الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

الإحرام. وقال الشافعي : الإحرام من الميقات أفضل بناءً على أصله أنّ الإحرام ركن فيكون من أفعال الحجّ ، ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات ، لأنّ أفعال الحجّ لا يجوز تقديمها على أوقاتها (١) وتقديم الإحرام على الميقات جائز بالإجماع إذا كان في أشهر الحجّ ، والخلاف في الأفضليّة دون الجواز ، ولنا قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، وروي عن عليّ وابن مسعود أنّهما قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك. وروي عن أمّ سلمة ... إلى آخره.

وقال القرطبي في تفسيره (٢) (٢ / ٣٤٥) : أجمع أهل العلم على أنّ من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنّه محرم ، وإنّما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل ، كراهية أن يضيّق المرء على نفسه ما وسّع الله عليه ، وأن يتعرّض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلّهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ، لأنّه زاد ولم ينقص.

وقال الحافظ أبو زرعة في طرح التثريب (٥ / ٥ ـ ٦) : قد بيّنا أنّ معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريداً للنسك ، أمّا الإحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور ، ونقل غير واحد الإجماع عليه ، بل ذهب طائفة من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دُويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي ، ورجّحه من أصحابه القاضي أبو الطيّب والروياني والغزالي والرافعي وهو مذهب أبي حنيفة ، وروي عن عمر وعليّ أنّهما قالا في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك. وقال ابن المنذر : ثبت أنّ ابن عمر أهلّ من إيلياء يعني بيت المقدس ، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. انتهى. لكن الأصحّ عند النووي (٣) من

__________________

(١) لا صلة بين ركنيّة الإحرام وكونه من أفعال الحج وبين عدم جواز تقديمه على المواقيت كما زعمه ملك العلماء ، بل هو ركن يجوز تقديمه عليها لما مرّ من الأدلّة. (المؤلف)

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٢٤٥.

(٣) شرح صحيح مسلم : ٧ / ٨٧.

٣٠١

قولي الشافعي : أنّ الإحرام من الميقات أفضل ، ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحقّقين ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكرة تقدّم الإحرام على الميقات ، قال ابن المنذر : وروينا عن عمر أنّه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك الإحرام من المكان البعيد. انتهى.

وعن أبي حنيفة رواية ؛ أنّه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل ، وإلاّ فمن الميقات ، وبه قال بعض الشافعيّة.

وشذّ ابن حزم الظاهري (١) فقال : إن أحرم قبل هذه المواقيت وهو يمرُّ عليها فلا إحرام له إلاّ أن ينوي إذا صار [إلى] (٢) الميقات تجديد إحرام. وحكاه عن داود وأصحابه (٣) وهو قول مردود بالإجماع قبله على خلافه قاله النووي ، وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ من أحرم قبل أن يأتي الميقات فهو محرم ، وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي وغيره. انتهى.

وذكر الشوكاني في نيل الأوطار (٤) (٥ / ٢٦) جواز تقديم الإحرام على الميقات مستدلاّ عليه بما مرّ في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ). ثمّ قال :

وأمّا قول صاحب المنار : إنّه لو كان أفضل لما تركه جميع الصحابة ؛ فكلام على غير قانون الاستدلال ، وقد حكى في التلخيص أنّه فسّره ابن عيينة فيما حكاه عنه أحمد بأن ينشئ لهما سفراً من أهله ، ولكن لا يناسب لفظ الإهلال الواقع في حديث الباب ولفظ الإحرام الواقع في حديث أبي هريرة. انتهى.

__________________

(١) المحلّى : ٧ / ٧٠ المسألة ٨٢٢.

(٢) من المصدر.

(٣) في المصدر : وأصحابهم.

(٤) نيل الأوطار : ٤ / ٣٣٥.

٣٠٢

والإمعان في هذه المأثورات من الأحاديث والكلم يعطي حصول الإجماع على جواز تقديم الإحرام على الميقات ، وأنّ الخلاف في الأفضل من التقديم والإحرام من الميقات ، لكن الخليفة لم يعط النظر حقّه ، ولم يوفِ للاجتهاد نصيبه ، أو أنّه عزبت عنه السنّة المأثورة ، فطفق يلوم عبد الله بن عامر ، أو أنّه أحبّ أن يكون له في المسألة رأي خاصّ ، وقد قال شمس الدين أبو عبد الله الذهبي :

العلمُ قال اللهُ قال رسولُه

إن صحَّ والإجماعُ فاجهد فيهِ

وحذارِ من نصبِ الخلافِ جهالةً

بين الرسولِ وبين رأي فقيهِ

وهلمّ معي واعطف النظرة فيما ذكرناه عن ابن حزم من أنّ عثمان لا يعيب عملاً صالحاً ... الى آخره. فإنّه غير مدعوم بالحجّة غير حسن الظنّ بعثمان ، وهذا يجري في أعمال المسلمين كافّة ما لم يزع عنه وازع ، وسيرة الرجل تأبى عن الظنّ الحسن به ، وأمّا مسألتنا هذه فقد عرفنا فيها السنّة الثابتة وأنّ نهي عثمان مخالف لها ، وليس من الهيّن الفتُّ في عضد السنّة لتعظيم إنسان وتبرير عمله ، فإنّ المتّبع في كافّة القُرَب ما ثبت من الشرع ، ومن خالفه عِيب عليه كائناً من كان.

