الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

على ثمانية أعوام ، فهل كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلال هذه المدّة يستغفر لأبي طالب عليه‌السلام أخذاً بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك؟ وكيف كان يستغفر له؟ وكان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون ممنوعين عن موادّة المشركين والمنافقين وموالاتهم والاستغفار لهم ـ الذي هو من أظهر مصاديق الموادّة والتحابب ـ منذ دهر طويل بقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) الآية.

هذه آية (٢٢) من سورة المجادلة المدنيّة النازلة قبل سورة براءة التي فيها آية الاستغفار بسبع سور كما في الإتقان (١) (١ / ١٧) ، وأخرج : (٢) ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، وابن كثير كما في تفسيره (٤ / ٣٢٩) ، وتفسير الشوكاني (٥ / ١٨٩) ، وتفسير الآلوسي (٢٨ / ٣٧) أنّ هذه الآية نزلت يوم بدر وكانت في السنة الثانية من الهجرة الشريفة ، أو نزلت على ما في بعض التفاسير في أُحد وكانت في السنة الثالثة باتّفاق الجمهور كما قاله الحلبي في السيرة (٣) ، فعلى هذه كلّها نزلت هذه الآية قبل آية الاستغفار بعدّة سنين.

وبقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً).

هذه الآية (١٤٤) من سورة النساء وهي مكيّة على قول النحّاس وعلقمة وغيرهما ممّن قالوا : إنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ). حيث وقع إنّما هو مكّي (٤) ، وإن

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن : ١ / ٢٧.

(٢) المعجم الكبير : ١ / ١٥٤ ح ٣٦٠ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٢٩٦ ح ٥١٥٢ ، حلية الأولياء : ١ / ١٠١ رقم ١٠ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٩ / ٢٧ ، فتح القدير : ٥ / ١٩٤.

(٣) السيرة الحلبية : ٢ / ٢١٦.

(٤) تفسير القرطبي : ٥ / ١ [٥ / ٣].

٢١

أخذنا بما صحّحه القرطبي في تفسيره (٥ / ١) وذهب إليه الآخرون من أنّها مدنيّة أخذاً بما في صحيح البخاري (١) من حديث عائشة : ما نزلت سورة النساء إلاّ وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّها نزلت في أوليات الهجرة الشريفة بالمدينة ، وعلى أيٍّ من التقديرين نزلت قبل سورة آية الاستغفار ـ البراءة ـ بإحدى وعشرين سورة كما في الإتقان (٢) (١ / ١٧).

وبقوله سبحانه : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ).

هذه الآية (١٣٩) من سورة النساء وقد عرفت أنّها نزلت قبل براءة.

وبقوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

هذه الآية (٢٨) من آل عمران ، نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في أوائل الهجرة الشريفة يوم وفد نجران كما في سيرة ابن هشام (٣) (٢ / ٢٠٧) ، وأخذاً بما رواه القرطبي وغيره (٤) نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت يوم الأحزاب كانت في الخمس من الهجرة ، وعلى أيّ من التقديرين وغيرهما نزلت آل عمران قبل براءة ـ سورة آية الاستغفار ـ بأربع وعشرين سورة كما في الإتقان (٥) (١ / ١٧).

وبقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٧ / ٣٠٠ [٤ / ١٩١٠ ح ٤٧٠٧] في كتاب التفسير باب تأليف القرآن ، وذكره القرطبي في تفسيره : ٥ / ١. (المؤلف)

(٢) الإتقان في علوم القرآن : ١ / ٢٧.

(٣) السيرة النبوية : ٢ / ٢٢٥.

(٤) تفسير القرطبي : ٤ / ٥٨ [٤ / ٣٨] ، تفسير الخازن : ١ / ٢٣٥ [١ / ٢٢٧]. (المؤلف)

(٥) الإتقان في علوم القرآن : ١ / ٢٧.

٢٢

وهي الآية السادسة من المنافقين نزلت عام غزوة بني المصطلق سنة ست ، وهو المشهور عند أصحاب المغازي والسير كما قاله ابن كثير (١) ، ونزلت قبل براءة بثماني سور كما في الإتقان (١ / ١٧).

وبقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وبقوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وهذه وما قبلها الآيتان (٢٣ و ٨٠) من سورة التوبة نزلتا قبل آية الاستغفار.

أترى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع هذه الآيات النازلة قبل آية الاستغفار كان يستغفر لعمّه طيلة سنين وقد مات كافراً ـ العياذ بالله ـ وهو ينظر إليه من كثب؟ لاها الله ، حاشا نبيّ العظمة.

ولعلّ لهذه كلّها استبعد الحسين بن الفضل نزولها في أبي طالب وقال : هذا بعيد لأنّ السورة من آخر ما نزل من القرآن ، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ، وذكره القرطبي وأقرّه في تفسيره (٢) (٨ / ٢٧٣).

٤ ـ إنّ هناك روايات تضادّ هذه الرواية في مورد نزول آية الاستغفار من سورة براءة ، منها :

صحيحة أخرجها (٣) : الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٢٧ [١٨ / ٨٣] ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٦٩. (المؤلف)

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٨ / ١٧٣.

