الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

من غير سابقة والياً من قبل عثمان بعد عزله الوليد ولم يحمل أيّ حنكة ، فطفق يلهج من أوّل يومه بما يثير العواطف ويجيش الأفئدة ، فنسبهم إلى الشقاق والخلاف وقال : إنّ هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش.

ولقد أزرى هذا الغلام بهاشم بن عتبة المرقال الصحابيّ العظيم صاحب راية مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بصفّين ، العبد الصالح الذي فُقِئت إحدى عينيه في سبيل الله يوم اليرموك ومات شهيداً في الجيش العلوي.

قال ابن سعد (١) : قال سعيد مرّة بالكوفة : من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر رمضان ، فقال القوم : ما رأيناه. فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص : أنا رأيته. فقال له سعيد : بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟ فقال هاشم : تعيّرني بعيني وإنّما فُقئت في سبيل الله؟ وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ؛ ثمّ أصبح هاشم في داره مفطراً وغدّى الناس عنده ، فبلغ ذلك سعيداً فأرسل إليه فضربه وحرّق داره.

ما أجرأ ابن العاص على هذا العظيم من عظماء الصحابة فيضربه ويحرّق داره لعمله بالسنّة الثابتة في الأهلّة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا» وفي لفظ : «صوموا لرؤيته ، وافطروا لرؤيته» (٢)!

لم يكن يعلم هاشم المرقال بأنّ آراء الولاة وأهواءهم لها صولة وجولة في رؤية الهلال أيضاً ، وأنّ الشهادة بها قد تكون من الجرائم التي لا تُغفر ، وأنّ السياسة الوقتيّة لها دخل في شهادات الرجال ، وأنّ حملة النزعة العلويّة لا تقبل شهاداتهم.

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٥ / ٣٢.

(٢) صحيح البخاري [٢ / ٦٧٤ ح ١٨١٠] ، صحيح مسلم [٢ / ٤٦١ ح ١٩ كتاب الصيام] ، سنن أبي داود [٢ / ٢٩٧ ، ٢٩٨ ح ٢٣٢٠ ، ٢٣٢٦] ، سنن الدارمي [٢ / ٣] ، سنن النسائي [٢ / ٦٩ ـ ٧١ ح ٢٤٢٦ ـ ٢٤٣٥] ، سنن ابن ماجة [١ / ٥٢٩ ح ١٦٥٤] ، سنن البيهقي [٤ / ٢٠٦]. (المؤلف)

٣٨١

قد شكاه إلى الخليفة الكوفيّون مرّة فلم يعبأ بها ، فقال : كلّما رأى أحدكم من أميره جفوة أرادنا أن نعزله ، فانكفأ سعيد إلى الكوفة ، وأضرّ بأهلها إضراراً شديداً (١) ونفى في سنة (٣٣) بأمر من خليفته جمعاً من صلحاء الكوفة وقرّائها إلى الشام كما يأتي تفصيله. ولم يفتأ على سيرته السيّئة إلى أن رحل من الكوفة إلى عثمان مرّة ثانية سنة (٣٤) والتقى هناك بالفئة الشاكية إلى عثمان وهم :

الأشتر بن الحارث ، يزيد بن مكفّف ، ثابت بن قيس ، كميل بن زياد ، زيد بن صوحان ، صعصعة بن صوحان ، الحارث الأعور ، جندب بن زهير ، أبو زينب الأزدي أصغر بن قيس الحارثي.

وهم يسألون الخليفة عزل سعيد ، فأبى وأمره أن يرجع إلى عمله ، وقفل القوم قبله إلى الكوفة واحتلّوها ودخلها من ورائهم ، وركب الأشتر مالك بن الحارث في جيش يمنعه من الدخول فمنعوه حتى ردّوه إلى عثمان ، فجرى هنالك ما جرى ، ويأتي نبأه بعد حين إن شاء الله تعالى.

لقد أراد الخليفة أن يصل رحمه من هذا الشابّ المجرم بإعطاء تلك الكمّية الزائدة على حدّه وحقّه من بيت المال ، إن كان له ثمّة نصيب ، ولو كان هذا العطاء حقّا لَما نقده عليه أعاظم الصحابة وفي طليعتهم مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه.

وأمّا ما تترّس به من المعذرة من الاحتساب بصلة الرحم كما احتسب مَن قبله بمنع رحمهم عن الزيادة في أعطياتهم من بيت المال فتافه ، لأنّ الصلة إنّما تستحسن من الإنسان إن كان الإنفاق من خالص ماله لا المال المشترك بين آحاد المسلمين ؛ ومن وهب مالا يملكه لا يُعَدُّ أميناً على أرباب المال ، فهو إلى الوزر أقرب منه إلى الأجر.