وأمّا تشبّثه بالهوان بالنسك فتافه جدّا ، وأيّ هوان بها في التأهّب لها قبل ميقاتها بقربةٍ مطلقة إن لم يكن تعظيماً لشعائر الله ، وإنّما الهوان المحرّم بالنسك إدخال الآراء فيها على الميول والشهوات ، (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١).

ـ ٢٢ ـ

لو لا عليٌّ لهلك عثمان

أخرج الحافظ العاصمي في كتابه زين الفتى في شرح سورة هل أتى ؛ من

__________________

(١) النحل : ١١٦.

٣٠٣

طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه : أنّ رجلاً أتى عثمان بن عفّان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميّت ، فقال : إنّكم تزعمون النار يعرض على هذا وأنّه يعذّب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسُّ منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى عليّ بن أبي طالب المرتضى يستحضره ، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل : أعد المسألة. فأعادها ، ثمّ قال عثمان بن عفّان : أجب الرجل عنها يا أبا الحسن فقال عليّ : «ائتوني بزند وحجر» والرجل السائل والناس ينظرون إليه ، فأُتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار ، ثمّ قال الرجل : «ضع يدك على الحجر» ، فوضعها عليه ثمّ قال : «ضع يدك على الزند» ، فوضعها عليه فقال : «هل أحسست منهما حرارة النار» ، فبهت الرجل ، فقال عثمان : لو لا عليّ لهلك عثمان.

قال الأميني : نحن لا نرقب من عثمان وليد بيت أُميّة الحيطة بأمثال هذه العلوم التي هي من أسرار الكون ، وقد تقاعست عنها معرفة من هو أرقى منه في العلم ، فكيف به؟ وإنّما تُقلّها عيبة العلوم الإلهيّة المتلقّاة من المبدأ الأعلى منشئ الكون ومُلقي أسراره فيه ، وهو الذي أفحم السائل هاهنا وفي كلّ معضلة أعوز القوم عرفانها.

وإنّما كان المترقّب من عثمان ـ بعد ما تسنّم عرش الخلافة ـ الحيطة بما كان يسمعه ويراه ويفهم ويعقل من السنّة المفاضة على أفراد الصحابة ، لئلا يرتبك في موارد السؤال ، فيرتكب العظائم ويفتي بخلاف الوارد ، أو يرتئي رأياً عدت عنه المراشد لكن ويا للأسف ..

ـ ٢٣ ـ

رأي الخليفة في الجمع بين الأُختين بالملك

أخرج مالك في الموطأ (١) (٢ / ١٠) ، عن ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب أنّ رجلاً سأل عثمان بن عفّان عن الأُختين من ملك اليمين ، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان :

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٥٣٨ ح ٣٤.

٣٠٤

أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، أمّا أنا فلا أُحبُّ أن أصنع ذلك. قال : فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثمّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال ابن شهاب : أراه عليّ بن أبي طالب.

لفظ آخر للبيهقي :

عن ابن شهاب ؛ قال : أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنّ نياراً الأسلمي سأل رجلاً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُختين فيما ملكت اليمين ، فقال له : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، ولم أكن لأفعل ذلك. قال : فخرج نيار من عند ذاك الرجل فلقيه رجل آخر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما أفتاك به صاحبك الذي استفتيتهُ؟ فأخبره ، فقال : إنّي أنهاك عنهما ، ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة.

قال ملك العلماء في البدائع : وروي عن عثمان رضى الله عنه أنّه قال : كلُّ شيء حرّمه الله تعالى من الحرائر حرّمه الله تعالى من الإماء إلاّ الجمع في الوطء بملك اليمين.

وقال الجصّاص في أحكام القرآن : وروي عن عثمان وابن عباس أنّهما أباحا ذلك وقالا : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. وقال : روي عن عثمان الإباحة ، وروي عنه أنّه ذكر التحريم والتحليل وقال : لا آمر به ولا أنهى عنه. وهذا القول منه يدلُّ على أنّه كان ناظراً فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه ، فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثمّ وقف فيه ، وقطع عليّ فيه بالتحريم.

وقال الزمخشري : أمّا الجمع بينهما في ملك اليمين ؛ فعن عثمان وعليّ أنّهما قالا : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. فرجّح عليّ التحريم وعثمان التحليل.

وقال الرازي (١) : وعن عثمان ، أنّه قال : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، والتحليل أولى.

__________________

(١) التفسير الكبير : ١٠ / ٣٦.

٣٠٥

وقال ابن عبد البرّ في كتاب الاستذكار (١) : إنّما كنّى قبيصة بن ذؤيب عن عليّ ابن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان ، وكانوا يستثقلون ذكر عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه.

