الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

الساعي ولا شيء معه منها ، بذلك جاءت الأحاديث مفسّرة. ثمّ ذكر أحاديث فقال (١) (ص ٥٩٧) : قال أبو عبيد : فكلّ هذه الأحاديث تثبت أنّ كلّ قوم أولى بصدقتهم حتى يستغنوا عنها ، ونرى استحقاقهم ذلك دون غيرهم إنّما جاءت به السنّة لحرمة الجوار وقُرب دارهم من دار الأغنياء. انتهى.

ألم يكن في قضاعة ذو حاجة فيُعطى؟ أو لم يكن في المدينة الطيّبة من فقراء المسلمين أحد فيقسّم ذلك المال الطائل بينهم بالسويّة؟ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) (٢). الآية. فتخصيصها للحَكَم لما ذا؟

وهلمّ معي إلى المسكين صاحب المال تُؤخذ منه الصدقات شاء أو أبى وهو يعلم مَصبّ تلكم الأموال ومدرّها من أيدي أولئك الجبابرة أو الجباة ـ نظراء الحكم ومروان والوليد وسعيد ـ وما يرتكبونه من فجور ومجون ، وبعد لم ينقطع من أذنه صدى ما ارتكبه خالد بن الوليد سيف .. مع مالك بن نويرة وحليلته وذويه وما يملكه ، وكان يسمع من وحي الكتاب قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٣) ، فهل يرى المسكين أنّ هذا الأخذ يطهّره ويزكّيه؟ لا حكم إلاّ لله.

نعم ، يقول المغيرة بن شعبة ـ زاني ثقيف ـ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم وعليهم حسابهم (٤) ويقول ابن عمر : ادفعوها إليهم وإن شربوا بها الخمر. ويقول : ادفعها إلى الأمراء وإن تمزّعوا بها لحوم الكلاب على موائدهم (٥).

نحن لا نقيم لأمثال هذه الآراء وزناً ، ولا أحسب أنّ الباحث يقدّر لها قيمة.

__________________

(١) الأموال : ص ٧١١ ح ١٩١٦.

(٢) التوبة : ٦٠.

(٣) التوبة : ١٠٣.

(٤) سنن البيهقي : ٤ / ١١٥. (المؤلف)

(٥) سنن البيهقي : ٤ / ١١٥ ، الأموال لأبي عبيد : ص ٥٧٠ [ص ٦٨١ ح ١٧٩٩]. (المؤلف)

٣٦١

فإنّها ولائد ظنون مجرّدة ، وقد جاء في أولئك الأُمراء بإسناد صحّحه الحاكم والذهبي من طريق جابر بن عبد الله قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكعب بن عجرة : «أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء». قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال : «أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنّون بسنّتي ، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منّي ولست منهم ، ولا يردون عليّ (١) حوضي ، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك منّي وأنا منهم وسيردون على حوضي» (٢).

فإعطاء الصدقات لأولئك الأمراء من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان والله تعالى يقول : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٣).

ثم إنّ الصدقات كضرائب ماليّة في أموال الأغنياء لإعاشة الضعفاء من الأُمّة. قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الله عزّ وجلّ فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي الفقراء ، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء ، وحقّ على الله تبارك وتعالى أن يحاسبهم ويعذّبهم». الأموال لأبي عبيد (٤) (ص ٥٩٥) ، المحلّى لابن حزم (٦ / ١٥٨) ، وأخرجه الخطيب في تاريخه (٥ / ٣٠٨) من طريق عليّ مرفوعاً.

وفي لفظ : «إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غنيّ ، والله سائلهم عن ذلك» نهج البلاغة (٥) (٢ / ٢١٤).

هذا هو مجرى الصدقات في الشريعة المطهّرة ، وهو الذي يطهّر صاحب المال

__________________

(١) في المصدر : على.

(٢) مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٢٢ [٤ / ٤٦٨ ح ٨٣٠٢ وكذا في التلخيص]. (المؤلف)

(٣) المائدة : ٢.

(٤) الأموال : ص ٧٠٩ ح ١٩١٠.

(٥) نهج البلاغة : ص ٥٣٣ رقم ٣٢٨.

٣٦٢

ويُزكّيه ، ويكتسح عن المجتمع معرّة الآراء الفاسدة من الفقراء ، المقلقة للسلام والمعكّرة لصفو الحياة.

