الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

١٦ ـ عن الحسن قال : «لو لا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدّثتكم بكثير ممّا تسألون عنه». أخرجه ابن سعد (١).

وحسبك من الفريق الأوّل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

١ ـ «رحم الله امرأً سمع منّي حديثاً فحفظ (٢) حتى يبلّغه غيره» (٣). أخرجه ابن حبّان.

٢ ـ «رحم الله امرأً سمع منّا حديثاً فوعاه ثمّ بلّغه من هو أوعى منه» (٤) أخرجه ابن عساكر.

٣ ـ «اللهمّ ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي ، يروون أحاديثي وسنّتي ويعلّمونها الناس» (٥). أخرجه الطبراني في الاوسط (٦) والرامهرمزي والخطيب وابن النجار.

٤ ـ «رحمة الله على خلفائي» ، قيل : من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال : «الذين يحيون سنّتي ويعلّمونها الناس» (٧). أخرجه أبو نصر في الإبانة وابن عساكر والمنذري في الترغيب.

٥ ـ «نضّر الله امرأً سمع منّا حديثاً فبلّغه غيره» (٨). أخرجه المنذري.

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٧ / ١٥٨.

(٢) في المصدر : فحفظه.

(٣) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ١ / ٢٧٠ ح ٦٧ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢٨ وح ٢٩٢٠٤.

(٤) كنز العمال : ١٠ / ٢٢٩ ح ٢٩٢٠٦.

(٥) المعجم الاوسط : ٦ / ٣٩٥ ح ٥٨٤٢ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢٩ ح ٢٩٢٠٨.

(٦) في الطبعات السابقة : الطيالسي ، وقد أشرنا إلى ذلك في ص ٢١٨.

(٧) الترغيب والترهيب : ١ / ١١٠ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢٩ ح ٢٩٢٠٩.

(٨) الترغيب والترهيب : ١ / ١٠٨ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢١ ح ٢٩١٦٥.

٢٢١

راجع (١) مسند أحمد مسانيد الصحابة المذكورين ، مسند الطيالسي ، الترغيب والترهيب للمنذري ، كتاب العلم لأبي عمر ، إحياء العلوم للغزالي ، مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي ، كنز العمّال كتاب العلم.

نعم ؛ لعلّ الخليفة اتّبع في كتمانه سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأي الشيخين قبله في نهيهما عن إكثار الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما فصّلنا القول فيه في (٦ / ٢٩٤) ، ولست أدري أنّ قلّة رواية الخليفة وقد بلغت عدّتها كما ذكرها السيوطي في تاريخ الخلفاء (٢) (ص ١٠٠) ، وابن العماد الحنبلي في الشذرات (٣) (١ / ١٣٦) مائة وستة وأربعين حديثاً أهي لقلّة مُنّته في السنّة ، وصفر يده من العلم بها؟ أو لشحّه على بثّها وضنّه بالأُمّة؟ والله يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون.

ـ ١٠ ـ

رأي الخليفة في زكاة الخيل

أخرج البلاذري في الأنساب (٤) (٥ / ٢٦) بالإسناد من طريق الزهري : أنّ عثمان كان يأخذ من الخيل الزكاة ، فأنكر ذلك من فعله وقالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق».

وقال ابن حزم في المحلّى (٥ / ٢٢٧) : قال ابن شهاب : كان عثمان بن عفّان يصدق الخيل.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٨ ح ٤١٤٦ ٣ / ٢٩١ ح ١٠١٠٩ ، ٦ / ٢٣٣ ح ٢١٠٨٠ ، مسند أبي داود الطيالسي : ٣٣٠ ح ٢٥٣٤ ، جامع بيان العلم : ص ٤٧ ح ١٦٠ ، ص ١٤٦ ح ٧١٥ ، ص ١٤٧ ح ٧١٧ ـ ٧١٩ ، إحياء علوم الدين : ١ / ١٦ ـ ١٧ ، مجمع الزوائد : ١ / ١٣٧ ، ١٦٣ ، ١٨٤ ح ٢٨٧٨٥.

(٢) تاريخ الخلفاء : ص ١٣٩.

(٣) شذرات الذهب : ١ / ٢٦٣ حوادث سنة ٥٧ ه‍. وفيه : مائة وأربعة وستون حديثاً ، والرقم مائة وستة وأربعون ذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٣٢٢ ، ترجمة عثمان بن عفّان.

(٤) أنساب الأشراف : ٥ / ٢٦.

٢٢٢

وأخرجه عبد الرزّاق (١) عن الزهري كما في تعاليق الآثار للقاضي أبي يوسف (ص ٨٧).

قال الأميني : ليت هذه الفتوى المجرّدة من الخليفة كانت مدعومة بشيء من كتاب أو سنّة ، لكن من المأسوف عليه أنّ الكتاب الكريم خال عن ذكر زكاة الخيل ، والسنّة الشريفة على طرف النقيض ممّا أفتى به ، وقد ورد فيما كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفرائض قوله : «ليس في عبد مسلم ولا في فرسه شيء».

وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق».