راجع (٢) : السنن الكبرى للبيهقي (٧ / ١٦٣ ، ١٦٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ١٥٨) ، المحلّى لابن حزم (٩ / ٥٢٢) ، تفسير الزمخشري (١ / ٣٥٩) ، تفسير القرطبي (٥ / ١١٧) ، بدائع الصنائع لملك العلماء (٢ / ٢٦٤) تفسير الخازن (١ / ٣٥٦) الدرّ المنثور (٢ / ١٣٦) نقلاً عن مالك والشافعي وعبد بن حميد وعبد الرزّاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي ، تفسير الشوكاني (١ / ٤١٨) نقلاً عن الحفّاظ المذكورين.

قال الأميني : يقع البحث عن هذه المسألة في موردين :

الأوّل : في حكم الجمع بين الأُختين بملك اليمين ووطئهما جميعاً ، فهو محرّم على المشهور بين الفقهاء كما قاله الرازي في تفسيره (٣) (٣ / ١٩٣).

وهو المشهور عن الجمهور والأئمّة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقّف في ذلك كما قاله ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٧٢).

ولا يجوز الجمع عند عامّة الصحابة ، كما في بدائع الصنائع (٢ / ٢٦٤).

كان فيه خلاف بين السلف ثمّ زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين. واتّفق فقهاء الأمصار عليه كما قاله الجصّاص في أحكام القرآن (٤) (٢ / ١٥٨).

__________________

(١) في بيان حديث الموطّأ المذكور في أوّل العنوان في قول قبيصة : فلقي رجلاً. (المؤلف)

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠ ، الكشّاف : ١ / ٤٩٦ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٧٧ ، تفسير الخازن : ١ / ٣٤٢ ، الدرّ المنثور : ٢ / ٤٧٦ ، موطّأ مالك : ٢ / ٥٣٨ ح ٣٤ ، كتاب الأُم للشافعي : ٥ / ٣ ، المصنّف لعبد الرزاق : ٧ / ١٨٩ ح ١٢٧٢٨ ، مصنّف ابن أبي شيبة : ٤ / ١٦٩ ، فتح القدير : ١ / ٤٥٣.

(٣) التفسير الكبير : ١٠ / ٣٦.

(٤) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠ ، ١٣٢.

٣٠٦

وذهب كافّة العلماء إلى عدم جوازه ولم يلتفت أحد من أئمّة الفتوى إلى خلافه ـ قول عثمان ـ لأنّهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممّن قال ذلك من الصحابة عمر وعليّ وابن عبّاس وعمّار وابن عمر وعائشة وابن الزبير ، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسّف في التأويل. كذا قاله القرطبي في تفسيره (١) (٥ / ١١٦ ، ١١٧).

وقال أبو عمر في الاستذكار : روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عبّاس ، ولكن اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ، ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلاّ من شذّ عن جماعتهم باتّباع الظاهر ونفي القياس ، وقد ترك من يعمل ذلك ظاهراً ما اجتمعنا عليه ، وجماعة الفقهاء متّفقون على أنّه لا يحلُّ الجمع بين الأُختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحلُّ ذلك في النكاح (٢).

وحُكِيت الحرمة المتسالم عليهابين الأُمّة جمعاء عن عليّ ، وعمر ، والزبير ، وابن عبّاس ، وابن مسعود ، وعائشة ، وعمّار ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وابن منبه ، وإسحاق بن راهويه ، وإبراهيم النخعي ، والحكم بن عتيبة ، وحمّاد بن أبي سليمان ، والشعبي ، والحسن البصري ، وأشهب ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وأبي حنيفة ، ومالك (٣).

ومع المجمعين الكتاب والسنّة ، فمن الكتاب إطلاق الذكر الحكيم في عدّ

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٧٧.

(٢) تفسير ابن كثير ١ / ٤٧٣ ، تفسير الشوكاني : ١ / ٤١١ [١ / ٤٤٧]. (المؤلف)

(٣) راجع أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ١٥٨ [٢ / ١٣٠] ، المحلّى لابن حزم : ٩ / ٥٢٢ ، ٥٢٣ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١١٧ ، ١١٨ [٥ / ٧٧ ، ٧٨] ، تفسير أبي حيّان : ٣ / ٢١٣ ، تفسير الرازي : ٣ / ١٩٣ [١٠ / ٣٦] ، الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٦]. (المؤلف)

٣٠٧

المحرّمات في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) (١) ، فقد حرّمت الجمع بينهما بأيّ صورة من نكاح أو ملك يمين. قال ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٧٣) : وقد أجمع المسلمون على أنّ معنى قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخر الآية (٢) : أنّ النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلّهنّ سواء ، وكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأُختين وأمّهات النساء والربائب ، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجّة المحجوج بها على من خالفها وشذّ عنها. انتهى.

وقد تمسّك بهذا الإطلاق الصحابة والتابعون والعلماء وأئمّة الفتوى والمفسّرون ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يشدّد النكير على من يفعل ذلك ويقول : «لو كان لي من الأمر شيء ثمّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً». أو يقول للسائل : «إنّي أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة».

وروي عن إياس بن عامر أنّه قال : سألت عليّ بن أبي طالب فقلت : إنّ لي أُختين ممّا ملكت يميني اتّخذت إحداهما سريّة وولدت لي أولاداً ثمّ رغبت في الأخرى فما أصنع؟ قال : «تعتق التي كنت تطأ ثمّ تطأ الأخرى» ثمّ قال : «إنّه يحرم عليك ممّا ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلاّ العدد». أو قال : «إلاّ الأربع ، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب» (٣).

