الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، من سرّه أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر».

أخرجه على اختلاف ألفاظه : ابن سعد ، الترمذي ، ابن ماجة ، أحمد ، ابن أبي شيبة (١) ، ابن جرير (٢) ، أبو عمر ، أبو نعيم ، البغوي ، الحاكم ، ابن عساكر (٣) الطبراني (٤) ، ابن الجوزي.

راجع طبقات ابن سعد (٥) (٤ / ١٦٧ ، ١٦٨) طبع ليدن ، صحيح الترمذي (٢ / ٢٢١) ، سنن ابن ماجة (١ / ٦٨) ، مسند أحمد (٢ / ١٦٣ ، ١٧٥ ، ٢٢٣ و ٥ / ١٩٧ و ٦ / ٤٤٢) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٣٤٢) صحّحه وأقرّه الذهبي ، و (٤ / ٤٨٠) صحّحه أيضاً وأقرّه الذهبي ، مصابيح السنّة (٢ / ٢٢٨) ، صفة الصفوة (١ / ٢٤٠) ، الاستيعاب (١ / ٨٤) ، تمييز الطيّب لابن الدّيبع (ص ١٣٧) ، مجمع الزوائد (٩ / ٣٢٩) ، الإصابة لابن حجر (٣ / ٦٢٢ و ٤ / ٦٤) ، الجامع الصغير للسيوطي من عدّة طرق ، شرح الجامع الصغير للمناوي (٥ / ٤٢٣) فقال : قال الذهبي : سنده جيّد وقال الهيثمي : رجال أحمد وُثّقوا وفي بعضهم خلاف ، كنز العمّال (٦ / ١٦٩ و ٨ / ١٥ ـ ١٧).

__________________

) مصنّف ابن أبي شيبة : ١٢ / ١٢٤ ح ٢٣١٥ ـ ٢٣١٧.

(٢) تهذيب الآثار : ص ١٥٨ ح ١٨ من مسند عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

) مختصر تاريخ دمشق : ٢٨ / ٢٩٠.

) المعجم الكبير : ٢ / ١٤٩ ح ١٦٢٥.

) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٨ ، سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٨ ح ٣٨٠١ ـ ٣٨٠٢ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٥ ح ١٥٦ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٤٧ ح ٦٤٨٣ ، ص ٣٦٦ ح ٦٥٩٣ ، ص ٤٤٦ ح ٧٠٣٨ و ٦ / ٢٥٥ ح ٢١٢١٧ و ٧ / ٥٩٥ ح ٢٦٩٤٧ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٥ ح ٥٤٦٠ و ٤ / ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ح ٨٤٧٨ وكذا في تلخيصه ، مصابيح السنّة : ٤ / ٢٢٠ ح ٤٨٩٧ ، ص ٢٢١ ح ٤٨٩٨ ، صفة الصفوة : ١ / ٥٩٠ رقم ٦٤ ، الاستيعاب : القسم الأول / ٢٥٥ رقم ٣٣٩ ، تمييز الطيّب من الخبيث : ص ١٥٩ ح ١١٧٣ ، الجامع الصغير : ٢ / ٤٨٥ ح ٧٨٢٥ ، كنز العمّال : ١١ / ٦٦٦ ـ ٦٦٨ ح ٣٣٢٢١ ـ ٣٣٢٢٢ ، ٣٣٢٢٥ ـ ٣٣٢٢٩ و ١٣ / ٣١٦ ح ٣٦٨٩٨.

٤٤١

٢ ـ أخرج الترمذي في صحيحه (١) (٢ / ٢٢١) مرفوعاً : «أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه‌السلام».

وفي لفظ أبي عمر في الاستيعاب (٢ / ٦٦٤): «أبو ذر في أُمّتي على زهد عيسى ابن مريم» وفي (١ / ٨٤) : «أبو ذر في أُمّتي شبيه عيسى بن مريم في زهده». وبلفظ : «من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر» (٢).

وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (٣) (٥ / ١٨٦) بلفظ أبي عمر الأوّل.

٣ ـ أخرج الطبراني مرفوعاً : «من أحبّ أن ينظر إلى المسيح عيسى بن مريم إلى برّه وصدقه وجدّه فلينظرإلى أبي ذر».

كنز العمّال (٤) (٦ / ١٦٩) ، مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠).

٤ ـ أخرج الطبراني (٥) من طريق ابن مسعود مرفوعاً : «من سرّه أن ينظر إلى شبه عيسى خَلقاً وخُلقاً فلينظر إلى أبي ذر».

مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠) ، كنز العمّال (٦) (٦ / ١٦٩).

٥ ـ أخرج الطبراني (٧) من طريق ابن مسعود مرفوعاً : «إنّ أبا ذر ليباري عيسى بن مريم في عبادته». كنز العمّال (٨) (٦ / ١٦٩).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٩ ح ٣٨٠٢.

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٦٥٥ رقم ٢٩٤٤ ، القسم الأول / ٢٥٥ رقم ٣٣٩.

(٣) أُسد الغابة : ٦ / ١٠١ رقم ٥٨٦٢.

(٤) كنز العمّال : ١١ / ٦٦٨ ح ٣٣٢٣٠.

(٥) المعجم الكبير : ٢ / ١٤٩ ح ١٦٢٦.

(٦) كنز العمّال : ١١ / ٦٦٨ ح ٣٣٢٣١.

(٧) المعجم الكبير : ٢ / ١٤٩ ح ١٦٢٥.