__________________

(١) أنساب البلاذري : ٥ [ص ٣٩ ـ ٤٥]. (المؤلف)

٣٨٢

ـ ٣٥ ـ

هبة الخليفة للوليد من مال المسلمين

أعطى الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أُميّة أخا الخليفة من أُمّه ما استقرض عبد الله بن مسعود من بيت مال المسلمين ووهبه له. قال البلاذري في الأنساب (٥ / ٣٠) : لمّا قدم الوليد الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه مالاً وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمّ تردُّ ما تأخذ ، فأقرضه عبد الله ما سأله ، ثمّ إنّه اقتضاه إيّاه ، فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظنُّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك ، وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال.

وعن عبد الله بن سنان قال : خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد وكان على بيت مال الكوفة ، وفي الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال : يا أهل الكوفة فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال : فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك فنزعه عن بيت المال. العقد الفريد (١) (٢ / ٢٧٢).

الوليد ومن ولده :

أمّا أبوه عقبة بن أبي معيط فكان أشدّ الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إيذائه من جيرانه ، أخرج ابن سعد بالإسناد من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كنت بين شرّ جارين بين أبي لهب وعقبة بن

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١١٩.

٣٨٣

أبي معيط ، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي ، حتى إنّهم ليأتون ببعض ما يطرحون من الأذى فيطرحونه على بابي» (١).

وقال ابن سعد في الطبقات (٢) (١ / ١٨٥) : كان أهل العداوة والمناواة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل أبو جهل ، أبو لهب ، إلى أن عدّ عقبة بن أبي معيط ، والحكم بن أبي العاص فقال : وذلك أنّهم كانوا جيرانه ، والذي كان تنتهي عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم : أبو جهل ، وأبو لهب ، وعقبة بن أبي معيط.

وقال ابن هشام في سيرته (٣) (٢ / ٢٥) : كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته أبو لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أُميّة ، وعقبة بن أبي معيط.

وقال (٤) في (١ / ٣٨٥) : كان أُبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط متصافيين حَسَناً ما بينهما ، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمع منه فبلغ ذلك أُبيّا فأتى عقبة فقال له : ألم يبلغني أنّك جالست محمداً وسمعت منه؟ ثمّ قال : وجهي من وجهك حرام أن أكلّمك ، واستغلظ له من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدوّ الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله ، فأنزل الله تعالى فيهما : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٥) وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بإسنادٍ صححهُ السيوطي

__________________

(١) طبقات ابن سعد : ١ / ١٨٦ طبع مصر [١ / ٢٠١]. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٣) السيرة النبوية : ٢ / ٥٧.

(٤) السيرة النبوية : ١ / ٣٨٧.

(٥) الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩.

٣٨٤

من طريق (١) سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : أنّ عقبة (٢) بن أبي معيط كان يجلس مع النبيّ بمكة لا يؤذيه ، وكان له خليل (٣) غائب عنه بالشام ، فقالت قريش : صبا عقبة. وقدم خليله من الشام ليلاً فقال لامرأته : ما فعل محمد ممّا كان عليه؟ فقالت : أشدّ مما كان أمراً. فقال : ما فعل خليلي عقبة؟ فقالت : صبا. فبات بليلة سوء. فلمّا أصبح أتاه عقبة فحيّاه فلم يردّ عليه التحية ، فقال : ما لك لا تردّ عليّ تحيّتي؟ فقال : كيف أردُّ عليك تحيّتك وقد صبوت؟ قال : أوَ قد فعلتها قريش؟ قال : نعم ، قال : فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال : تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم ، ففعل ، فلم يردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن مسح وجهه من البزاق ثمّ التفت إليه فقال : «إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً».

فلمّا كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج ، فقال له أصحابه : أخرج معنا ، قال : وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبراً ، فقالوا : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم ، فلمّا هزم الله المشركين وحمل (٤) به جمله في جدود من الأرض فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسيراً في سبعين من قريش وقدّم إليه عقبة فقال : أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال : «نعم ، بما بزقت في وجهي». وفي لفظ الطبري : «بكفرك وفجورك وعتوّك على الله ورسوله». فأمر عليّا فضرب عنقه فأنزل الله فيه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ). إلى قوله تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً).

__________________

(١) دلائل النبوّة : ٢ / ٦٠٦ ـ ٦٠٧ خ ٤٠١.

(٢) وقع في الدرّ المنثور [٦ / ٢٥٠] الاشتباه في اسم الرجل فجعله أبا معيط ، وتبعه على علاّته من حكاه عنه كالشوكاني [في تفسيره : ٤ / ٧٤] وغيره. (المؤلف)

(٣) هو أُبيّ بن خلف كما سمعت ، وفي غير واحد من المصادر : أُميّة بن خلف : (المؤلف)

(٤) في الدر المنثور : وَحَلَ به جملُهُ في جدد من الأرض.

٣٨٥

وقال الضحّاك : لمّا بزق عقبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع بزاقه على وجهه لعنه الله تعالى ، ولم يصل حيث أراد فأحرق خدّيه وبقي أثر ذلك فيهما حتى ذهب إلى النار.

