الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

خمسين» وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٧٦) وفيه : «إذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين». وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (١) (٧ / ٢٩٢) باللفظ المذكور. وأخرجه (٢) مسلم وأبو داود والترمذي وصحّحه وليس في لفظهم (خمسين).

هب أنّ الخليفة نسيها لبعد العهد ، لكنّه هل نسي ما وقع بمطلع الأكمة منه على العهد العمري؟ من جلده المحصنات من الإماء خمسين جلدة كما أخرجه الحفّاظ (٣) ، أو أنّ الخليفة وقف على مغازي الآيات الكريمة ، ولم تذهب عليه السنّة النبويّة ، وكان على ذكر ممّا صدر على عهد عمر لكن أربكه حكم العبد ، لأنّه رأى الآية الكريمة نصّا في الإماء ، وكذلك نصوص الأحاديث ، ولم يهتدِ إلى اتّحاد الملاك بين العبيد والإماء من المملوكيّة ، وهو الذي أصفق عليه أئمّة الحديث والتفسير كما في (٤) كتاب الأُم للشافعي (٦ / ١٤٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٢٠٦) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٤٣) ، تفسير القرطبي (٥ / ١٤٦ ، ١٢ / ١٥٩) ، تفسير البيضاوي (١ / ٢٧٠) ، تيسير الوصول (٢ / ٤) ، فيض الإله المالك للبقاعي (٢ / ٣١١) ، فتح الباري (١٢ / ١٣٧) ، فتح القدير (١ / ٤١٦) ، تفسير الخازن (١ / ٣٦٠) ، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (٧ / ٢٩٢) : لا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر (٥).

أو أنّ الخليفة حسب أنّ ولد الزانية لا بدّ وأن يكون للزاني ، ولم يشعر بمقاربة

__________________

(١) نيل الأوطار : ٧ / ١٣٦.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٥٣٧ ح ٣٤ كتاب الحدود ، سنن أبى داود : ٤ / ١٦١ ح ٧٣ ٤٤ ، سنن الترمذي : ٤ / ٣٧ ح ١٤٤١.

(٣) موطّأ مالك : ٢ / ١٧٠ [٢ / ٨٢٧ ح ١٦] ، سنن البيهقي : ٨ / ٢٤٢ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٦ ، كنز العمّال : ٣ / ٨٦ [٥ / ٤١٤ ح ١٣٤٦٨]. (المؤلف)

(٤) كتاب الأُم للشافعي : ٦ / ١٥٥ ، أحكام القرآن : ٢ / ١٦٩ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٩٦ ، ١٢ / ١٠٧ ، تفسير البيضاوي : ١ / ٢١٠ ، تيسير الوصول : ٢ / ٧ ، فتح الباري : ١٢ / ١٦٥ ، فتح القدير : ١ / ٤٥٢ ، تفسير الخازن : ١ / ٣٤٦ ، نيل الأوطار : ٧ / ١٣٦.

(٥) هو أحمد بن يحيى بن المرتضى المتوفى سنة ٨٤٠ ه‍ في البحر الزخار : ٦ / ١٤٣.

٢٨١

زوجها إيّاها أو إمكان مقاربته منذ مدّة يمكن أن ينعقد الحمل فيها ، وبذلك يتحقّق الفراش الذي يلحق الولد بصاحبه ، كما حكم به مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام والأصل فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

لقد أنصف الخليفة في رفع حكم هذه المسألة إلى من عنده علم الكتاب والسنّة ، فإنّه كان يعلم علم اليقين إنّ ذلك عند العترة الطاهرة لا البيت الأموي ، وليته أنصف هذا الإنصاف في كلّ ما يرد عليه من المسائل ، وليته علم أنّ حاجة الأمّة إنّما هي إلى إمام لا يعدوه علم الكتاب والسنّة فأنصفها ، غير أنّ .....

إذا لم تستطع شيئاً فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

ـ ١٧ ـ

رأي الخليفة في عدّة المختلعة (١)

عن نافع ، أنّه سمع ربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر أنّها اختلعت من زوجها على عهد عثمان فجاء معاذ بن عفراء إلى عثمان فقال : إنّ ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أتنتقل؟ فقال له عثمان : تنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدّة عليها إلاّ أنّها لا تنكح حتى تحيض حيضة ، خشية أن يكون بها حبل. فقال عبد الله عند ذلك : عثمان خيرنا وأعلمنا. وفي لفظ آخر : قال عبد الله : أكبرنا وأعلمنا.

وفي لفظ عبد الرزّاق (٢) عن نافع ، عن الربيع بنة معوذ أنّها قالت : كان لي زوج

__________________

(١) سنن البيهقي : ٧ / ٤٥٠ ، ٤٥١ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٣٤ [١ / ٦٦٣ ح ٢٠٥٨] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٧٦ نقلا عن ابن أبي شيبة [في المصنّف : ٥ / ١١٥] ، زاد المعاد لابن القيّم : ٢ / ٤٠٣ [٤ / ٢١٤] ، كنز العمّال : ٣ / ٢٢٣ [٦ / ١٨١ ح ١٥٢٦٤ ، ح ١٥٢٦٨] ، نيل الأوطار : ٧ / ٣٥ [٦ / ٢٧٨]. (المؤلف)

(٢) المصنّف : ٦ / ٥٠٤ ح ١١٨٥٠.

٢٨٢

يُقلّ الخير عليّ إذا حضر ويحزنني إذا غاب (١) ، فكانت منّي زلّة يوماً فقلت له : اختلعت منك بكلّ شيء أملكه فقال : نعم. ففعلت ، فخاصم عمّي معاذ بن عفراء إلى عثمان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه ، أو قالت : دون عقاص الرأس.