(٨) كنز العمّال : ١١ / ٦٦٦ ح ٣٣٢١٩.

٤٤٢

حديث فضله :

١ ـ عن بريدة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عزّ وجلّ أمرني بحبّ أربعة وأخبرني أنّه يحبّهم : عليّ وأبو ذر والمقداد وسلمان».

أخرجه (١) الترمذي في صحيحه (٢ / ٢١٣) ، وابن ماجة في سننه (١ / ٦٦) ، والحاكم في المستدرك (٣ / ١٣٠) وصححه ، وأبو نعيم في الحلية (١ / ١٧٢) ، وأبو عمر في الاستيعاب (٢ / ٥٥٧) ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير وصحّحه وأقرّ تصحيحه المناوي في شرح الجامع (٢ / ٢١٥). وابن حجر في الإصابة (٣ / ٤٥٥) ، وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة (٢) : الظاهر أنّه أمر إيجاب ويحتمل الندب ، وعلى الوجهين فما أُمر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أمر به أُمّته ، فينبغي للناس أن يحبّوا هؤلاء الأربعة خصوصاً.

٢ ـ أخرج ابن هشام في السيرة (٣) (٤ / ١٧٩) مرفوعاً : «رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبَعث وحده».

وأخرج ابن هشام في السيرة (٤) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (٤ / ١٧٠) في حديث دفنه قال : فاستهلّ عبد الله بن مسعود يبكي ويقول : صدق رسول الله : «تمشي وحدك وتموت وحدك ، وتبعث وحدك».

وذكره أبو عمر في الاستيعاب (٥) (١ / ٨٣) ، وابن الأثير في أُسد الغابة (٥ / ١٨٨) ،

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٥٩٤ ح ٣٧١٨ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٣ ح ١٤٩ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٤١ ح ٤٦٤٩ ، الاستيعاب : القسم الثاني / ٦٣٦ رقم ١٠١٤ ، الجامع الصغير : ١ / ٢٥٨ ح ١٦٩٢.

(٢) شرح سنن ابن ماجة : ١ / ٦٦.

(٣) السيرة النبوية : ٤ / ١٦٧.

(٤) السيرة النبوية : ٤ / ١٦٨ ، الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٣٥.

(٥) الاستيعاب : القسم الأول / ٢٥٣ رقم ٣٣٩ ، أُسد الغابة : ٦ / ١٠١ رقم ٥٨٦٢.

٤٤٣

وابن حجر في الإصابة (٤ / ٦٤).

٣ ـ أخرج البزّار من طريق أنس بن مالك مرفوعاً : «الجنّة تشتاق إلى ثلاثة : عليّ وعمّار وأبي ذر».

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠) فقال : إسناده حسن.

٤ ـ أخرج أبو يعلى (١) من طريق الحسين بن عليّ قال : أتى جبريل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد إنّ الله يحبُّ من أصحابك ثلاثة فأحبّهم : عليُّ بن أبي طالب ، وأبو ذر ، والمقداد بن الأسود. مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠).

٥ ـ أخرج الطبري (٢) من طريق أبي الدرداء أنّه ذكر أبا ذر فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً ، ويسرُّ إليه حين لا يسرُّ إلى أحد. كنز العمّال (٣) (٨ / ١٥).

وأخرج أحمد في المسند (٤) (٥ / ١٩٧) من طريق عبد الرحمن بن غنم قال : إنّه زار أبا الدرداء بحمص فمكث عنده ليالي وأمر بحماره فأوكف ، فقال أبو الدرداء : ما أراني إلاّ متّبعك ، فأمر بحماره فأُسرج فسارا جميعاً على حماريهما ، فلقيا رجلاً شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية ، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه فأخبرهما خبر الناس ، ثمّ إنّ الرجل قال : وخبر آخر كرهت أن أخبركما أراكما تكرهانه. فقال أبو الدرداء : فلعلّ أبا ذر نُفي؟ قال : نعم والله ، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً من عشر مرّات ، ثمّ قال أبو الدرداء : ارتقبهم واصطبر ، كما قيل لأصحاب الناقة. اللهمّ إن كذّبوا أبا ذر فإنّي لا أُكذّبه ، اللهمّ وإن اتّهموه فإنّي لا أتّهمه ، اللهمّ وإن استغشُّوه فإنّي لا أستغشُّه ،

__________________

(١) مسند أبي يعلى : ١٢ / ١٤٣ ح ٦٧٧٢.

(٢) تهذيب الآثار : ص ١٦٠ ح ٢٦٠ من مسند عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٣) كنز العمال : ١٣ / ٣١١ ح ٣٦٨٨٦.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ح ٢١٢١٧.

٤٤٤

فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً ، ويسرُّ إليه حين لا يسرُّ إلى أحد ، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده لو أنّ أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما أظلّت الخضراء ...» (١) الحديث.

وأخرجه الحاكم ملخّصاً في المستدرك (٢) (٣ / ٣٤٤) وصحّحه وقال الذهبي : سند جيد.

٦ ـ من طريق ابن الحارث عن أبي الدرداء أنّه قال وذكرت له أبا ذر : والله إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليُدنيه دوننا إذا حضر ، ويتفقّده إذا غاب ، ولقد علمت أنّه قال : «ما تحمل الغبراء ولا تُظلّ الخضراء للبشر بقولٍ أصدق لهجة من أبي ذر».

