الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

منها في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

ابن الأثير الجزري :

وأنت ترى ابن الأثير في الكامل ـ الناقص ـ تبعاً للطبري في الذكر والإهمال كما هو كذلك في كلّ ما توافقا عليه من التاريخ ، لكنّه زاد ضغثاً على إبّالة (١) فقال (٢) : وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك أموراً كثيرة من سبّ معاوية إيّاه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصحّ النقل به ، ولو صحّ لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان ، فإنّ للإمام أن يؤدّب رعيّته ، وغير ذلك من الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه كرهت ذكرها. انتهى.

إنّ الذي لم يصحّح الرجل نقله صحّحه آخرون فنقلوه قبله وبعده فلم ينل المسكين مبتغاه ، وكان قد حسب أنّ الحقائق الثابتة تخفى عن أعين الناس إن سترها هو بذيل أمانته ، وقد ذهب عليه أنّ أهل النصفة من المؤلّفين وروّاد الحقائق من الرواة سوف لا يدَعون صغيرة ولا كبيرة إلاّ ويحصونها على الأمّة ، وإنّ مدوّنة التاريخ ليست قصراً على كتابه.

هبّ أنّه ستر التاريخ بالإهمال لكنّه ما ذا يصنع بالمحدّثين الذين أثبتوا حديث إخراجه من المدينة وطرده عن مكة والشام في باب الفتن وفي باب أعلام النبوّة (٣)؟ أولا يبهظ ذلك أبا ذر وزملاءه من رجالات أهل البيت عليهم‌السلام ومن يرى رأيه من صلحاء الأُمّة ، ولا سيّما أنّ سابقة الطرد من عاصمة النبوّة لم تكن إلاّ لمثل الحكم ـ عمّ

__________________

(١) الضغث : القبضة من الحشيش ، والإبّالة : الحزمة من الحطب ، وقد مرّ كراراً شرح هذا المثل.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٥١ حوادث سنة ٣٠ ه‍.

(٣) راجع : ص ٣٢٤ ـ ٣٢٨. (المؤلف)

٤٦١

الخليفة ـ وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيهاً للعاصمة عن معرّتهم ، وتطهيراً لها عن لوث بقائهم فيها ، أفهل يُساوى أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن مريم في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق منه ، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبّه ، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنّة ، والثلاثة الذين يحبّهم الله تعالى. أفهل يساوى من هو هذا بالطريد اللعين؟ فيشوّه ذكره بهذه التسوية ، ويشهر بين الملأ موصوماً بذلك ، ويُمنع الناس عن التقرّب إليه ، وينادى عليه بذلّ الاستخفاف ، ويُحرَم الناس من علومه الجمّة التي هو وعاؤها ، ولعمر الحقّ ، وشرف الإسلام ، ومجد الإنسانيّة ، وقداسة أبي ذر ، إنّ النشر بالمناشير ، والقرض بالمقاريض أهون على الدينيّ الغيور من بعض هاتيك الشنائع.

ثمّ إنّ تأديب الخليفة للرعيّة إنّما يقع على من فقد الآداب الدينيّة وطوّحت به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة. وأمّا مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لم يُطرِ به غيره ، وقرّبه وأدناه وعلّمه وإذا غاب عنه تفقّده ، وشهد أنّه شبيه عيسى بن مريم هدياً وسمتاً وخلقاً وبرّا وصدقاً ونسكاً وزهداً. فبما ذا يؤدّب؟ لما ذا؟ وأيّ تأديب هذا يراه النبيّ الأعظم بلاءً في الله؟ ويأمر أبا ذر بالصبر وهو يقول : مرحباً بأمر الله. وبم ولم استحقّ أبو ذر التأديب؟ وعمله مبرور مشكور عند المولى سبحانه ، ويراه مولانا أمير المؤمنين غضباً لله ويقول له : «فارجُ من غضبت له» (١).

نعم ؛ يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدّب للناس لما حمله من علم النبوّة وأحكام الدين وحكمه ، والنفسيّات الكريمة ، والملكات الفاضلة التي تركته شبيهاً بعيسى بن مريم في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ما بال الخليفة يتحرّى تأديب أبي ذر وهو هذا ، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة السكير على شرب الخمر واللعب بالصلاة المفروضة؟

__________________

(١) راجع ما مرّ في هذا الجزء صفحة : ٣٠٠. (المؤلف)

٤٦٢

ويبهظه تأديب عبيد الله بن عمر على قتل النفوس المحترمة.

ويبهظه تأديب مروان وهو يتّهمه بالكتاب المزوّر عليه.

ويبهظه تأديب الوقاح المستهتر المغيرة بن الأخنس وهو يقول له : أنا أكفيك عليّ بن أبي طالب. فأجابه الإمام بقوله : «يا ابن اللعين الأبتر والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع ، أنت تكفيني؟! فو الله ما أعزّ الله من أنت ناصره (١)» إلخ.