وفي لفظ عن نافع : إنّه زوّج ابنة أخيه رجلاً فخلعها ، فرفع ذلك إلى عثمان فأجازه فأمرها أن تعتدّ حيضة. وفي لفظ ابن ماجة من طريق عبادة بن الصامت : قالت : ـ الربيع ـ : اختلعت من زوجي ثمّ جئت عثمان فسألت ما ذا عليّ من العدّة؟ فقال : لا عدّة عليك إلاّ أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة. انتهى.

قال الأميني : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢) نصّا من الله العزيز الحكيم من غير فرق بين أقسام الطلاق المنتزعة من شقاق الزوج والزوجة ، فإن كان الكره من قبل الزوج فحسب فالطلاق رجعي. أو من قبل الزوجة فقط فهو خلعي. أو منهما معاً فمباراة. فليس لكلّ من هذه الأقسام حكم خاصّ في العدّة غير ما ثبت لجميعها بعموم الآية الكريمة المنتزع من الجمع المحلّى باللام ـ المطلّقات ـ وعلى هذا تطابقت فتاوى الصحابة والتابعين والعلماء من بعدهم وفي مقدّمهم أئمّة المذاهب الأربعة. قال ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٧٦) : مسألة : وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما وهي المشهورة إلى أنّ المختلعة عدّتها عدّة المطلّقة بثلاثة قروء إن كانت ممّن تحيض ، وروي ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر ، وبه يقول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعروة ، وسالم ، وأبو سلمة ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن شهاب ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ،

__________________

(١) في المصدر : ويحرمني إذا غاب.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

٢٨٣

وأبو عياض ، وخلاس بن عمر ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبو عبيد ، وقال الترمذي (١) : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ، ومأخذهم في هذا أنّ الخلع طلاق فتعتدّ كسائر المطلّقات. انتهى.

هذه آراء أئمّة المسلمين عند القوم وليس فيها شيء يوافق ما ارتآه عثمان وهي مصافقة للقرآن الكريم كما ذكرناه.

وقد احتُجّ لعثمان بما رواه الترمذي في صحيحه (٢) (١ / ١٤٢) من طريق عكرمة عن ابن عباس : إنّ امرأة ثابت بن قيس رضى الله عنه اختلعت منه فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّتها حيضة.

وهذه الرواية باطلة ، إذ المحفوظ عند البخاري (٣) والنسائي (٤) من طريق ابن عبّاس في قصّة امرأة ثابت ما لفظه : قال ابن عبّاس : جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّي ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكنّي أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أتردّين عليه حديقته؟» ـ وكانت صداقها ـ» قالت : نعم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة».

فامرأة ثابت نظراً إلى هذه اللفظة مطلّقة تطليقة والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء.

على أنّ الاضطراب الهائل في قصّة امرأة ثابت يوهن الأخذ بما فيها ، ففي لفظ : إنّها جميلة بنت سلول. كما في سنن ابن ماجة (٥). وفي لفظ أبي الزبير : إنّها زينب. وفي

__________________

(١) قاله في صحيحه : ١ / ١٤٢ [٣ / ٤٩٢ ح ١١٨٥]. (المؤلف)

(٢) سنن الترمذي : ٣ / ٤٩١ ح ١١٨٥.

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٢٠٢١ ح ٤٩٧١.

(٤) السنن الكبرى : ٣ / ٣٦٩ ح ٥٦٥٧.

(٥) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٦٣ ح ٢٠٥٦ ، ٢٠٥٨.

٢٨٤

لفظ : إنّها بنت عبد الله. وفي لفظ لابن ماجة والنسائي : إنّها مريم العالية. وفي موطّأ مالك (١) : إنّها حبيبة بنت سهل. وذكر البصريّون : أنّها جميلة بنت أُبي (٢). وجلّ هذه الألفاظ كلفظ البخاري والنسائي يخلو عن ذكر العدّة بحيضة ، فلا يخصّص حكم القرآن الكريم بمثل هذا.

على أنّه لو كان لها مقيل في مستوى الصدق والصحّة لما أصفقت الأئمّة على خلافها كما سمعت من كلمة ابن كثير.

وقد يعاضَد رأي الخليفة بما أخرجه الترمذي في صحيحه (١ / ١٤٢) عن الربيع بنت معوذ ـ صاحبة عثمان ـ أنّها اختلعت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أُمرت أن تعتدّ بحيضة. قال الترمذي : حديث الربيع الصحيح أنّها أُمرت أن تعتدّ بحيضة. وبهذا اللفظ جاء في حديث سليمان بن يسار عن الربيع قالت : إنّها اختلعت من زوجها فأمرت أن تعتدّ بحيضة.

وقال البيهقي بعد رواية هذا الحديث : هذا أصحّ وليس فيه من أَمَرَها ولا على عهد النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد روينا في كتاب الخلع أنّها اختلعت من زوجها زمن عثمان بن عفّان رضى الله عنه. ثمّ أخرج حديث نافع المذكور في صدر العنوان فقال : هذه الرواية تصرّح بأنّ عثمان رضى الله عنه هو الذي أمرها بذلك ، وظاهر الكتاب في عدّة المطلّقات يتناول المختلعة وغيرها ، فهو أولى وبالله التوفيق. انتهى (٣).

فليس للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصّة بنت معوذ حكم وما رفعت إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما وقعت في عصر عثمان وهو الحاكم فيها ، وقد حرّفتها عن موضعها يد الأمانة على ودائع العلم والدين لتبرير ساحة عثمان عن لوث الجهل ، ولو كان لتعدّد القصّة وزن يقام عند

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٥٦٤ ح ٣١.

(٢) راجع نيل الأوطار : ٧ / ٣٤ ـ ٣٧ [٦ / ٢٧٦ ـ ٢٧٨]. (المؤلف)

(٣) سنن البيهقي : ٧ / ٤٥١. (المؤلف)

٢٨٥

الفقهاء وروايتها بمشهد منهم ومرأى لما عدلوا عنها على بكرة أبيهم إلى عموم الكتاب ولما تركوها متدهورة في هوّة الإهمال.