ثمّ الخليفة يدّعي (١) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده ردّ الحكم بعد أن فاوضه في ذلك ، إن كان هذا الوعد صحيحاً فلِم لَم يعلم به أحد غيره؟ ولا عرفه الشيخان وهلاّ رواه لهما حين كلّمهما في ردّه فجبهاه بما عرفت؟ أو أنّهما لم يثقا بتلك الرواية؟ فهذه مشكلة أخرى. أو أنّهما صدّقاه؟ غير أنّهما رأيا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده أن يردّه هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يردّه ، ولعلّ المصلحة الواقعيّة أو الظروف لم تساعده على إنجاز الوعد حتى قضى نحبه ، فمن اين عرف الترخيص له في ردّه؟ ولو كانت هناك شبهة رخصة؟ لعمل بها الشيخان حين فاوضهما هو في ذلك ، لكنّهما ما عرفا الشبهة ولا علما تلميحاً للرخصة بل رأياه عقدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تنحلّ ، وفي الملل والنحل للشهرستاني (٢) (١ / ٢٥) : فما أجابا إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً. انتهى. ومن هنا رأى ابن عبد ربّه في العقد ، وأبو الفدا في تاريخه (١ / ١٦٨) أنّ الحكم طريد رسول الله وطريد أبي بكر وعمر أيضاً ، وكذلك الصحابة كلّهم ما عرفوا مساغاً لردّ الرجل وأبنائه ، وإلاّ لما نقموا به عليه ولعذروه على ما ارتكبه وفيهم من لا تخفى عليه مواعيد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وللخليفة معذرة أخرى ، قال ابن عبد ربّه في العقد الفريد (٣) (٢ / ٢٧٢) : لمّا ردّ عثمان الحَكَم طريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطريد أبي بكر وعمر إلى المدينة تكلّم الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس منّي؟ إنّي وصلت رحماً وقرّيت عيناً. انتهى. ونحن لا نخدش العواطف بتحليل كلمة الخليفة هذه ، ولا نفصّل القول في مغزاها وإنّما نمرُّ به

__________________

(١) الأنساب للبلاذري : ٥ / ٢٧ ، الرياض النضرة : ٢ / ١٤٢ [٣ / ٨٠] ، مرآة الجنان لليافعي : ١ / ٨٥ ، الصواعق : ص ٦٨ [ص ١١٣] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٨٦ [٢ / ٧٧]. (المؤلف)

(٢) الملل والنحل : ١ / ٣٢.

(٣) العقد الفريد : ٤ / ١١٨.

٣٦٣

كراماً ، وأنت إذا عرفت الحَكَم وما ولد ، فعلمت أنّ ردّهم إلى المدينة المشرّفة وتولّيهم على الأُمور ، وتسليطهم على ناموس الإسلام ، واتّخاذ الحمى لهم كما مرّ (ص ٢٣٥) جناية كبيرة على الأُمّة لا تُغتفر ، ولا تقرّ بها قطُّ عين.

ـ ٣٢ ـ

أيادي الخليفة عند مروان

أعطى مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عمّه وصهره من ابنته أُمّ أبان خُمس غنائم إفريقية وهو خمسمائة ألف دينار ، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن حنبل الجمحي الكندي مخاطباً الخليفة :

سأحلف بالله جهد اليمي

ـن (١) ما ترك الله أمراً سُدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلي لَكَ (٢) أو تبتلى

فإنَّ الأمينين قد بيّنا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهماً غيلةً

وما جعلا درهماً في الهوى

دعوت اللعينَ فأدنيتَهُ

خلافاً لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروانَ خمس العبا

د ظُلماً لهم وحميت الحمى (٣)

هكذا رواه ابن قتيبة في المعارف (٤) (ص ٨٤) ، وأبو الفداء في تاريخه (١ / ١٦٨) ، وذكر البلاذري الأبيات في الأنساب (٥ / ٣٨) ونسبها إلى أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي الخزرجي الذي منع أن يدفن عثمان بالبقيع ، وإليك لفظها :

__________________

(١) في الطبعة المعتمدة لدينا من المعارف : أحلف بالله ربِّ الأنام.

(٢) في المعتمدة : نبتلى بك.

(٣) في المعتمدة ورد الشطر الثاني هكذا : فهيهات شأوك ممن سعى.

(٤) المعارف : ص ١٩٥.

٣٦٤

أُقسمُ باللهِ ربِّ العبا

د ما ترك الله خلقاً سُدى

دعوتَ اللعينَ فأدنيته

خلافاً لسنّة من قد مضى

قال : يعني الحكَم والد مروان.

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلماً لهم وحميت الحمى

ومالٌ أتاك به الأشعريُ

من الفيء أنهيته من ترى

فأمّا الأمينان إذ بيّنا

منار الطريق عليه الصُوى

فلم يأخذا درهماً غيلةً

ولم يصرفا درهماً في هوى

وذكرها ابن عبد ربّه في العقد الفريد (١) (٢ / ٢٦١) ونسبها إلى عبد الرحمن ، وروى البلاذري من طريق عبد الله بن الزبير أنّه قال : أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم. وفي رواية أبي مخنف : فابتاع الخمس بمائتي ألف دينار فكلّم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان (٢).

وفي رواية الواقدي كما ذكره ابن كثير : صالحه بطريقها على ألفي ألف دينار وعشرين ألف دينار ، فأطلقها كلّها عثمان في يوم واحد لآل الحكَم ويقال : لآل مروان (٣)

وفي رواية الطبري عن الواقدي ، عن أُسامة بن زيد ، عن ابن كعب قال : لمّا وجّه عثمان عبد الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جُرجير ألفي

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٠٣.

(٢) الأنساب : ٥ / ٢٧ ، ٢٨. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٥٢ [٧ / ١٧٠ حوادث سنة ٢٧ ه‍]. لا يخفى على القارئ تحريف ابن كثير رواية الواقدي ، والصحيح ما ذكره الطبري عنه. (المؤلف)

٣٦٥

ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، فبعث ملك الروم رسولاً وأمره أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار كما أخذ منهم عبد الله بن سعد. إلى أن قال : كان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم. قلت : أو لمروان؟ قال : لا أدري. تاريخ الطبري (١) (٥ / ٥٠).

