الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

الإسلام للذهبي (١ / ١٨) الخلاصة للخزرجي (ص ١٥٢).

وسيأتي عن عثمان قوله : ويلي على ابن الحضرميّة ـ يعني طلحة ـ أعطيته كذا وكذا بُهاراً ذهباً ، وهو يروم دمي يحرّض على نفسي.

ومنهم ؛ عبد الرحمن بن عوف الزهري : قال ابن سعد : ترك عبد الرحمن ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً.

وقال : وكان فيما خلّفه ذهب قُطّع بالفؤوس حتى مجلت (١) أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفاً. وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال : صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلّقها في مرضه من ربع الثمن بثلاثة وثمانين ألفاً.

وقال اليعقوبي : ورّثها عثمان فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار. وقيل : ثمانين ألف. وقال المسعودي : ابتنى داره ووسّعها وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفاً.

راجع (٢) طبقات ابن سعد (٣ / ٩٦) طبع ليدن ، مروج الذهب (١ / ٤٣٤) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ١٤٦) ، صفة الصفوة لابن الجوزي (١ / ١٣٨) ، الرياض النضرة لمحِبّ الطبري (٢ / ٢٩١).

ومنهم ؛ سعد بن أبي وقّاص ، قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق. وقال المسعودي : بنى داره بالعقيق

__________________

(١) أي : صلُبت وثخُن جلدها من أثر العمل.

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٣٦ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٧٠ ، صفة الصفوة : ١ / ٣٥٥ رقم ٨ ، الرياض النضرة : ٤ / ٢٧٢.

٤٠١

فرفع سمكها ووسّع فضاءها وجعل أعلاها شرفات (١). طبقات ابن سعد (٣ / ١٠٥) ، مروج الذهب (١ / ٤٣٤).

ومنهم ؛ يعلى بن أُميّة (٢) : خلّف خمسمائة ألف دينار ، وديوناً على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة (٣) ألف دينار. كذا ذكره المسعودي في مروج الذهب (٤) (١ / ٤٣٤).

ومنهم ؛ زيد بن ثابت ـ المدافع الوحيد عن عثمان ـ ، قال المسعودي : خلّف من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع ، بقيمة مائة ألف دينار. مروج الذهب (٥) (١ / ٤٣٤).

هذه نبذ ممّا وقع فيه التفريط المالي على عهد عثمان ، ومن المعلوم أنّ التاريخ لم يُحصِ كلّ ما كان هناك من عظائم ، شأنه في أكثر الحوادث والفتن ولا سيّما المتدرّجة منها في الحصول.

وأمّا ما اقتناه الخليفة لنفسه فحدّث عنه ولا حرج ، كان ينضّد أسنانه بالذهب ويتلبّس بأثواب الملوك. قال محمد بن ربيعة : رأيت على عثمان مطْرَف خزّ ثُمِّن مائة دينار فقال : هذا لنائلة (٦) كسوتها إيّاه ، فأنا ألبسه أسرّها به. وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان برداً ثمنه مائة دينار (٧).

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠.

(٢) في المصدر : يعلى بن منية.

(٣) في المصدر : ثلاثمائة.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٣٥١.

(٥) مروج الذهب : ٢ / ٣٥١.

(٦) هي حليلة عثمان بنت الفرافصة. (المؤلف)

(٧) طبقات ابن سعد : ٣ / ٤٠ طبع ليدن [٣ / ٥٨] ، أنساب البلاذري : ص ٣ ، ٤ [٥ / ٤٨] ، الاستيعاب في ترجمة عثمان : ٢ / ٤٧٦ [القسم الثالث / ١٠٤٢ رقم ١٧٧٨]. (المؤلف)

٤٠٢

قال البلاذري : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليٌّ وجواهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه فقال : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم. وفي لفظ : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام ، فقال له عليّ : «إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه» إلى آخر الحديث الآتي في مواقف الخليفة مع عمّار.

وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة ، فقسّمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (١).

وقال ابن سعد في الطبقات (٢) (٣ / ٥٣) طبع ليدن : كان لعثمان عند خازنه يوم قُتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسائة ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار فانتُهبت وذهبت.

وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار.

وقال المسعودي في المروج (٣) (١ / ٤٣٣) : بنى داره في المدينة وشيّدها بالحجر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر (٤) ، وأقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة ، وذكر عبد الله بن عتبة : أنّ عثمان يوم قُتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحُنين وغيرهما مائة ألف دينار ، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً.