(٣) مسند أبي داود الطيالسي : ص ٢٠ ح ١٣١ ، المصنّف في الأحاديث والآثار : ١٠ / ٥٢٢ ح ١٠١٩٠ ، مسند أحمد : ١ / ٢١٠ ح ١٠٨٨ ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٦٢ ح ٣١٠١ ، السنن الكبرى : ١ / ٦٥٥ ح ٢١٦٣ ، مسند أبي يعلى : ١ / ٢٨٠ ح ٣٣٥ ، جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٣ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٦٥ ح ٣٢٨٩ ، شعب الإيمان : ٧ / ٤١ ح ٩٣٧٨.

٢٣

والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والضياء في المختارة عن عليّ قال : «سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : أوَلم يستغفر إبراهيم؟ فذكرت ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١)».

يظهر من هذه الرواية أنّ عدم جواز الاستغفار للمشركين كان أمراً معهوداً قبل نزول الآية ولذلك ردع عنه مولانا أمير المؤمنين الرجل ، وقوله عليه‌السلام هذا لا يلائم استغفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّه على تقدير عدم إسلامه ، وترى الرجل ما استند في تبرير عمله إلى استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّه علماً بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستغفر لمشرك قطّ.

قال السيّد زيني دحلان في أسنى المطالب (٢) (ص ١٨) : هذه الرواية صحيحة وقد وجدنا لها شاهداً برواية صحيحة من حديث ابن عبّاس قال : كانوا يستغفرون لآبائهم حتى نزلت هذه الآية ، فلمّا نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثمّ أنزل الله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ) الآية يعني استغفر له ما دام حيّا فلمّا مات أمسك عن الاستغفار له ، قال : وهذا شاهد صحيح فحيث كانت هذه الرواية أصحّ كان العمل بها أرجح ، فالأرجح أنّها نزلت في استغفار أُناس لآبائهم المشركين لا في أبي طالب. انتهى.

ومنها : ما أخرجه (٣) ـ في سبب نزول آية الاستغفار ـ مسلم في صحيحه ،

__________________

(١) التوبة : ١١٣ ، ١١٤.

(٢) أسنى المطالب : ص ٤٥.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ٣٦٥ ح ١٠٦ كتاب الجنائز ، مسند أحمد : ٣ / ١٨٦ ح ٩٣٩٥ ، سنن أبي داود : ٣ / ٢١٨ ح ٣٢٣٤ ، السنن الكبرى : ١ / ٦٥٤ ح ٢١٦١ ، سنن أبن ماجة : ١ / ٥٠١ ح ١٥٧٢.

٢٤

وأحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه ، والنسائي ، وابن ماجة عن أبي هريرة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى قبر أُمّه فبكى وأبكى من حوله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : استأذنت ربّي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروا القبور فإنّها تذكرة الآخرة (١).

وأخرج : الطبري ، والحاكم (٢) ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي (٣) عن ابن مسعود وبريدة ، والطبراني (٤) ، وابن مردويه ، والطبري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أقبل من غزوة تبوك اعتمر فجاء قبر أُمّه فاستأذن ربّه أن يستغفر لها ، ودعا الله تعالى أن يأذن له في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن فنزلت الآية (٥).

وأخرج الطبري في تفسيره (٦) (١١ / ٣١) عن عطيّة : لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة وقف على قبر أمّه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِ) إلى قوله : (تَبَرَّأَ مِنْهُ).

وروى الزمخشري في الكشّاف (٧) (٢ / ٤٩) حديث نزول الآية في أبي طالب ، ثمّ ذكر هذا الحديث في سبب نزولها وأردفها بقوله : وهذا أصحّ لأنّ موت أبي طالب كان قبل الهجرة وهذا آخر ما نزل بالمدينة.

__________________

(١) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ٧ / ١٥١ [١٠ / ٣١٤ ح ٤٦٧٥]. (المؤلف)

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٦٦ ح ٣٢٩٢.

(٣) دلائل النبوة : ١ / ١٨٩.

(٤) المعجم الكبير : ١١ / ٢٩٦ ح ١٢٠٤٩.

(٥) تفسير الطبري : ١١ / ٣١ [مج ٧ / ج ١١ / ٤٢] ، إرشاد الساري : ٧ / ٢٧٠ [١٠ / ٣١٤ ح ٤٦٧٥] ، الدرّ المنثور : ٣ / ٢٨٣ [٤ / ٣٠٢]. (المؤلف)

(٦) جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٢.

(٧) الكشّاف : ٢ / ٣١٥.

٢٥

وقال القسطلاني في إرشاد الساري (١) (٧ / ٢٧٠): قد ثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى قبر أُمّه لمّا اعتمر فاستأذن ربّه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية. رواه الحاكم (٢) وابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، والطبراني (٣) عن ابن عبّاس ، وفي ذلك دلالة على تأخّر نزول الآية عن وفاة أبي طالب والأصل عدم تكرار النزول.