كنز العمّال (٣) (٨ / ١٥) ، مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠) ، الإصابة (٤ / ٦٣) ، نقلاً عن الطبراني لفظه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر ويتفقّده إذا غاب.

٧ ـ أخرج أحمد في مسنده (٤) (٥ / ١٨١) من طريق أبي الأسود الدؤلي أنّه قال : رأيت أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما رأيت لأبي ذر شبيهاً.

وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٣٣١).

٨ ـ روى شهاب الدين الأبشيهي في المستطرف (٥) (١ / ١٦٦) قال : مرّ أبو ذر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه جبريل عليه‌السلام في صورة دحية الكلبي فلم يسلّم فقال جبريل : هذا أبو ذر لو سلّم لرددنا عليه. فقال : «أتعرفه يا جبريل؟» قال : والذي بعثك بالحقّ نبيّا لهو في ملكوت السماوات السبع أشهر منه في الأرض قال : «بِمَ نال هذه

__________________

(١) أنظر : تهذيب الآثار : ص ١٥٩ ـ ١٦٠ ح ٢٦٠ من مسند عليّ عليه‌السلام.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٧ ح ٥٤٦٧.

(٣) كنز العمّال : ١٣ / ٣١١ ح ٣٦٨٨٧.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٢٣١ ح ٢١٠٦٥.

(٥) المستطرف : ١ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٤٤٥

المنزلة؟» قال : بزهده في هذه الحطام الفانية. وذكره الزمخشري في ربيع الأبرار (١) باب ٢٣.

عهد النبي الأعظم إلى أبي ذر :

١ ـ أخرج الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ٣٤٣) من طريق صحّحه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة؟» وشبك بين أصابعه ، قلت : يا رسول الله فما تأمرني؟ قال : «اصبر اصبر اصبر ، خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم».

٢ ـ أخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ١٦٢) من طريق سلمة بن الأكوع عن أبي ذر رضى الله عنه قال : بينا أنا واقف مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي : «يا أبا ذر أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي». قلت : في الله؟ قال : «في الله». قلت : مرحباً بأمر الله.

٣ ـ أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (٣) (٤ / ١٦٦) طبع ليدن من طريق أبي ذر قال : قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفيء؟» قال : قلت : إذاً والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به. فقال : «أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصبر حتى تلقاني».

وفي لفظ أحمد وأبي داود : «كيف أنت وأئمّة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟» قال : قلت : إذاً والذي بعثك بالحقّ أضع سيفي على عاتقي ثمّ أضرب به حتى ألقاك أو ألحق بك. قال : «أوَلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني». وفي لفظ : «كيف أنت عند ولاة يستأثرون بهذا الفيء؟».

__________________

) ربيع الأبرار : ١ / ٨٣٤.

) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٦ ح ٥٤٦٤.

) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٦.

٤٤٦

مسند أحمد (١) (٥ / ١٨٠) ، سنن أبي داود (٢) (٢ / ٢٨٢) ، ولأحمد طريقان كلاهما صحيحان رجالهما كلّهم ثقات ، وهم :

١ ـ يحيى بن آدم ، مجمع على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٢ ـ زهير بن معاوية الكوفي ، متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٣ ـ يحيى بن أبي بكير الكوفي ، مجمع على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٤ ـ مطرف بن طريف ، متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٥ ـ أبو الجهم سليمان بن الجهم الحارثي ، تابعيّ لا خلاف في ثقته.

٦ ـ خالد بن وهبان ، تابعيّ ثقة.

٤ ـ أخرج أحمد في المسند (٣) (٥ / ١٧٨) من طريق أبي السليل في حديث عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا أبا ذر كيف تصنع إن أُخرجت من المدينة؟» قال : قلت : إلى السعة والدعة أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة. قال : «كيف تصنع إن أُخرجت من مكة؟» قال : قلت : إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدّسة. قال : «وكيف تصنع إن أُخرجت من الشام؟» قال : إذاً والذي بعثك بالحقّ أضع سيفي على عاتقي. قال : «أو خير من ذلك؟» قال : قلت : أوَ خير من ذلك؟ قال : «تسمع وتطيع وإن كان عبداً حبشيّا».

رجال الإسناد كلّهم ثقات وهم :

١ ـ يزيد بن هارون بن وادي ، مجمع على ثقته من رجال الصحيحين.

٢ ـ كهمس بن الحسن البصري ، ثقة من رجال الصحيحين.

٣ ـ أبو السليل ضريب بن نقير البصري ، ثقة من رجال مسلم والصحاح الأربعة غير البخاري.

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ح ٢١٠٤٨ ، ١٠٤٩.

(٢) سنن أبي داود : ٤ / ٢٤١ ح ٤٧٥٩.

(٣) مسند أحمد : ٦ / ٢٢٧ ح ٢١٠٤١.

٤٤٧

وفي لفظ : «كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟» أي المسجد النبويّ. قال : آتي الشام. قال : «كيف تصنع إذا أُخرجت منها؟» قال : أعود إليه ـ أي المسجد ـ قال : «كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟» ، قال : أضرب بسيفي. قال : «أدلّك على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشداً. قال : تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك».

فتح الباري (١) (٣ / ٢١٣) ، عمدة القاري (٢) (٤ / ٢٩١).