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٦٨ [ص ١١٣] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٨٧ [٢ / ٧٨]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ٧٦ ـ ٧٧.

(٣) مروج الذهب : ٢ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٤) العرعر : شجر يقال له الساسم ويقال له الشيزى ، ويقال : هو شجر عظيم جبلي.

٤٠٣

وقال الذهبي في دول الإسلام (١) (١ / ١٢) : كان قد صار له أموال عظيمة رضى الله عنه وله ألف مملوك.

صورة متخذة

من أُعطيات الخليفة والكنوز العامرة ببركته

الدينار

الأعلام

٥٠٠٠٠٠

مروان

١٠٠٠٠٠

ابن أبي سرح

٢٠٠٠٠٠

 طلحة

٢٥٦٠٠٠٠

عبد الرحمن

٥٠٠٠٠٠

يعلى بن أُميّة

١٠٠٠٠٠

زيد بن ثابت

١٥٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٢٠٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٠٠٠ / ٣١٠ / ٤ الجمع أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار.

إقرأ ولا تنس قول مولانا أمير المؤمنين في عثمان : «قام نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع».

وقوله الآتي بُعيد هذا : «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال».

الدرهم

الأعلام

٣٠٠٠٠٠

الحكَم

__________________

(١) دول الإسلام : ص ١٦.

٤٠٤

٢٠٢٠٠٠٠

 آل الحكَم

٣٠٠٠٠٠

 الحارث

١٠٠٠٠٠

سعيد

١٠٠٠٠٠

الوليد

٣٠٠٠٠٠

عبد الله

٦٠٠٠٠٠

 عبد الله

٢٠٠٠٠٠

أبو سفيان

١٠٠٠٠٠

مروان

٢٢٠٠٠٠٠

طلحة

٣٠٠٠٠٠٠٠

طلحة

٥٩٨٠٠٠٠٠

 الزبير

٢٥٠٠٠٠

ابن أبي وقّاص

٣٠٥٠٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٠٠٠ / ٧٧٠ / ١٢٦ المجموع مائة وستة وعشرون مليوناً وسبعمائة وسبعون ألف درهم.

بقي هنا أن نسأل الخليفة عن علّة قصر هذه الأثرة على المذكورين ومن جرى مجراهم من زبانيته ؛ أهل خلقت الدنيا لأجلهم؟ أو أنّ الشريعة منعت عن الصلات وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذرّ الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود إلى نظرائهم؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدّة ، ويعانوا البلاء ، ويشملهم المنع بين منفيّ ومضروب ومهان ، وهذا سيّدهم أمير المؤمنين يقول : «إنّ بني أُميّة ليُفوّقُونني تراث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفويقاً» (١) أي يعطونني من المال قليلاً

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ١٢٦ [ص ١٠٤ خطبة ٧٧]. (المؤلف)

٤٠٥

قليلاً كفُواق الناقة (١).

وهل الوجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده؟ أو جدحه من سويق غيره (٢) كما كان يفعل الخليفة؟ ليتني وجدت من يحير جواباً عن مسألتي هذه. أمّا الخليفة فلم أدركه حتى أستحفي منه الخبر ، ولعلّه لو كنت مستحفياً منه لسبقت الدِرّة الجواب.

نعم يُعلَم حكم تلكم الأعطيات والقطائع ـ وقد أقطع أكثر أراضي بيت المال (٣) ـ من خطبة لمولانا أمير المؤمنين ، ذكرها الكلبي مرفوعة إلى ابن عبّاس قال : إنّ عليّا عليه‌السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال : «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله ؛ فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزُوّج به النساء ، وفرّق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق» (٤).

قال الكلبي : ثمّ أمر عليه‌السلام بكلّ سلاح وُجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين فقبض ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر أن لا يعرض لسلاح وُجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكفّ عن جميع أمواله التي وجدت في داره وغير داره ، وأمر أن ترجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أُصيبت أو أُصيب أصحابها ، فبلغ ذلك عمرو بن العاص ، وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها ، فكتب إلى معاوية :

__________________

(١) فُواق الناقة : الحلبة الواحدة من لبنها.