وعلى الباحث أن ينظر نظرة عميقة إلى قول ابن عمر وقد كان في المسألة أوّلاً مصافقاً في رأيه الكتاب ومن عمل به من الصحابة وعدّ في عدادهم ، ثمّ لمحض أن بلغه رأي الخليفة المجرّد عن الحجّة عدل عن فتواه فقال : عثمان خيرنا وأعلمنا. أو قال : أكبرنا وأعلمنا. هكذا فليكن المجتهدون ، وهكذا فلتصدر الفتاوى.

ـ ١٨ ـ

رأي الخليفة في امرأة المفقود

أخرج مالك من طريق سعيد بن المسيب أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : أيّما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنّها تنتظر أربع سنين ، ثمّ تنتظر أربعة أشهر وعشراً ، ثمّ تحلّ. وقضى بذلك عثمان بن عفّان بعد عمر.

وأخرج أبو عبيد بلفظ : إنّ عمر وعثمان رضى الله عنه قالا : امرأة المفقود تربّص أربع سنين ، ثمّ تعتدّ أربعة أشهر وعشراً ، ثمّ تنكح.

وفي لفظ الشيباني : إنّ عمر رضى الله عنه أجّل امرأة المفقود أربع سنين. وفي لفظ شعبة من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قضى عمر رضى الله عنه في المفقود تربّص امرأته أربع سنين ثمّ يطلّقها وليّ زوجها ، ثمّ تربّص بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً ثمّ تزوّج.

ومن طريق ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر رضى الله عنه في امرأة المفقود قال : إن جاء زوجها وقد تزوّجت خيّر بين امرأته وبين صداقها ، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر ، وإن اختار امرأته اعتدّت حتى تحلّ ، ثمّ ترجع إلى زوجها الأوّل وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحلّ من فرجها. قال ابن شهاب : وقضى بذلك عثمان بعد عمر.

٢٨٦

وفي لفظ الشافعي : إذا تزوّجت فقدم زوجها قبل أن يدخل بها زوجها الآخر كان أحقّ بها ، فإن دخل بها زوجها الآخر فالأوّل المفقود بالخيار بين امرأته والمهر (١).

قال الأميني : من لي بمتفقّه في المسألة ، يخبرني عن علّة تريّث المفقود عنها زوجها أربع سنين ، أهو مأخوذ من كتاب الله؟ فأين هو منه؟ أم أُخذ من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن ذا الذي رواها ونقلها؟ والصحاح والمسانيد للقوم خالية عنها ، نعم ربّما يُتشبّث للتقدير بأنّها نهاية مدّة الحمل. قال البقاعي في فيض الإله المالك (٢ / ٢٦٣) : وسبب التقدير بأربع سنين أنّها نهاية مدّة الحمل وقد أخبر بوقوعه لنفسه الإمام الشافعي وكذا الإمام مالك وحكي عنه أيضاً أنّه قال : جارتنا امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة ، تحمل كلّ بطن أربع سنين ، وورد هذا عن غير تلك المرأة أيضاً. انتهى.

وهذا التعليل حكاه ابن رشد في مقدّمات المدوّنة الكبرى (٢ / ١٠١) عن أبي بكر الأبهري ثمّ عقّبه بقوله : وهو تعليل ضعيف لأنّ العلّة لو كانت في ذلك هذا لوجب أن يستوي فيه الحرّ والعبد (٢) لاستوائهما في مدّة لحوق النسب. ولوجب أن يسقط جملة في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد عنها زوجها فقام عنها أبوها في ذلك ، فقد قال : إنّها لو أقامت عشرين سنة ثمّ رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة أعوام وهذا يبطل تعليله إبطالاً ظاهراً. انتهى.

وليت هذا المتشبّث أدلى في حجّته بذكر أُناس تريّثوا في الأرحام النزيهة عن الخنا أربعاً قبل فتيا الخليفتين ، وإلاّ فما غناء قصّة وقعت بعدهما بردح طويل من

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٢٨ [٢ / ٥٧٥ ح ٥٢] ، كتاب الأُم للشافعي : ٧ / ٢١٩ [٧ / ٢٣٦] ، سنن البيهقي : ٧ / ٤٤٥ ، ٤٤٦. (المؤلف)

(٢) التفصيل بين الحرّ والعبد بأنّ امرأة الحرّ يضرب لها الأجل أربعة أعوام ولامرأة العبد تربّص عامين كما نصّ عليه ابن رشد ، رأي مجرّد لا دليل عليه. (المؤلف)

٢٨٧

الزمن ولا يُدرى أصحيحة هي أم مكذوبة؟ وعلى فرض الصحّة فهل كان الخليفتان يعلمان الغيب؟ وأنّه سينتج المستقبل الكشّاف رجلاً يكون حجّة لما قدّراه من مدّة التربّص؟ أو كان ما قد رآه فتوى مجرّده؟ فنحتت لها الأيّام علّة بعد الوقوع.

على أنّ أقصى مدّة الحمل محلّ خلاف بين الفقهاء ، ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنّه عامان ، ومذهب الشافعي أنّه أربعة أعوام ، واختار ابن القاسم أنّ أكثره خمسة أعوام (١) ، وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روي أنّ امرأة ابن عجلان ولدت ولداً مرّة لسبعة أعوام (٢).

ولعلّ أبناء عجلان آخرين في أرجاء العالم لا يُرفع أمر حلائلهم إلى مالك والشافعي وقد ولدن أولاداً لثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام ، دع العقل والطبيعة والبرهنة تستحيل ذلك كلّه ، ما هي وما قيمتها تجاه ما جاءت به امرأة عجلان وحكم به مالك؟! أو وجاه ما أتت به أمّ الإمام الشافعي فأفتى به؟!