ما بال الخليفة يطرد أبا ذر ويردفه بصلحاء آخرين ، ويرى الإمام الطاهر أمير المؤمنين أحقّ بالنفي منهم (٢) ويؤوي طريد رسول الله الحكم وابنه ويرفدهما وهما هما؟

ما بال الخليفة يخوّل مروان مهمّات المجتمع ، ويلقي إليه مقاليد الصالح العام؟ ولم يُصخ إلى قول صالح الأُمّة مولانا أمير المؤمنين له : «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الضعينة يُقاد حيث يُسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وايم الله إنّي لأراه سيوردك ثمّ لا يُصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغُلِبت على أمرك» يأتي تمام الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

ما بال الخليفة يعطي مروان أزمّة أُموره ويشذّ عن السيرة الصالحة حتى توبّخه زوجته نائلة بنت الفرافصة؟ وتقول : قد أطعت مروان يقودك حيث شاء ، قال : فما أصنع؟ قالت. تتقي الله وتتّبع سنّة صاحبيك ، فإنّك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبّة ، وإنّما تركك الناس لمكانه ، فأرسل إلى عليّ فاستصلحه ، فإنّ له قرابة وهو لا يعصى (٣). ليت الخليفة كانت له أُذن واعية تسمع

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٢٥٣ [ص ١٩٣ خطبة ١٣٥]. (المؤلف)

(٢) سيوافيك حديثه في مواقف عمّار إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٣) تاريخ الطبري : ٥ / ١١٢ [٤ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٦٩ [٢ / ٢٨٥ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

٤٦٣

من بنت الفرافصة كلمتها الحكميّة التي كانت فيها نجاته في النشأتين.

كان من صالح الخليفة أن يدني إليه أبا ذر فيستفيد بعلمه وخلقه ونسكه وأمانته وثقته وتقواه وزهده لكنّه لم يفعل ، وما ذا كان يجديه لو فعل؟ وحوله الأمويّون وهو المتفاني في حبّهم ، وهم لا يرون ذلك الرأي السديد سديداً لأنّه على طرف النقيض ممّا حملوه من النهمة والشره ، واكتناز الذهب والفضة ، والسير مع الهوى والشهوات ، وهم المسيطرون على رأي الخليفة وأبو سفيان يقول : يا بني أُميّة تلقّفوها تلقّف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة. أو يقول لعثمان : صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أُميّة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار. راجع (ص ٢٧٨).

وعثمان وإن زبره تلك الساعة ، لكنّه لم يَعْدُ رأيه في بني أميّة المتلاعبين بالدين لعبهم بالأكر ، ولا أدري هل تهجّس في تأديب أبي سفيان على ذلك القول الإلحادي الشائن كما تهجّس وفعل في أبي ذر البرّ التقي ، ومن يماثله من الصلحاء الأتقياء؟

لقد فات ابن الأثير كلّ هذا ، فاعتذر عن الرجل بأنّ الخليفة يؤدّب رعيّته.

عماد الدين بن كثير :

جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية (١) (٧ / ١٥٥) فبنى على أساس ما علاّه من قبله في حذف ما كان هنالك من هنات وزاد في الطنبور نغمات ، قال : كان أبو ذر ينكر على من يقتني مالاً من الأغنياء ويمنع أن يدّخر فوق القوت ويوجب أن يتصدّق بالفضل ويتأوّل قول الله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا

__________________

(١) البداية والنهاية : ٧ / ١٧٥ حوادث سنة ٣٠ ه‍.

(٢) التوبة : ٣٤.

٤٦٤

يمتنع ، فبعث يشكوه إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم عليه المدينة فقدمها ، فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه فلم يرجع. فأمره بالمقام بالربذة ـ وهي شرقي المدينة ـ ويقال : إنّه سأل عثمان أن يقيم بها ، وقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي : إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها. وقد بلغ البناء سلعاً ، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة ، وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان حتى لا يرتدّ أعرابيّا بعد هجرته ، ففعل ، فلم يزل مقيماً بها حتى مات. انتهى.

وقال (١) في (ص ١٦٥) عند ذكر وفاته : جاء في فضله أحاديث كثيرة ، من أشهرها ما رواه الأعمش عن أبي اليقظان عثمان بن عمير ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر». وفيه ضعف. ثمّ لمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام ، فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثمّ نزل الربذة ، فأقام بها حتى مات في ذي الحجّة من هذه السنة ، وليس عنده سوى امرأته وأولاده ، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه ، إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه ، فحضروا موته وأوصاهم كيف يفعلون به ، وقيل : قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه ، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوها بعد الموت ، وقد أرسل عثمان بن عفّان إلى أهله فضمّهم مع أهله. انتهى.

هذا كلّ ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام ، وفيه مواقع للنظر :

١ ـ اتّهامه أبا ذر بأنّه كان ينكر اقتناء المال على الأغنياء ... إلخ.

هذه النظريّة قديماً ما عزوها إلى الصحابيّ العظيم اختلاقاً عليه وزوراً ، وقد تحوّلت في الأدوار الأخيرة بصورة مشوّهة أخرى من نسبة الاشتراكيّة إليه ،

__________________

(١) البداية والنهاية : ٧ / ١٨٥ حوادث سنة ٣٢ ه‍.