(٢) يقال : جدح جوين من سويق غيره. مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس [مجمع الامثال : ١ / ٢٨٢ رقم ٨٢٦]. (المؤلف)

(٣) السيرة الحلبية : ٢ / ٨٧ [٢ / ٧٨]. (المؤلف)

(٤) نهج البلاغة : ١ / ٤٦ [ص ٥٧ خطبة ١٥] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٩٠ [١ / ٢٦٩ خطبة ١٥]. (المؤلف)

٤٠٦

ما كنت صانعاً فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. وقال الوليد بن عقبة ـ المذكور آنفاً ـ يذكر قبض عليّ عليه‌السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه :

بني هاشمٍ ردّوا سلاحَ ابنِ أختِكمْ

ولا تنهبوه لا تحلُّ مناهبُه

بني هاشمٍ كيف الهوادةُ بيننا

وعند عليٍّ درعُه ونجائبُه

بني هاشمٍ كيف التودُّدُ منكمُ

وبزُّ ابنِ أروى فيكمُ وحرائبُه

بني هاشمٍ إلاّ تردّوا فإننا

سواءٌ علينا قاتلاه وسالبُه

بني هاشم إنّا وما كان منكمُ

كصدعِ الصفا لا يشعب الصدع شاعبُه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه

كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب بأبيات طويلة من جملتها :

فلا تسألونا سيفَكم إنّ سيفَكمْ

أُضيع وألقاه لدى الروعِ صاحبُه

وشبّهته كسرى وقد كان مثلُه

شبيهاً بكسرى هديُه وضرائبُه

قال : أي كان كافراً كما كان كسرى كافراً ؛ وكان المنصور رحمه‌الله تعالى إذا أنشد هذا البيت يقول : لعن الله الوليد هو الذي فرّق بين بني عبد مناف بهذا الشعر (١).

هذه الأبيات المعزوّة إلى عبد الله نسبها المسعودي في مروج الذهب (٢) (١ / ٤٤٣) إلى الفضل بن العباس بن أبي لهب وذكر منها :

سلوا أهلَ مصرٍ عن سلاحِ ابنِ أختنا

فهم سلبوه سيفَه وحرائبه

وكان وليَّ العهدِ بعد محمدٍ

عليٌّ وفي كلِّ المواطنِ صاحبه

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٩٠ [١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١]. (المؤلف)

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٣٦٥.

٤٠٧

عليٌّ وليُّ الله أظهرَ دينَه

وأنت مع الأشقين فيما تحاربه

وأنت امرؤٌ من أهلِ صيفورَ مارحٌ (١)

فما لك فينا من حميمٍ تعاتبه

وقد أنزل الرحمنُ أنّك فاسقٌ

فما لك في الإسلام سهمٌ تطالبه

ـ ٤٠ ـ

الخليفة والشجرة الملعونة في القرآن

كان مزيج نفس الخليفة حبّ بني أبيه آل أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن وتفضيلهم على الناس ، وقد تنشّب ذلك في قلبه وكان معروفاً منه من أوّل يومه ، وعرفه بذلك من عرفه. قال عمر بن الخطّاب لابن عبّاس : لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه (٢).

وفي لفظ الإمام أبي حنيفة : لو وليتُها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس ، والله لو فعلت لفعل ، ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتى يجزّوا رأسه. ذكره القاضي أبو يوسف في الآثار (٣) (ص ٢١٧).

ووصّى إلى عثمان بقوله : إن وليتَ هذا الأمر فاتّق الله ولا تحمل آل أبي معيط على رقاب الناس (٤).

وبهذه الوصيّة أخذه عليّ وطلحة والزبير لمّا ولّى الوليد بن عقبة على الكوفة وقالوا له : ألم يوصك عمر ألاّ تحمل آل أبي معيط وبني أُميّة على رقاب الناس؟ فلم يجبهم بشيء. أنساب البلاذري (٥ / ٣٠).

__________________

(١) في الطبعة المعتمدة لدينا من المروج : صفواء نازح.

(٢) أنساب البلاذري : ٥ / ١٦. (المؤلف)

(٣) الآثار : ص ٢١٧ باب ٣٤ ح ٩٦٠.

(٤) طبقات ابن سعد : ٣ / ٢٤٧ [٣ / ٣٤٠] ، أنساب البلاذري : ٥ / ١٦ ، الرياض النضرة : ٢ / ٧٦ [٢ / ٣٥٦]. (المؤلف)

٤٠٨

كان يبذل كلّ جهده في تأسيس حكومة أمويّة قاهرة في الحواضر الإسلاميّة كلّها تقهر مَن عداهم ، وتنسي ذكرهم في القرون الغابرة ، غير أنّ القَدر الحاتم راغمه على منويّاته فجعل الذكر الجميل الخالد والبقيّة المتواصلة في الحقب والأجيال كلّها لآل عليّ عليه وعليهم‌السلام ، وأمّا آل حرب فلا تجد من ينتمي إليهم غير متوارٍ بانتسابه ، متخافت عند ذكر نسبه ؛ فكأنّهم حديث أمس الدابر ، فلا ترى لهم ذكراً ، ولا تسمع لأحد منهم رِكزاً.