وقال ابن الأثير في الكامل (٢) (٣ / ٣٨) : وحُمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان ، وكان هذا ممّا أُخذ عليه ، وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية ، فإنّ بعض الناس يقول : أعطى عثمان خمس إفريقية عبد الله بن سعد. وبعضهم يقول : أعطاه مروان بن الحكم ، وظهر بهذا أنّه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى ، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية. والله أعلم.

وروى البلاذري وابن سعد : أنّ عثمان كتب لمروان بخمس مصر وأعطى أقرباءه المال ، وتأوّل في ذلك الصلة التي أمر الله بها ، واتّخذ الأموال واستسلف من بيت المال وقال : إنّ أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما ، وإنّي أخذته فقسّمته في أقربائي. فأنكر الناس عليه ذلك (٣).

وأخرج البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٨) من طريق الواقدي عن أُمّ بكر بنت المسور قالت : لمّا بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه وكان المسور فيمن دعا ، فقال مروان وهو يحدّثهم : والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهماً فما فوقه. فقال المسور : لو أكلت طعامك وسكتّ لكان خيراً لك ، لقد غزوت معنا إفريقية وإنّك لأقلّنا مالاً ورقيقاً وأعواناً وأخفّنا ثقلاً ، فأعطاك ابن عفّان خمس

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٥٦ حوادث سنة ٢٧ ه‍.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٣٧ حوادث سنة ٢٧ ه‍.

(٣) طبقات ابن سعد : ٣ / ٤٤ طبع ليدن [٣ / ٦٤] ، الأنساب للبلاذري : ٥ / ٢٥. (المؤلف)

٣٦٦

إفريقية وعُمّلت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين. فشكاه مروان إلى عروة وقال : يغلظ لي وأنا له مكرمٌ متّقٍ.

وقال ابن أبي الحديد في الشرح (١) (١ / ٦٧) : أمر ـ عثمان ـ لمروان بمائة ألف من بيت المال وقد زوّجه ابنته أُمّ أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وصلت رحمي؟ قال : لا. ولكن أبكي لأنّي أظنُّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو (٢) أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً. فقال : ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنّا سنجد غيرك ، وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسّمها كلّها في بني أُميّة.

وقال الحلبي في السيرة (٣) (٢ / ٨٧) : وكان من جملة ما انتقم به على عثمان رضى الله عنه أنّه أعطى ابن عمّه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية.

مروان وما مروان؟

مرّ في صفحة (٢٤٦) ما صحّ من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبيه وعلى من يخرج من صلبه. وأسلفنا ما صحّ من قول عائشة لمروان : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباك فأنت فضض من لعنة الله.

وأخرج الحاكم في المستدرك (٤) (٤ / ٤٧٩) من طريق عبد الرحمن بن عوف وصحّحه أنه قال : كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلاّ أُتي به إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [فدعاله] ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٩ خطبة ٣.

(٢) في المصدر : والله لو.

(٣) السيرة الحلبية : ٢ / ٧٨.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٦ ح ٨٤٧٧. وما بين المعقوفين منه.

٣٦٧

فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال : هو الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون.

وذكره الدميري في حياة الحيوان (١) (٢ / ٣٩٩) ، وابن حجر في الصواعق (٢) (ص ١٠٨) ، والحلبي في السيرة (٣) (١ / ٣٣٧). ولعلّ معاوية أشار إليه بقوله لمروان : يا ابن الوزغ لست هناك. فيما ذكره ابن أبي الحديد (٤) (٢ / ٥٦).

وأخرج ابن النجيب من طريق جبير بن مطعم قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمرّ الحكم بن أبي العاص فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويل لأُمّتي ممّا في صلب هذا» (٥).

وفي شرح ابن أبي الحديد (٦) (٢ / ٥٥) نقلاً عن الاستيعاب (٧) : نظر عليّ عليه‌السلام يوماً إلى مروان فقال له : «ويل لك وويل لأُمّة محمد منك ومن بيتك إذا شاب صدغاك». وفي لفظ ابن الأثير : «ويلك وويل أُمّة محمد منك ومن بنيك». أُسد الغابة (٨) (٤ / ٣٤٨). ورواه ابن عساكر بلفظ آخر كما في كنز العمّال (٩) (٦ / ٩١).

وقال مولانا أمير المؤمنين يوم قال له الحسنان السبطان : «يبايعك مروان يا أمير المؤمنين» : «أوَلم يبايعني قبل قتل (١٠) عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنّها كفّ

__________________

(١) حياة الحيوان : ٢ / ٤٢٢.

(٢) الصواعق المحرقة : ص ١٨١.

(٣) السيرة الحلبية : ١ / ٣١٧.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٥٥ خطبة ٧٢.

(٥) أُسد الغابة : ٢ / ٣٤ [٢ / ٣٧ رقم ١٢١٧] ، الإصابة : ١ / ٣٤٦ [رقم ١٧٨١] ، السيرة الحلبية : ١ / ٣٣٧ [١ / ٣١٧] ، كنز العمّال : ٦ / ٤٠ [١١ / ١٦٧ ح ٣١٠٦٦]. (المؤلف)

(٦) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٥٠ خطبة ٧٢.