٤٦٥

وسنفصّل القول عنها تفصيلاً إن شاء الله تعالى.

٢ ـ إنّه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعد ما أوعز إلى أنّ عثمان أمره بالمقام بالربذة ، أمّا حديث الربذة فقد أوقفناك آنفاً على أنّه كان منفيّا إليها ، وأخرج من مدينة الرسول بصورة منكرة ، ووقع هنالك ما وقع بين عليّ عليه‌السلام ومروان ، وبينه وبين عثمان ، وبين عثمان وبين عمّار ، واعتراف عثمان بتسييره ، وتسجيل عليّ أمير المؤمنين عليه ذلك ، وسماع غير واحد من أبي ذر الصادق نفسه حديثه ، وأنّ عثمان جعله أعرابيّا بعد الهجرة ، وهو مقتضى إعلام النبوّة في إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه بأنّه سوف يُخرَج من المدينة ، ويُطرد من مكة والشام ، وأمّا خبر الشام فقد مرّ إخراجه إليها ولم يكن ذلك باختياره أيضاً.

٣ ـ وأمّا حديث بلوغ البناء سلعاً فإفك مفترىً على أُمّ ذر ، وقد جاء في مستدرك الحاكم (١) (٣ / ٣٤٤) ، وذكره البلاذري كما مرّ في (ص ٢٩٣) ورآه سبب خروج أبي ذر إلى الشام بإذن عثمان لا سبب خروجه إلى الربذة كما في حديث الطبري.

على أنّ ابن كثير أخذه من الطبري في التاريخ ، وجلّ ما عنده إنّما هو ملخّص ما فيه مع التصرّف فيه على ما يروقه ، وإسناد الرواية في التاريخ رجاله بين كذّاب وضّاع وبين مجهول لا يُعرَف إلى ضعيف متّهم بالزندقة كما أسلفناه في (ص ٨٤ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، ٣٢٧) وهم :

١ ـ السريّ. ٢ ـ شعيب. ٣ ـ سيف. ٤ ـ عطيّة. ٥ ـ يزيد الفقعسي.

وحديث يكون في إسناده أحد هؤلاء لا يعوّل عليه ، وعلى فرض اعتباره فإنّه لا يقاوم الصحاح المعارضة له الدالّة على إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يُخرَج ويُطرَد من مكّة والمدينة والشام. راجع (ص ٣١٦ ـ ٣١٩) وهي معتضدة بما مرّ عن أبي ذر

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٧ ح ٥٤٦٨.

٤٦٦

وعثمان وغيرهما في تسيير عثمان إيّاه ، أضف إليها الأعذار الباردة الواردة عن أعلام القوم فى تبرير عثمان عن هذا الوزر الشائن.

٤ ـ وأمّا ما ذكره من أمر عثمان أبا ذر أن يتعاهد المدينة حتى لا يرتدّ أعرابيّا فإنّه من جملة تلك الرواية المكذوبة التي تشتمل على حديث سلع ، وقد مرّ من طريق البلاذري بإسناد صحيح في (ص ٢٩٤) قول أبي ذر : ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابيّا. على أنّه لم يذكر أحد أنّ أبا ذر قدم المدينة خلال أيّام نفيه من سنة ثلاثين إلى وفاته سنة اثنتين وثلاثين حتى يكون ممتثلاً لأمر عثمان بالتعاهد.

٥ ـ ما ذكره من أنّه جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها ... إلخ.

إنّ شنشنة الرجل في الفضائل أنّه إذا قدم لسرد تاريخ من يهواه من الأمويّين ومن انضوى إليهم من روّاد النهم جاء بأشياء كثيرة وسرد التافه الموضوع في صورة الصحاح من غير تعرّض لإسنادها أو تعقيب لمضامينها ، ولا يملّ من تسطيرها وإن سوّدت أضابير من القراطيس ، لكنّه إذا وصلت النوبة إلى ذكر فضل أحد من أهل البيت أو شيعتهم وبطانتهم من عظماء الأُمّة وصلحائها كأبي ذر تضيق عليه الأرض برحبها ، وتلكّأ وتلعثم كأنّ في لسانه عقلة وفي شفتيه عقدة ، أو أنّه كان في أُذنه وقر عن سماعها فلم تُنهَ إليه ؛ وإن اضطرّته الحالة إلى ذكر شيء منها جاء به في صورة مصغّرة ، كما تجده هاهنا حيث جعل ما هو من أشهر فضائل أبي ذر ضعيفاً ، وهو يعلم أنّ طريق هذا الإسناد ليس منحصراً بما ذكره هو من طريق ابن عمرو الذي أخرجه ابن سعد والترمذي وابن ماجة والحاكم ، وإنّما جاء من طريق عليّ أمير المؤمنين وأبي ذر وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ؛ وحسّن الترمذي غير واحد من طرقه في صحيحه (١) (٢ / ٢٢١).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٨ ح ٣٨٠١ ، ٣٨٠٢.

٤٦٧

وإسناد أحمد من طريق أبي الدرداء في مسنده (١) (٥ / ١٩٧) صحيح رجاله كلّهم ثقات.