كان الخليفة يمضي وراء نيّته هاتيك قدماً ؛ وراء أمل أبي سفيان فيما قال له يوم استخلف : فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أُميّة. فولّى على الأمر في المراكز الحسّاسة والبلاد العظيمة أغلمة بني أميّة ، وشبابهم المترَف المتبختر في شرخ الشبيبة وغلوائها.

وأمّر فتيانهم الناشطين للعمل ، الذين لم تحنّكهم الأيّام ولم يؤدّبهم الزمان ، وسلّطهم على رقاب الناس ، ووطّد لهم السبل ، وكسح عن مسيرهم العراقيل ، وفتح باب الفتن والجور بمصراعيه على الجامع الصالح في الأمصار الإسلاميّة ، وجرّ الويلات بيد أُولئك الطغام على نفسه وعلى الأُمّة المرحومة من يومه وهلمّ جراً.

قال أبو عمر (١) : دخل شبل بن خالد على عثمان رضى الله عنه حين لم يكن عنده غير أمويّ فقال : ما لكم معشر قريش؟ أما فيكم صغير تريدون أن ينبُل؟ أو فقير تريدون غناه؟ أو خامل تريدون التنويه باسمه؟ عَلام أقطعتم هذا الأشعري ـ يعني أبا موسى ـ العراق يأكلها هضماً؟ فقال عثمان : ومن لها؟ فأشاروا بعبد الله (٢) بن عامر

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثاني / ٦٩٣ رقم ١١٥٥.

(٢) كان ابن خال عثمان ، لأن أُمّ عثمان أروى بنت كريز. وعبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. (المؤلف)

٤٠٩

وهو ابن ستّ عشرة سنة (١) فولاّه حينئذ.

وكان هؤلاء الأغلمة لا يبالي أحدهم بما يفعل ؛ ولا يكترث لما يقول ؛ والخليفة لا يصيخ إلى شكاية المشتكي ، ولا يعي عذل أيّ عاذل ، ومن أُولئك الأغلمة والي الكوفة سعيد بن العاص ذاك الشاب المترف ، كان يقول كما مرّ في (ص ٢٧٠) على صهوة المنبر : إنّ السواد بستان لأغيلمة من قريش.

وهؤلاء الأغيلمة هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «إنّ فساد أُمّتي على يدي غلمة سفهاء من قريش» (٢).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هلاك هذه الأُمّة على يد أُغيلمة من قريش» (٣).

وأُولئك السفهاء الأمراء هم المعنيّون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكعب بن عجرة : «أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء». قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال : «أُمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنّون بسنّتي». الحديث مرّ في صفحة (٢٥٦).

وأُولئك هم المعنيّون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسمعوا هل سمعتم؟ إنّه سيكون بعدي أُمراء فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس منّي ولست منه

__________________

(١) أحسبه تصحيفاً ؛ قال أبو عمر [في الاستيعاب : القسم الثالث / ٩٣٢ ـ ٩٣٣ رقم ١٥٨٧] في ترجمة عبد الله بن عامر : عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وعثمان بن أبي العاص عن فارس وجمع ذلك كلّه لعبد الله. قال صالح : وهو ابن أربع وعشرين سنة. وقال أبو اليقظان : قدم ابن عامر البصرة والياً عليها وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة. (المؤلف)

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن : ١٠ / ١٤٦ [٣ / ١٣١٩ ح ٣٤١٠ ، ٦ / ٢٥٨٩ ح ٦٦٤٩] ، والحاكم في المستدرك : ٤ / ٤٧٠ [٤ / ٥١٧ ح ٨٤٥٠] صحّحه هو والذهبي ، وقال الحاكم : شهد حذيفة بن اليمان بصحّة هذا الحديث. (المؤلف)

(٣) مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٧٩ [٤ / ٥٢٦ ح ٨٤٧٦] : فقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ولهذا الحديث توابع وشواهد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته الطاهرين والأئمّة من التابعين لم يسعني إلاّ ذكرها. ثمّ ذكر بعض ما أسلفنا في الحَكم ومروان وبني أبي العاص. (المؤلف)

٤١٠

وليس بواردٍ عليّ الحوض ، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منّي وأنا منه وسيرد عليّ الحوض» ، وفي لفظ : «سيكون أُمراء يكذبون ويظلمون فمن صدّقهم بكذبهم ...» (١).