(٧) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٣٨٨ رقم ٢٣٧٠.

(٨) أُسد الغابة : ٥ / ١٤٥ رقم ٤٨٤١.

(٩) كنز العمّال : ١١ / ١٦٧ ح ٣١٠٦٧.

(١٠) في نهج البلاغة وشرحه : بعد قتل ...

٣٦٨

يهوديّة لو بايعني بيده لغدر بسبّته ، أما إنّ له إمرةً كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة (١) وستلقى الأُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر». نهج البلاغة (٢).

قال ابن أبي الحديد في الشرح (٣) (٢ / ٥٣) : قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة ورويت في زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة وهي قوله عليه‌السلام في مروان : «يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وإنّ له إمرة» الى آخره.

هذه الزيادة أخذها ابن أبي الحديد من ابن سعد ذكرها في طبقاته (٤) (٥ / ٣٠) طبع ليدن قال : قال عليُّ بن أبي طالب يوماً ونظر إليه : «ليحملنّ راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه ، وله إمرة كلحسة الكلب أنفه». انتهى. وهذا الحديث كما ترى غير ما في نهج البلاغة وليس كما حسبه ابن أبي الحديد زيادة فيه ، ولا توجد تلك الزيادة في رواية السبط أيضاً في تذكرته (٥) (ص ٤٥). والله العالم.

قال البلاذري في الأنساب (٥ / ١٢٦) : كان مروان يلقّب خيط باطل (٦) لدقّته وطوله شبه الخيط الأبيض الذي يُرى في الشمس ، فقال الشاعر ـ ويقال : إنّه عبد الرحمن بن الحَكم أخوه ـ :

لعمرك ما أدري وإنِّي لسائلٌ

حليلة مضروب القفا كيف يصنعُ (٧)

__________________

(١) هم بنو عبد الملك : الوليد ، سليمان ، يزيد ، هشام. كذا فسّره الناس وعند ابن أبي الحديد [٦ / ١٤٧ ـ ١٤٨ خطبة ٧٢] هم أولاد مروان : عبد الملك ، بشر ، محمد ، عبد العزيز. (المؤلف)

(٢) نهج البلاغة : ص ١٠٢ رقم ٧٣.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٤٨ ، خطبة ٧٢.

(٤) الطبقات الكبرى : ٥ / ٤٣.

(٥) تذكرة الخواص : ص ٧٨.

(٦) أنظر ثمار القلوب : ص ٧٦ رقم ١٠٣.

(٧) أشار بقوله : مضروب القفا إلى ما وقع يوم الدار ، فإنّ مروان ضُرِب يوم ذاك على قفاه كما يأتي حديثه في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

٣٦٩

لحى الله قوماً أمّروا خيطَ باطلٍ

على الناس يعطي ما يشاء ويمنعُ (١)

وذكر البلاذري في الأنساب (٥ / ١٤٤) في مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان ليحيى بن سعيد أخي الأشدق قوله :

غدرتم بعمروٍ يا بني خيط باطل

ومثلكمُ يبني البيوتَ على الغَدرِ

وذكر ابن أبي الحديد في شرحه (٢) (٢ / ٥٥) لعبد الرحمن بن الحكَم في أخيه قوله

وهبت نصيبي منك يا مروَ (٣) كلّه

لعمرو ومروان الطويل وخالدِ

وربّ ابن أُمّ زائدٍ غير ناقص

وأنت ابن أُمّ ناقصٍ غير زائدِ

ومن شعر مالك بن الريب ـ المترجم في الشعر والشعراء لابن قتيبة (٤) ـ يهجو مروان قوله :

لعمرك ما مروانُ يقضي أُمورَنا

ولكنّما تقضي لنا بنتُ جعفرِ (٥)

فيا ليتها كانت علينا أميرةً

وليتك يا مروانُ أمسيت ذا حِرِ

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ٧٢) من طريق أبي يحيى قال : كنت بين الحسن والحسين ومروان يتسابّان فجعل الحسن يسكّت الحسين ، فقال مروان : أهل بيت ملعونون. فغضب الحسن وقال : «قلت أهل بيت ملعونون ، فو الله لقد لعنك الله

__________________

(١) ورواهما وما قبلهما ابن الأثير في أسد الغابة : ٤ / ٣٤٨ [٥ / ١٤٥ رقم ٤٨٤١]. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٥١ خطبة ٧٢.

(٣) هو مرخّم مروان.

(٤) الشعر والشعراء : ص ٢٢١.

(٥) بنت جعفر هي الهاشمية الشهيرة بأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب زوجة عبد الملك بن مروان. ثمّ طلّقها فتزوّجها عليّ بن عبد الله بن عباس. (المؤلف)

٣٧٠

وأنت في صلب أبيك». أخرجه (١) الطبراني وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٦ / ٩٠) نقلاً عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر.