قال الأميني : هلاّ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم إلى يوم تبوك بعد تلكم الآيات النازلة التي أسلفناها في (ص ١٠ ـ ١٢) ، أنّه غير مسوغ له وللمؤمنين الاستغفار للمشركين والشفاعة لهم ، فجاء يستأذن ربّه أن يستغفر لأُمّه ويشفع لها؟ أو كان يحسب أنّ لأُمّه حساباً آخر دون سائر البشر؟ أو أنّ الرواية مختلقة تمسّ كرامة النبيّ الأقدس ، وتدنّس ذيل قداسة أُمّه الطاهرة عن الشرك.

ومنها : ما أخرجه الطبري في تفسيره (٤) (١١ / ٣١) عن قتادة قال : ذكر لنا أنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا نبيّ الله إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الرحم ، ويفكّ العاني ، ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : [بلى] (٥) والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ، فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِ) ، ثمّ عذر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) إلى قوله : (تَبَرَّأَ مِنْهُ).

وأخرج الطبري من طريق عطيّة العوفي عن ابن عبّاس قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يستغفر لأبيه فنهاه الله عن ذلك بقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ

__________________

(١) إرشاد الساري : ١٠ / ٥٦٠ ـ ٥٦١ ح ٤٧٧٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٦٦ ح ٣٢٩٢.

(٣) المعجم الكبير : ١١ / ٢٩٦ ح ١٢٠٤٩.

(٤) جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٣.

(٥) من المصدر.

٢٦

يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية. قال : فإنّ إبراهيم قد استغفر لأبيه ، فنزلت (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ) الآية : الدرّ المنثور (١) (٣ / ٢٨٣).

وفي هاتين الروايتين نصّ على أن نزول الآية الكريمة في أبيه وآباء رجال من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا في عمّه ولا في أُمّه.

ومنها : ما جاء به الطبري في تفسيره (٢) (١١ / ٣٣) قال : قال آخرون : الاستغفار في هذا الموضع بمعنى الصلاة. ثمّ أخرج من طريق المثنّى عن عطاء بن أبي رباح قال : ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ولو كانت حبشيّة حبلى من الزنا ، لأنّي لم أسمع الله يحجب الصلاة إلاّ عن المشركين يقول الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية.

وهذا التفسير إن صحّ فهو مخالف لجميع ما تقدّم من الروايات الدالّة على أنّ المراد من الآية هو طلب المغفرة كما هو الظاهر المتفاهم من اللفظ.

ونفس هذا الاضطراب والمناقضة بين هذه المنقولات وبين ما جاء به البخاري ممّا يفتّ في عضد الجميع ، وينهك من اعتباره ، فلا يحتجّ بمثله ولا سيّما في مثل المقام من تكفير مسلم بارّ ، وتبعيد المتفاني دون الدين عنه.

٥ ـ إنّ المستفاد من رواية البخاري نزول آية الاستغفار عند موت أبي طالب كما هو ظاهر ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن الحسن ، قال : لمّا مات أبو طالب قال النبي : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ إبراهيم استغفر لأبيه وهو مشرك وأنا أستغفر لعمّي حتى أبلغ ، فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية. يعني به أبا طالب ، فاشتدّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما كانَ اسْتِغْفارُ

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٤ / ٣٠٢.

(٢) جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٤.

٢٧

إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الدرّ المنثور (١) (٣ / ٢٨٣). وإن ناقضها ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن عليّ قال : أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال : اذهب فغسّله وكفّنه وواره غفر الله له ورحمه. ففعلت وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر له أيّاماً ولا يخرج من بيته حتى نزل جبريل عليه‌السلام بهذه الآية (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية (٢).

ولعلّه ظاهر ما أخرجه ابن سعد وأبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمر قال : لمّا مات أبو طالب قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحمك الله وغفر لك ، لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله ، فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). الدرّ المنثور (٣ / ٢٨٣).

لكن الأُمّة أصفقت على أنّ نزول سورة البراءة التي تضمّنت الآية الكريمة آخر ما نزل من القرآن كما مرّ في (ص ١٠) وكان ذلك بعد الفتح ، وهي هي التي بعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر ليتلوها على أهل مكّة ثمّ استرجعه بوحي من الله سبحانه وقيّض لها مولانا أمير المؤمنين فقال : «لا يبلّغها عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي» (٣) وقد جاء في صحيحة مرّت من عدّة طرق في (ص ١٣) من أنّ آية الاستغفار نزلت بعد ما أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك وكانت في سنة تسع فأين من هذه كلّها نزولها عند وفاة أبي طالب أو بعدها بأيّام؟ وأنّى يصحّ ما جاء به البخاري ومن يشاكله في رواية البواطيل.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٤ / ٣٠١.