وفي لفظ أحمد في المسند (٢) (٤ / ٢٦٧): «ألا إنّه سيكون بعدي أُمراء يكذبون ويظلمون ، فمن صدّقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس منّي ولا أنا منه ، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو منّي وأنا منه».

وهم المعنيّون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون أُمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون مالا يُؤمرون» مسند أحمد (٣) (١ / ٤٥٦).

يستعملهم عثمان وهو أعرف بهم من أيّ ابن أُنثى وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين» (٤) وفي تمهيد الباقلاني (ص ١٩٠): «من تقدّم على قوم من المسلمين وهو يرى أنّ فيهم من هو أفضل منه خان الله ورسوله والمسلمين».

فعهد أُولئك الأُغيلمة عهد هلاك أُمّة محمد ودور فسادها ، منهم بدأت الفتن وعليهم عادت ، فترى الولاة يوم ذاك من طريدٍ لعين إلى وزغٍ مثله ، ومن فاسقٍ مهتوك بالذكر الحكيم إلى طليق منافق ، ومن شابّ مترف إلى أُغيلمة سفهاء.

وكان للخليفة وراء ذلك كلّه أمل بأنّه لو بيده مفاتيح الجنّة ليعطيها بني أُميّة

__________________

(١) تاريخ الخطيب البغدادي : ٢ / ١٠٧ [رقم ٥٠٠] و ٥ / ٣٦٢ [رقم ٢٨٨٦]. (المؤلف)

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٣٣٣ ح ١٧٨٨٩.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٤١ ح ٤٣٥٠.

(٤) سنن البيهقي : ١٠ / ١١٨ ، مجمع الزوائد ٥ / ٢١١. (المؤلف)

٤١١

حتى يدخلوها من عند آخرهم ؛ أخرج أحمد في المسند (١) (١ / ٦٢) من طريق سالم بن أبي الجعد قال : دعا عثمان رضى الله عنه ناساً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم عمّار بن ياسر فقال : إنّي سائلكم وإنّي أُحبّ أن تصدقوني ، نشدتكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم ، فقال عثمان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتها بني أُميّة حتى يدخلوا من عند آخرهم. إسناده صحيح رجاله كلّهم ثقات رجال الصحيح.

فكأنّ الخليفة يحسب أنّ الهرج الموجود في العطاء عنده سوف يتسرّب معه إلى باب الجنّة يحابي قومه بالنعيم كما حاباهم في الدنيا بالأموال ، فما حظى الخليفة بما أحبّ لهم في الدنيا يوم طحنهم بكلكله البلا ، وأجهزت عليهم المآثم والجرائم ، وأمّا الآخرة فإنّ بينهم وبين الجنّة لَسدّا بما اقترفوه من الآثام ، فلا أرى الخليفة يحظى بأُمنيّته هنالك ؛ ونحن لا نعرف نظريّة الخليفة في أمر الثواب والعقاب ؛ ولا ما يؤوّل به الآي الواردة فيهما في الذكر الحكيم ، ولا رأيه في الجنّة والنار وأهلهما ، (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٢) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً) (٣) (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) (٤) (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٥) (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ* نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٦)

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٠٠ ح ٤٤١.

(٢) المعارج : ٣٨.

(٣) الجاثية : ٢١.

(٤) الانفطار : ١٣ ـ ١٥.

(٥) المطفّفين : ٧.

(٦) الهمزة : ٤ ـ ٧.

٤١٢

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (١) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢).

فهؤلاء الأمويّون لم يكونوا في أمل الخليفة ولا أغنوا عنه شيئاً يوم ضحّى بنفسه وجاهه وملكه لأجلهم حتى قُتل من جرّاء ذلك ، ولا أحسب أنّهم مغنون عنه شيئاً غداً عند الله يوم لا يغني عنه مال ولا بنون.

ألا تعجب من خليفة لا يروقه إيثار نبيّه بني هاشم على سائر قريش ، وتدعوه عصبيّته العمياء إلى أن يعارض بمثل هذا التافه المخزي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه أحمد (٣) : «يا معشر بني هاشم والذي بعثني بالحقّ نبيّا لو أخذت بحلقة الجنّة ما بدأت إلاّ بكم» (٤)؟

ـ ٤١ ـ

تسيير الخليفة أبا ذر إلى الربذة

روى البلاذري (٥) : لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث ابن الحَكَم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عزّ وجلّ : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٦) فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ناتلاً مولاه أن انته عمّا يبلغني

__________________

(١) الشعراء : ٩٠ ، ٩١.