٥ ـ أخرج الواقدي من طريق أبي الأسود الدؤلي قال : كنت أُحبُّ لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة فقلت له : ألا تخبرني : أَخَرجت من المدينة طائعاً ، أُم خرجت مكرهاً؟ فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأُخرجت إلى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : أصحابي ودار هجرتي ، فأُخرجت منها إلى ما ترى. ثمّ قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مرّ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربني برجله وقال : «لا أراك نائماً في المسجد» ، فقلت : بأبي أنت وأُمّي غلبتني عيني فنمت فيه ، فقال : «كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟» فقلت : إذن ألحق بالشام فإنّها أرض مقدسة وأرض بقيّة الإسلام وأرض الجهاد ، فقال : «فكيف تصنع إذا أُخرجت منها؟». فقلت : أرجع إلى المسجد ، قال : «فكيف تصنع إذا أخرجوك منه». قلت : إذن آخذ سيفي فأضرب به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أدلُّك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع». فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأُطيع ، والله ليلقينّ الله عثمان وهو آثم في جنبي. شرح ابن أبي الحديد (٣) (١ / ٢٤١).

وبهذا الطريق واللفظ أخرجه أحمد في المسند (٤) (٥ / ١٥٦) والإسناد صحيح

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.

(٢) عمدة القاري : ٨ / ٢٦٣ ح ١١ ، وفيه : ألا أدلّك.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٥٧ ـ ٥٨ خطبة ٤٣.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ١٩٤ ح ٢٠٨٧٤.

٤٤٨

رجاله كلّهم ثقات ، وهم :

١ ـ عليّ بن عبد الله المديني ، وثّقه جماعة ، وقال النسائي : ثقة مأمون ، أحد الأئمّة في الحديث.

٢ ـ معمر بن سليمان أبو محمد البصري ، متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٣ ـ داود بن أبي هند أبو محمد البصري ، مجمع على ثقته من رجال الصحاح غير البخاري ، وهو يروي عنه في التاريخ (١) من دون غمز فيه.

٤ ـ أبو الحرب بن الأسود الدؤلي ، ثقة من رجال مسلم.

٥ ـ أبو الأسود الدؤلي ، تابعيّ متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٦ ـ مرّ في (ص ٢٩٦) في حديث تسيير أبي ذر : قال ـ عثمان ـ : فانّي مُسَيّرك إلى الربذة. قال ـ أبو ذر ـ : الله أكبر صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرني بكلّ ما أنا لاقٍ. قال عثمان : وما قال لك؟ قال : أخبرني بأنّي أُمنَع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة. الحديث.

هذا أبو ذر

وفضائله وفواضله وعلمه وتقواه وإسلامه وإيمانه ومكارمه وكرائمه ونفسيّاته وملكاته الفاضلة وسابقته ولاحقته وبدء أمره ومنتهاه ، فأيُّ منها كان ينقمه الخليفة عليها (٢) ، فطفق يعاقبه ويطارده من مُعتقل إلى منفى ، ويستجلبه على قتب بغير وطاء ، يطير مركبه خمسة من الصقالبة الأشدّاء حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف ، ولم يفتأ يسومه سوء العذاب حتى سالت نفسه في منفاه الأخير ـ الربذة ـ على غير ماء ولا كلأ ، يلفحه حرّ الهجير ، وليس له من وليّ حميم يمرّضه ، ولا أحد من قومه يواري جثمانه الطاهر ، مات رحمه‌الله وحده ، وسيحشر

__________________

(١) التاريخ الكبير : ٣ / ٢٣١ رقم ٧٨٠.

(٢) كذا.

٤٤٩

وحده كما أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي خوّله بتلكم الفضائل ، والله سبحانه من فوقهما نعم الخصيم للمظلوم ، فانظر لِمن الفَلْج (١) يومئذٍ.

لقد كان الخليفة يباري الريح في العطاء لحامّته ومن ازدلف إليه ممّن يجري مجراهم ، فملكوا من عطاياه وسماحه الملايين ، وليس فيهم من يبلغ شأو أبي ذر في السوابق والفضائل ، ولا يشقّ له غباراً في أُكرومة ، فما ذا الذي أخّر أبا ذر عنهم حتى قطعوا عنه عطاءه الجاري؟ ومنعوه الحظوة بشيء من الدعة ، وأجفلوه عن عقر داره وجوار النبيّ الأعظم ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، ولما ذا نودي عليه في الشام أن لا يجالسه أحد (٢)؟ ولما ذا يفرّ الناس منه في المدينة؟ ولما ذا حظر عثمان على الناس أن يقاعدوه ويكلّموه؟ ولما ذا يمنع الخليفة عن تشييعه ويأمر مروان أن لا يدع أحداً يكلّمه؟ فلم يحلّ ذلك الصحابي العظيم إلاّ محلاّ وعراً ، ولم يرتحل إلاّ إلى متبوّأ الإرهاب ، كأنّما خلق أبو ذر للعقوبة فحسب ، وهو من عرّفته الأحاديث التي ذكرناها ، وقصّته لعمر الله وصمة على الإسلام وعلى خليفته لا تُنسى مع الأبد.

نعم ؛ إنّ أبا ذر ينقم ما كان مطّرداً عند ذاك من السرف في العطاء من دون أيّ كفاءة في المعطى ـ بالفتح ـ ومخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك وفي كلّ ما يخالف السنّة الشريفة ، واضطهاد أهل السوابق من الأُمّة بيد أُمراء البيت الأمويّ رجال العيث والعبث ؛ وكانوا يحسبون عرش ذلك اليوم قد استقرّ على تلكم الأعمال ؛ فرأوا أنّ في الإصاخة إلى قيل أبي ذر وشاكلته من صلحاء الصحابة تزحزحاً لذلك العرش عن مستقرّه ، أو أنّ مُهمْلجة الجشع الذين حصّلوا على تلكم الثروات الطائلة خافوه أن يُسلب ما في أيديهم إن وعى واعٍ إلى هتافه ، فتألّبوا عليه وأغروا خليفة الوقت به بتسويلات متنوّعة حتى وقع ما وقع ، والخليفة أسير هوى قومه ، ومسيّر بشهواتهم ،

__________________

(١) الفَلْج : الظفر والفوز.