ولو لم يكن في هذا المورد غير كلام الإمام عليه‌السلام لنهض حجّة للفتوى ، فإنّه أعرف الأُمّة بمغازي الكتاب وموارد السنّة ، وهو باب علم النبيّ صلّى الله عليهما وآلهما وهو الذي خلّفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدلاً للكتاب ليتمسّكوا بهما فلا يضلّوا.

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) هي آية (وأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الأُخْتَينِ) (المؤلف)

(٣) أخرجه الجصّاص في أحكام القرآن : ٢ / ١٥٨ [٢ / ١٣٠] ، وأبو عمر في الاستذكار ، وذكره ابن كثير في تفسيره : ١ / ٤٧٢ ، والسيوطي في الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٦]. (المؤلف)

٣٠٨

وقد أصفق على ذلك أئمّة أهل البيت من ولده ، وهم عترته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعدال الكتاب وأبوهم سيّدهم ، وقولهم حجّة في كلّ باب.

وبهذه تعرف مقدار ما قد يعزى إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من موافقته لعثمان في رأيه الشاذّ عن الكتاب والسنّة وقوله : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية وحاشاه عليه‌السلام من أن يختلف رأيه في حكم من أحكام الله ، غير أنّ رماة القول على عواهنه راقهم أن يهون على الأُمّة خطب عثمان فكذبوا عليه صلوات الله عليه واختلقوا عليه ، قال الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) : قد روى إياس بن عامر أنّه قال لعليّ : إنّهم يقولون : إنّك تقول : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. فقال : «كذبوا».

ومن السنّة للمجمعين ما استدل به على الحرمة ابن نجيم في البحر الرائق (٣ / ٩٥) ، وملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ٢٦٤) وغيرهما من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعنّ ماءه في رحم أُختين».

المورد الثاني : هل هناك ما يخصّص الحرمة المستفادة من القرآن بالنسبة إلى ملك اليمين؟ يدّعي عثمان ذلك فقال : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. ولم يعيّن الآية المحلّلة كما يعيّنها غيره من السلف ، نعم ؛ أخرج عبد الرزّاق (٢) وابن أبي شيبة (٣) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طريق ابن مسعود ؛ أنّه سُئل عن الرجل يجمع بين الأُختين الأمتين فكرهه ، فقيل : يقول الله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). فقال : وبعيرك أيضاً ممّا ملكت يمينك. وفي لفظ ابن حزم : إنّ حملك ممّا ملكت يمينك (٤).

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠.

(٢) المصنّف : ٧ / ١٩٣ ح ١٢٧٤٢.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة : ٣ / ٣٠٦ ح ٣ باب ٥٠ من كتاب النكاح.

(٤) المحلّى لابن حزم : ٩ / ٥٢٤ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٢ ، الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٦] نقلاً عن الحفّاظ المذكورين. (المؤلف)

٣٠٩

وقال الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) : يعنون بالمحلّل قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). والقول بهذا بعيد عن نطاق فهم القرآن وعرفان أسباب نزول الآيات ، ولا تساعده الأحاديث الواردة في الآية الكريمة ، وأنّى للقائل من ثبوت التعارض بين الآيتين بعد ورودهما في موضوعين مختلفين؟ ولأعلام القوم في المقام بيانات ضافية قيّمة نقتصر منها بكلام (٢) الجصّاص ، قال في أحكام القرآن (٣) (٢ / ١٩٩) : إنّ الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بأحدهما على الأخرى ؛ إذ كلُّ واحدة منهما ورودها في سبب غير سبب الأخرى ، وذلك لأنّ قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وارد في حكم التحريم كقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ... وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وسائر من ذكر في الآية تحريمها. وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وارد في إباحة المسبيّة التي لها زوج في دار الحرب ، وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما ، فهو مستعمل فيما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبيّة وبين زوجها وإباحتها لمالكها ، فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأُختين ، إذ كلّ واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى ، فيستعمل حكم كلّ واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه. قال :

ويدلُّ على ذلك أنّه لا خلاف بين المسلمين في أنّها لم تعترض على حلائل الأبناء وأُمّهات النساء وسائر من ذكر تحريمهنّ في الآية ، وأنّه لا يجوز وطء حليلة الابن ولا أُمّ المرأة بملك اليمين ، ولم يكن قوله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) موجباً لتخصيصهنّ لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى ، كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع عليّ رضى الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) على تحريم الجمع بين الأُختين يدلُ

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠ ، والآية : النساء : ٢٤.

(٢) الظاهر أنه قدس‌سره ضمّن (نقتصر) معنى (نكتفي) فعدّاه بالباء.

(٣) أحكام القرآن : ٢ / ١٣١.

٣١٠

على أنّ حكم الآيتين إذا وردتا في سببين ، إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم أنّ كلّ واحدة منهما تجري على حكمها في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى ، وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل ذلك. إلى آخره.