ونقل ابن رشد في سبب التقدير بأربعة أعوام عللاً غير هذا وإن ردّها وفنّدها ، منها : أنّها المدّة التي تبلغها المكاتبة في بلد الإسلام مسيراً ورجوعاً ، ومنها : أنّه جهل إلى أيّ جهة سار من الأربع جهات ، فلكلّ جهة تربّص سنّة فهي أربع سنين. هذا مبلغ علمهم بفلسفة آراء جاء بها عمر وعثمان فأين يقع هو من حكم ما صدع به النبيّ الأقدس؟

ثمّ يخبرني هذا المتفقّه عن هذه العدّة التي أثبتها الخليفتان لما ذا هي؟ فإن كانت عدّة الوفا فإنّها غير جازمة بها ، ولا تثبت بمجرّد مرور أربع سنين أو أكثر ، وفي رواية عن عمر كما سمعت أنّه قضى في المفقود تربّص امرأته أربع سنين ثمّ يطلّقها وليّ

__________________

(١) في الفقه على المذاهب الأربعة : ٤ / ٥٣٥ إنّه خمس سنين على الراجح. (المؤلف)

(٢) راجع مقدّمات المدوّنة الكبرى للقاضي ابن رشد : ٢ / ١٠٢. (المؤلف)

٢٨٨

زوجها ثمّ تربّص بعد ذلك الأربعة أشهر وعشر ثمّ تزوّج (١). فعلى هذا إنّها عدّة الطلاق فيجب أن تكون ثلاثة قروء ، فما هذه أربعة أشهر وعشراً؟ وعلى فرض ثبوت هذه العدّة ولو بعد الطلاق من باب الأخذ بالحائطة فما علاقة الزوج بها؟ حتى إنّه إذا جاء بعد النكاح خُيّر بين امرأته وبين صداقها ، وقد قطع الشرع أيّ صلة بينهما ورخّص في تزويجها ، فنكحت على الوجه المشروع ، قال ابن رشد (٢) : ألا ترى أنّها لو ماتت بعد العدّة لم يوقف له ميراث منها ، وإن كان لو أتى في هذه الحالة كان أحقّ بها ، ولو بلغ هو من الأجل ما لا يجيء إلى مثله من السنين وهي حيّة لم تورث منه ، وإنّما يكون لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقض الأجل المفروض ، وأمّا إذا انقضى واعتدّت فليس ذلك لها وكذلك إن مضت بعد العدّة.

ثمّ ما وجه أخذ الصداق من الزوج الثاني عند اختيار الأوّل الصداق ولم يأت بمأثم وإنّما تزوّج بامرأة أباحتها له الشريعة؟

وأعجب من كلّ هذه أنّ هذه الروايات بمشهد من الفقهاء كلّهم ولم يُفْتِ بمقتضاها أئمّة المذاهب في باب الخيار. قال مالك في الموطّأ (٣) (٢ / ٢٨) : إن تزوّجت بعد انقضاء عدّتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأوّل إليها. وقال : وذلك الأمر عندنا ، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوّج فهو أحقّ بها.

وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري : لا تحلّ امرأة المفقود حتى يصحّ موته. قاله القاضي ابن رشد في بداية المجتهد (٢ / ٥٢) فقال : وقولهم مرويّ عن عليّ وابن مسعود.

وقال الحنفيّة : يُشترط لوجوب النفقة على الزوج شروط : أحدها أن يكون

__________________

(١) سنن البيهقي : ٧ / ٤٤٥. (المؤلف)

(٢) مقدّمات المدوّنة الكبرى : ٢ / ١٠٤. (المؤلف)

(٣) موطّأ مالك : ٢ / ٥٧٥ ح ٥٢.

٢٨٩

العقد صحيحاً ، فلو عقد عليها عقداً فاسداً أو باطلاً وأنفق عليها ثمّ ظهر فساد العقد أو بطلانه فإنّ له الحقّ في الرجوع عليها بما أنفقه.

ومن ذلك ما إذا غاب عنها زوجها فتزوّجت بزوج آخر ودخل بها ثمّ حضر زوجها الغائب ، فإنّ نكاحها الثاني يكون فاسداً ، ويفرّق القاضي بينهما ، وتجب عليها العدّة بالوطء الفاسد ، ولا نفقة لها على الزوج الأوّل ولا على الزوج الثاني (١).

وقال الشافعي في كتاب الأُمّ (٢) (٥ / ٢٢١) : لم أعلم مخالفاً في أنّ الرجل أو المرأة لو غابا أو أحدهما برّا أو بحراً عُلم مغيبهما أو لم يعلم فماتا أو أحدهما فلم يُسمع لهما بخبر أو أسرهما العدوّ فصيّروهما إلى حيث لا خبر عنهما لم نورّث واحداً منهما من صاحبه إلاّ بيقين وفاته قبل صاحبه ، فكذلك عندي امرأة الغائب أيّ غيبة كانت ممّا وصفت أو لم أصف بأسار عدوّ أو بخروج الزوج ثمّ خفي مسلكه ، أو بهيام من ذهاب عقل أو خروج فلم يُسمَع له ذكر ، أو بمركب في بحر فلم يأت له خبر ، أو جاء خبر أن غرق كان يرون أنّه قد كان فيه ولا يستيقنون أنّه فيه ، لا تعتدّ امرأته ولا تنكح أبداً حتى يأتيها بيقين وفاته ، ثمّ تعتدّ من يوم استيقنت وفاته وترثه ، ولا تعتدّ امرأة من وفاة ومثلها يرث إلاّ ورثت زوجها الذي اعتدّت من وفاته ، ولو طلّقها وهو خفيّ الغيبة بعد أيّ هذه الأحوال كانت ، أو آلى منها ، أو تظاهر ، أو قذفها ، لزمه ما يلزم الزوج الحاضر في ذلك كلّه ، وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن تكون امرأة رجل يقع عليها ما يقع على الزوجة تعتدّ لا من طلاق ولا وفاة ، كما لو ظنّت أنّه طلّقها أو مات عنها لم تعتدّ من طلاق إلاّ بيقين ، وهكذا لو تربّصت سنين كثيرة بأمر حاكم واعتدّت وتزوّجت فطلّقها الزوج الأوّل المفقود لزمها الطلاق ، وكذلك إن آلى منها ، أو تظاهر ، أو قذفها ، لزمه ما يلزم الزوج ، وهكذا لو تربّصت بأمر حاكم أربع سنين ثمّ اعتدّت