وإسناد الحاكم من طريق أبي ذر صحّحه هو وأقرّه الذهبي كما في المستدرك (٢) (٣ / ٣٤٢).

وإسناد الحاكم من طريق عليّ عليه‌السلام وأبي ذر أيضاً صحّحه هو وأقرّه الذهبي كما في المستدرك (٣) (٤ / ٤٨٠).

وأمّا إسناد ما أخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو ، فقال الذهبي فيما نقله عنه المناوي في شرح الجامع الصغير (٤) : سنده جيّد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (٥) : رجال أحمد وثّقوا وفي بعضهم خلاف. وحسّنه السيوطي في الجامع الصغير (٦). فأين الضعف المزعوم؟

ولا يهمّنا التعرّض لبقيّة ما رمى القول فيه على عواهنه ؛ فإنّها مأخوذة من الطبري مع عدم الإجادة في الأخذ ؛ ولعلّه أراد إصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عواراً على عواره وروايته هي من جملة أساطير أوقفناك على وضعها (ص ٣٢٧).

والممعن في كتب المحدّثين يعلم أنّ هذه الجنايات التي أوعزنا إلى بعضها لم تَعْدُ كتب الحديث ، فتجدها تثبت ما من حقّه الحذف ، وتحذف ما يجب أن يذكر ، ونَكِل عرفان ذلك إلى سعة باعك أيّها القارئ الكريم.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٧)

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٥٥ ح ٢١٢١٧.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٥ ح ٥٤٦٠ ، وكذا في التلخيص.

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٧ ح ٨٤٧٨.

(٤) فيض القدير : ٥ / ٤٢٣.

(٥) مجمع الزوائد : ٩ / ٣٣٠.

(٦) الجامع الصغير : ٢ / ٤٨٥ ح ٧٨٢٥.

(٧) سورة ق : ٢٢.

٤٦٨

نظرية أبي ذر في الأموال

وافى سيّدنا أبو ذر كغيره من قرنائه المقتصّين أثر الكتاب والسنّة يبغي صالح قومه ونجاح أمّته ، يبغي بهم أن لا يتخلّفوا عنهما قيد ذرّة ، يريد أن ينفي عن الناس البخل الذميم ، وأن تكون لضعفاء الأُمّة لماظة من منائح الأغنياء ، وأن لا يُمنَعوا حقوقهم التي افترضها الله لهم ، وكان نكيره الشديد متوجّهاً إلى مغتصبي أموال الفقراء ، وإلى أهل الأثرة الذين كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة منضّدة في دورهم ، وكانت سبائك التبر تُقسّم بكسرها بالفؤوس ، من دون أن تُخرَج منها الحقوق المفروضة من أخماس وزكوات ، ومن غير إغاثة للملهوفين الذين كان قوتهم السغب ، وريّهم الظمأ وراحتهم النكد ، وعند القوم أموال لهم متكدّسة لا تنتفع بها العفاة ، ولا يستفيد من نمائها المجتمع ، ولا يُصرف شيء منها في الصالح العام ، وقد شاء الله سبحانه للذهب والفضّة أن تتداولهما الأيدي ، ويتقلّبا في وجوه الحرف والمهن والصنائع ، فتنتجع العامّة بهما ، فأربابهما بالأرباح ، والضعفاء بالأجور ، والبلاد بالعمران ، والأراضي بالإحياء ، والمعالم والمعارف بالدعاية والنشر ، والملأ العلمي بالجوامع والكلّيات والكتب والصحف ، والمضطرّون بحقوقهما الإلهيّة [المخرجة ، والجنود بالعتاد ، والرواتب والرواحل ، وثغور الإسلام بالعِدّة والعُدّة] (١) واستحكامات تقتضيها الظروف ، حتى تكون الأُمّة سعيدة بما يتسنّى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها ؛ ولذلك حرّم المولى سبحانه اتخاذ الأواني من الذهب والفضّة لئلاّ يبقيا جامدين يعدوهما أعظم الفوائد وأكثرها المرقومة فيهما المترقّبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.

كان نكير سيّدنا أبي ذر موجّهاً إلى أمثال من ذكرناهم كمعاوية الذي كان

__________________

(١) ساقط من الطبعة الثانية.

٤٦٩

يرفع أبو ذر عقيرته على بابه كلّ يوم ويتلو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). وكان يرى الأموال تُجبى إليه فيقول : جاءت القطار تحمل النار.

وكمروان الذي كان إحدى منائح عثمان له خمس إفريقية وهو خمسمائة ألف دينار.

وكعبد الرحمن بن عوف ، وقد خلّف ذهباً قُطّع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلَّ امرأة ثمانون ألفاً ، فتكون ثروته من هذا الذهب المكنوز فحسب ما مرّ في صفحة (٢٨٤).

وكزيد بن ثابت المخلّف من الذهب والفضّة غير الأموال المكردسة والضياع العامرة ما كان يُكسر عند تقسيمه بالفؤوس.

