نحن لا نحتجّ هنا بدعوة الفرس ورأيه ، لكن بما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إلهام الله سبحانه إيّاه أنّه يدعو بتلك الدعوة وفيها إثبات التحويل والماليّة وإن ازورّ عنهما الشيوعيّ.

هذه جملة من روايات أبي ذر الصدوق المصدّق تضادّ بنصّها ما اتّهم به من المبدأ الممقوت ، وإن هي إلاّ نداء القرآن الكريم وما صدع به الرسول الأمين.

(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ)

(الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢)

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (٣)

نظرة في الكلمات الواردة في إطراء أبي ذر

هل تلائم ما اتّهم به؟

أمّا ثناء الصحابة عليه بعد نفيه ودأبه على ما هتف به فحسبك من ذلك قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّك غضبت لله فارجُ من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك» إلى آخرما مرّ في صفحة (ص ٣٠٠).

صدرت هذه الكلمة الذهبيّة من الإمام عليه‌السلام في منصرم ما صعّد به أبو ذر وصوّب ، فليس له بعد هذا إلاّ طفائف سمعها منه من زاره بالمنفى ـ الربذة ـ فلم يكن

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٧٠ [٦ / ٢١٥ ح ٢٠٩٨٦]. (المؤلف)

(٢) الزمر : ١٨.

(٣) آل عمران : ٧.

٤٩٦

لها شأن كبير ، وفي الكلمة صراحة بأنّ غضب أبي ذر كان لله فعليه أن يرجو من غضب له ، وهو فرع رضا الله سبحانه على ما ناء به ودعا إليه ، وأنّ ما لهج به ممّا أغضب القوم كانت كلمة دينيّة محضة تجاه الدنيويّة المحضة التي خافها أبو ذر على دينه وخافها القوم على دنياهم ، فامتحنوه بالقلى ونفوه إلى الفلا ، وأنّه هو الرابح غداً ، وإنّما القوم حاسدوه ، وأيّ من هذه تلتئم مع الشيوعيّة التي هي مادّية محضة ليس بينها وبين مرضاة الله تعالى أيّ صلة؟

أتحسب أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أطرى أبا ذر بهذا الإطراء البالغ ويقول في كلمته الأخرى لعثمان : «اتّق الله سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك» ، فيراه صالحاً ويرى هلاكه في ذلك التسيير حوباً لا يصدر من المتّقي ، إنّه أطراه وهو غير مستشفّ لنظريّته؟ ولا عارف بنفسيّته وهو كروحه التي بين جنبيه؟ أو أنّه يوافقه على المذهب الشيوعيّ؟ أو أنّه يراغم أعداءه مع حيطته بباطله؟ وقد قال لعثمان ـ وهو الصادق الأمين ـ : والله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقّه. وأيّ حقّ للشيوعيّ مُتحرّي الفساد في الجامعة وباخس حقوق الأُمّة؟ وإنّما الحقّ للمؤمن الكامل في نفسه ، المحقّ في دعائه ، الصالح في رأيه.

وهناك ما هو أصرح من ذلك في كون أبي ذر محقّا وأنّ نظريّة من خالفه من الباطل المحض ، وه وقول الإمام في ذيل كلمته في توديع أبي ذر : «يا أبا ذر لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل». وأيّ اشتراكيّ يكون هكذا؟ نعوذ بالله من السفاسف.

أضف إلى كلمة الإمام قول ولده الإمام الزكيّ السبط المجتبى أبي محمد الحسن لأبي ذر : «قد أتى من القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها ، واصبر حتى تلقى نبيّك وهو عنك راض». راجع (ص ٣٠١).

فترى الإمام المعصوم يتذمّر ممّا أصاب أبا ذر من القوم ، ويأمره بالصبر المقابل

٤٩٧

بالأجر الجزيل ، وأنّه سيلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنه راض ، وهل تجد توفيقاً بين [رضا] (١) الرسول ومعتقد الإمام المجتبى وبين الشيوعيّة؟ ذلك المعول الهدّام لأساس دين المصطفى وسنّة الله التي لن تجد لها تحويلاً.

وأشفع الكلمتين بقول الإمام السبط الشهيد أبي عبد الله لأبي ذر : «قد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ؛ فاسأل الله الصبر والنصر».

وهذه الكلمة لدة كلمات أبيه وأخيه ـ صلوات الله عليهم ـ في المصارحة بأنّ دعوة أبي ذر كانت دينيّة ولم يكن فيها أيّ شذوذ ، ودعوة مناوئيه دنيويّة ، والمرجع في الإفراج عنه إزاء ما انتابه من المحن هو الله ، لرضاه سبحانه بدعوة المنكوب وسخطه على من نال منه ؛ ولا يحسب عاقل أنّ شيئاً من ذلك يلتئم مع الاشتراكيّة الممقوتة.

وبعد تلكم الكلمات الذهبيّة خطاب عمّار بن ياسر أبا ذر بقوله : لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من أخافك ، والله لو أردت دنياهم لآمنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك.