__________________

(١) الفقه على المذاهب الاربعة : ٣ / ٥٦٥ [٤ / ٥٧٥]. (المؤلف)

(٢) كتاب الأُم : ٥ / ٢٣٩.

٢٩٠

فأكملت أربعة أشهر وعشراً ونكحت ودخل بها ، أو نكحت ولم يدخل بها ، أو لم تنكح وطلّقها الزوج الأوّل المفقود في هذه الحالات لزمها الطلاق لأنّه زوج ، وهكذا لو تظاهر منها أو قذفها أو آلى منها لزمه ما يلزم المولى غير أنّه ممنوع من فرجها بشبهة بنكاح غيره ، فلا يقال له فيء حتى تعتدّ من الآخر إذا كانت دخلت عليه ، فإذا أكملت عدّتها أجّل من يوم تكمل عدّتها أربعة أشهر ، وذلك حين حلّ له فرجها وإن أصابها فقد خرج من طلاق الإيلاء وكفّر ، وإن لم يصبها قيل له : أصبها أو طلّق.

قال : وينفق عليها من مال زوجها المفقود من حين يُفقد حتى يعلم يقين موته ، وإن أجّلها حاكم أربع سنين أنفق عليها فيها وكذلك في الأربعة الأشهر والعشر من مال زوجها ، فإذا نكحت لم ينفق عليها من مال الزوج المفقود لأنّها مانعة له نفسها ، وكذلك لا ينفق عليها وهي في عدّة منه لو طلّقها أو مات عنها ولا بعد ذلك ، ولم أمنعها النفقة من قبل أنّها زوجة الآخر ، ولا أنّ عليها منه عدّة ، ولا أنّ بينهما ميراثاً ، ولا أنّه يلزمها طلاقه ، ولا شيء من الأحكام بين الزوجين إلا لحوق الولد به إن أصابها ، وإنّما منعتها النفقة من الأوّل لأنّها مخرجة نفسها من يديه ومن الوقوف عليه ، كما تقف المرأة على زوجها الغائب بشبهة ، فمنعتها نفقتها في الحال التي كانت فيها مانعة له نفسها بالنكاح والعدّة ، وهي لو كانت في المصر مع زوج فمنعته نفسها منعتها نفقتها بعصيانها ، ومنعتها نفقتها بعد عدّتها من زوجها الآخر بتركها حقّها من الأوّل وإباحتها نفسها لغيره ، على معنى أنّها خارجة من الأوّل ، ولو أنفق عليها في غيبته ثمّ ثبتت البيّنة على موته في وقت ردّت كلّ ما أخذت من النفقة من حين مات فكان لها الميراث.

ولو حكم لها حاكم بأن تزّوج فتزوّجت فسخ نكاحها وإن لم يدخل بها فلا مهر لها ، وإن دخل بها فأصابها فلها مهر مثلها لا ما سمّي لها وفسخ النكاح وإن لم يفسخ حتى مات أو ماتت فلا ميراث لها منه ولا له منها.

٢٩١

قال : ومتى طلّقها الأوّل وقع عليها طلاقه ، ولو طلّقها زوجها الأوّل أو مات عنها وهي عند الزوج الآخر كانت عند غير زوج ، فكانت عليها عدّة الوفاة والطلاق ولها الميراث في الوفاة والسكنى في العدّة في الطلاق وفيمن رآه لها بالوفاة ، ولو مات الزوج الآخر لم ترثه وكذلك لا يرثها لو ماتت. إلخ.

فأنت بعد هذه كلها جدّ عليم بأنّه لو كان على ما أفتى به الخليفتان مسحة من أصول الحكم والفتيا لما عدل عنه هؤلاء الأئمّة ، ولما خالفهما قبلهم مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولما قال عليه‌السلام في امرأة المفقود إذا قدم وقد تزوّجت امرأته : «هي امرأته إن شاء طلّق وإن شاء أمسك ولا تُخيَّر».

ولما قال عليه‌السلام : «إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوّج حتى تعلم أمره».

ولما قال عليه‌السلام : «إنّها لا تتزوّج».

ولما قال عليه‌السلام : «ليس الذي قال عمر رضى الله عنه بشيء ، هي امرأة الغائب حتى يأتيها يقين موته أو طلاقها ، ولها الصداق من هذا بما استحلّ من فرجها ونكاحه باطل».

ولما قال عليه‌السلام : «هي امرأة الأوّل دخل بها الآخر أو لم يدخل بها».

ولما قال عليه‌السلام : «امرأة ابتليت فلتصبر لا تنكح حتى يأتيها يقين موته» (١). قال الشافعي بعد ذكر الحديث : وبهذا نقول.