وكطلحة التارك بعده مائة بُهار في كلّ بهار ثلاث قناطر ذهب ـ والبُهار جلد ثور ـ وهذه هي التي قال عثمان فيها : ويلي على ابن الحضرميّة ـ يعني طلحة ـ أعطيته كذا وكذا بُهاراً ذهباً ، وهو يروم دمي يحرّض على نفسي (١) أو طلحة التارك مائة جمل ذهباً كما مرّ عن ابن الجوزي.

وأمثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني ، وهو يرى أنّ خليفة الوقت يأتيه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة فيقسمها بين نسائه وبناته من دون أيّ اكتراث لمخالفة السنّة الشريفة ، وهو يعلم الكمّية المدّخرة من النقود التي نهبت يوم الدار : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (٢).

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٤٠٤ [٩ / ٣٥ خطبة ١٣٧]. (المؤلف)

(٢) آل عمران : ١٤.

٤٧٠

فما ظنّك بالرجل الدينيّ الواقف على كلّ هذه الكنوز من كثب؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المغيّبات ، وممّا يشاهده من نفسيّات القوم ، أنّ تلكم الأموال المكتنزة سوف يُصرَف أكثرها في الدعوة إلى الباطل ، وفي تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها عن عقر داره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وفي أُجور الوضّاعين للأحاديث في فضائل بني أُميّة والوقيعة في رجالات أهل البيت عليهم‌السلام ، وفي محرّفي الكلم عن مواضعه ، وفي منائح لاعني مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة ، ويُصرف شيء كثير منها في الخمور والفجور ، إلى غير ذلك من وجوه الشرّ.

ما ظنّك بالرجل؟ وفي أُذنه نداء الصادع الكريم : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دغلاً». ويرى بين عينيه آل أبي العاص بلغوا ثلاثين وجاؤوا يلعبون بالملك تلاعب الصبيان بالأُكَر ، وقد اتّخذوا مال الله دولا ...

فهل تراه يخفق على ذلك كلّه ، كأنّه لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم؟ أو أنّه يُدوّخ العالم بعقيرته؟ ويلفت الأنظار إلى جهات الحكمة ووجوه الفساد؟ عساه يكسح شيئاً من الشرّ الحاضر ، ويسدّ عادية المعرّة المقبلة ، وإنّ أسس هذا الدين الحنيف الدعوة إلى الحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

لقد ناء أبو ذر بهذه المهمّة الدينيّة وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، وما كان يلهج إلاّ بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ولم يشذّ في تأويل الآية عمّا يقتضيه ظاهرها ، لأنّ مطمح نظره

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

٤٧١

كان هؤلاء الذين ذكرناهم ممّن جمعوا من غير حلّه ، وادّخروا على غير حقّه ، ولم يؤدّوا المفترض ممّا استباحوه من المال واكتنزوه ، ولذلك لم يوجّه نكيره إلى أُناس آخرين من زملائه ومعاصريه من أهل اليسار كقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي كان يهب غير الحقوق الواجبة عليه آلافاً مؤلّفة ، وقد عرفت شطراً من يساره في الجزء الثاني (٨٥ ـ ٨٨).

وكأبي سعيد الخدري الذي كان يقول : ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منّا (١).

وكعبد الله بن جعفر الطيّار الذي دوّخ الأجواء ذكر ثروته وعطاياه وقد فصّلها ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٣٢٥ ـ ٣٤٤) وغيره.

وعبد الله بن مسعود الذي خلّف تسعين ألفاً كما في صفة الصفوة.

وحكيم بن حزام الذي كانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم ، فقال له عبد الله بن الزبير : بعت مكرمة قريش. فقال حكيم : ذهبت المكارم إلاّ التقوى يا ابن أخي ، إنّي اشتريت بها داراً في الجنّة أُشهدك أنّي قد جعلتها في سبيل الله. وحجّ حكيم ومعه مائة بدنة قد أهداها وجلّلها الحبرة (٣) ؛ ووقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضّة قد نقش في رءوسها : عتقاء الله عزّ وجلّ عن حكيم. وأعتقهم ، وأهدى ألف شاة (٤).

إلى أُناس آخرين لدة هؤلاء من أهل اليسار. فلم تسمع أُذن الدنيا أنّ أبا ذر وجّه إلى أحد من هؤلاء الأثرياء لوماً لأنّه كان يعلم بأنّهم اقتنوها من طرقها

__________________

(١) صفة الصفوة لابن الجوزي : ١ / ٣٠٠ [١ / ٧١٥ رقم ١٠٥]. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٧ / ٢٤٨ ـ ٢٩٨ رقم ٣٢٢٢ ، وأنظر : المنتظم : ٦ / ٢١٤ رقم ٤٧٧.

(٣) الحِبَرَة والحَبَرَة : ضربٌ من البرود اليمانية.

(٤) صفة الصفوة لابن الجوزي : ١ / ٣٠٤ [١ / ٧٢٥ رقم ١٠٩]. (المؤلف)

٤٧٢

المشروعة وأدّوا ما عليهم منها وزادوا ، وراعوا حقوق المروءة حقّ رعايتها ، وما كان يبغي بالناس إلاّ هذه.