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ١٠٥ [١ / ١٢٣] ، الدرّ المنثور : ٣ / ٢٨٢ [٤ / ٣٠١] نقلاً عن ابني سعد وعساكر [مختصر تاريخ مدينة دمشق : ٢٩ / ٣٢]. (المؤلف)

(٣) راجع الجزء السادس من كتابنا هذا : ص ٣٣٨ ـ ٣٥٠. (المؤلف)

٢٨

٦ ـ إنّ سياق الآية الكريمة ـ آية الاستغفار ـ سياق نفي لا نهي فلا نصّ فيها على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استغفر فنُهي عنه ، وإنّما يلتئم مع استغفاره لعلمه بإيمان عمّه ، وبما أنّ في الحضور من كان لا يعرف ذلك من ظاهر حال أبي طالب الذي كان يماشي به قريشاً ، فقالوا في ذلك أو اتّخذوه مدركاً لجواز الاستغفار للمشركين ، كما ربما احتجّوا بفعل إبراهيم عليه‌السلام ، فأنزل الله سبحانه الآية وما بعدها من قوله تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ). الآية. تنزيهاً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعذيراً لإبراهيم عليه‌السلام ، وإيعازاً إلى أنّ من استغفر له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن مشركاً كما حسبوه ، وأنّ مرتبة النبوّة تأبى عن الاستغفار للمشركين ، فنفس صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برهنة كافية على أنّ أبا طالب لم يكن مشركاً ، وقد عرفت ذلك أفذاذ من الأُمّة فلم يحتجّوا بعمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستغفارهم لآبائهم المشركين ، وإنّما اقتصروا في الاحتجاج بعمل إبراهيم عليه‌السلام كما مرّ في صحيحة عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال : أوَ لم يستغفر إبراهيم؟». الحديث. راجع صفحة (١٢) من هذا الجزء.

ولو كان يعرف هذا الرجل أبا طالب مشركاً لكان الاستدلال لتبرير عمله باستغفار نبيّ الإسلام له ـ ولم يكن يخفى على أيّ أحد ـ أولى من استغفار إبراهيم لأبيه لكنّه اقتصر على ما استدلّ به.

٧ ـ إنّا على تقدير التسليم لرواية البخاري وغضّ الطرف عمّا سبق عن العبّاس من أنّ أبا طالب لهج بالشهادتين ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحمد لله الذي هداك يا عمّ وما مرّ عن مولانا أمير المؤمنين من أنّه ما مات حتى أعطى رسول الله من نفسه الرضا ، وما مرّ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ الخير أرجو من ربّي لأبي طالب». وما مرّ من وصيّة أبي طالب عند الوفاة لقريش وبني عبد المطّلب بإطاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّباعه والتسليم لأمره وأنّ فيه الرشد والفلاح ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمين في قريش والصدّيق في العرب. إلى تلكم النصوص الجمّة في نثره ونظمه ، فبعد غضّ الطرف عن هذه كلّها

٢٩

لا نسلّم أنّ أبا طالب عليه‌السلام أبى عن الإيمان في ساعته الأخيرة لقوله : على ملّة عبد المطّلب. ونحن لا نرتاب في أنّ عبد المطّلب سلام الله عليه كان على المبدأ الحقّ ، وعلى دين الله الذي ارتضاه للناس ربّ العالمين يومئذٍ ، وكان معترفاً بالمبدأ والمعاد ، عارفاً بأمر الرسالة ، اللائح على أساريره نورها ، الساكن في صلبه صاحبها ، وللشهرستاني حول سيّدنا عبد المطّلب كلمة ذكرنا جملة منها في الجزء السابع (ص ٣٤٦ و ٣٥٣) فراجع الملل والنحل (١) والكتب التي ألّفها السيوطي (٢) في آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تعرف جليّة الحال ، فقول أبي طالب عليه‌السلام : على ملّة عبد المطّلب. صريح في أنّه معتنق تلكم المبادئ كلّها ، أضف إلى ذلك نصوصه المتواصلة طيلة حياته على صحّة الدعوة المحمديّة.

٨ ـ نظرة في الثانية من الآيتين ، ولعلّك عرفت بطلان دلالتها على ما ارتأوه من كفر شيخ الأباطح ـ سلام الله عليه ـ من بعض ما ذكرناه من الوجوه ، فهلمّ معي لننظر فيها خاصّة وفيما جاء فيها بمفردها ، فنقول :

أوّلاً : إنّ هذه الآية متوسّطة بين آيٍ تصف المؤمنين ، وأخرى يذكر سبحانه فيها الذين لم يؤمنوا حذار أن يتخطّفوا من مكة المعظّمة ، فمقتضى سياق الآيات أنّه سبحانه لم يرد بهذه الآية إلاّ بيان أنّ الذين اهتدوا من المذكورين قبلها لم تستند هدايتهم إلى دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وإنّما الاستناد الحقيقي إلى مشيئته وإرادته سبحانه على وجه لا ينتهي إلى الإلجاء بنحو من التوفيق ، كما أنّ استناد الإضلال إليه سبحانه بنحو من الخذلان ، وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيطاً في تبليغ الدعوة (فَإِنْ تَوَلَّوْا

__________________

(١) الملل والنحل : ٢ / ٢٤٩.