ونحن نردف كلام الجصّاص بما ورد في سبب نزول قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وأنّه كما سمعت من الجصّاص غير السبب الوارد فيه قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).

أخرج مسلم في صحيحه وغيره ؛ بالإسناد عن أبي سعيد الخدري ، قال : أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهنّ أزواج ، فسألنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). فاستحللنا بها فروجهنّ.

وفي لفظ أحمد : إنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس لهنّ أزواج من أهل الشرك ، فكان أُناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّوا وتأثّموا من غشيانهنّ ، قال : فنزلت هذه الآية في ذلك : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

وفي لفظ النسائي : إنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدوّا فقاتلوهم وظهروا عليهم ، فأصابوا لهم سبايا لهنّ أزواج في المشركين ، فكان المسلمون تحرّجوا من غشيانهنّ ، فأنزل الله عزّ وجلّ : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

راجع (١) : صحيح مسلم (١ / ٤١٦ ، ٤١٧) ، صحيح الترمذي (١ / ١٣٥) ، سنن أبي

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ح ٣٣ ـ ٣٥. كتاب الرضاع ، سنن الترمذي : ٥ / ٢١٨ ح ٣٠١٦ ، ٣٠١٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٤٧ ح ٢١٥٥ ، السنن الكبرى : ٣ / ٣٠٨ ح ٥٤٩١ و ٥٤٩٢ ، مسند أحمد : ٣ / ٤٨٦ ح ١١٢٩٤ ، وص ٥٠٥ ح ١١٣٨٨ ، أحكام القرآن : ٢ / ١٣٦ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٤٢١ ح ٢٣٥٦ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٨٠ ، تفسير البيضاوي : ١ / ٢٠٩ ، تفسير الخازن : ١ / ٣٤٢ ، فتح القدير : ١ / ٤٥٤.

٣١١

داود (١ / ٣٣٦) ، سنن النسائي (٦ / ١١٠) ، مسند أحمد (٣ / ٧٢ ، ٨٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ١٦٥) ، سنن البيهقي (٧ / ١٦٧) ، المحلّى لابن حزم (٩ / ٤٤٧) ، مصابيح السنّة (٢ / ٢٩) ، تفسير القرطبي (٥ / ١٢١) ، تفسير البيضاوي (١ / ٢٦٩) ، تفسير ابن كثير (١ / ٤٧٣) تفسير الخازن (١ / ٣٧٥) ، تفسير الشوكاني (١ / ٤١٨).

وعلى ذلك تأوّله عليّ ، وابن عبّاس ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير ، وقالوا : إنّ الآية وردت في ذوات الأزواج من السبايا أُبيح وطؤهنّ بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما (١).

وقال القرطبي في تفسيره (٢) (٥ / ١٢١) : قد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ؛ فقال ابن عبّاس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : المراد بالمحصنات هنا المسبيّات ذوات الأزواج خاصّة ، أي هنّ محرّمات إلاّ ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب ، فإنّ تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أنّ السباء يقطع العصمة ، وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك ، وقال به أشهب ، يدلُّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وذكر الحديث ، فقال : وهذا نصّ [صحيح] (٣) صريح في أنّ الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وطء المسبيّات ذوات الأزواج ، فأنزل الله تعالى في جوابهم : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. انتهى.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ١٦٥ [٢ / ١٣٥] ، سنن البيهقي : ٧ / ١٦٧ ، تفسير الشوكاني : ١ / ٤١٨ [١ / ٤٥٤]. (المؤلف)

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٨٠.

(٣) الزيادة من المصدر.

٣١٢

قول آخر في الآية المحلّلة :

قال ملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ٢٦٤) ، والزمخشري في تفسيره (١) (١ / ٣٥٩) عني عثمان بآية التحليل قوله عزّ وجلّ : (إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

وهذا إنّما يتمّ بالتمسّك بعموم ملك اليمين ، لكن الممعن في لحن القول يجد أنّه لا يجوز الأخذ بهذا العموم لأنّه في مقام بيان ناموس العفّة للمؤمنين بأنّ صاحبها يكون حافظاً لفرجه إلاّ فيما أباح له الشارع في الجملة من زوجة أو ملك يمين فقال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٢) ولا ينافي هذا وجود شروط في كلّ منهما ، فإنّ العموم لا يبطل تلكم الشروط الثابتة من الشريعة ، وإنّما هي التي تضيّق دائرة العموم وهي الناظرة عليه ، مثلاً لا يقتضي هو إباحة وطء الزوجة في حال الحيض والنفاس وفي أيّام شهر رمضان وفي الإحرام والإيلاء والظهار والمعتدّة من وطء بشبهة ، ولا إباحة وطء الأُختين ولا وطء الأمة ذات الزوج فإنّ هذه شرائط جاء بها الإسلام لا يخصّصها أيُّ شيء ، ولا يعارض أدلّتها عموم إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.

ولو وسّعنا عموم الآية لوجب أن نبيح كلّ هذه أو نراها تعارض أدلّتها ، ولنا عندئذٍ أن نقول في نكاح الأُختين وفي بقيّة ما ورد فيه الكتاب ممّا ذكر : أحلّته آية وحرّمته آية! فقد استُثنِيا ـ الزوجة وملك اليمين ـ بنسق واحد وهذا ممّا لا يفوه به أيّ متفقّه.