وفي لفظ : كان عقبة يكثر مجالسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتّخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل ، وكان أُبيُّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال : صبأت يا عقبة ، قال : لا ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي ، فقال : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ قفاه وتبزق وجهه وتلطم عينه. فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك ، فقال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ألقاك خارجاً من مكة إلاّ علوت رأسك بالسيف» الحديث.

وقال الطبري في تفسيره : قال بعضهم عني بالظالم عقبة بن أبي معيط لأنّه ارتدّ بعد إسلامه طلباً منه لرضا أُبيّ بن خلف وقالوا : فلان هو أُبيّ.

وروي عن ابن عبّاس أنّه قال : كان أُبيّ بن خلف يحضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزجره عقبة بن أبي معيط فنزل (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) إلى آخره. قال : الظالم : عقبة وفلان : أُبيّ. وروي مثله عن الشعبي وقتادة وعثمان ومجاهد.

أخرج نزول الآيات الكريمة (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) إلى قوله : (خَذُولاً). في عقبة ، وأنّ الظالم هو : ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل (١) ، وابن المنذر ، وعبد الرزاق في المصنّف (٢) ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير.

__________________

(١) دلائل النبوة : ٢ / ٦٠٦ ح ٤٠١.

(٢) المصنّف : ٥ / ٣٥٧ ح ٩٧٣١.

٣٨٦

راجع (١) : تفسير الطبري (١٩ / ٦) ، تفسير البيضاوي (٢ / ١٦١) ، تفسير القرطبي (١٣ / ٢٥) ، تفسير الزمخشري (٢ / ٣٢٦) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٣١٧) ، تفسير النيسابوري هامش الطبري (١٩ / ١٠) ، تفسير الرازي (٦ / ٣٦٩ ، تفسير ابن جزي الكلبي (٣ / ٧٧) ، إمتاع المقريزي (ص ٦١ ، ٩٠) ، الدرّ المنثور للسيوطي (٥ / ٦٨) ، تفسير الخازن (٣ / ٣٦٥) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٣ / ٣٦٥) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٧٢) ، تفسير الآلوسي (١٩ / ١١).

هذا الوالد ، وما أدراك ما ولد؟ :

أمّا الوليد الفاسق بلسان الوحي المبين ، الزاني ، الفاجر ، السكّير ، المدمن للخمر المتهتّك في أحكام الدين وتعاليمه ، المهتوك بالجلد على رءوس الأشهاد ، فسل عنه قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٢) فإنّ من المجمع عليه بين أهل العلم بتأويل القرآن نزوله فيه. كما مرّ في (ص ١٢٤).

وسل عنه قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٣) وهذه الآية كسابقتها تومي بالفاسق إليه كما أسلفناه في الجزء الثاني (ص ٤٢ ، ٤٣ ، الطبعة الأولى و ٤٦ ، ٤٧ الطبعة الثانية).

وسل عن محراب جامع الكوفة يوم قاء فيه من السكر وصلّى الصبح أربعاً وأنشد فيها رافعاً صوته :

علِقَ القلبُ الربابا

بعد ما شابت وشابا

__________________

(١) جامع البيان : مج ١١ / ج ١٩ / ٧ ـ ٨ ، تفسير البيضاوي : ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٠ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٣ / ١٩ ، الكشّاف : ٣ / ٢٧٦ ، تفسير غرائب القرآن : ٥ / ٢٣٤ ، التفسير الكبير : ٢٤ / ٧٥ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٢٥٠ ـ ٢٥٣ ، تفسير الخازن : ٣ / ٣٤٧ ، تفسير النسفي : ٣ / ١٦٤ ، فتح القدير : ٤ / ٧٤.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) السجدة : ١٨.

٣٨٧

وقال : هل أزيدكم؟ فضربه ابن مسعود بفردة خفّه ، وأخذه الحصباء من المصلّين ، ففرّ عنهم حتى دخل داره والحصباء من ورائهِ ، كما فصّلناه في هذا الجزء (ص ١٢٠ ـ ١٢٤).

وسل عنه سوط عبد الله بن جعفر لمّا جلده حدّ الشارب بأمر مولانا أمير المؤمنين ، وهو يسبّه بمشهد عثمان بعد ضوضاء من المسلمين على تأخير الحدّ ، كما مرّ (ص ١٢٥)

وسل عنه ابن عمّه سعيد بن العاص لمّا غسل منبر جامع الكوفة ومحرابه تطهيراً من أقذار الفاسق حين ولاّه عثمان على الكوفة بعد الوليد.