إنّ الذي يستشفّه المنقّب من سيرة مروان وأعماله أنّه ما كان يقيم لنواميس الدين الحنيف وزناً ، وإنّما كان يلحظها كسياسات زمنيّة فلا يبالي بإبطال شيء منها ، أو تبديله إلى آخر حسب ما تقتضيه ظروفه وتستدعيه أحواله ، وإليك من شواهد ذلك عظائم ، وعليها فقس ما لم نذكره :

١ ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (٢) (٤ / ٩٤) من طريق عباد بن عبد الله ابن الزبير قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا ، قدمنا معه مكة قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ثمّ انصرف إلى دار الندوة ، قال : وكان عثمان حين أتمّ الصلاة فإذا قدم مكة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة ، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمنى أتمّ الصلاة حتى يخرج من مكة ، فلمّا صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به. فقال لهما : وما ذاك؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ قال : فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر رضى الله عنهما. قالا : فإنّ ابن عمّك قد أتمّها وإنّ خلافك إيّاه له عيب. قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٦) نقلاً عن أحمد والطبراني فقال : رجال أحمد موثّقون.

فإذا كان لعب مروان وخليفة وقته معاوية بالصلاة التي هي عماد الدين إلى

__________________

(١) المعجم الكبير : ٣ / ٨٥ ح ٢٧٤٠ ، كنز العمّال : ١١ / ٣٥٧ ح ٣١٧٣٠ ، مسند أبي يعلى : ١٢ / ١٣٥ ح ٦٧٦٤ ، مختصر تاريخ دمشق : ٢٤ / ١٨١.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٥٨ ح ١٦٤١٥.

٣٧١

درجة يقدّم فيها التحفّظ على عثمان في عمله الشاذّ عن الكتاب والسنّة على العمل بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أخضع معاوية لما ارتآه من الرأي الشائن في صلاة العصر ، فما ذا يكون عبثهما بالدين فيما هو دون الصلاة من الأحكام؟

وإن تعجب فعجب أنّه يَعدُّ مخالفة عثمان في رأيه الخاصّ له عيباً عليه يغيّر لأجله الحكم الدينيّ الثابت ، ولا يَعدّ مخالفة رسول الله وما جاء به محظورة تترك لأجلها الأباطيل والأحداث!

ومن العجيب أيضاً أن يُنهى معاوية عن مخالفة عثمان ، ولا يُنهى من خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مخالفته. أهؤلاء من خير أُمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله؟ وأعجب من كلّ ذلك حسبان أُولئك العابثين بدين الله عدولاً وهذه سيرتهم ومبلغهم من الدين الحنيف.

٢ ـ أخرج البخاري (١) من طريق أبي سعيد الخدري قال : خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فلمّا أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي ، فجبذت بثوبه فجبذني ، فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتم والله. فقال : أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت : ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم. فقال : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. وفي لفظ الشافعي : يا أبا سعيد تُرك الذي تعلم.

أترى مروان كيف يغيّر السنّة؟ وكيف يفوه ملء فمه بما لا يسوغ لمسلم أن يتكلّم به؟ كأنّ ذلك مفوّضٌ إليه ، وكأنّ تركها المنبعث عن التجرّي على الله ورسوله يكون مبيحاً لإدامة الترك ، لما ذا ذهب ما كان يعلمه أبو سعيد من السنّة؟ ولما ذا تُرك؟

نعم ؛ كان لمروان في المقام ملحوظتان : الأُولى اقتصاصه أثر ابن عمّه عثمان ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٢٦ ح ٩١٣.

٣٧٢

والآخر أنّه كان يقع في الخطبة في مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ويسبُّه ويلعنه فتتفرّق عنه الناس لذلك ، فقدّمها على الصلاة لئلاّ يجفلوا فيسمعوا العظائم ويصيخوا إلى ما يلفظ به من كبائر وموبقات. راجع تفصيلاً أسلفناه صفحة (١٦٤ ـ ١٦٧) من هذا الجزء.

ويستظهر ممّا سبق (ص ١٦٦) من كلام عبد الله بن الزبير : كلُّ سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غيّرت حتى الصلاة. إنّ تسرّب التغيير ولعب الأهواء بالسنن لم يكن مقصوراً على الخطبة قبل الصلاة فحسب ، وإنّما تطرّق ذلك إلى كثير من الأحكام كما يجده الباحث السابر أغوار السير والحديث.

٣ ـ سبّه لمولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وكان الرجل كما قال أُسامة بن زيد فاحشاً متفحّشاً (١).

الحجر الأساسي في ذلك هو عثمان جرّأ الوزغ اللعين على أمير المؤمنين يوم قال له : أقد مروان من نفسك. قال عليه‌السلام : «ممّ ذا؟» قال : من شتمه وجذب راحلته. وقال له : لِمَ لا يشتمك؟ كأنّك خير منه! (٢) وعلاّه معاوية بكلّ ما عنده من حول وطول ، لكن مروان تبعه شرّ متابعة ، ولم يأل جهداً في تثبيت ذلك كلّما أقلّته صهوة المنبر ، أو وقف على منصّة خطابة ، ولم يزل مجدّا في ذلك وحاضّا عليه حتى عاد مطّرداً بعد كلّ جمعة وجماعة في أيّ حاضرة يتولّى أمرها ، وبين عمّاله يوم تولّى خلافة هي كلعقة الكلب أنفه تسعة أشهر كما وصفها مولانا أمير المؤمنين ، ولم تكن هذه السيرة السيّئة إلاّ لسياسة وقتيّة ، وقد أعرب عمّا في سريرته بقوله ، فيما أخرجه الدارقطني من طريقه عنه ، قال : ما كان أحد أدفع عن عثمان من عليّ. فقيل له : ما لكم تسبُّونه على المنابر؟ قال : إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك (٣).