__________________

(١) الكشّاف : ١ / ٤٩٦.

(٢) المؤمنون : ٥ و ٦.

٣١٣

وكذلك لو أخذنا بعمومها في الرجال والنساء كما جوّزه الجصّاص لوجب أن نبيح للمرأة المالكة أن يطأها من تملكه ، وهذا لا يحلُّ إجماعاً من أئمّة المذاهب ، وقال ابن حزم في المحلّى (٩ / ٥٢٤) : لا خلاف بين أحد من الأُمّة كلّها قطعاً متيقّناً في أنّه ليس على عمومه ، بل كلّهم مجمع قطعاً على أنّه مخصوص ، لأنّه لا خلاف ولا شكّ في أنّ الغلام من ملك اليمين وهو حرام لا يحلُّ ، وأنّ الأُمّ من الرضاعة من ملك اليمين والأُخت من الرضاعة من ملك اليمين ، وكلتاهما متّفق على تحريمهما ، أو الأمة يملكها الرجل قد تزوّجها أبوه ووطأها وولد منها حرام على الابن.

وقال : ثمّ نظرنا في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ). (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ). (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (١). ولم يأت نصّ ولا إجماع على أنّه مخصوص حاش زواج الكتابيّات فقط ، فلا يحلُّ تخصيص نصّ لا برهان على تخصيصه ، وإذ لا بدّ من تخصيص ما هذه صفتها أو تخصيص نصّ آخر لا خلاف في أنّه مخصوص ، فتخصيص المخصوص هو الذي لا يجوز غيره. انتهى.

وأمّا ما قيل (٢) من أنّ الآية المحلّلة قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) في ذيل آية عدّ المحرّمات فباطل أيضاً ، فإنّه بمنزلة الاستثناء ممّا قبله من المحرّمات ومنها الجمع بين الأُختين ، وقد عرفت أنّ الأُمّة صحابيّها وتابعيّها وفقهاءها مجمعة على عدم الفرق في حرمة الجمع بين الأُختين في الوطء نكاحاً وملك يمين ، ولم يفرّقوا بينهما قطُّ ، وهو الحجّة ، على أنّ ملاك التحريم في النكاح وهو الوطء موجود في ملك اليمين ، فالحكم فيهما شرع سواء في المراد ممّا وراء ذلك هو ما وراء المذكورات كلّها من الأُمّهات والبنات إلى آخر ما فيها ، ومنها الجمع بين الأُختين بقسميه.

__________________

(١) البقرة : ٢٢١.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ١١٧ [٥ / ٧٧] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٤ (المؤلف)

٣١٤

وعلى فرض الإغضاء عن كلّ هذه وعن أسباب نزول الآيات وتسليم إمكان المعارضة بين الآيتين ، فإنّ دليل الحظر مقدّم على دليل الإباحة في صورة التعارض ووحدة سبب الدليلين ، كما بيّنه علماء علم الأُصول ونصّ عليه في هذه المسألة الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) والرازي في تفسيره (٢) (٣ / ١٩٣).

لكن عثمان كان لا يعرف كلّ هذا ، ولا أحاط بشيء من أسباب نزول الآيات ، فطفق يغلّب دليل الإباحة في مزعمته على دليل التحريم المتسالم عليه عند الكلّ ، وقد عزب عنه حكم العقل المستدعي لتقديم أدلّة الحرمة دفعاً للضرر المحتمل ، وقد شذّ بذلك عن جميع الأُمّة كما عرفت تفصيله ، ولم يوافقه على هذا الحسبان أيّ أحد إلاّ ما يعزى إلى ابن عبّاس بنقل مختلف فيه كما مرّ عن أبي عمر في الاستذكار.

وفي كلام الخليفة شذوذ آخر وهو قوله : كلُّ شيء حرّمه الله تعالى من الحرائر حرّمه الله تعالى من الإماء إلاّ الجمع بالوطء بملك اليمين. فهو باطل في الاستثناء والمستثنى منه ، أمّا الاستثناء فقد عرفت إطباق الكلّ على حرمة الجمع بين الأُختين بالوطء بملك اليمين معتضداً بالكتاب والسنّة ، وأمّا المستثنى منه فقد أبقى فيه ما هو خارج منه بالاتّفاق من الأُمّة جمعاء وهو العدد المأخوذ في الحرائر دون الإماء.

لقد فتحت أمثال هذه المزاعم الباطلة الشاذّة عن الكتاب وفقه الإسلام باب الشجار على الأُمّة بمصراعيه ، فإنّها في الأغلب لا تفقد متابعاً أو مجادلاً قد ضلّوا وأضلّوا وهم لا يشعرون ، وهناك شرذمة سبقها الإجماع ولحقها من أهل الظاهر لا يُؤبه بهم لم يزالوا مصرّين على رأي الخليفة في هذه المسألة ، لكنّهم شذّاذ عن الطريقة المثلى. قال القرطبي في تفسيره (٣) (٥ / ١١٧) : شذّ أهل الظاهر فقالوا : يجوز

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠.