وسل عنه الإمام السبط الحسن المجتبى يوم تكلّم عليه في مجلس معاوية فقال عليه‌السلام : «وأمّا أنت يا وليد فو الله ما ألومك على بغض عليّ وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صبراً ، وأنت الذي سمّاه الله الفاسق ، وسمّى عليّا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له : اسكت يا عليّ فأنا أشجع منك جناناً ، وأطول منك لساناً ، فقال لك علي : اسكت يا وليد فأنا مؤمن ، وأنت فاسق. فأنزل الله تعالى في موافقته قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ). ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضاً : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر (١) فيك وفيه

أنزل اللهُ والكتاب عزيزٌ

في عليٍّ وفي الوليد قرانا

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقاً

وعليٌّ مبوّأ إيمانا

ليس من كان مؤمناً عمرك الل

 ـه كمن كان فاسقاً خوّانا

سوف يُدعى الوليد بعد قليلٍ

وعليٌّ إلى الحساب عيانا

__________________

(١) هو حسّان بن ثابت. راجع الجزء الثاني ص ٤٢ الطبعة الأولى و ٤٥ الطبعة الثانية. (المؤلف)

٣٨٨

فعليٌّ يُجزى بذاك جناناً

ووليدٌ يُجزى بذاك هوانا

ربّ جدٍّ لعقبة بن أبان (١)

لابسٌ في بلادنا تبّانا

وما أنت وقريش؟ إنّما أنت علج من أهل صفوريّة ، وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسنّ ممّن تُدعى إليه». شرح ابن أبي الحديد : (٢ / ١٠٣) (٢).

وإن شئت فسل الخليفة عثمان عن تأهيله إيّاه للولاية على صدقات بني تغلب ثمّ للإمارة على الكوفة ، وائتمانه على أحكام الدين وأعراض المسلمين ، وتهذيب الناس ودعوتهم إلى الدين الحنيف ، وإسقاط ما عليه من الدين لبيت مال المسلمين وإبراء ذمّته عمّا عليه من مال الفقراء ، هل في الشريعة الطاهرة تسليط مثل الرجل على ذلك كلّه؟ أنا لا أعرف لذلك جواباً ، ولعلّك تجد عند الخليفة ما يبرّر عمله ، أو تجد عند ابن حجر بعد اعترافه بصحّة ما قلناه ، وأنّه جاء من طريق الثقات جواباً منحوتاً لا نعرف المحصّل منه.

قال في تهذيب التهذيب (٣) (١١ / ١٤٤) : قد ثبتت صحبته وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى والصواب السكوت. انتهى.

أمّا نحن فلا نرى السكوت صواباً بعد أن لم يسكت عنه الذكر الحكيم وسمّاه فاسقاً في موضعين ، (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) ، ومهما سكتنا عن أمر بينه وبين الله سبحانه فليس من السائغ أن نسكت عن ترتيب آثار العدالة عليه والرواية عنه وهو فاسق في القرآن ، متهتّك بالجرائم على رءوس الأشهاد ، متعدٍّ حدود الله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤).

__________________

(١) أبان اسم أبي معيط جدّ الوليد. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ خطبة ٨٣.

(٣) تهذيب التهذيب : ١١ / ١٢٧.

(٤) البقرة : ٢٢٩.

٣٨٩

ـ ٣٦ ـ

هبة الخليفة لعبد الله من مال المسلمين

أعطى لعبد الله بن خالد بن أُسيد بن أبي العيص بن أميّة ثلاثمائة ألف درهم ولكلّ رجل من قومه ألف درهم. وفي العقد الفريد (١) (٢ / ٢٦١) ، والمعارف لابن قتيبة (٢) (ص ٨٤) ، وفي شرح ابن أبي الحديد (٣) (١ / ٦٦) : أنّه أعطى عبد الله أربعمائة ألف درهم.

قال أبو مخنف : كان على بيت مال عثمان عبد الله بن الأرقم ، فاستسلف عثمان من بيت المال مائة ألف درهم وكتب عليه بها عبد الله بن الأرقم ذكر حقّ للمسلمين وأشهد عليه عليّا وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر ، فلمّا حلّ الأجل ردّه عثمان ، ثمّ قدم عليه عبد الله بن خالد بن أُسيد من مكة وناس معه غزاة فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف درهم ولكلّ رجل من القوم بمائة ألف درهم ، وصكّ بذلك إلى ابن أرقم فاستكثره وردّ الصكّ له. ويقال : إنّه سأل عثمان أن يكتب عليه به ذكر حقّ فأبى ذلك ، فامتنع ابن الأرقم من أن يدفع المال إلى القوم ، فقال له عثمان : إنّما أنت خازن لنا فما حَمَلك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم : كنت أراني خازناً للمسلمين وإنّما خازنك غلامك ، والله لا ألي لك بيت المال أبداً. وجاء بالمفاتيح فعلّقها على المنبر ، ويقال : بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى ناتل مولاه ، ثمّ ولّى زيد بن ثابت الأنصاري بيت المال وأعطاه المفاتيح. ويقال : إنّه ولّى بيت المال معيقيب بن أبي فاطمة ، وبعث إلى عبد الله بن الأرقم ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبلها. أنساب البلاذري (٥ / ٥٨).

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٠٣.

(٢) المعارف : ص ١٩٥.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٨ خطبة ٣.