(٢) منها : مسالك الحنفا في والدَي المصطفى ، الدرج المنيفة في الآباء الشريفة ، المقامة السندسية في النسبة المصطفوية ، التعظيم والمنّة في أنّ أبوي رسول الله في الجنّة ، نشر العلمين في إحياء الأبوين ، السبل الجليّة في الآباء العليّة. (المؤلف)

٣٠

فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١). وفي الذكر الحكيم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢) ، كما أنّ إبليس اللعين يزيّن للعاصي عمله (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٣) ، (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) (٤) ، (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) (٥) (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٦) وقد جاء فيما أخرجه العقيلي (٧) وابن عدي (٨) وابن مردويه والديلمي (٩) وابن عساكر وابن النجّار عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت داعياً ومبلّغاً وليس إليّ من الهدى شيء ، وخلق إبليس مزيّناً وليس إليه من الضلالة شيء» (١٠).

فهذه الآية الكريمة كبقيّة ما جاء في الذكر الحكيم من إسناد كلّ مِن الهداية والضلال إليه سبحانه كقوله تعالى :

١ ـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) البقرة : ٢٧٢.

٢ ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) النحل : ٣٧.

__________________

(١) النور : ٥٤.

(٢) النمل : ٩١ ، ٩٢.

(٣) لقمان : ٢١.

(٤) العنكبوت : ٣٨ ، النمل : ٢٤.

(٥) المجادلة : ١٩.

(٦) محمد : ٢٥.

(٧) الضعفاء الكبير : ٢ / ٩ رقم ٤١٠.

(٨) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٣٩ رقم ٥٩٧.

(٩) الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ١١ ح ٢٠٩٤.

(١٠) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي ، الجامع الصغير للسيوطي [١ / ٤٨٧ ح ٣١٥٣]. (المؤلف)

٣١

٣ ـ (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الزخرف : ٤٠.

٤ ـ (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) النمل : ٨١.

٥ ـ (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) النساء : ٨٨.

٦ ـ (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) يونس : ٤٣.

٧ ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الكهف : ١٧.

٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) الرعد : ٢٧.

٩ ـ (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إبراهيم : ٤.

١٠ ـ (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) النحل : ٩٣.

إلى آيات كثيرة ممّا يدلّ على استناد الهداية والضلال إلى الله تعالى على وجه لا ينافي اختيار العبد فيهما ، ولذلك أُسندا إليه وإلى مشيئته أيضاً في آي أخرى كقوله تعالى :

١ ـ (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) يونس : ١٠٨.

٢ ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف : ٢٩.

٣ ـ (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) التكوير : ٢٧ ، ٢٨.

٤ ـ (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) الإسراء : ١٥.

٥ ـ (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) النمل : ٩٢.

٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) البقرة : ١٦.

٣٢

٧ ـ (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) الأعراف : ٣٠.

٨ ـ (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) القصص : ٨٥.

٩ ـ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) الإسراء : ٧.

١٠ ـ (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) آل عمران : ٢٠.

إلى آيات أخرى ، ولا مناقضة بين هذين الفريقين من الآي الكريمة بما قدّمناه وبما ثبت من صحّة إسناد الفعل إلى الباعث تارة وإلى المباشر المختار أخرى.

فآيتنا هذه صاحبة البحث والعنوان من الفريق الأوّل ، وقد سيق بيانها بعد آيات المؤمنين لإفادة ما أُريدت إفادته من لداتها ، ولبيان أنّ هؤلاء المذكورين من المهتدين هم على شاكلة غيرهم في إسناد هدايتهم إليه سبحانه ، فلا صلة لها بأيّ إنسان خاصّ أبي طالب أو غيره ، وإن ماشينا القوم على وجود الصلة بينها وبين أبي طالب عليه‌السلام فإنّها بمعونة سابقتها على إيمانه أدلّ. هكذا ينبغي أن تفسّر هذه الآية غير مكترث لما جاء حولها من التافهات ممّا سبق ويأتي.

وثانياً : إنّ ما رُوي فيها بمفردها كلّها مراسيل ، فإنّ منها : ما رواه عبد بن حميد ومسلم (١) والترمذي (٢) وغيرهم عن أبي هريرة رضى الله عنه عنه قال : لمّا حضرت وفاة أبي طالب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمّاه قل : لا اله إلاّ الله ، أشهد لك بها عند الله يوم القيامة ، فقال : لو لا أن تعيّرني قريش يقولون : ما حمله عليها إلاّ جزعه من الموت لأقررت بها عينك فأنزل الله عليه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية (٣).

كيف يرويه أبو هريرة وكان يوم وفاة أبي طالب شحّاذاً من متكفّفي دوس

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٨٤ ح ٤٢ كتاب الإيمان.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٣١٨ ح ٣١٨٨.