(٢) التفسير الكبير : ١٠ / ٣٦.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٧٧.

٣١٥

الجمع بين الأُختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك ، واحتجّوا بما روي عن عثمان في الأُختين من ملك اليمين : حرّمتهما آية وأحلّتهما آية.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١)

ـ ٢٤ ـ

رأي الخليفة في ردِّ الأخوين الأُمّ عن الثلث

أخرج الطبري في تفسيره (٢) (٤ / ١٨٨) ؛ من طريق شعبة ، عن ابن عبّاس : أنّه دخل على عثمان رضى الله عنه فقال : لِم صار الأخوان يردّان الأُمّ إلى السدس ، وإنّما قال الله (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) (٣). والأخَوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رضى الله عنه : هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ، ومضى في الأمصار.

وفي لفظ الحاكم والبيهقي : لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس.

أخرجه الحاكم في المستدرك (٤) (٤ / ٣٣٥) وصحّحه ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٢٧) ، وابن حزم في المحلّى (٩ / ٢٥٨) ، وذكره الرازي في تفسيره (٥) (٣ / ١٦٣) ، وابن كثير في تفسيره (١ / ٤٥٩) ، والسيوطي في الدرّ المنثور (٦) (٢ / ١٢٦) ، والآلوسي في روح المعاني (٤ / ٢٢٥).

قال الأميني : ما أجاب به الخليفة ابن عبّاس ينمُّ عن عدم تضلّعه في العربيّة مع

__________________

(١) البقرة : ١٤٥.

(٢) جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٧٨.

(٣) النساء : ١١.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٣٧٢ ح ٧٩٦٠.

(٥) التفسير الكبير : ٩ / ٢١٥.

(٦) الدرّ المنثور : ٢ / ٤٤٧.

٣١٦

أنّها لسان قومه ، ولو كان له قسط منها لأجاب ابن عبّاس بصحّة إطلاق الجمع على الاثنين وأنّه المطّرد في كلام العرب ، لا بالعجز عن تغيير ما غلط فيه الناس كلّهم ـ العياذ بالله ـ وما هو ببدع في ذلك عمّن تقدّماه يوم لم يعرفا معنى الأبّ وهو من صميم لغة الضاد ومشروح بما بعده في الذكر الحكيم ، فإنّ إطلاق الإخوة على الأخوين قد لهج به جمهور العرب ، ولذلك لا تجد أيّ خلاف في حجب الأخوين الأُمّ عن الثلث إلى السدس بين الصحابة العرب الأقحاح ، والتابعين الذين نزلوا منزلتهم من العربيّة الفصحاء ، والفقهاء من مذاهب الإسلام ، ولا استناد لهم في الحكم إلاّ الآية الكريمة ، وما ذلك إلاّ لتجويزهم إطلاق الجمع على الإثنين سواء كان ذلك أقلّه أو توسّعاً مطّرداً في الإطلاق.

قال الطبري في تفسيره (١) (٤ / ١٨٧) : قال جماعة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كلّ زمان : عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). إثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أُنثيين كانتا أو كنّ إناثاً ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكوراً ، أو كان أحدهما ذكراً والآخر أُنثى ، واعتلّ كثير ممّن قال ذلك بأنّ ذلك قالته الأُمّة عن بيان الله جلّ ثناؤه على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقلته أُمّة نبيّه نقلاً مستفيضاً قطع العذر مجيئه ، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده. ثمّ نقل حديث ابن عبّاس المذكور فقال : والصواب من القول في ذلك عندي أنّ المعنيّ بقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) إثنان من إخوة الميت فصاعداً على ما قاله أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون ما قاله ابن عبّاس رضى الله عنه (٢) لنقل الأُمّة وراثة صحّة ما قالوه من ذلك عن الحجّة وإنكارهم ما قاله ابن عبّاس في ذلك. قال :

فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين إخوة؟ وقد علمت أنّ الأخوين في

__________________

(١) جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٧٨ ، ٢٧٩.

(٢) سيوافيك فساد عزو الخلاف إلى ابن عبّاس. (المؤلف)

٣١٧

منطق العرب مثالاً (١) لا يشبه مثال الإخوة في منطقها؟ قيل : إنّ ذلك وإن كان كذلك فإنّ من شأنها (٢) التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما. فلمّا كان ذلك كذلك وكان مستفيضاً في منطقها ، منتشراً مستعملاً في كلامها : ضربت من عبد الله وعمرو رءوسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما. وكان ذلك أشدّ استفاضة في منطقها من أن يقال : أوجعت منهما ظهرهما ، وإن كان مقولاً : أوجعت ظهرهما ، كما قال الفرزدق :

بما في فؤادينا من الشوق والهوى

فيبرأ منهاضُ الفؤاد المشغَّف

غير أنّ ذلك وإن كان مقولاً فأفصح منه بما في أفئدتنا كما قال جلّ ثناؤه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٣) فلمّا كان ما وصفت من إخراج كلّ ما كان في الإنسان واحداً إذا ضمّ إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين ، فلفظ الجمع أفصح في منطقها وأشهر في كلامها ، وكان الأخوان شخصين كلّ واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين أشبه معناهما معنى ما كان في الإنسان من أعضائه واحداً لا ثاني له ، فأخرج أُنثييهما بلفظ أنثى العضوين اللذين وصفت ، فقيل : إخوة في معنى الأخوين ، كما قيل : ظهور في معنى الظهرين ، وأفواه في معنى فموين ، وقلوب في معنى قلبين. وقد قال بعض النحويّين : إنّما قيل إخوة ، لأنّ أقلّ الجمع إثنان ... إلى آخره. انتهى.