٣٩٠

وذكر أبو عمر في الاستيعاب (١) وابن حجر في الإصابة (٢) حديث عبد الله بن أرقم في ترجمته وردّه ما بعث إليه عثمان من ثلاثمائة ألف. وفي رواية الواقدي : قال عبد الله : مالي إليه حاجة وما عملت لأن يثيبني عثمان ، والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أُعطى ثلاثمائة ألف درهم ، ولئن كان من مال عثمان ما أُحبّ أن آخذ من ماله شيئاً.

وقال اليعقوبي في تاريخه (٣) (٢ / ١٤٥) : زوّج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أُسيد وأمر له بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.

قال الأميني : أنا لا أدري هل قرّرت الشريعة لبيت مال المسلمين حساباً وعدداً؟ أو أنّها أمرت أن يُكال ويوزن لأيّ أحد بغير حساب؟ إذن فمن ذا الذي أمرته بالقسمة على السويّة ، والعدل في الرعيّة؟ لقد بلغ الفوضى في الأموال على عهد هذا الخليفة حدّا لم يسطع معه أمناؤه على بيت المال أن يستمرّوا على عملهم ، فكانوا يلقون مفاتيحه إليه لما كانوا يجدونه من عدم تمكّنهم من الجري على النواميس المطّردة في الأموال الثابتة في السنّة الشريفة ، ولا على ما مضى الأوّلان عليه من الحصول على مرضاة العامّة في تقسيمها ، فرأوا التنصّل من هذه الوظيفة أهون عليهم من تحمّل تبعاتها الوبيلة ، وقد ناقشوا الحساب فلم يجدوا لعبد الله بن خالد أيّ جدارة للتخصّص بهذه الكمّيات ، فهو لو عُدّ في عداد غيرهم لم يحظ بغير عطائه زنة أعطيات المسلمين ، لكن صهر الخلافة والاتّصال بالنسب الأمويّ لعلّهما يبرّران ما هو فوق الناموس الماليّ المطّرد في الشريعة!

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٦٦ رقم ١٤٦٩.

(٢) الإصابة : ٢ / ٢٧٤ رقم ٤٥٢٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٨.

٣٩١

ـ ٣٧ ـ

عطيّة الخليفة أبا سفيان

أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال قاله ابن أبي الحديد في الشرح (١) (١ / ٦٧).

قال الأميني : لا أرى لأبي سفيان المستحقّ للمنع عن كلّ خير أيّ موجب لذلك العطاء الجزل من بيت مال المسلمين ، وهو ـ كما في الاستيعاب لأبي عمر عن طائفة ـ كان كهفاً للمنافقين منذ أسلم وكان في الجاهليّة ينسب إلى الزندقة. قال الزبير يوم اليرموك لمّا حدّثه ابنه أنّ أبا سفيان كان يقول : إيه بني الأصفر : قاتله الله يأبى إلاّ نفاقاً أوَلسنا خيراً له من بني الأصفر؟ وقال له عليّ عليه‌السلام : «ما زلت عدوّا للإسلام وأهله». ومن طريق ابن المبارك عن الحسن : أنّ أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال : صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة ، واجعل أوتادها بني أُميّة ، فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار. فصاح به عثمان : قم عنّي فعل الله بك وفعل. الاستيعاب (٢) (٢ / ٦٩٠).

وفي تاريخ الطبري (٣) (١١ / ٣٥٧) : يا بني عبد مناف تلقّفوها تلقّف الكرة ، فما هناك جنّة ولا نار.

وفي لفظ المسعودي : يا بني أُميّة تلقّفوها تلقّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة. مروج الذهب (٤) (١ / ٤٤٠).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٩ خطبة ٣.

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٦٧٨ ـ ١٦٧٩ رقم ٣٠٠٥.

(٣) تاريخ الأُمم الملوك : ١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٣٦٠.

٣٩٢

وأخرج ابن عساكر في تاريخه (١) (٦ / ٤٠٧) عن أنس : أنّ أبا سفيان دخل على عثمان بعد ما عمي فقال : هل هنا أحد (٢)؟ فقالوا : لا. فقال : اللهمّ اجعل الأمر أمر جاهليّة ، والملك ملك غاصبيّة ، واجعل أوتاد الأرض لبني أُميّة.

وقال ابن حجر : كان رأس المشركين يوم أُحد ويوم الأحزاب ، وقال ابن سعد في إسلامه : لمّا رأى الناس يطئون عقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسده ، فقال في نفسه : لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله في صدره ثمّ قال : «إذاً يخزيك الله» وفي رواية : قال في نفسه : ما أدري لِمَ (٣) يغلبنا محمد؟ فضرب في ظهره وقال : «بالله يغلبك». الإصابة (٢ / ١٧٩).

وإن سألت مولانا أمير المؤمنين عن الرجل فعلى الخبير سقطت ، قال في حديث له : «معاوية طليق ابن طليق ، حزب من هذه الأحزاب ، لم يزل لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين عدوّا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين» (٤).