لما ذا يرى أبو ذر بناء معاوية الخضراء في دمشق فيقول : يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف. فسكت معاوية. ويقول أبو ذر : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّا يطفأ ، وباطلاً يُحيى ، وصادقاً يكذّب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً عليه (١).

ويرى بناء المقداد داره بالمدينة بالجرف وقد جعلها مجصّصة الظاهر والباطن كما في مروج الذهب (٢) (١ / ٤٣٤) فلا ينكره عليه ولا ينهاه عنه ولا ينبس ببنت شفة ، وليس ذلك إلاّ لما كان يراه من الفرق الواضح بين المالين والبناءين وصاحبيهما.

وأمّا وجوب إنفاق المال الزائد على القوت كلّه الذي عزاه إلى سيّدنا أبي ذر المختلقون فمن أفائكهم المفتريات ، لم يدَّعه أبو ذر ولا دعا إليه ، وكيف يكون ذلك وأبو ذر يعي من شريعة الحقّ وجوب الزكاة؟ وهل يمكن ذلك إلاّ بعد اليسار والوفر الزائد على المؤن؟ والله سبحانه يقول : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (٣) وفي تنكير الصدقة و (من) التبعيض دلالة على أنّ المأخوذ بعض المال لا كلّه.

على أنّ النُصب الزكويّة المضروبة في النقدين والأنعام والغلاّت كلّها نصوص على أنّ الباقي من المال مباح لأربابه ، ولأبي ذر نفسه في آداب الزكاة أحاديث أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما من رجال الصحاح وأحمد والبيهقي وغيرهم.

فلو كان يجب إنفاق بعد إخراج الزكاة فما معنى التحديد بالنصب والإخراج

__________________

(١) راجع ما مرّ : ص ٣٠٤. (المؤلف)

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٣٥١.

(٣) التوبة : ١٠٣.

٤٧٣

منها؟ وهذا معنى واضح لا يخفى على كلّ مسلم ، فضلاً عن مثل أبي ذر الذي هو وعاء العلم والمحيط بالسنّة الشريفة.

ولو كانت على المكلّف بقيّة من الواجب بعد الزكاة لم يؤدّها فما معنى الفلاح؟ الذي وصف الله تعالى به المؤمنين : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (١).

وليت شعري إن كان من المفترض إنفاق كلّ ما للإنسان من المال بعد المؤن فبما ذا يحترف أو يمتهن؟ وليس عنده فاضل على المؤن. أبما ادّخره لقوته؟ أم بما رجع عنه بخفّي حنين؟ وممّا ذا يخرج الزكاة؟ فيسدّ بها خلّة الضعفاء ويقتات هو في مستقبله الذي هو أوان فاقته. أمن المحتمل أنّ أبا ذر كان يوجب ترك كلّ هذه ويريد أن تكون الدنيا مشحونة بالعفاة المتكفّفين؟ فلا يرى المتسوّل إلاّ شحّاذاً مثله ، ولا يجد العافي مُنتجعاً لكشف كربته وتسديد إعوازه إن دامت الحالة على ما يُتقوّل به على أبي ذر سنة أو دون سنة.

تالله لا يبغي أبو ذر بالمجتمع الديني هذه الضعة وهو لا يحبّ لهم إلاّ الخير كلّه ، ولا يريد هذا أيّ مصلح أو صالح في نفسه ، فضلاً عن أبي ذر المعدود في علماء الصحابة ومصلحيهم وصلحائهم.

نعم ؛ غضب أبو ذر لله كما قاله مولانا أمير المؤمنين (٢) وغضب للمسلمين حيث رأى فيئهم مدّخراً عنهم تتمتّع به سماسرة النهمة والجشع.

يرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديَهُمْ من فيئِهمْ صَفِراتِ

فكان كلّ ما انتابه من جرّاء هذا الأخذ والرد بعين الله وفي سبيله كما عهد إليه

__________________

(١) المؤمنون : ١ ـ ٤.

(٢) راجع : ص ٣٠٠ من هذا الجزء. (المؤلف)

٤٧٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي». قال : في الله؟ قال : «في الله». قال : مرحباً بأمر الله. راجع (ص ٣١٦) من هذا الجزء.

ثمّ إنّ ما شجر من الخلاف بين أبي ذر ومعاوية في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). ـ فخصّه معاوية بأهل الكتاب وعمّمه أبو ذر عليهم وعلى المسلمين ، كما أخرجه البخاري ومرّ بلفظه (ص ٢٩٥) وهذه الرواية هي المستند الوحيد لجملة من الأفّاكين على أبي ذر ـ ظاهر (١) في أنّه لا خلاف بينهما فى المقدار المنفق من المال وإنّما هو في توجيه الخطاب ، فارتأى معاوية أنّ المخاطب به أهل الكتاب ، وعلم أبو ذر من مستقى الوحي ولحن الآية الكريمة أنّها تعمّ كلّ مكلّف. إذن فيجب إمّا أن يُعزى هذا الشذوذ إليهما جميعاً ، أو يبرّآن عنه جميعاً ، فإفراد أبي ذر بالقذف من ولائد الضغائن والإحن.