وأمير المؤمنين كما تعلم أفقه الصحابة على الإطلاق ؛ وأعلم الأمّة بأسرها ، وباب مدينة العلم النبويّ ، ووارث علم النبيّ الأقدس على ما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليتهما رجعا إليه صلوات الله عليه في حكم المسألة ولم يستبدّا بالرأي المجرّد كما استعلماه في

__________________

(١) كتاب الأُم للشافعي : ٥ / ٢٢٣ [٥ / ٢٤١] ، سنن البيهقي : ٧ / ٤٤٤ ، ٤٤٦ ، مقدّمات المدوّنة الكبرى : ٢ / ١٠٣. (المؤلف)

٢٩٢

كثير ممّا أربكهما من المشكلات ، وأنّى لهما باقتحام المعضلات وهما هما؟ وأيّ رأي هذا [الذي] ضربت عنه الأُمّة صفحاً؟ وكم له من نظير! وكيف أوصى النبيّ الأعظم باتّباع أُناس هذه مقاييس آرائهم في دين الله ، وهذا مبلغهم من العلم ، بقوله فيهم : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين فتمسّكوا بها (١)؟

(خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) (٢).

ـ ١٩ ـ

الخليفة يأخذ حكم الله من أُبيّ

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٤١٧) بالإسناد عن أبي عبيدة قال : أرسل عثمان رضى الله عنه إلى أُبيّ يسأله عن رجل طلّق امرأته ثمّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة. قال أُبيّ : إنّي أرى أنّه أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، وتحلّ لها الصلاة. قال : لا أعلم عثمان رضى الله عنه إلاّ أخذ بذلك.

قال الأميني : صريح الرواية أنّ الخليفة كان جاهلاً بهذا الحكم حتى تعلّمه من أُبيّ وأخذ بفتياه ، ولا شكّ أنّ الذي علّمه هو خير منه ، فهلاّ ترك المقام له أو لمن هو فوقه؟ وفوق كلّ ذي علم عليم ، ولو ترك الأمر لمن لا يسأل غيره في أيّ من مسائل الشريعة لدخل مدينة العلم من بابها.

وحسبك في مبلغ علم الخليفة قول العيني في عمدة القاري (٣) (٢ / ٧٣٣) : إنّ عمر كان أعلم وأفقه من عثمان. وقد أوقفناك على علم عمر في الجزء السادس وذكرنا نوادر الأثر في علمه ، فانظر ما ذا ترى؟

__________________

(١) أسلفنا الحديث في الجزء السادس : ص ٣٣٠ ، وبيّنا المعنى الصحيح المراد منه. (المؤلف)

(٢) سورة ص : ٢٢.

(٣) عمدة القاري : ٥ / ٢٠٣.

٢٩٣

ـ ٢٠ ـ

الخليفة يأخذ السنّة من امرأة

أخرج الإمامان الشافعي ومالك وغيرهما بالإسناد عن فريعة بنت مالك بن سنان أخبرت : أنّها جاءت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة وأنّ زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي أرجع إلى أهلي فإنّ زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ، قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم» ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له قال : «فكيف قلت؟» فرددت عليه القصّة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلمّا كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتّبعه وقضى به.

قال الشافعي في الرسالة : وعثمان في إمامته وفضله وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.

وقال في اختلاف الحديث : اخبرت الفريعة بنت مالك عثمان بن عفّان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرها أن تمكث في بيتها وهي متوفّى عنها حتى يبلغ الكتاب أجله ، فاتّبعه وقضى به.

قال ابن القيّم في زاد المعاد : حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق وأدخله مالك في موطّئهِ ، واحتجّ به وبنى عليه مذهبه ، ثمّ ذكر تضعيف ابن حزم إيّاه وفنّده وقال : ما قاله أبو محمد فغير صحيح. وذكر قول ابن عبد البرّ في شهرته ، وأنّه معروف عند علماء الحجاز والعراق.

راجع (١) الرسالة للشافعي (ص ١١٦) ، كتاب الأُم له (٥ / ٢٠٨) ، اختلاف

__________________

(١) الرسالة : ٤٣٨ ح ١٢١٤ ، كتاب الأُم : ٥ / ٢٢٧ ، اختلاف الحديث : ص ٤٧٩ ، موطّأ مالك : ٢ / ٥٩١ ح ٨٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٩١ ح ٢٣٠٠ ، أحكام القرآن : ١ / ٤١٨ ، زاد المعاد : ٤ / ٢١٥ ، نيل الأوطار : ٦ / ٣٣٥ ، سنن الترمذي : ٣ / ٥٠٨ ح ١٢٠٤ ، السنن الكبرى : ٣ / ٣٩٣ ح ٥٧٢٤ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٤ ح ٢٠٣١.

٢٩٤

الحديث له هامش كتاب الأُم (٧ / ٢٢) ، موطّأ مالك (٢ / ٣٦) ، سنن أبي داود (١ / ٣٦٢) ، سنن البيهقي (٧ / ٤٣٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (١ / ٤٩٦) ، زاد المعاد (٢ / ٤٠٤) ، الإصابة (٤ / ٣٨٦) ، نيل الأوطار (٧ / ١٠٠) وقال : رواه الخمسة وصحّحه الترمذي ولم يذكر النسائي وابن ماجة إرسال عثمان.

قال الأميني : هذه كسابقتها تكشف عن قصور علم الخليفة عمّا توصّلت إليه المرأة المذكورة ، وهاهنا نعيد ما قلناه هنالك ، فارجع البصر كرّتين ، وأعجب من خليفة يأخذ معالم دينه من نساء أُمّته ، وهو المرجع الوحيد للأمّة جمعاء يومئذٍ في كلّ ما جاء به الإسلام المقدّس كتاباً وسنّة ، وبه سُدّ فراغ النبيّ الأعظم ، وعليه يُعوّل في مشكلات الأحكام وعويصات المسائل فضلاً عن مثل هذه المسألة البسيطة.

ثمّ اعجب من ابن عمر أنّه يرى من هذا مبلغ علمه أعلم الصحابة في يومه ، ما عشت أراك الدهر عجباً.