وحسبك ما في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان من قوله : «يا ابن صخر يا ابن اللعين» (٥) ولعلّه عليه‌السلام يوعز بقوله هذا إلى ما رويناه من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعنه وابنيه معاوية ويزيد لمّا رآه راكباً وأحد الولدين يقود والآخر يسوق فقال : «اللهمّ العن الراكب والقائد والسائق» (٦).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢٣ / ٤٧١ رقم ٢٨٤٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٦٧.

(٢) في المصدر : هاهنا أحد؟

(٣) في الإصابة : بِمَ ..

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٤ [٥ / ٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍]. (المؤلف)

(٥) شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤١١ و ٤ / ٥١ [١٥ / ٨٢ كتاب ١٠ و ١٦ / ١٣٥ كتاب ٣٢] (المؤلف)

(٦) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث : صفحة ٢٢٢ الطبعة الأولى ، و ٢٥٢ الطبعة الثانية [أنظر تاريخ الأُمم والملوك : ١٠ / ٥٨ سنة ٢٨٤ ه‍]. (المؤلف)

٣٩٣

وذكر ابن أبي الحديد في الشرح (١) (٤ / ٢٢٠) من كتاب للإمام عليه‌السلام كتبه إلى معاوية قوله : فلقد سلكت طرائق أبي سفيان أبيك وعتبة جدّك وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر والشقاق والأباطيل (٢).

ويعرّفك أبا سفيان قول أبي ذر لمعاوية ـ لمّا قال له : يا عدوّ الله وعدوّ رسوله ـ : ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر. إلى آخر ما يأتي في البحث عن مواقف أبي ذر مع عثمان.

هذا حال الرجل يوم كفره وإسلامه ولم يغيّر ما هو عليه حتى لفظ نفسه الأخير ، فهل له في أموال المسلمين قطمير أو نقير (٣) فضلاً عن الآلاف؟ لو لا أنّ النسب الأمويّ برّر للخليفة أن يخصّه بمنائحه الجمّة من مال الناس ، وافق السنّة أم خالفها.

ـ ٣٨ ـ

عطاء الخليفة من غنائم إفريقية

أعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة الخمس من غنائم إفريقية في غزوها الأوّل كما مرّ في صفحة (٢٥٩) وقال ابن كثير : أعطاه خمس الخمس. وكان مائة ألف دينار على ما ذكره أبو الفدا من تقدير ذلك الخمس بخمسمائة ألف دينار. وكان حظُّ الفارس من تلك الغنيمة العظيمة ثلاثة آلاف [مثقال] ، ونصيب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٢٣ الكتاب ٦٥.

(٢) قوله عليه‌السلام لمعاوية هو : فلقد سلكت مدارج أسلافك بادعائك الأباطيل. وأما القول الذي ينقله العلاّمة قدس‌سره فهو لابن أبي الحديد في شرحه لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) القطمير : القشرة الدقيقة على النواة بين النواة والتمر. النقير : كناية عن الشيء التافه. يقال : هو حقير نقير.

٣٩٤

الراجل ألف [مثقال]. كما ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (١) (٣ / ١٧٣) ، وابن كثير في تاريخه (٢) (٧ / ١٥٢).

وقال ابن أبي الحديد في شرحه (٣) (١ / ٦٧) : أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب ، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ، من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

وقال البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٦): كان ـ عثمان ـ كثيراً ما يولّي من بني أُميّة من لم يكن له مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحبة ، فكان يجيء من أُمرائه ما ينكره أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم ، فلمّا كان في الستّ الأواخر استأثر ببني عمّه فولاّهم وولّى عبد الله بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلّمون منه. إلى أن قال : فلمّا جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح كتب إليه كتاباً يتهدّده فيه ، فأبى أن ينزع عمّا نهاه عثمان عنه ، وضرب بعض من كان شكاه إلى عثمان من أهل مصر حتى قتله ، فخرج من أهل مصر سبع مائة إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ما صنع بهم ابن أبي سرح في مواقيت الصلاة إلى أصحاب محمد ، فقام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة تسأله أن ينصفهم من عامله ، ودخل عليه عليُّ بن أبي طالب وكان متكلّم القوم ، فقال له : «إنّما يسألك القوم رجلاً مكان رجل وقد ادّعوا قِبَله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه». فقال لهم : اختاروا رجلاً أُولّيه عليكم مكانه. فأشار الناس عليهم بمحمد بن أبي بكر الصدّيق ، فقالوا : استعمل علينا محمد بن أبي بكر ، فكتب عهده على مصر ووجّه معهم عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن

__________________

(١) أُسد الغابة : ٣ / ٢٦٠ رقم ٢٩٧٤. وما بين المعقوفين منه.

(٢) البداية والنهاية : ٧ / ١٧٠ حوادث سنة ٢٧ ه‍.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٩ خطبة ٣.

٣٩٥

أبي سرح. وسيأتي تمام الخبر وكتاب عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره بالتنكيل بالقوم.