(٣) الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٨]. (المؤلف)

٣٣

باليمن الكفرة ، يسأل الناس إلحافاً ، ويكتنفه البؤس من جوانبه ، وما ألمّ بالإسلام إلاّ عام خيبر سنة سبع من الهجرة الشريفة باتّفاق من الجمهور؟ فأين كان هو من وفاة أبي طالب ، وما دار هنالك من الحديث؟ فإن صدق في روايته فهو راوٍ عمّن لم ينوّه باسمه ، وإن كان تدليس أبي هريرة قد اطّرد في موارد كثيرة ، روى أشياء ادّعى فيها المشاهدة أو دلّ عليها السياق لكنه لم يشاهد شيئاً منها ، ومن أراد الوقوف على هذه وغيرها من أمر أبي هريرة فليراجع كتاب أبو هريرة لسيّدنا المصلح الشريف الحجّة السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي حيّاه الله وبيّاه فقد جمع ذلك فأوعى.

ومنها : ما أخرجه ابن مردويه وغيره من طريق أبي سهل السريّ بن سهل بالإسناد عن عبد القدوس ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس قال : نزلت (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية ، في أبي طالب ألحّ عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسلم فأبى ، فأنزل الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي). الحديث (١).

أبو سهل السريّ أحد الكذّابين وضّاع كان يسرق الحديث كما مرّ في سلسلة الكذّابين (٥ / ٢٣١) ، وعبد القدوس أبو سعيد الدمشقي أحد الكذّابين كما أسلفناه في الجزء الخامس (ص ٢٣٨).

وظاهر هذه الرواية كسابقتها هو المشاهدة ، والأثبت على ما قاله ابن حجر في الإصابة (٢ / ٣٣١) : أنّ ابن عبّاس ولد قبل الهجرة بثلاث. فهو عند وفاة عمّه أبي طالب كان يرضع ثدي أُمّه فلا يسعه الحضور في ذلك المشهد.

وإن صدقت الرواية عنه ـ وأنّى تصدق؟ ـ فإنّ ابن عبّاس أسند ما يقوله إلى من لا نعرفه ، ولعلّ رواة السوء حذفوه لضعفه ، كما حذف غير واحد من المؤلّفين أبا سهل السريّ وعبد القدوس ونظراءهما من أسانيد هذه الأفائك ستراً على عللها.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٩].

٣٤

والقول الفصل : إنّ حبر الأُمّة لم يلهج بتلكم الخزاية ، وإن لهج بشيء من أمر ذلك المشهد عن أحد فأولى له أن يقول ما قاله أبوه من أنّه سمع أبا طالب يشهد بالشهادتين عند وفاته (١). أو يفوه بما أسلفناه عن ابن عمّه الأقدس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، أو يروي ما جاء عن ابن عمّه الطاهر أمير المؤمنين (٣) ، أليس ابن عبّاس راوي ما ثبت عنه من قول أبي طالب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرّ في (٧ / ٣٥٥) : قم يا سيّدي فتكلّم بما تحبّ وبلّغ رسالة ربّك فإنّك الصادق المصدّق؟

ومنها : ما أخرجه أبو سهل السري الكذّاب المذكور من طريق عبد القدوس الكذّاب أيضاً ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) : الآية. نزلت في أبي طالب عند موته ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رأسه وهو يقول : يا عم قل لا إله إلاّ الله أشفع لك بها يوم القيامة ، قال أبو طالب : لا تعيّرني نساء قريش بعدي أنّي جزعت عند موتي ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الحديث (٤).

لعلّ ابن عمر لا يدّعي في روايته الحضور في ذلك المحضر. وليس له أن يدّعي ذلك لأنّه كان وقتئذ ابن سبع سنين تقريباً ، فإنّ مولده كان بعد البعثة بثلاث (٥) ، ومن طبع الحال أنّ من هو بهذا السنّ لا يُطلق سراحه إلى ذلك المنتدى الرهيب ، والمسجّى فيه سيّد الأباطح ويلي أمره نبيّ العظمة ، ويحضره مشيخة قريش ، فلا بدّ من أنّه سمع من يقول ذلك ممّن حضر واطّلع ، ولا يخلو أن يكون ذلك إمّا ولد المتوفّى وهو مولانا أمير المؤمنين والثابت عنه ما مرّ في الجزء السابع ، أو عن بقيّة أولاده من طالب وجعفر

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في صفحة : ٣٧٠ من الجزء السابع. (المؤلف)

(٢) راجع ما مرّ في صفحة ٣٧٣ من الجزء السابع. (المؤلف)

(٣) راجع ما سبق في صفحة ٣٧٩ من الجزء السابع. (المؤلف)

(٤) الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٩]. (المؤلف)

(٥) الإصابة : ٢ / ٣٤٧ [رقم ٤٨٣٤]. (المؤلف)

٣٥

وعقيل ولم ينبسوا في هذا الأمر ببنت شفة ، أو عن أخيه العبّاس وقد صحّ عنه ما أسلفناه في الجزء السابع ، أو عن ابن أخيه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد عرفت قوله فيه فيما مرّ ، فممّن أخذ ابن عمر؟ ولما ذا حذف اسمه؟ ولما شرّك أبا جهل مع أبي طالب في إحدى روايتيه ، ولم يقل به أحد غيره؟ وهل في الرواة من تقوّل عليه كلّ ذلك؟ فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.