__________________

(١) الاستيعاب في ترجمة أُسامة [القسم الأول / ٧٧ رقم ٢١]. (المؤلف)

(٢) يأتي حديثه تفصيلاً في قصة أبي ذر في هذا الجزء إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٣) الصواعق لابن حجر : ص ٣٣ [ص ٥٥]. (المؤلف)

٣٧٣

قال ابن حجر في تطهير الجنان (١) هامش الصواعق (ص ١٤٢) وبسندٍ رجاله ثقات : إنّ مروان لمّا ولي المدينة كان يسبُّ عليّا على المنبر كلّ جمعة ، ثمّ ولي بعده سعيد بن العاص فكان لا يسبّ ، ثمّ أُعيد مروان فعاد للسبّ ، وكان الحسن يعلم ذلك فيسكت ولا يدخل المسجد إلاّ عند الإقامة ، فلم يرض بذلك مروان حتى أرسل للحسن في بيته بالسبّ البليغ لأبيه وله ، ومنه : ما وجدت مثلك إلاّ مثل البغلة يقال لها : من أبوك؟ فتقول : أبي (٢) الفرس. فقال للرسول : «ارجع إليه فقل له : والله لا أمحو عنك شيئاً ممّا قلت بأنّي أسبّك ، ولكن موعدي وموعدك الله ، فإن كنت كاذباً فالله أشدُّ نقمة ، قد أكرم جدّي أن يكون مثلي مثل البغلة». الى آخره.

ولم يختلف من المسلمين اثنان في أنّ سبّ الإمام ولعنه من الموبقات ، وإذا صحفَ ما قاله ابن معين (٣) كما حكاه عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب (٤) (١ / ٥٠٩) من أنّ كلّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دجّال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. انتهى.

فما قيمة مروان عندئذٍ؟ ونحن مهما تنازلنا فإنّا لا نتنازل عن أنّ مولانا أمير المؤمنين كأحد الصحابة الذين يشملهم حكم كلّ من سبّهم ولعنهم ، فكيف ونحن نرى أنّه عليه‌السلام سيّد الصحابة على الإطلاق ، وسيّد الأوصياء ، وسيّد من مضى ومن غبر عدا ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو نفس النبيّ الأقدس بنصّ الذكر الحكيم ، فلعنه وسبُّه لعنه وسبُّه وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سبّ عليّا فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله» (٥).

__________________

(١) تطهير الجنان : ص ٦٣.

(٢) كذا في المصدر.

(٣) التاريخ : ٢ / ٦٦.

(٤) تهذيب التهذيب : ١ / ٤٤٧.

(٥) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٢١ [٣ / ١٣١ ح ٤٦١٦] ، مسند أحمد : ٦ / ٣٢٣ [٧ / ٤٥٥ ح ٢٦٢٠٨] ، وسيوافيك تفصيل طرقه. (المؤلف)

٣٧٤

وكان مروان يتربّص الدوائر على آل بيت العصمة والقداسة ، ويغتنم الفرص في إيذائهم. قال ابن عساكر في تاريخه (١) (٤ / ٢٢٧) : أبى مروان أن يُدفن الحسن في حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : ما كنت لأدع ابن أبي تراب يُدفن مع رسول الله وقد دفن عثمان بالبقيع. ومروان يومئذٍ معزول يريد أن يرضي معاوية بذلك ، فلم يزل عدوّا لبني هاشم حتى مات. انتهى.

أيّ خليفة هذا يُجلب رضاه بإيذاء عترة رسول الله؟ ومن أولى بالدفن في الحجرة الشريفة من السبط الحسن الزكيّ؟ وبأيّ كتاب وبأيّة سنّة وبأيّ حقّ ثابت كان لعثمان أن يدفن فيها؟ ومن جرّاء ذلك الضغن الدفين على بني هاشم ، كان ابن الحكم يحثُّ ابن عمر على الخلافة والقتال دونها. أخرج أبو عمر من طريق الماجشون وغيره : أنّ مروان دخل في نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قُتل عثمان رضى الله عنه فعرضوا عليه أن يبايعوا له قال : وكيف لي بالناس؟ قال : تقاتلهم ونقاتلهم معك. فقال : والله لو اجتمع عليّ أهل الأرض إلاّ فدك ما قاتلتهم ، قال : فخرجوا من عنده ومروان يقول :

والمُلك بعد أبي ليلى لمن غلبا (٢)

لما ذا ترك الوزغ سنّة الانتخاب الدستوري في الخلافة بعد انتهاء الدور إلى سيّد العترة؟ وما الذي سوّغ له ذلك الخلاف؟ وحضّ ابن عمر على الأمر ، وتثبيطه على القتال دونه ، بعد إجماع الأُمّة وبيعتهم مولانا أمير المؤمنين؟ نعم : لم يكن من اليوم الأوّل هناك انتخاب صحيح قطُّ ، ورأي حرّ لأهل الحلّ والعقد ، أنّى كان ثمّ أنّى؟

والمُلك بعد أبي الزهرا لمن غلبا

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ١٣ / ٢٨٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٤١.