(٢) هود : ٢٣.

(٣) مناقب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ص ١٢٢ ح ١٨٠.

(٤) الصواعق : ص ٩٥ [ص ١٦٠]. (المؤلف)

(٥) أنساب الأشراف : ٥ / ٥٢.

(٦) التوبة : ٣٤.

٤١٣

عنك ، فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله؟ فو الله لأن أُرضي الله بسخط عثمان أحبُّ إليّ وخير لي من أن أُسخط الله برضاه. فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر وكفّ ؛ وقال عثمان يوماً : أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك. فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي! الحق بمكتبك ، وكان مكتبه بالشام إلاّ أنّه كان يقدم حاجّا ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأذن له في ذلك ، وإنّما صار مكتبه بالشام لأنّه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا بلغ البناء سلعاً فالهرب» فأذن لي آتي الشام فأغزو هناك فأذن له ، وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، وبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها ، وإن كانت صلةً فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال : أما وجدت أهون عليك منّي حين تبعث إليّ بمال؟ وردّها.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ، فسكت معاوية. وكان أبو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّا يُطفأ ، وباطلاً يُحيى ، وصادقاً يُكذّب ، وأثرهً بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : إنّ أبا ذر مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد ؛ فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره ، فوجّه معاوية من سار به الليل والنهار ، فلمّا قدم أبو ذر المدينة جعل يقول : تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء. فبعث إليه عثمان : الحق بأيّ أرض شئت. فقال بمكة. فقال : لا. قال : فبيت المقدس. قال : لا. قال : فبأحد المصرين. قال لا : ولكنّي مُسيّرك إلى الربذة. فسيّره إليها فلم يزل بها حتى مات.

٤١٤

ومن طريق محمد بن سمعان قال : قيل لعثمان : أنّ أبا ذر يقول : إنّك أخرجته إلى الربذة. فقال : سبحان الله ما كان من هذا شيء قطُّ ، وإنّي لأعرف فضله ، وقديم إسلامه ، وما كنّا نعدُّ في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكلّ شوكة منه.

ومن طريق كميل بن زياد قال : كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وكنت بها في العام المقبل حين سيّره إلى الربذة.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : تكلّم أبو ذر بشيء كرهه (١) عثمان فكذّبه (٢) فقال : ما ظننت أنّ أحداً يكذّبني بعد قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أقلّت الغبراء وما أطبقت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ، ثمّ سيّره إلى الربذة فكان أبو ذر يقول : ما ترك الحقُّ لي صديقاً. فلمّا سار إلى الربذة قال : ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابيّا.

قال : وشيّع عليّ أبا ذر ، فأراد مروان منعه منه فضرب عليّ بسوطه بين أُذني راحلته ، وجرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام حتى قال عثمان : ما أنت بأفضل عندي منه. وتغالظا فأنكر الناس قول عثمان ودخلوا بينهما حتى اصطلحا.

وقد روي أيضاً : أنه لمّا بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال : رحمه‌الله. فقال عمّار بن ياسر : نعم ، فرحمه‌الله من كلّ أنفسنا. فقال عثمان : يا عاضّ أير أبيه أتراني ندمت على تسييره؟ يأتي تمام الحديث في ذكر مواقف عمّار.

ومن طريق ابن حراش الكعبي (٣) قال : وجدت أبا ذر بالربذة في مظلّة شعرٍ فقال : ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحقُّ لي صديقاً.

__________________

(١) في رواية الواقدي ، والمسعودي [في مروج الذهب ٢ / ٣٥٨] كما يأتي أنه قال : لسمعت رسول الله يقول : «إذا بلغ بنو أبي العاصّ ثلاثين رجلاً ...» الحديث. (المؤلف)

(٢) في لفظ الواقدي : قال عثمان : ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله؟ (المؤلف)

(٣) طبقات ابن سعد ٤ / ٢٣٦ : عبد الله بن خراش الكعبي.

٤١٥

ومن طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : قلت لأبي ذرّ : ما أنزلك الربذة؟ قال : النصح لعثمان ومعاوية.

ومن طريق بشر بن حوشب الفزاري عن أبيه قال : كان أهلي بالشربّة (١) فجلبت غنماً لي إلى المدينة فمررت بالربذة وإذا بها شيخ أبيض الرأس واللحية. قلت : من هذا؟ قالوا : أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإذا هو في حِفش (٢) ومعه قطعة من غنم فقلت : والله ما هذا البلد بمحلّة لبني غفار. فقال : أُخرجت كارهاً. فقال بشر بن حوشب : فحدّثت بهذا الحديث سعيد بن المسيب فأنكر أن يكون عثمان أخرجه وقال : إنّما خرج أبو ذر إليها راغباً في سكناها (٣).