واعطف على هذه ما عزوه إلى مجاهد وقتادة في شأن نزول الآية (١) ، فإنّ مستند أقوالهما إمّا هذه الروايات أو أنّهما سمعاها من أُناس مجهولين ، فمراسيل كهذه لا يحتجّ بها على أمر خطير مثل تكفير أبي طالب بعد ثبوت إيمانه بما صَدَع به الصادع الكريم وتفانيه دونه والذبّ عنه بالبرهنة القاطعة.

ومن التفسير بالرأي والدعوى المجرّدة ما عن قتادة ومن يشاكله مرسلاً من تبعيض الآية بين أبي طالب والعبّاس ، فجعل صدرها لأبي طالب وذيلها للعبّاس (٢) الذي أسلم بعد نزول الآية بعدّة سنين كما هو المتسالم عليه عنه الجمهور.

وأنت تعرف بعد هذه كلّها قيمة قول الزجّاج : أجمع المسلمون على أنّها نزلت في أبي طالب. وما عقّبه به القرطبي من قوله : والصواب أن يقال : أجمع جلّ المفسّرين على أنّها نزلت في شأن أبي طالب (٣).

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) (٤)

__________________

(١) تاريخ ابن كثير : ٣ / ١٢٤ [٣ / ١٥٣]. (المؤلف)

(٢) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٩٩ [١٣ / ١٩٨] ، الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٩]. (المؤلف)

(٣) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٩٩ [١٣ / ١٩٨]. (المؤلف)

(٤) النساء : ٥٠.

٣٦

حديث الضحضاح

إلى هنا انتهى كلّ ما للقوم من نَبل تقلّه كنانة الأحقاد ، أو ذخيرة في علبة الضغائن رموا بها أبا طالب ، وقد أتينا عليها فجعلناها هباءً منثوراً ، ولم يبق لهم إلاّ رواية الضحضاح ، وما لأعداء أبي طالب حولها من مُكاء وتصدية ، وهي على ما يلي :

أخرج البخاري ومسلم من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الحارث قال : حدّثنا العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال : قلت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أغنيت عن عمّك فإنّه كان يحوطك ويغضب لك. قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل.

وفي لفظ آخر : قلت : يا رسول الله إنّ أبا طالب كان يحفظك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال : نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح.

ومن حديث الليث حدّثني ابن الهاد عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذُكر أبو طالب عنده فقال : لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.

وفي صحيح البخاري من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن الهاد نحوه ، غير أنّ فيه تغلي منه أمّ دماغه.

راجع (١) : صحيح البخاري في أبواب المناقب باب قصّة أبي طالب (٦ / ٣٣ ، ٣٤) ، وفي كتاب الأدب باب كنية المشرك (٩ / ٩٢) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٤٠٨ ح ٣٦٧٠ ، ص ١٤٠٩ ح ٣٦٧٢ و ٥ / ٢٢٩٣ ح ٥٨٥٥ ، ص ٢٤٠٠ ـ ٢٤٠١ ح ٦١٩٦ ، صحيح مسلم : ١ / ٢٤٧ ح ٣٥٧ كتاب الإيمان ، الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٤ ، مسند أحمد : ١ / ٣٣٩ ح ١٧٦٦ ، ص ٣٤٠ ح ١٧٧١ ، عيون الأثر : ١ / ١٧٢ ، البداية والنهاية : ٣ / ١٥٤.

٣٧

طبقات ابن سعد (١ / ١٠٦) طبعة مصر ، مسند أحمد (١ / ٢٠٦ ، ٢٠٧) ، عيون الأثر (١ / ١٣٢) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ١٢٥).

قال الأميني : نحن لا تروقنا المناقشة في الأسانيد لمكان سفيان الثوري وما مرّ فيه (ص ٤) من أنّه كان يدلّس عن الضعفاء ويكتب عن الكذّابين. ولا لمكان عبد الملك بن عمير اللخمي الكوفي الذي طال عمره وساء حفظه ، قال أبو حاتم (١) : ليس بحافظ تغيّر حفظه ، وقال أحمد (٢) : ضعيف ، وقال ابن معين (٣) مخلط ، وقال ابن خراش : كان شعبة لا يرضاه ، وذكر الكوسج عن أحمد أنّه ضعّفه جدّا (٤).

ولا لمكان عبد العزيز الدراوردي ، قال أحمد بن حنبل : إذا حدّث من حفظه يهم ليس هو بشيء ، وإذا حدّث من كتابه فنعم ، وإذا حدّث جاء ببواطيل ، وقال أبو حاتم (٥) : لا يحتجّ به ، وقال أبو زرعة : سيِّئ الحفظ (٦).

كما أنّا لا نناقش بتضارب متون الرواية بأنّ قوله : لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، يعطي أنّ الضحضاح مؤجّل له إلى يوم القيامة بنحو من الرجاء المدلول عليه لقوله : لعلّه. وإنّ قوله : وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح. هو واضح في تعجيل الضحضاح له وثبوت الشفاعة قبل صدور الكلام.