أيجوز لمسلم عاديّ فضلاً عن مثل عمّار الذي لا يفارق الحقّ ولا يفارقه نصّا من النبيّ الكريم أن يدعو على أُناس نكبوا بعائث في المجتمع الدينيّ مقلق فيهم السلام بذلك الدعاء المجهد؟ ويحكم عليهم بأنّهم أهل دنيا غرّتهم الأمانيّ ، وأنّ أعمالهم غير مرضيّة ، وأنّهم خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين؟

يدعو عليهم بذلك في مشهد إمام معصوم خشن في ذات الله كمولانا أمير المؤمنين وشبليه السبطين الحسنين ثمّ لا ينكر ذلك عليه أحد منهم. إنّ هذا لا يكون. وإنّ مشايعة القوم لأبي ذر قبل هذه الكلمات كلّها مع العلم بنهي الخليفة عنها إشادة بأمره ؛ وتصديق لمقاله ، والإمام يرى أنّ النهي عن مشايعته معصية أو أنّه

__________________

(١) ساقط من الطبعة الثانية.

٤٩٨

خلاف الحقّ لا يُتّبع كما قاله لعثمان (١) ولا يجتمع شيء من ذلك مع ما قذفوه به من الطامّة الكبرى.

كانت الصحابة كلّهم المهاجرون منهم والأنصار ينقمون ما نيل به أبو ذر من النفي والتعذيب ، وكان قيل النقمة بين شفاههم ، وفي طيّات قلوبهم ، وأسطر خطاباتهم ، يوم التجمهر ويوم الدار ، وكانت إحدى العلل المعدّة لما جرى هنالك من مغبّات الأعمال ، فلم تكن الغضبة عمّن ذكرنا أسماءهم بدعاً من جمهرة الأصحاب ، غير أنّ منهم من صبّها في بوتقة الإطراء لأبي ذر ؛ ومنهم من أفرغها في قالب العيب على من نال منه ، ولهم هنالك لهجات مختلفة في الصورة متّحدة في المآل ، ولذلك عدّ المؤرّخون ممّا أنكر الصحابة من سيرة عثمان تسييره أبا ذر. وقال البلاذري : قد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمّار ، فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر (٢).

وهذه النقمة العامّة المنبعثة عن مودّة القوم لأبي ذر مودّة خالصة دينيّة وإخاء في الإيمان وولاء في الطريقة المثلى. كلّ ذلك أخذاً بما وعوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أبي ذر وهديه وسمته ونسكه وتقواه وإيمانه وصدقه لا تلتئم مع شيء ممّا قذفوا به أبا ذر من الشيوعيّة ، أو تقول : إنّ الصحابة كلّهم شيوعيّون؟ أعوذ بالله من الفرية الشائنة. ولو كان أبو ذر شيوعيّا كان في الحقّ نفيه عن أديم الأرض لا عن المدينة فحسب ، وكان من واجب الصحابة أن يرضوا بذلك الحكم البات. قال الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا

__________________

(١) راجع صفحة : ٢٩٧ و ٣٠٢. (المؤلف)

(٢) أنساب البلاذري : ٥ / ٢٦ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٥٠ [٢ / ١٧٠ ـ ١٧١] ، مروج الذهب : ١ / ٤٣٨ ، ٤٤١ [٢ / ٣٥٦ ، ٣٦٢] ، الرياض النضرة : ٢ / ١٢٤ [٣ / ٧٣ ـ ٧٥] ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٣٨٥ [٢ / ٥٨٧] ، الصواعق : ص ٦٨ [ص ١١٤] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٦١ [٢ / ٢٦٨]. (المؤلف)

٤٩٩

أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١) وأيّ فساد في الأرض أعظم من هذا المبدأ التعيس المضادّ للكتاب والسنّة؟ وفي الكتاب الكريم قوله سبحانه : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٢). وأما السنّة الشريفة فحدّث عنها في باب الأموال والاختصاص فيها وتقرير ميسرة الأغنياء ولا حرج. وبذلك كلّه تقوم دعائم المدنيّة ، وتشاد علالي الحضارة الراقية.

ثناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه وعهده إليه :

أمّا ما أُثر عن نبيّ الإسلام من ذلك فقد قدّمنا شطراً منه في صفحة (٣١٢ ـ ٣١٩) ولا منتدح من أن نقول : إنّ نبيّ العظمة كان جدّ عليم بواسع علم النبوّة بما سوف ينوء به أبو ذر في خواتيم أيّامه بأقوال وأعمال تبهظ مناوئيه ، وكان يعلم أيضاً أنّ أُمّته سيتّخذون كلّ ما لهج به أصولاً متّبعة. فلو كان يعلم في أبي ذر شذوذاً لما أغرى الأُمّة بموافقته بتلكم الكلم الدرّية ، على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إليه وأخبره أنّ ما يصيبه من الكوارث من جرّاء ما يدعو إليه في الله وبعينه ؛ فلا يعقل أن يكون في رأيه شذوذ عن طريقة الدين ، بل كان من واجبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُنبّهه على خطئه في الرأي وغلطه في الدعوة ، فإذ لم يفعل وأشفع ذلك بثنائه البالغ عليه وعهده إليه علمنا أنّ أبا ذر هو ذلك البرّ التقيّ ، ورجل الإصلاح ، ومثال العطف والحنوّ على ضعفاء الأُمّة ، وطالب الخير والسعادة لأقويائها ، ولقد تحمّل الشدائد لينقذ المكبّين على الدنيا من مغبّة العمل السيّئ ، وليسعد آخرين برغد العيش وبُلهنية الحياة ، موصولة حلقات حياتهم الدنيا بدرجات الآخرة العليا ، لكن جهلوه وجهلوا أمره وجهلوا حقّه ،

__________________

(١) المائدة : ٣٣.

(٢) الزخرف : ٣٢.

٥٠٠