وأخرج البخاري في صحيحه (٤) من حديث زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فقلت لأبي ذر : ما أنزلك [منزلك] هذا؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال : نزلت في أهل الكتاب. فقلت : [نزلت] فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان ، فكتب عثمان : اقدم المدينة. فقدمت فكثر الناس عليّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك ، فذكر [ت] ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحّيت فكنت قريباً. فذلك الذي أنزلني هذا المنزل.

قال ابن حجر في فتح الباري (٥) في شرح الحديث : وفي رواية الطبري أنّهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام ، فخشي عثمان على أهل المدينة

__________________

(١) الشربّة ـ بفتح أوّله وثانيه وتشديد الموحدة ـ : موضع بين السليلة والربذة في طريق مكة. (المؤلف)

(٢) الحفش ـ بكسر المهملة ـ : البيت الصغير ، أو هو من الشعر. (المؤلف)

(٣) أنظر إلى ابن المسيّب يكذّب أبا ذر لتبرير عثمان من تسييره ، ولا يكترث لاستلزامه تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيوافيك البحث عنه. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ٢ / ٥٠٩ ح ١٣٤١. وما بين المعقوفات منه.

(٥) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.

٤١٦

ما خشيه معاوية على أهل الشام. وقال بعد قوله : إن شئت تنحّيت. في رواية الطبري : تنحّ قريباً. قال : والله لن أدع ما كنت أقوله. ولابن مردويه : لا أدع ما قلت.

وذكر المسعودي أمر أبي ذر بلفظ هذا نصُّه قال : إنّه حضر مجلس عثمان ذات يوم ، فقال عثمان : أرأيتم من زكّى ماله هل فيه حقّ لغيره؟ فقال كعب : لا يا أمير المؤمنين. فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له : كذبت يا ابن اليهوديّ ثمّ تلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) الآية (١)

فقال عثمان : أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب : لا بأس بذلك. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال : يا ابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا! فقال له عثمان : ما أكثر أذاك لي ، غيّب وجهك عنّي فقد آذيتني. فخرج أبو ذر إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان : إنّ أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك. فكتب إليه عثمان بحمله ، فحمله على بعير عليه قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف ، فقيل له : إنّك تموت من ذلك فقال : هيهات لن أموت حتى أُنفى ، وذكر جوامع ما نزل به بعدُ ومن يتولّى دفنه ، فأحسن إليه [عثمان] (٢) في داره أيّاماً ، ثمّ دخل إليه فجلس على ركبتيه وتكلّم بأشياء ، وذكر الخبر في ولد أبي العاص : «إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتّخذوا عباد الله خولاً». ومرّ في الخبر بطوله وتكلّم بكلام كثير ، وكان

__________________

(١) البقرة : ١٧٧.

(٢) من المصدر.

٤١٧

في ذلك اليوم قد أُتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال فنضت (١) البدر حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائم ، فقال عثمان : إنّي لأرجو لعبد الرحمن خيراً لأنّه كان يتصدّق ويقري الضيف وترك ما ترون. فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين ، فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم وقال : يا ابن اليهوديّ تقول لرجل مات وترك هذا المال إنّ الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما يسرُّني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً» فقال له عثمان : وارِ عنّي وجهك. فقال : أسير إلى مكة. قال لا والله. قال : فتمنعني من بيت ربّي أعبده فيه حتى أموت؟ قال : أي والله. قال : فإلى الشام. قال : لا والله. قال : البصرة. قال : لا والله فاختر غير هذه البلدان. قال : لا والله ما أختار غير ما ذكرت لك ، ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئاً من البلدان ، فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال : فإنّي مُسيّرك إلى الربذة. قال : الله أكبر صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرني بكلّ ما أنا لاقٍ. قال عثمان : وما قال لك؟ قال : أخبرني بأنّي أُمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة ، ويتولّى مواراتي نفر ممّن يردون من العراق نحو الحجاز. وبعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه امرأته وقيل ابنته ، وأمر عثمان أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة. فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسيّره عنها ، إذ طلع عليه عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ومعه ابناه وعقيل أخوه وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر ، فاعترض مروان فقال : يا عليّ إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيّعوه ، فإن كنت لم تدرِ بذلك فقد أعلمتك. فحمل عليه عليُّ بن أبي طالب بالسوط [وضرب] (٢) بين أُذني راحلته وقال : «تنحّ نحّاك الله إلى النار» ومضى مع أبي ذر فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف. فلمّا أراد الانصراف بكى أبو ذر وقال : رحمكم الله أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن

__________________

(١) نضّت : أي ظهرت ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا من مروج الذهب : فنثرت.