(٢) الاستيعاب ترجمة عبد الله بن عمر [القسم الثالث / ٩٥٢ رقم ١٦١٢]. (المؤلف)

٣٧٥

هذا مروان :

فهلمّ معي إلى الخليفة نستحفيه الخبر عن هذا الوزغ اللعين في صلب أبيه وبعد مولده بما ذا استباح إيواءه وتأمينه على الصدقات والطمأنينة إليه في المشورة في الصالح العام؟ ولِمَ استكتبه وضمّه إليه فاستولى عليه؟ (١) ونصب عينيه ما لهج به النبيُّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ناء به هو من المخاريق والمخزيات ، ومن واجب الخليفة تقديم الصلحاء من المؤمنين وإكبارهم شكراً لأعمالهم لا الاحتفال بأهل المجانة والخلاعة كمروان الذي يجب الإنكار والتقطيب تجاه عمله الشائن ، وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من رأى منكراً فاستطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (٢) ، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة».

وهب أنّ الخليفة تأوّل وأخطأ لكنّه ما هذا التبسّط إليه بكلّه؟ وتقريبه وهو ممّن يجب إقصاؤه ، وإيواؤه وهو ممّن يستحقُّ الطرد ، وتأمينه وهو أهل بأن يُتّهم ، ومنحه أجزل المنح من مال المسلمين ومن الواجب منعه ، وتسليطه على أعطيات المسلمين ومن المحتّم قطع يده عنها؟

أنا لا أعرف شيئاً من معاذير الخليفة في هذه المسائل ـ لعلّ لها عذراً وأنت تلومها ـ لكنّ المسلمين في يومه ما عذروه وهم الواقفون على الأمر من كَثب ، والمستشفّون للحقائق الممعنون فيها ، وكيف يعذره المسلمون ونصب أعينهم قوله عزّ من قائل : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى

__________________

(١) كما ذكره أبو عمر في الاستيعاب [القسم الثالث / ١٣٨٧ رقم ٢٣٧٠] ، وابن الأثير في أُسد الغابة : ٤ / ٣٤٨ [٥ / ١٤٤ ـ ١٤٥ رقم ٤٨٤١]. (المؤلف)

(٢) مرّ الحديث في : ص ١٦٥. (المؤلف)

٣٧٦

وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) (١)؟

أليس إعطاء الخمس لمروان اللعين خروجاً عن حكم القرآن؟ أليس عثمان هو الذي فاوض بنفسه ومعه جبير بن مطعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل لقومه نصيباً من الخمس فلم يجعل ونصّ على أنّ بني عبد شمس وبني نوفل لا نصيب لهم منه؟

قال جبير بن مطعم : لمّا قسم رسول الله سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطّلب (٢) أتيته أنا وعثمان فقلت : يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا يُنكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم ، أرأيت بني المطّلب أعطيتهم ومنعتنا؟ وإنّما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال : «إنّهم لم يفارقوني ـ أو : لم يفارقونا ـ في جاهليّة ولا إسلام وإنّما هم بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه ، ولم يقسم رسول الله لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس شيئاً كما قسم لبني هاشم وبني المطّلب (٣).

ومن العزيز على الله ورسوله أن يُعطى سهم ذوي قربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطريده ولعينه ، وقد منعه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقومه من الخمس ، فما عذر الخليفة في تزحزحه عن حكم الكتاب والسنّة ، وتفضيل رحمه أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين أوجب الله مودّتهم في الذكر الحكيم؟ أنا لا أدري. والله من ورائهم حسيب.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) المطّلب أخو هاشم لأبٍ وأمٍّ ، وأمّهما عاتكة بنت مرّة. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٢٨ [٣ / ١١٤٣ ح ٢٩٧١] ، الأموال : ص ٣٣١ [ص ٤١٥ ح ٨٤٣ ، ٨٤٤] ، سنن البيهقي : ٦ / ٣٤٠ ، ٣٤٢ ، سنن أبي داود : ٢ / ٣١ [٣ / ١٤٥ ـ ١٤٦ ح ٢٩٧٨ ـ ٢٩٨٠ ،] ، مسند أحمد : ٤ / ٨١ [٥ / ٣٦ ح ١٦٢٩٩] ، المحلّى : ٧ / ٣٢٨ [المسألة ٩٤٩]. (المؤلف)

٣٧٧

ـ ٣٣ ـ

إقطاع الخليفة وعطيّته الحارث

أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ـ أخا مروان وصهر الخليفة من ابنته عائشة ـ ثلاثمائة ألف درهم كما في أنساب البلاذري (٥ / ٥٢) ، وقال في (ص ٢٨) : قدمت إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم.

وقال ابن قتيبة في المعارف (١) (ص ٨٤) ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد (٢) (٢ / ٢٦١) ، وابن أبي الحديد في شرحه (٣) (١ / ٦٧) ، والراغب في المحاضرات (٤) (٢ / ٢١٢) : تصدّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزون (٥) على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم.

وقال الحلبي في السيرة (٦) (٢ / ٨٧) : أعطى الحارث عشر ما يباع في السوق ، أي سوق المدينة.

قال الأميني : لقد اصطنع الخليفة لهذا الرجل ثلاثاً لا أظنّه يخرج من عهدة النقد عليها :

١ ـ إعطاءه ثلاثمائة ألف ولم يكن من حرّ ماله.