وأيّا ما كان ، فالمراد إنفاق البعض لا الكلّ ، وإن كان النظر القاصر قد يجنح إلى الأخير لأوّل وهلة. وليست هذه الآية بدعاً من آيات أُخرى تماثلها في السياق كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) الآية ، البقرة : ٢٦١.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) البقرة : ٢٧٤.

وقوله تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، البقرة : ٢٦٢.

وقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) الآية ، البقرة : ٢٦٥.

على أنّ هذه الآيات أصرح من هاتيك في العموم لمكان الجمع المضاف فيها ،

__________________

(١) خبر «إنّ» في أول الفقره ، من قوله : ثم إن ما شجر ....

٤٧٥

لكن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أنّه نزّلها إلى البعض ، ولعلّ النكتة في الإتيان بالجمع المضاف فيها أنّ الموصوفين بها بلغوا من نزاهة النفس وكرم الطباع وعلوّ الهمّة حدّا لا يبالون معه لو توقّفت الحالة على إنفاق كلّ أموالهم. أو أنّهم حين يسمحون بإنفاق البعض في سبيل الله تعالى يجعله سبحانه في مكان إنفاق الكلّ بفضل منه ويثيبهم على ذلك. وبهذا يُعلم السرّ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، الأنفال : ٣٦. وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) الآية ، النساء : ٣٨.

فليست هذه الآيات في منتأى عن قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، آل عمران : ٩٢.

وقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، إبراهيم : ٣١.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، البقرة : ٣.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، الأنفال : ٣.

وقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، الحج : ٣٥.

وقوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، السجدة : ١٦.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ، البقرة : ٢٥٤.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ، البقرة : ٢٦٧.

وقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، المنافقون : ١٠.

على أنّ غير واحد من تلكم الآيات تومي إلى الإنفاق المندوب كما نصّ

٤٧٦

عليه علماء التفسير وحفّاظ الحديث ، ومع ذلك لم يدعها سبحانه على ما يتوهّم منها من جمعها المضاف حتى جعل لها حدّا بقوله عزّ وجلّ : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى) عُنُقِكَ وَلَا تَبسُطْهَا كُلَّ البَسطِ فَتَقعُدَ مَلُوماً مَحسُورا) ، الإسراء : ٢٩. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، الفرقان : ٦٧.

أترى أنّ أبا ذر ـ سلام الله عليه ـ عزب عنه كلّ هذه الآيات الكريمة والأُصول المسلّمة؟ أو كان له رأي خاصّ في تأويلها تجاه الحقائق الراهنة حتى جاء بعد لأي من عمر الدنيا رعرعة تجشّأهم الدهر فقاءهم وقفوا على تلكم الكنوز المخيّأة؟!

ولو كان لأبي ذر أدنى شذوذ عن الطريقة المثلى في حكم إلهي ، شذوذاً يخلّ بنظام المجتمع ويقلق السلام والوئام ، وتكثر حوله القلاقل ، وفيه إثارة العواطف والإخلال بالأمن أو التزحزح عن مبادئ الإسلام ، لكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل من يردعه ويحبسه عن قصده السيّئ وأبو ذر أطوع له من الظلّ لذيه ، لكنّه عليه‌السلام بدلاً عن ذلك يقول : «غضبتَ لله فارجُ من غضبت له». ويقول : «والله ما أردتُ تشييع أبي ذر إلاّ لله». ويقول لعثمان : «اتّق الله فإنّك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك». وأمير المؤمنين من تعرفه بتنمّره في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم ، وهو مع الحقّ والحقّ معه في كلّ ما يقول ويفعل.

وهل ترى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّه كان يعلم أنّ أبا ذر سوف ينوء في أُخرياته بدعوة باطلة كهذه طفق ينوّه به ، ويعرّفه بين الملأ بصفات فاضلة تكبر مقامه ، وتعظّم مكانته عند الجامعة (١) ، وتمكّنه من القلوب الصالحة؟ ويقول عمر

__________________

(١) أي : المجتمع الإسلامي.

٤٧٧

له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله فنعرف ذلك له؟ فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم فاعرفوه له». فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤيّداً له على عيثه ، ومؤسّساً لباطله ، ومعرّفاً لضلاله ، حاشا رسول العظمة من مثل ذلك.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١)

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) (٢)

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (٣)

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) (٤)

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (٥)

أبو ذر والاشتراكيّة

لقد عرفت كلّ ما في كنانة الأوّلين من نبال مرشوقة إلى العبد الصالح شبيه عيسى في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهلمّ هاهنا إلى رجرجة الآخرين من مقلّدة الدور الأخير الخابطين خبط عشواء ، الذين رموا أبا ذر ـ وأُجلّه ـ بالاشتراكيّة تارة وبالشيوعيّة أخرى.

هل أحاط علماً هؤلاء الأغرار بمبادئ الشيوعيّة التعيسة ، ومواد الاشتراك الذي هو بمقربة من رديفته المبغوضة؟

وهل أُتيح لهم عرفان مغازي أبي ذر المصلح العظيم فيما قال ودعا إليه حتى طفقوا يوفّقوا بين المبدأين؟

__________________

(١) الأنعام : ١٤٤.