(٢) أخرجه ابن سعد في الطبقات : ٤ / ١٦٨ [٤ / ٢٢٩]. (المؤلف)

٤٥٠

مدفوع بحبّ بني أبيه وإن كانوا من الشجرة الملعونة في القرآن.

وما كان أبو ذر يمنعهم عن جلب الثروة من حقّها ، ولا يبغي سلب السلطة عمّن ملك شيئاً ملكاً مشروعاً ، لكنّه كان ينقم على أهل الأثرة على اغتصابهم حقوق المسلمين ، وخضمهم مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، وما كان يتحرّى إلاّ ما أراد الله سبحانه بقوله عزّ من قائل : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، وما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجهات الماليّة.

أخرج أحمد في مسنده (١) (٥ / ١٦٤ ، ١٧٦) من طريق الأحنف بن قيس قال : كنت بالمدينة فإذا أنا برجل يفرّ الناس منه حين يرونه ، قال : قلت : من أنت؟ قال : أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : قلت : ما يفرّ الناس منك؟ قال : إنّي أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله.

وفي لفظ مسلم في صحيحه (٢) (٣ / ٧٧) قال الأحنف بن قيس : كنت في نفر من قريش فمرّ أبو ذر رضى الله عنه وهو يقول : بشّر الكانزين بكيٍّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم ، وبكيٍّ من أقفيتهم يخرج من جباههم قال : ثمّ تنحّى فقعد إلى سارية ، فقلت : من هذا؟ قالوا : هذا أبو ذر ، فقمت إليه فقلت : ما شيء سمعتك تقول قُبَيْلُ؟ قال : ما قلت إلاّ شيئاً سمعته من نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : قلت : ما تقول في هذا العطاء؟ قال : خذه فإنّ فيه اليوم معونة ، فإذا كان ثمناً لدينك فدعه. سنن البيهقي (٦ / ٣٥٩).

وأخرج أبو نعيم فى الحلية (١ / ١٦٢) من طريق سفيان بن عيينة بإسناده عن أبي ذر ، قال : إنّ بني أُميّة تُهدّدني بالفقر والقتل ؛ ولَبطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها ، ولَلفقر أحبّ إليّ من الغنى ، فقال له رجل : يا أبا ذر مالك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ قال : إنّي أنهاهم عن الكنوز.

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٠٦ ح ٢٠٩٤٠ ، ص ٢٢٤ ح ٢١٠٢٤.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٣٨٥ ح ٣٥.

٤٥١

وفي فتح الباري (١) (٣ / ٢١٣) نقلاً عن غيره : الصحيح أنّ إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقّبه النووي بالإبطال لأنّ السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا. انتهى.

وفي هذا التعقيب تدجيل ظاهر ، فإنّ يوم هتاف أبي ذر بمناويه لم يكن العهد لأبي بكر وعمر ، وإنّما كان ذلك يوم عثمان المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة ، والمبائن للسيرة النبويّة في كلّ ما ذكرناه ؛ ولذلك كلّه كان سلام الله عليه ساكتاً عن هتافه في العهدين وكان يقول لعثمان : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنّك تبطش بي بطش جبّار. ويقول : اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. راجع (ص ٢٩٨ و ٣٠٦).

ولم يكن لأبي ذر منتدح من ندائه والدعوة إلى المعروف الضائع ، والنهي عن المنكر الشائع ، وهو يتلو آناء الليل وأطراف النهار قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢). قال ابن خراش : وجدت أبا ذر بالربذة في مظلّة شعر فقال : ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحقّ لي صديقاً (٣).

وكان ينكر مع ذلك على معاوية المتّخذ شناشن الأكاسرة والقياصرة بالترفّه والتوسّع والاستئثار بالأموال ، وكان في العهد النبويّ صعلوكاً لا مال له ووصفه به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) وفي لفظ : إنّ معاوية ترب خفيف الحال (٥).

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.

(٢) آل عمران : ١٠٤.

(٣) الأنساب : ٥ / ٥٥ ، ومرّ مثله من طريق آخر : ص ٢٩٤. (المؤلف)

(٤) صحيح مسلم : كتاب النكاح والطلاق : ٤ / ١٩٥ [٣ / ٢٩٠ ح ٣٦] ، سنن النسائي : ٦ / ٧٥ [٣ / ٢٧٤ ح ٥٣٥٢] ، سنن البيهقي : ٧ / ١٣٥. (المؤلف)

(٥) صحيح مسلم : ٤ / ١٩٩ [٣ / ٢٩٥ ح ٤٨]. (المؤلف)

٤٥٢

فما واجب أبي ذر عندئذٍ؟ وقد أمره النبيّ الأعظم في حديث (١) السبعة التي أوصاه بها ، بأن يقول الحقّ وإن كان مرّا ، وأمره بأن لا يخاف في الله لومة لائم. وما الذي يجديه قول عثمان : مالك وذلك؟ لا أُمّ لك؟ ولأبي ذر أن يقول له كما قال : والله ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولم تكن لما رفع به أبو ذر عقيرته جدّة ليس لها سلف من العهد النبويّ ، فلم يهتف إلاّ بما تعلّمه من الكتاب والسنّة ، وقد أخده من الصادع الكريم من فَلق فيه ، ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلب ثروة أحد من أصحابه وكان فيهم تجّار وملاّك ذوو يسار ، ولم يأخذ منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الإلهيّة ، وعلى حذوه حذا أبو ذر في الدعوة والتبليغ.

كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يُصنع به من طرده من الحواضر الإسلاميّة : مكة ، والمدينة ، والشام ، والبصرة ، والكوفة. ووصفه عند ذلك بالصلاح وأمره بالصبر وأنّ ما يصيبه في الله ، فقال أبو ذر : مرحباً بأمر الله. فصلاح أبي ذر يمنعه عن الأمر بخلاف السنّة بما يخلّ نظام المجتمع ، وكون بلائه في الله يأبى أن يكون ما جرّ إليه ذلك البلاء غير مشروع.

وإن كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينهاه عمّا سينوء به من الإنكار وهو يعلم أنّ تلك الدعوة تجرّ عليه الأذى والبلاء الفادح ، وتشوّه سمعة خليفة المسلمين ، وتسوّد صحيفة تاريخه ، وتبقى وصمة عليه مع الأبد.

__________________

(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات : ص ١٦٤ [٤ / ٢٢٩] من طريق عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال : أوصاني خليلى بسبع : [أمرني] بحبّ المساكين والدنوّ منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرّا ، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أُكثِر من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله. فإنّهنّ من كنزٍ تحت العرش. (المؤلف)

٤٥٣

وما كانت الشريعة السمحاء تأتي بذلك الحكم الشاقّ الذي اتّهم به أبو ذر ؛ ولم يكن قطّ يقصده وهو شبيه عيسى في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زهداً ونسكاً وبرّا وهدياً وصدقاً وجدّا وخلقاً.

هكذا وصفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنّ عثمان قال لمّا غضب عليه : أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله. وكذّبه حين روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث بني العاص ، عجباً هذا جزاء من نصح لله ورسوله وبلّغ عنهما صادقاً؟ لاها الله هذا أدب يخصّ بالخليفة. وأعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أمير المؤمنين لمّا دافع عن أبي ذر بقوله : «أُشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون». أجابه بجواب غليظ أخفاه الواقدي وما أحبّ أن يذكره ، ونحن وإن وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزّه الكتاب عن ذكره.

وقد تجهّم عثمان مرّة أخرى أمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بكلام فظّ ، لمّا شيّع هو وولداه السبطان أبا ذر في سبيله إلى المنفى ومروان يراقبه وقد مرّ تفصيله (ص ٢٩٤ ، ٢٩٧) وفيه قوله لعليّ عليه‌السلام : ما أنت بأفضل عندي من مروان.

إنّ من هوان الدنيا على الله أن يقع التفاضل بين عليّ ومروان الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين ، أنا لا أدري هل كان الخليفة في معزل عن النصوص النبويّة في مروان؟ أو لم يكن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأى منه ومسمع؟ أو القرابة والرحم بعثته إلى الإغضاء عنها ، فرأى ابن الحكم عدلاً لمن طهّره الجليل ورآه نفس النبيّ الأعظم في الذكر الحكيم؟ كبرت كلمة تخرج من أفواهم ...

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١)

__________________

(١) المائدة : ٥٠.

٤٥٤

جناية التاريخ

ما أكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والأحساب الذين تستفيد الأُمّة من تاريخ حياتهم ، وكرائم أخلاقهم ، وآثار مآثرهم ، ونفسيّاتهم الكاملة ، ومعاقد أقوالهم وبوالغ عظاتهم ، ودرر حكمهم ، وموارد إقدامهم وإحجامهم!

تجد التاريخ هنا يسرع السير فيُنسي ذكرهم ، ويغمط فضلهم ، أو يأتي بمجمل من القول في صورة مصغّرة ، أو يحوّر الكلام ومزيجه الخبر المائن أو رواية شائنة ، كلّ ذلك تأييداً لمبدإ ، وأخذاً بناصر نزعة ، وستراً على أقوام آخرين تمسّ الحقيقة الراهنة بهم وبكرامتهم ، وتبعاً لأهواء وشهوات من ساسة الوقت أو زعماء الزمن.

فمن هذه النواحي كلّها أغفل التاريخ عن التبسّط في حياة أبي ذر الماثلة بالفضائل والفواضل الشاخصة بالعبقريّة والكمال ، التي يجب أن تُتّخذ قدوة في السلوك والتهذيب ، وأن تكون للأمّة بها أسوة وقُدوة في التقوى والمبدأ.

البلاذري :

فتجد البلاذري يذكر حديث إخراج أبي ذر إلى الربذة من عدّة طرق بصورة مرّت في صفحة (٢٩٤) ويروي قول أبي ذر لحوشب الفزاري ـ وأبو ذر هو الذي ما أظلّت الخضراء ... إلخ ـ أُخرجت كارهاً. ثمّ عقّبه بأُكذوبة سعيد بن المسيّب ـ الذي كان من مناوئي العترة الطاهرة وشيعتهم ـ من إنكار إخراج عثمان إيّاه ، وأنّه خرج إليها راغباً في سكناها.