__________________

(١) المعارف : ص ١٩٥.

(٢) العقد الفريد : ٤ / ١٠٣.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٨ خطبة ٣.

(٤) محاضرات الأدباء : مج ٢ / ح ٤ ص ٤٧٦.

(٥) في المعارف : مهزوز. وفي شرح ابن أبي الحديد : تهروز. وفي محاضرات الراغب : مهزور. [في طبعتي المعارف وشرح النهج المعتمدتين لدينا : مهزور] (المؤلف)

(٦) السيرة الحلبية : ٢ / ٧٨.

٣٧٨

٢ ـ هبته إبل الصدقة إيّاه وحده.

٣ ـ إقطاعه إيّاه ما تصدّق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عامّة المسلمين.

أنا لا أدري بما ذا استحقّ الرجل هذه الأعطيات الجزيلة؟ وكيف خصّ به ما تصدّق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كافّة أهل الإسلام ، وحرمه الباقون؟ ولو كان الخليفة موفّراً عليه بهذه الكمّية من مال أبيه لاستكثر ذلك نظراً إلى حاجة المسلمين وجيوشهم ومرابطيهم ، فكيف به وقد وهبه ما لا يملك من مال المسلمين ومن الأوقاف والصدقات؟ وما كان الرجل يعرف بشيء من الأعمال البارّة والمساعي المشكورة في سبيل الدعوة الإلهيّة وخدمة المجتمع الديني حتى يحتمل فيه استحقاق زيادة في عطائه ، وهب أنّا نجّزنا ذلك الاستحقاق لكنّه لا يعدو أن يكون مخرج الزيادة ممّا يسوغ للخليفة التصرّف فيه ، لا ممّا لا يجوز تبديله من إقطاع ما تصدّق به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعله وقفاً عامّا على المسلمين لا يخصُّ به واحد دون آخر ، (بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (١).

فلم يبق مبرّر لتلكم الصنائع أو الفجائع إلاّ الصهر بينه وبين الخليفة والنسب لأنّه ابن عمّه. ولك حقّ النظر في صنيع كلّ من الخليفتين : ١ ـ عثمان ؛ وقد علمت ما ارتكبه هاهنا وفي غيره. ٢ ـ مولانا عليّ عليه‌السلام ؛ يوم جاءه عقيل يستميحه صاعاً من البُرّ للتوسيع له ولعياله ممّا قدّر له في العطاء ، فأدّى عليه‌السلام ما هو حقُّ الأُخوّة والتربية ، ولا سيّما في مثل عقيل من الأشراف والأعاظم الذين يجب فيهم التهذيب أكثر من غيرهم ، فأدنى إليه الحديدة المحماة فتأوّه فقال عليه‌السلام : «تجزع من هذه وتعرّضني لنار جهنّم؟» (٢).

وفي رواية ابن الأثير في أُسد الغابة (٣) (٣ / ٤٢٣) من طريق سعد : أنّ عقيل بن

__________________

(١) البقرة : ١٨١.

(٢) الصواعق لابن حجر : ص ٧٩ [ص ١٣٢]. (المؤلف)

(٣) أُسد الغابة : ٤ / ٦٥ رقم ٣٧٢٦.

٣٧٩

أبي طالب لزمه دين فقدم على عليّ بن أبي طالب الكوفة فأنزله وأمر ابنه الحسن فكساه ، فلمّا أمسى دعا بعشائه فإذا خبز وملح وبقل ، فقال عقيل : ما هو إلاّ ما أرى. قال : «لا» قال : فتقضي ديني؟ قال : «وكم دينك؟» قال : أربعون ألفاً. قال : «ما هي عندي ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فإنّه أربعة آلاف فأدفعه إليك». فقال له عقيل : بيوت المال بيدك وأنت تسوّفني بعطائك؟ فقال : «أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها؟» إقرأ (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى).

ـ ٣٤ ـ

حظوة سعيد من عطيّة الخليفة

أعطى سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أُميّة مائة ألف درهم ، قال أبو مخنف والواقدي : أنكر الناس على عثمان إعطاءه سعيد بن العاص مائة ألف درهم ، فكلّمه عليّ والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف في ذلك ، فقال : إنّ له قرابةً ورحماً. قالوا : أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي ؛ فقالوا : فهديهما والله أحبُّ إلينا من هديك. فقال : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله (١).

قال الأميني : كان العاص أبو سعيد من جيران رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا يؤذونه ، وقتله مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم بدر مشركاً (٢).

وأما خَلْفه سعيد فهو ذلك الشابُّ المترف كما في رواية ابن سعد (٣) ورد الكوفة

__________________

(١) أنساب البلاذري : ٥ / ٢٨. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ١٨٥ طبع مصر [١ / ٢٠١] ، أُسد الغابة : ٢ / ٣١٠ [٢ / ٣٩١ رقم ٢٠٨٢]. (المؤلف)

(٣) الطبقات : ٥ / ٢١ طبع ليدن [٥ / ٣٢]. وننقل عنه كلّ ما يأتي في سعيد بن العاص ، وذكره ابن عساكر في تاريخه : ٦ / ١٣٥ [٧ / ٢٥٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٣٠٦]. (المؤلف)

٣٨٠