قال الأميني : ابن أبي سرح هذا هو الذي أسلم قبل الفتح وهاجر ثمّ ارتدّ مشركاً وصار إلى قريش بمكة ، فقال لهم : إنّي أضرب محمداً حيث أُريد. فلمّا كان يوم الفتح أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله وأباح دمه ولو وجد تحت أستار الكعبة ، ففرّ إلى عثمان فغيّبه حتى أتى به رسول الله بعد ما اطمأنّ أهل مكة فاستأمنه له ، فصمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طويلاً. ثمّ قال : «نعم» فلمّا انصرف عثمان قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن حوله : «ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» وقال رجل من الأنصار : فهلاّ أومأت إليّ يا رسول الله؟ فقال : «إنّ النبيّ لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين» (١).

ونزل القرآن بكفره في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) الآية (٢).

أطبق المفسّرون على أنّ المراد بقوله : سأُنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن أبي سرح وسبب ذلك فيما ذكروه : أنّه لمّا نزلت الآية التي في المؤمنين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٣). دعاه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأملاها عليه ، فلمّا انتهى إلى قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٤) عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال : تَبارَكَ اللهُ أحسَنُ الخَالِقِين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هكذا أُنزلت عليّ» ، فشكّ عبد الله حينئذٍ وقال : لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أُوحي إليه ، وإن كان كاذباً لقد قلت كما

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ٢٢٠ [٤ / ١٢٨ ح ٤٣٥٩] ، أنساب البلاذري : ٥ / ٤٩ ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٠٠ [٣ / ١٠٧] ، الاستيعاب : ١ / ٣٨١ [القسم الثالث / ٩١٨ رقم ١٥٥٣] ، تفسير القرطبي : ٧ / ٤٠ [٧ / ٢٨] ، أُسد الغابة : ٣ / ١٧٣ [٣ / ٢٥٩ رقم ٢٩٧٤] ، الإصابة : ٢ / ٣١٧ [رقم ٤٧١١] ، تفسير الشوكاني : ٢ / ١٣٤ [٢ / ١٤١]. (المؤلف)

(٢) الأنعام : ٩٣.

(٣) المؤمنون : ١٢.

(٤) ٢٠

٣٩٦

قال. فارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين فذلك قوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ).

راجع (١) الأنساب للبلاذري (٥ / ٤٩) ، تفسير القرطبي (٧ / ٤٠) ، تفسير البيضاوي (١ / ٣٩١) ، كشّاف الزمخشري (١ / ٤٦١) ، تفسير الرازي (٤ / ٩٦) ، تفسير الخازن (٢ / ٣٧) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٢ / ٣٧) ، تفسير الشوكاني (٢ / ١٣٣ ، ١٣٥) نقلاً عن ابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن جريج ، وابن جرير ، وأبي الشيخ.

كان الرجل أمويّ النزعة والنشأة ، أرضعته وعثمان ثدي الأشعريّة فقرّبته الأُخوّة من الرضاعة إلى الخليفة ، وآثرته نزعاته الأمويّة على المسلمين ، وأوصلته إلى الحظوة والثروة من حطام الدنيا ، وحلّلت له تلك المنحة الطائلة وإن لم تساعد الخليفة على ذلك النواميس الدينيّة ، إذ لم يكن أمر الغنائم مفوّضاً إليه وإنّما خمسها لله ولرسوله ولذي القربى ، وأدّى الرجل شكر تلكم الأيادي بامتناعه عن بيعة عليّ أمير المؤمنين بعد قتل أخيه الخليفة ، والله يعلم منقلبهم ومثواهم.

هذه سيرة عثمان وسنّته في الأموال وفي لسانه قوله على صهوة الخطابة : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغم الله أنف من رغم. ولا يصيخ إلى قوله عمّار يوم ذاك : أشهد الله أنّ أنفي أوّل راغم من ذلك.

وبين شفتيه قوله : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام. ولا يعبأ بقول مولانا أمير المؤمنين في ذلك الموقف : «إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه» (٢).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٧ / ٢٧ ـ ٢٨ ، تفسير البيضاوي : ١ / ٣١١ ـ ٣١٢ ، الكشّاف : ٢ / ٤٥ ـ ٤٦ ، التفسير الكبير : ١٣ / ٨٤ ، تفسير الخازن : ٢ / ٣٥ ، تفسير النسفي : ٣ / ١١٦ ، فتح القدير : ٢ / ١٤٠ ، جامع البيان : مج ٥ / ج ٧ / ٢٧٤.

(٢) سيوافيك تفصيل الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

٣٩٧

نعم : هذا عثمان وهذا قيله ، والمشرّع الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيما أخرجه البخاري في صحيحه (١) (٥ / ١٥): «إنّما أنا قاسم وخازن والله يُعطي». ويقول : «ما أعطيكم ولا أمنعكم إنّما أنا قاسم حيث أُمرت». وفي لفظ : «والله ما أُوتيكم من شيء ولا أمنعكموه ، إن أنا إلاّ خازن أضع حيث أُمرت» (٢). وقد حذّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّته من التصرّف في مال الله بغير حقّ بقوله : «إنّ رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النار يوم القيامة» (٣).