ـ ٢١ ـ

رأي الخليفة في الإحرام قبل الميقات

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٥ / ٣١) بالإسناد عن داود بن أبي هند أنّ عبد الله (١) بن عامر بن كريز حين فتح خراسان قال : لأجعلنّ شكري لله أن أخرج من موضعي محرماً ، فأحرم من نيسابور. فلمّا قدم على عثمان لامه على ما صنع قال : ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم منه الناس.

لفظ آخر من طريق محمد بن إسحاق قال : خرج عبد الله بن عامر من

__________________

(١) هو ابن خال عثمان بن عفّان كما في الإصابة راجع : ٣ / ٦١ [رقم ٦١٧٩]. (المؤلف)

٢٩٥

نيسابور معتمرا قد أحرم منها ، وخلف على خراسان الأحنف بن قيس ، فلمّا قضى عمرته أتى عثمان بن عفّان رضى الله عنه وذلك في السنة التي قتل فيها عثمان رضى الله عنه فقال له عثمان رضى الله عنه : لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.

وقال ابن حزم في المحلّى (٧ / ٧٧) : روينا من طريق عبد الرزّاق ، حدثنا معمر عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين قال : أحرم عبد الله بن عامر من حيرب (١) فقدم على عثمان بن عفّان فلامه ، فقال له : غررت وهان عليك نسكك. وفي لفظ ابن حجر : غررت بنسكك.

فقال ابن حزم : قال أبو محمد ـ يعني نفسه ـ : وعثمان لا يعيب عملاً صالحاً عنده ولا مباحاً ، وإنّما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيّما وقد بيّن أنّه هوان بالنسك ، والهوان بالنسك لا يحلّ وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائر الحجّ.

وذكره ابن حجر في الإصابة (٣ / ٦١) وقال : أحرم ابن عامر من نيسابور شكراً لله تعالى وقدم على عثمان فلامه على تغريره بالنسك. فقال : كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ، ثمّ ذكر الحديث من طريق سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة وفيه : أنّ ابن عامر أحرم من خراسان. فذكره من طريق محمد بن سيرين والبيهقي فقال : قال البيهقي : هو عن عثمان مشهور (٢).

وذكر هذه كلّها في تهذيب التهذيب (٣) (٥ / ٢٧٣) غير كلمة البيهقي في شهرة الحديث. وفي تيسير الوصول (٤) (١ / ٢٦٥) : عن عثمان رضى الله عنه : أنّه كره أن يحرم الرجل

__________________

(١) وفي نسخة : جيرب. ولم أجدهما في المعاجم. (المؤلف)

(٢) توجد كلمة البيهقي هذه في سننه الكبرى : ٥ / ٣١. (المؤلف)

(٣) تهذيب التهذيب : ٥ / ٢٣٩.

(٤) تيسير الوصول : ١ / ٣١٣.

٢٩٦

من خراسان وكرمان. أخرجه البخاري (١) ترجمةً.

قال الأميني : إنّ الذي ثبت في الإحرام بالحجّ أو العمرة أنّ هذه المواقيت حدّ للأقلّ من مدى الإحرام ، بمعنى أنّه لا يعدوها الحاجّ وهو غير محرم ، وأمّا الإحرام قبلها من أيّ البلاد شاء أو من دويرة أهل المحرم ، فإن عقده باتّخاذ ذلك المحلّ ميقاتاً فلا شكّ أنّه بدعة محرّمة كتأخيره عن المواقيت ، وأمّا إذا جيء به للاستزادة من العبادة عملاً بإطلاقات الخير والبرّ ، أو شكراً على نعمة ، أو لنذر عقده المحرم فهو كالصلاة والصوم وبقيّة القرب للشكر أو بالنذر أو لمطلق البرّ ، تشمله كلّ من أدلّة هذه العناوين ولم يرد عنه نهي من الشارع الأقدس ، وإنّما المأثور عنه وعن أصحابه ما يلي :

١ ـ أخرج أئمّة الحديث ؛ بإسنادٍ صحيح من طريق الأخنسي ، عن أُمّ حكيم ، عن أُم سلمة مرفوعاً : «من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجّة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه». قال الأخنسي : فركبت أُمُّ حكيم عند ذلك الحديث إلى بيت المقدس حتى أهلّت منه بعمرة.

وفي لفظ أبي داود والبيهقي والبغوي : «من أهلّ بحجّة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر». أو : «وجبت له الجنّة» وفي لفظ : «ووجبت له الجنّة».

وفي لفظ ابن ماجة : «من أهلّ بعمرة من بيت المقدس غُفر له».

وفي لفظ له أيضاً : «من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفّارة لما قبلها من الذنوب». قالت : فخرجت أُمّي (٢) من بيت المقدس بعمرة.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٥٦٥ باب ٣٢ كتاب الحج.

(٢) كلمة : أمي غير موجودة في لفظ ابن ماجة. وفي لفظ أحمد : فركبت أُم حكيم.

٢٩٧

وقال أبو داود بعد الحديث : يرحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة.

راجع (١) مسند أحمد (٦ / ٢٩٩) ، سنن أبي داود (١ / ٢٧٥) ، سنن ابن ماجة (٢ / ٢٣٥) ، سنن البيهقي (٥ / ٣٠) ، مصابيح السنّة للبغوي (١ / ١٧٠) ، والترغيب والترهيب للمنذري (٢ / ٦١) ذكره بالألفاظ المذكورة وصحّحه من طريق ابن ماجة وقال : ورواه ابن حبّان في صحيحه.

٢ ـ أخرج ابن عدي (٢) والبيهقي من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٣) : أنّ من تمام الحجّ أن تحرم من دُويرة أهلك.