وأخرج الحاكم بإسناد صحّحه في المستدرك (٤) (٤ / ٣٣٥) ، والبيهقي في السنن (٦ / ٢٢٧) عن زيد بن ثابت أنّه كان يحجب الأُمّ بالأخوين فقال : إنّ العرب تسمّي

__________________

(١) كذا في المصدر أيضاً ، ولعلّها في الأصل : أن للأخوين ... مثالاً.

(٢) أي : العرب.

(٣) التحريم : ٤.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٣٧٢ ح ٧٩٦١.

٣١٨

الأخوين إخوة. وذكره الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ٩٩).

وأخرج ابن جرير في تفسيره (٢) (٤ / ١٨٩) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). قال : اضرّوا بالأُمّ ، ولا يرثون ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك. الدرّ المنثور (٣) (٢ / ١٢٦).

وذكر الجصّاص في أحكام القرآن (٤) (٢ / ٩٨) قول الصحابة بحجب الأخوين الأُمّ عن الثلث كالإخوة فقال : والحجّة : أنّ اسم الأخوة قد يقع على الاثنين كما قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) وهما قلبان. وقال تعالى (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٥). ثم قال تعالى : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) (٦). فأطلق لفظ الجمع على اثنين. وقال تعالى : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٧) فلو كان أخاً وأُختاً كان حكم الآية جارياً فيهما ... إلخ (٨)

وقال مالك في الموطّأ (٩) (١ / ٣٣١) : فإن كان له إخوة فلأُمّه السدس فمضت السنّة أنّ الإخوة اثنان فصاعداً.

وفي عمدة السالك وشرحه فيض المالك (١٠) (٢ / ١٢٢) : فإن كان معها ـ أي

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٨٢.

(٢) جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٨٠.

(٣) الدرّ المنثور : ٢ / ٤٤٧.

(٤) أحكام القرآن : ٢ / ٨١.

(٥) سورة ص : ٢١ ، ٢٢.

(٦) سورة ص : ٢١ ، ٢٢.

(٧) النساء : ١٧٦.

(٨) بقيّة كلامه لا تخلو عن فوائد. فراجع الجصّاص أحد أئمّة الحنفية. (المؤلف)

(٩) موطّأ مالك : ٢ / ٥٠٧.

(١٠) عمدة السالك : ص ١٤٥ ، فيض الإله المالك : ٢ / ١٢٨.

٣١٩

الأُمّ ـ ولد أو كان معها ولد ابن ذكر أو أنثى أو كان معها عدد اثنان فأكثر من الأخوة ومن الأخوات فلها السدس لقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). والمراد بهم اثنان فأكثر إجماعاً (١).

وقال الشافعي كما في مختصر المزني ـ هامش كتاب الأُم (٢) (٣ / ١٤٠) : وللأُمّ الثلث ، فإن كان للميّت ولد أو ولد ولد أو اثنان من الأُخوة أو الأخوات فصاعداً فلها السدس.

وقال ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٥٩) : حكم الأخوين كحكم الإخوة عند الجمهور. ثمّ ذكر حديث زيد بن ثابت من أنّ أخوين يسمّيان إخوة.

وقال الشوكاني في تفسيره (٣) (١ / ٣٩٨) : قد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأُمّ إلى السدس.

هذا رأي الأُمّة في الإخوة فقد عزب عن الخليفة صحّة الإطلاق في الآية الكريمة في لسان قومه ، وأنّ السلف لم يعرف من الإخوة معنى إلاّ ما يعمُّ الأخوين ، وزعم أنّ من كان قبله شذّوا عن لسان قومه ، وذهبوا إلى حجب الأُمّ بالأخوين خلاف كتاب الله ، وجاء يأسف على أنّه لم يستطع تغيير ما وقع ونقض ما كان من الناس ، هذا مبلغ علم الرجل بالكتاب وأدلّة الأحكام والفروض المسلّمة بين الأُمّة.

وأمّا ابن عبّاس فإنّه لم يشذّ عن لغة قومه وهو من جبهة العرب وعلى سنام قريش ومن بيت هم أفصح من نطق بالضاد ، وإنّما أراد باستفهامه من الخليفة أن يعرّف الملأ مقداره من أبسط شيء يجب أن يكون في مثله ، فضلاً عن معضلات المسائل وهو الحيطة باللغة وعرفان موارد الاستعمال ، حتى يتسنّى له أخذ الحكم من

__________________

(١) هذا مذهب الحنابلة والكتاب لأحد أئمّتهم. (المؤلف)

(٢) مختصر المزني : ص ١٣٨.

(٣) فتح القدير : ١ / ٤٣٣.

٣٢٠