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤).

ـ ٣٩ ـ

الكنوز المكتنزة ببركة الخليفة

اقتنى جماعة من رجال سياسة الوقت ، وأصحاب الفتن والثورات من جرّاء الفوضى في الأموال ضياعاً عامرة ، ودوراً فخمة ، وقصوراً شاهقة ، وثروة طائلة ، ببركة تلك السيرة الأمويّة في الأموال ، الشاذّة عن الكتاب والسنّة الشريفة وسيرة السلف ، فجمعوا من مال المسلمين مالاً جمّا ، وأكلوه أكلا لمّا.

منهم ؛ الزبير بن العوام : خلّف كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد باب بركة الغازي في ماله (٥) (٥ / ٢١) : إحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر ، وكان له أربع نسوة ، فأصاب كلّ امرأة بعد رفع الثلث ألف

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١١٣٣ باب ٧.

(٢) صحيح البخاري : ٥ / ١٧ [٣ / ١١٣٤ ج ٢٩٤٩] ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٥ [٣ / ١٣٥ ح ٢٩٤٩] ، طرح التثريب : ٧ / ١٦٠. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ١٧ [٣ / ١١٣٨ ، ١١٣٩]. (المؤلف)

(٤) البقرة : ١٨٧ ، ٢٢٩.

(٥) صحيح البخاري : ٣ / ١١٣٨ ، ١١٣٩ ح ٢٩٦١.

٣٩٨

ألف ومائتا ألف. قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وقال ابن الهائم : بل الصواب أنّ جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف (١) وصرّح ابن بطّال والقاضي عياض وغيرهما : بأنّ الصواب ما قاله ابن الهائم ، وأنّ البخاري غلط في الحساب.

كذا نجدها في صحيح البخاري وغيره من المصادر غير مقيّدة بالدرهم أو الدينار ، غير أنّ في تاريخ ابن كثير (٢) (٧ / ٢٤٩) قيّدها بالدرهم.

وقال ابن سعد في الطبقات (٣) (٣ / ٧٧) طبع ليدن : كان للزبير بمصر خطط ، وبالإسكندرية خطط ، وبالكوفة خطط ، وبالبصرة دور ، وكانت له غلاّت تقدم عليه من أعراض المدينة.

وقال المسعودي في المروج (٤) (١ / ٤٣٤) ، خلّف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططاً.

ومنهم ؛ طلحة بن عبيد الله التيمي : ابتنى داراً بالكوفة تُعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك وله بناحية سراة (٥) أكثر ممّا ذكر ، وشيّد داراً بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج.

وعن محمد بن إبراهيم قال : كان طلحة يغلُّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف ، ويغلُّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ.

__________________

(١) ذكره شرّاح البخاري ، راجع فتح الباري [٦ / ٢٣٣] ، إرشاد الساري [٧ / ٥٠] ، عمدة القاري [١٥ / ٥٣ ح ٣٧] ، شذرات الذهب : ١ / ٤٣ [١ / ٢٠٨ حوادث سنة ٣٦ ه‍]. (المؤلف)

(٢) البداية والنهاية : ٧ / ٢٧٨ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

(٣) الطبقات الكبرى : ٣ / ١١٠.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠.

(٥) بين تهامة ونجد أدناها الطائف وأقصاها قرب صنعاء [معجم البلدان : ٣ / ٢٠٥]. (المؤلف)

٣٩٩

وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته كلّ يوم ألف وافٍ. والوافي وزنه وزن الدينار ، وعن موسى بن طلحة : أنّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل.

وعن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من الناضّ (١) ثلاثين ألف ألف درهم ؛ ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.

وعن سعدى أُمّ يحيى بن طلحة : قتل طلحة وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ومائتا ألف درهم ، وقوّمت أُصوله وعقاره ثلاثين ألف ألف درهم.

وعن عمرو بن العاص : أنّ طلحة ترك مائة بُهار في كلّ بُهار ثلاثة قناطير ذهب. وسمعت أنّ البُهار (٢) جلد ثور. وفي لفظ ابن عبد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بُهار من ذهب وفضة.

وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهباً.

وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار.

راجع (٣) طبقات ابن سعد (٣ / ١٥٨) طبع ليدن ، الأنساب للبلاذري (٥ / ٧) ، مروج الذهب (١ / ٤٣٤) ، العقد الفريد (٢ / ٢٧٩) ، الرياض النضرة (٢ / ٢٥٨) ، دول

__________________

(١) الناضّ : الدرهم والدينار. (المؤلف)

(٢) البُهار يساوي ثلاثمائة رطل. وقيل : هو ما يحمل على البعير بلغة أهل الشام. أنظر النهاية : ١ / ١٦٦.

(٣) الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠ ، العقد الفريد : ٤ / ١٢٩ ، الرياض النضرة : ٣ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، دول الإسلام : ص ٢٢ ، ٢٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، خلاصة الخزرجي : ٢ / ١٢ رقم ٣١٩٥.

٤٠٠