سنن البيهقي (٥ / ٣٠) ، الدرّ المنثور (٤) (١ / ٢٠٨) ، نيل الأوطار (٥) (٥ / ٢٦) قال : ثبت ذلك مرفوعاً من حديث أبي هريرة.

٣ ـ أخرج الحفّاظ من طريق عليّ أمير المؤمنين ؛ أنّه قال في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) : «إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك».

أخرجه (٦) وكيع ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٧ / ٤٢٤ ح ٢٦٠١٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٤٣ ح ١٧٤١ سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٩٩ ح ٣٠٠١ و ٣٠٠٢ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٢٣١ ح ١٨٢٧ ، الترغيب والترهيب : ٢ / ١٩٠ ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ٩ / ١٣ ح ٣٧٠١.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٢ / ١٢٠ رقم ٣٢٨.

(٣) البقرة : ١٩٦.

(٤) الدرّ المنثور : ١ / ٥٠٢.

(٥) نيل الأوطار : ٤ / ٣٣٥.

(٦) مصنّف ابن أبي شيبة : ٤ / ١٩٥ ح ٢٠ كتاب الحج ، جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٢٠٧ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٠٣ ح ٣٠٩٠ ، وكذا في تلخيصه ، أحكام القرآن : ١ / ٢٨٦ ، ٣٠٠ ، التفسير الكبير : ٥ / ١٤٤ ، الدرّ المنثور : ١ / ٥٠٢ ، نيل الأوطار : ٤ / ٣٣٥.

٢٩٨

والنحّاس في ناسخه (ص ٣٤) ، وابن جرير في تفسيرهِ (٢ / ١٢٠) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٢٧٦) ، وصحّحه وأقرّه الذهبي ، والبيهقي في السنن الكبرى (٥ / ٣٠) ، والجصّاص في أحكام القرآن (١ / ٣٣٧ ، ٣٥٤) ، تفسير ابن جزي (١ / ٧٤) ، تفسير الرازي (٢ / ١٦٢) ، تفسير القرطبي (٢ / ٣٤٣) ، تفسير ابن كثير (١ / ٢٣٠) ، الدرّ المنثور (١ / ٢٠٨) ، نيل الأوطار (٥ / ٢٦).

٤ ـ قال الجصّاص في أحكام القرآن (١) (١ / ٣١٠) : رُوي عن عليّ وعمر وسعيد ابن جبير وطاوس ، قالوا : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال في (ص ٣٣٧) : أمّا الإحرام بالعمرة قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه. وروي عن الأسود بن يزيد ، قال : خرجنا عُمّاراً ، فلمّا انصرفنا مررنا بأبي ذرّ فقال : أحلقتم الشعث وقضيتم التفث؟ أما إنّ العمرة من مدركم. وإنّما أراد أبو ذرّ : أنّ الأفضل إنشاء العمرة من أهلك ، كما رُوي عن عليّ : تمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال الرازي في تفسيره (٢) (٢ / ١٦٢) : روي عن عليّ وابن مسعود : أنّ إتمامهما أن يحرم من دُويرة أهله. وقال في (ص ١٧٢) : اشتهر عن أكابر الصحابة أنّهم قالوا : من إتمام الحجّ أن يحرم المرء من دُويرة أهله.

وقال القرطبي في تفسيره (٣) (٢ / ٣٤٣) بعد ذكره حديث عليّ عليه‌السلام : وروي ذلك عن عمر وسعد بن أبي وقّاص وفعله عمران بن حصين. ثمّ قال : أمّا ما روي عن عليّ وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقّتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف ، وثبت أنّ عمر أهلّ من إيلياء (٤) ، وكان

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٦٣ ، ٢٨٦.

(٢) التفسير الكبير : ٥ / ١٤٤ ، ١٦١.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٢٤٤.

(٤) إيلياء ـ بالمد وتقصر ـ : اسم مدينة بيت المقدس [معجم البلدان : ١ / ٢٩٣]. (المؤلف)

٢٩٩

الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يُحرمون من بيوتهم ، ورخّص فيه الشافعي. ثمّ ذكر حديث أُم سلمة المذكور.

وقال ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٣٠) بعد حديث عليّ عليه‌السلام : وكذا قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاوس وسفيان الثوري.

٥ ـ أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٥ / ٣٠) من طريق نافع عن ابن عمر : أنّه أحرم من إيلياء عام حكم الحكمين.

وأخرج مالك في الموطّأ (١) (١ / ٢٤٢) : أنّ ابن عمر أهلّ بحجّة من إيلياء. وذكره ابن الديبع في تيسير الوصول (٢) (١ / ٢٦٤) ، وسيوافيك عن ابن المنذر في كلام أبي زرعة : أنّه ثابت.

قال الشافعي في كتاب الأُمّ (٣) (٢ / ١١٨) : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ابن دينار ، عن طاووس ، قال : قال ـ ولم يسمّ عمرو القائل إلاّ أنّا نراه ابن عبّاس ـ : الرجل يهلّ من أهله ومن بعد ما يجاوز أين شاء ولا يجاوز الميقات إلاّ محرماً. إلى أن قال :

قلت : إنّه لا يضيق عليه أن يبتدئ الإحرام قبل الميقات كما لا يضيق عليه لو أحرم من أهله ، فلم يأت الميقات إلاّ وقد تقدّم بإحرامه ، لأنّه قد أتى بما أُمر به من أن يكون محرماً من الميقات. انتهى.

قال ملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ١٦٤) : كلّما قدّم الإحرام على المواقيت هو أفضل. وروي عن أبي حنيفة : أنّ ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه

__________________

(١) موطّأ مالك : ١ / ٣٣١ ح ٢٦.

(٢) تيسير الوصول : ١ / ٣١٣.

(٣) كتاب الأُمّ : ٢ / ١٣٨ ، ١٣٩.

٣٠٠