(٢) الأنعام : ١٤٨.

(٣) النور : ١٥.

(٤) الكهف : ٥.

(٥) الأنعام : ١١٦.

٤٧٨

لا أحسب أنّهم عرفوا شيئاً من تلكم المغازي ، وأنّهم في ظنّي الغالب بهم شيوعيّة خونة يديفون السمّ في الدسم ، ويُسرّون حسواً في ارتغاء (١) ، اتّخذوا ما قالوه بل تقوّلوه أكبر دعاية إلى تلكم المبادئ الهدّامة لأُسس المدنيّة والحضارة ، المضادّة لناموس الطبيعة ، فضلاً عن حدود الإسلام ، يجعل مثل أبي ذر العظيم شيوعيّا أو اشتراكيّا ، وقد صافقه على ما هتف به ونقم على من ناوأه وآذاه من القوم جلّ الصحابة إن لم نقل كلّهم ممّن يعبأ به وبرأيه ، واستاءوا لما نُكب به من جرّاء ذلك الهتاف وفي مقدّمهم مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وابناه الإمامان إن قاما وإن قعدا ، وعمّار الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عمّاراً مع الحقّ والحقّ معه يدور عمّار مع الحقّ أينما دار» (٢) إلى كثيرين وافقوا هؤلاء على النقمة والاستياء ، فلم يكن أبو ذر شاذّا في رأيه ، ولا أُنهي إلينا أنّه خالفه أحد من الصحابة ، فدونك صحائف التاريخ وزبر الحديث.

نعم ؛ خالفه الذين يريدون أن يخضموا مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، وكانوا يكنزون الذهب والفضّة ولا يُنفقون منها ما يجب عليهم إنفاقه ، ويحرمون الأُمّة عن أعطياتهم وما ينمو منها ، ويريدون للضعفاء أن يرزخوا تحت نير الاضطهاد ، ويرسفوا في قيود الفاقة والضعة ، خاضعين لهم مستعبدين ، وللقوم من أموالهم قصور مشيّدة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ مبثوثة ، يأكلون فيها مال الله أكلاً لمّا ، ويحبّون احتكاره حبّا جمّا.

نعم ؛ خالفه أولئك الذين عرّفهم يزيد بن قيس الأرحبيّ يوم صفين بقوله من خطبة له : يحدّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت (٣) ، ويأخذ مال الله ، ويقول : لا إثم

__________________

(١) مثل يضرب لمن يُريك أنّه يعينك ، وإنما يجرّ النفع إلى نفسه. مجمع الأمثال ٣ / ٥٢٥ رقم ٤٦٨٠.

(٢) سيوافيك في محلّه في الجزء التاسع بإذن الله تعالى. (المؤلف)

(٣) من ألفاظ الكنايات. ومعناها : كيت وكيت.

٤٧٩

عليّ فيه ، كأنّما أُعطي تراثه من أبيه ، كيف؟ إنّما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا ، قاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ولا تأخذكم فيهم لومة لائم ، إنّهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم ، وهم من قد عرفتم وجرّبتم (١).

فأيّ إنسان يبلغه أنّ العظماء الذين نوّهنا بذكرهم ، وهم أهل الفضائل والعلوم ، اعتنقوا مبدأً لا يروقه أن يقتصّ أثرهم؟ وهو لا يعلم أنّ ذلك العزو المختلق تقوّلوه دعاية إلى ضلالهم وترويجاً لباطلهم وستراً على عوارهم.

دع ذلك كلّه وهلمّ معي إلى النظر في مبادئ الشيوعيّة والفرق الاشتراكيّين ، إنّ القوم على تعدّد فرقهم إلى الاشتراكيّة الديمقراطية ، والاشتراكيّة الوطنيّة النازيّة ، والشيوعيّة ، والماركسيّة ـ اشتراكيّة رأس المال ـ وبالرغم من تباينهم الكثير في شتّى النواحي لا يختلفون في موادّ ثلاثة تجمع شملهم المبدّد ـ بدّد الله شملهم :

١ ـ تقويض النظام الحالي ، وتشييد نظام جديد على أنقاضه يضمن توزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الأفراد.

٢ ـ إلغاء الملكيّة الخاصّة ـ ثروات الإنتاج ـ كرأس المال ، والأرض ، والمصانع ، على أن تستولي الدولة على هذه الملكيّات جميعها وتجعلها ملكيّة عامّة تديرها للمصلحة العامّة.

٣ ـ يشتغل الأفراد لحساب الدولة بأجور تُعطى لهم بالتساوي ؛ على أساس قيمة العمل الذي ينتجه كلّ منهم ، وتبعاً لذلك لا يكون هناك دخل للأفراد سوى الأجور.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٦ / ١٠ [٥ / ١٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٢٨ [٢ / ٣٧٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٤٨٥ [٥ / ١٩٤ خطبة ٦٥]. (المؤلف)

٤٨٠