(٢) من المصدر.

٤١٨

وولدك ذكرت بكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به عليُّ بن أبي طالب ، فقال عثمان : يا معشر المسلمين من يعذرني من عليّ؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له وفعل كذا والله لنعطينّه حقّه. فلمّا رجع عليّ استقبله الناس (١) فقالوا : إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر. فقال عليّ : «غضب الخيل على اللجم» (٢). ثمّ جاء. فلمّا كان بالعشيّ جاء إلى عثمان فقال له : ما حملك على ما صنعت بمروان واجترأت عليّ ورددت رسولي وأمري؟ قال : «أمّا مروان فإنّه استقبلني يردُّني فرددته عن ردّي؟ وأمّا أمرك فلم أردُّه» قال عثمان : أوَلم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه؟ فقال عليّ : «أوَكلّ ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة لله والحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟ بالله لا نفعل». قال عثمان : أقد مروان. قال : «وما أقيده»؟ قال : ضربت بين أُذني راحلته (٣) قال عليّ : «أمّا راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأمّا أنا فو الله لئن شتمني لأشتمنّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّا» قال عثمان : ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته ، فو الله ما أنت عندي بأفضل منه. فغضب عليّ بن أبي طالب وقال : «إليّ تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأُمّي أفضل من أُمّك ، وهذه نبلي قد نثلتها وهلمّ فأقبل بنبلك». فغضب عثمان واحمرّ وجهه فقام ودخل داره وانصرف عليّ فاجتمع إليه أهل بيته ورجال من المهاجرين والأنصار ، فلمّا كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّا وقال : إنّه يعيبني ويظاهر من يعيبني

__________________

(١) هذه الجملة تعرب عن غيبة الإمام عليه‌السلام عن المدينة المشرّفة في تشييع أبي ذر أيّاماً وتقرّب ما قاله الأُستاذ عبد الحميد جودت السحّار المصري في كتابه الاشتراكي الزاهد : ص ١٩٢ : ومضى عليّ ورفقاؤه مع أبي ذر حتى بلغوا الربذة فنزلوا عن رواحلهم وجلسوا يتحدّثون. (المؤلف)

(٢) مجمع الأمثال : ٢ / ٤١٢ رقم ٢٦٦٢. مثل يضرب لمن يغضب غضباً لا ينتفع به ، واللُجم جمع لجام : الحديدة في فم الفرس.

(٣) في العبارة سقط يظهر في الجواب وسيأتي صحيحها بُعيد هذا إن شاء الله. (المؤلف)

٤١٩

يريد بذلك أبا ذر وعمّار بن ياسر وغيرهما ، فدخل الناس بينهما ، وقال له عليّ : «والله ما أردت تشييع أبي ذرّ إلاّ الله».

وفي رواية الواقدي من طريق صهبان مولى الأسلميّين قال : رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له : أنت الذي فعلت ما فعلت (١)؟ فقال له أبو ذر : نصحتك فاستغشتني ونصحت صاحبك فاستغشّني. فقال عثمان : كذبت ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها قد انغلت (٢) الشام علينا ، فقال له أبو ذر : اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان : مالك وذلك لا أُمّ لك؟ قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال : أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ؛ إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه قد فرّق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلّم عليّ عليه‌السلام وكان حاضراً وقال : أُشير عليك بما قاله مؤمن آل فرعون : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٣) قال : فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أُحبّ ذكره وأجابه عليّ بمثله.

قال : ثمّ إنّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلّموه ، فمكث كذلك أيّاماً ، ثمّ أمر أن يؤتى به فأُتي به ، فلمّا وقف بين يديه قال : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنّك لتبطش بي بطش جبار ، فقال : اخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر : ما أبغض إليّ جوارك! فإلى أين أخرج؟ قال : حيث شئت. قال : فأخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال : إنّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها ؛ أفأردُّك إليها؟ قال : فأخرج إلى العراق. قال : لا.

__________________

(١) في شرح النهج : فعلت وفعلت.

(٢) أنغل : أفسد.

(٣) غافر : ٢٨.

٤٢٠