لكن لنا هاهنا كلمة واحدة وهي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أناط شفاعته لأبي طالب عند وفاته بالشهادة بكلمة الإخلاص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عم قل لا إله إلاّ الله كلمة

__________________

(١) الجرح والتعديل : ٥ / ٣٦١ رقم ١٧٠٠.

(٢) العلل ومعرفة الرجال : ١ / ٢٤٩ رقم ٣٣٩.

(٣) التاريخ : ٢ / ٣٧٣.

(٤) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٥١ [٢ / ٦٦٠ رقم ٥٢٣٥]. (المؤلف)

(٥) الجرح والتعديل : ٥ / ٣٩٥ رقم ١٨٣٣.

(٦) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٢٨ [٢ / ٦٣٣ رقم ٥١٢٥]. (المؤلف)

٣٨

استحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة (١) ، كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أناطها بها في مطلق الشفاعة ، وجاء ذلك في أخبار كثيرة جمع جملة منها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (٢) (٤ / ١٥٠ ـ ١٥٨) منها في حديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : قيل لي : «سل فإنّ كلّ نبيّ قد سأل فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلاّ الله» فقال : رواه أحمد (٣) بإسناد صحيح.

ومنها : عن أبي ذرّ الغفاري مرفوعاً في حديث : «أُعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمّتي من لا يشرك بالله شيئاً» : فقال : رواه البزّار وإسناده جيّد إلاّ أنّ فيه انقطاعاً.

ومنها : عن عوف بن مالك الأشجعي في حديث : «إنّ شفاعتي لكلّ مسلم» فقال : رواه الطبراني (٤) بأسانيد أحدها جيّد ، وابن حبّان في صحيحه (٥) وفي لفظه :

«الشفاعة لمن مات لا يشرك بالله شيئاً».

ومنها : عن أنس في حديث : أوحى الله إلى جبريل عليه‌السلام أن اذهب إلى محمد فقل له : ارفع رأسك سل تُعط واشفع تُشفّع ـ إلى قوله ـ : أدخل من أُمّتك من خلق الله من شهد أن لا إله إلاّ الله يوماً واحداً مخلصاً ومات على ذلك.

فقال المنذري (٦) : رواه أحمد (٧) ورواته محتجّ بهم في الصحيح.

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٢ / ٣٣٦ [٢ / ٣٦٦ ح ٣٢٩١ ، وكذا في تلخيصه] صححه هو والذهبي في التلخيص ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٢٠ ، المواهب اللدنيّة : ١ / ٧١ [١ / ٢٦٢] ، كشف الغمّة للشعراني : ٢ / ١٤٤ ، كنز العمّال : ٧ / ١٢٨ [١٤ / ٣٧ ح ٣٧٨٧٤] ، شرح المواهب للزرقاني : ١ / ٢٩١. (المؤلف)

(٢) الترغيب والترهيب : ٤ / ٤٣٢ ـ ٤٣٧ ح ٩١ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٦ ، ٩٨.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٤٤٤ ح ٧٠٢٨.

(٤) المعجم الكبير : ١٨ / ٥٩ ح ١٠٧.

(٥) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ١٤ / ٣٧٦ ح ٦٤٦٣.

(٦) الترغيب والترهيب : ٤ / ٤٣٦ ، ح ٩٦.

(٧) مسند أحمد : ٣ / ٥٦١ ح ١١٧٤٣.

٣٩

ومنها : عن أبي هريرة مرفوعاً في حديث : «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ الله مخلصاً ، وأنّ محمداً رسول الله ، يصدّق لسانه قلبه وقلبه لسانه». رواه أحمد (١) وابن حبّان في صحيحه (٢).

ومنها : ما مرّ في (ص ١٣) من طريق أبي هريرة وابن عبّاس من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا ربّه واستأذنه أن يستغفر لأُمّه ويأذن له في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن.

وقال السهيلي في الروض الأُنف (٣) (١ / ١١٣) : وفي الصحيح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أستأذنت ربّي في زيارة قبر أمّي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي. وفي مسند البزّار من حديث بريدة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أراد أن يستغفر لأُمّه ضرب جبريل عليه‌السلام في صدره وقال له : لا تستغفر لمن كان مشركاً ، فرجع وهو حزين (٤).

فالمنفيّ في صورة انتفاء الشهادة جنس الشفاعة بمعنى عدمها كلّية لعدم أهليّة الكافر لها حتى في بعض مراتب العذاب ، فالشفاعة للتخفيف في العذاب من مراتبها المنفيّة ، كما أنّها نفيت كذلك في كتاب الله العزيز بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) فاطر : ٣٦.

وبقوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) النحل : ٨٥.

وبقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) البقرة : ١٦٢ ، آل عمران : ٨٨.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٣٢٣ ح ١٠٣٣٥.

(٢) الإحسان في تقريب ابن حبّان : ١٤ / ٣٨٤ ح ٦٤٦٦.

(٣) الروض الأُنف : ٢ / ١٨٥.

(٤) نحن لا نقيم لمثل هذه الرواية وزناً ولا كرامة ، غير أنّ خضوع القوم لها يلجئنا إلى الحجاج بها. (المؤلف)

٤٠