ولا يعلم المغفّل أنّ في ذلك تكذيباً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخبر أبا ذر بأنّه يُخرَج من المدينة كما مرّ (ص ٣١٦) بطرق صحيحة. وتكذيباً لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال لعثمان بعد وفاة أبي ذر في المنفى ، وقد صمّم عثمان أن يتبع ذلك بنفي عمّار : «يا عثمان

٤٥٥

اتّق الله فإنّك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك» (١). وتكذيباً لأبي ذر في قوله الآنف فيما رواه البلاذري نفسه من طريق صحيح : ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابياً.

وتكذيباً لعثمان الذي روى عنه البلاذري أيضاً أنّه لمّا أنهي إليه نعي أبي ذر قال : رحمه‌الله. فقال عمّار : نعم فرحمه‌الله من كلّ أنفسنا. فقال عثمان : يا عاضّ أير أبيه أتراني ندمت على تسييره؟ ـ يأتي تمام الحديث في مواقف عمّار.

وتكذيباً لما رواه البلاذري أيضاً عن كميل بن زياد النخعي في حديث أسلفنا (ص ٢٩٤) وتكذيباً ، وتكذيباً.

ولا يعلم المسكين أنّ تلك الحادثة الفجيعة المتعلّقة بعظيم من عظماء الصحابة كأبي ذر وقد كثر حوله الحوار والأخذ والردّ وتوفّرت النقمة والنقد حتى عُدّت من عظائم الحوادث ، وسار بحديثها الركبان ، وتذمّر لها المؤمنون ، وشمت فيها من شمت ، ونقم بها على الخليفة ، وكان ممّا استتبعها أنّ ناساً من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة : إنّ هذا الرجل فعل بك وفعل ، هل أنت ناصب لنا راية؟ يعني نقاتله. فقال : لا ، لو أنّ عثمان سيّرني من المشرق إلى المغرب سمعت وأطعت (٢).

وقال ابن بطّال كما في عمدة القاري للعيني (٣) (٤ / ٢٩١) : إنّما كتب معاوية يشكو أبا ذر لأنّه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له ، وكان في جيشه مَيل إلى أبي ذر ، فأقدمه عثمان خشية الفتنة لأنّه كان رجلاً لا يخاف في الله لومة لائم.

فما كنت يومئذٍ تمرّ بحاضرة من الحواضر الإسلاميّة إلاّ وتجد توغّلاً من أهلها في هذا الحديث ، وتغلغلاً بين أرجائها من جرّاء ذلك الحادث الجلل.

__________________

(١) سيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ٣ / ٢١٢ [٤ / ٢٢٧]. (المؤلف)

(٣) عمدة القاري : ٨ / ٢٦٢ ح ١١.

٤٥٦

إنّ حادثة كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيّب المنبعث عن الولاء الأموي لكنّه شاء أن يقول فقال ، ذاهلاً عن أنّه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دار هجرته ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيّه ويختار الربذة منزلاً له ولأهله مع جدبها وقفرها ، ولو كانت له خيرة في الأمر ، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصّة الاكتئاب؟ وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مشيّعيه في ذلك الوادي الوعر لمّا حان التوديع وآن الفرقان بين الأحبّة؟

ومن أمانة البلاذري في النقل أنّه عند سرد قصّة أبي ذر ومشايعة مولانا أمير المؤمنين له قال : جرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لأنّ فيه نيلاً من صاحبه.

ابن جرير الطبري :

وإنّك تجد الطبري في التاريخ (١) لمّا بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول : في هذه السنة ـ أعني سنة ٣٠ ـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكِر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمورٌ كثيرة كرهت ذكر أكثرها ، فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة. انتهى.

لما ذا ترك الطبري تلكم الأمور الكثيرة ولم يذكر منها إلاّ قصّة العاذرين التي افتعلوها معذرة لمعاوية وتبريراً لعمل الخليفة؟ وأمّا الحقائق الراهنة التي كانت تمسّ كرامة الرجلين ، وكانت حديث أُمّة محمد وقتئذ وهلمّ جرا من ذلك اليوم حتى عصرنا الحاضر فكره إيرادها ، وحسب أنّها تبقى مستورة إن لم يلهج هو بها ، وقد ذهب عليه أنّ في فجوات الدهر ، وثنايا التاريخ ، وغضون كتب الحديث منها بقايا كافية لمن

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٨٣ حوادث سنة ٣٠ ه‍.

٤٥٧

تروقه نفسيّات مناوئي أبي ذر ، وتحقّق أعلام النبوّة التي جاء بها النبيّ الأعظم في قصّة أبي ذر من المغيّبات.

ثمّ ذكر القصّة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصحّ شيء منها ، وكلّ جملة منها يكذّبه التاريخ الصحيح أو الحديث المتسالم على صحّته ، وكفاها وهناً ما في سندها من الغمز وإليك رجاله :

١ ـ السريّ. مرّ الكلام فيه في هذا الجزء (ص ١٤٠) وأنّه مشترك بين اثنين عُرفا بالكذب والوضع.

٢ ـ شعيب بن إبراهيم الأُسيدي الكوفي. أسلفنا صفحة (١٤٠) من هذا الجزء قول الحافظين ابن عديّ والذهبي فيه وأنّه مجهول لا يُعرف.

٣ ـ سيف بن عمر التميمي الكوفي. ذكرنا في صفحة (٨٤) من هذا الجزء أقوال الحفّاظ وأئمّة الجرح والتعديل حول الرجل وأنّه ضعيف ، متروك ، ساقط ، وضّاع ، عامّة حديثه منكر ، يروي الموضوعات عن الأثبات ، كان يضع الحديث ، واتّهم بالزندقة.

أضف إلى المصادر السابقة : الاستيعاب (١) ـ ترجمة القعقاع ـ (٢ / ٥٣٥) ، الإصابة (٣ / ٢٣٩) ، مجمع الزوائد للهيثمي (١٠ / ٢١).

٤ ـ عطيّة بن سعد العوفي الكوفي ، للقوم فيه آراء متضاربة بين توثيق وتضعيف وقال الساجي : ليس بحجّة وكان يقدّم عليّا على الكلّ. وقال ابن سعد (٢) : كتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سبّ عليّ فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته ، فاستدعاه فأبى أن يسبّ فأمضى حكم الحجّاج فيه (٣). وذكر

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٨٣ رقم ٢١٢١.

(٢) الطبقات الكبرى : ٦ / ٣٠٤.

(٣) تهذيب التهذيب لابن حجر : ٧ / ٢٢٧ [٧ / ٢٠٠ ـ ٢٠١]. (المؤلف)

٤٥٨

ابن كثير في تفسيره (١ / ٥٠١) عن صحيح الترمذي (١) من طريق عطيّة في عليّ مرفوعاً : «لا يحلّ لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك». فقال : ضعيف لا يثبت فإنّ سالماً متروك وشيخه عطيّة ضعيف. انتهى. وكون الرجل في الإسناد آية كذب الرواية ؛ إذ الشيعيّ الجلد كالعوفي لا يروي حديث الخرافة.

٥ ـ يزيد الفقعسي : لا أعرفه ولا أجد له ذكراً في كتب التراجم.

فانظر إلى أمانة الطبري على ودائع التاريخ ، فإنّه يصفح عن ذلك الكثير الثابت الصحيح ويقتصر على هذه المكاتبة المكذوبة المفتعلة ، حيّا الله الأمانة!

نظرة قيّمة في تاريخ الطبري :

شوّه الطبري تاريخه بمكاتبات السريّ الكذّاب الوضّاع ، عن شعيب المجهول الذي لا يُعرف ، عن سيف الوضّاع ، المتروك ، الساقط ، المتّهم بالزندقة ، وقد جاءت في صفحاته بهذا الإسناد المشوّه (٧٠١) رواية وضعت للتمويه على الحقائق الراهنة في الحوادث الواقعة من سنة ١١ إلى ٣٧ عهد الخلفاء الثلاثة فحسب ، ولا يوجد شيء من هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلّها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة ، وإنّما بدأ برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبيّ الأقدس ، وبثّها في الجزء الثالث والرابع والخامس ، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء.

ذكر في الجز الثالث من (ص ٢١٠) في حوادث سنة (١١) ٦٧ حديثاً.

أخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة الثانية عشرة ٤٢٧ حديثاً.

أورد في الجزء الخامس فى حوادث السنة ال (٢٣ ـ ٣٧) ٢٠٧ حديثاً.

المجموع ٧٠١

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٥٩٨ ح ٣٧٢٧.

٤٥٩

وممّا يهمّ لفت النظر إليه أنّ الطبري من صفحة (٢١٠) من الجزء الثالث إلى (١) (ص ٢٤١) يروي عن السريّ بقوله : حدّثني ، المعرب عن السماع منه ، ومن (٢) (ص ٢٤١) يقول : كتب إليّ السريّ ، إلى آخر ما يروي عنه ، إلاّ حديثاً واحداً في الجزء الرابع (٣) (ص ٨٢) يقول فيه : حدّثنا.

ولست أدري أنّ السريّ ، وسيف بن عمر هل كان علمهما بالتاريخ مقصوراً على حوادث تلكم الأعوام المحدودة فقط؟ ومن حوادثها على ما يرجع إلى المذهب فحسب لا مطلقاً؟ أو كانت موضوعاتهما تنحصر بالحوادث الخاصّة المذهبيّة الواقعة في الأيّام الخالية من السنين المعلومة؟ لكونها الحجر الأساسي في المبادئ والآراء والمعتقدات ، وقد أرادوا خلط التاريخ الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلّفاً إلى أناس ، واختذالاً عن آخرين ، ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجدها نسيج يد واحدة ، ووليد نفس واحد ، ولا أحسب أنّ هذه كلّها تخفى على مثل الطبري ، غير أنّ الحبّ يعمي ويصم.

وقد سوّدت هاتيك المخاريق المختلقة صحائف تاريخ ابن عساكر ، وكامل ابن الأثير ، وبداية ابن كثير ، وتاريخ ابن خلدون ، وتاريخ أبي الفداء إلى كتب أناس آخرين اقتفوا أثر الطبري على العمى ، وحسبوا أنّ ما لفّقه هو في التاريخ أصل متّبع لا غمز فيه ، مع أنّ علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف أيّ حديث يوجد فيه أحد من رجال هذا السند فكيف إذا اجتمعوا في إسناد رواية.

والتآليف المتأخّرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد الأهواء والشهوات كلّها متّخذة من هذه السفاسف التي عرفت حالها وسنوقفك على نماذج

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٣ / ٢٢٣ ـ ٢٧٦ حوادث سنة ١١ ه‍.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٣ / ٢٧٦ حوادث سنة ١١ ه‍.

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٣ / ٤٧٦ حوادث سنة ١٣ ه‍.

٤٦٠