وفي لفظ ابن ماجة : «قد تجوّزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق».

وقوله : «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه».

وفي لفظ البخاري : «ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة».

وفي لفظ له : «ليس على المسلم صدقة في عبده وفرسه» (٢).

وفي لفظ مسلم : «ليس على المسلم في عبده ولا في (٣) فرسه صدقة».

وفي لفظ له : «ليس على المرء المسلم في فرسه ولا مملوكه صدقة».

وفي لفظ أبي داود : «ليس في الخيل والرقيق زكاة إلاّ زكاة الفطر في الرقيق».

وفي لفظ الترمذي : «ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة».

وفي لفظ النسائي كلفظ مسلم الأوّل.

وفي لفظ له : «لا زكاة على الرجل المسلم في عبده ولا فرسه».

وفي لفظ له : «ليس على المرء في فرسه ولا في مملوكه صدقة».

__________________

(١) المصنّف : ٤ / ٣٥ ح ٦٨٨٨.

(٢) في البخاري : ولا فرسه.

(٣) في مسلم : ولا فرسه بدون (في).

٢٢٣

وفي لفظ : «ليس على المسلم صدقة في غلامه ولا في فرسه».

ولفظ ابن ماجة كلفظ مسلم الأوّل.

وفي لفظ أحمد : «ليس في عبد الرجل ولا في فرسه صدقة».

وفي لفظ البيهقي : «لا صدقة على المسلم في عبده ولا في فرسه».

وفي لفظ عبد الله بن وهب في مسنده : «لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه».

وفي لفظ ابن أبي شيبة : «ولا في وليدته».

وفي رواية للطبراني في الكبير والبيهقي في السنن (٤ / ١١٨) من طريق عبد الرحمن بن سمرة : «لا صدقة في الكسعة والجبهة والنّخة» (١).

ومن طريق أبي هريرة : «عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخّة».

راجع (٢) صحيح البخاري (٣ / ٣٠ ، ٣١) ، صحيح مسلم (١ / ٣٦١) ، صحيح الترمذي (١ / ٨٠) ، سنن أبي داود (١ / ٢٥٣) ، سنن ابن ماجة (١ / ٥٥٥ ، ٥٥٦) ، سنن

__________________

(١) الجبهة : الخيل. الكسعة : البغال والحمير. النخة. المربّيات في البيوت. (المؤلف) [قال ابن منظور في لسان العرب : النَّخَّة والنُّخَّة : اسم جامع للحُمُر ، والنَّخّة : الرقيق من الرجال والنساء يعني بالرقيق المماليك. والنّخة : أن يأخذ المصدّق ديناراً لنفسه بعد فراغه من الصدقة. وقيل : النَّخَّة الدينار الذي يأخذه ، وبكل ذلك فُسّر قوله ٦ : ليس في النّخّة صدقة ، وكان الكسائي يقول : إنما هو النّخة بالضم. وهو البقر العوامل ...].

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٣٢ ح ١٣٩٤ ، ١٣٩٥ ، صحيح مسلم : ٢ / ٣٧١ ح ٨ ـ ٩ كتاب الزكاة ، سنن الترمذي : ٣ / ٢٣ ح ٦٢٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٠٨ ح ١٥٩٤ ـ ١٥٩٥ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٧٩ ح ١٨١٣ ، السنن الكبرى : ٢ / ١٧ ـ ١٩ ح ٢٢٤٦ ـ ٢٢٥٧ ، مسند أحمد : ١ / ١٤٩ ح ٧١٣ ، ص ١٩٥ ح ٩٨٧ ، ص ٢١٢ ح ١١٠٠ ، ص ٢٣٤ ح ١٢٣٧ ، ص ٢٣٥ ح ١٢٤٧ ، ص ٢٣٩ ح ١٢٧٠ و ٢ / ٤٧٩ ح ٧٢٥٣ ، ص ٤٩٣ ح ٧٢٤٩ ، ص ٥٤٥ ح ٧٦٩٩ و ٣ / ١٢٦ ح ٩٠٢٨ ، ص ١٦٩ ح ٩٢٩٥ ، كتاب الأم : ٢ / ٢٦ ، موطّأ مالك : ١ / ٢٧٧ ح ٣٧ ، أحكام القرآن : ٣ / ١٥٤ ، عمدة القاري : ٩ / ٣٦.

٢٢٤

النسائي (٥ / ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧) ، سنن البيهقي (٤ / ١١٧) ، مسند أحمد (١ / ٦٢ ، ١٢١ ، ١٣٢ ، ١٤٥ ، ١٤٦ ، ١٤٨ و ٢ / ٢٤٣ ، ٢٤٩ ، ٢٧٩ ، ٤٠٧ ، ٤٣٢) ، كتاب الأُم للشافعي (٢ / ٢٢) ، موطّأ مالك (١ / ٢٠٦) ، أحكام القرآن للجصّاص (٣ / ١٨٩) ، المحلّى لابن حزم (٥ / ٢٢٩) ، عمدة القاري للعيني (٤ / ٣٨٣).

ولو كان في الخيل شيء من الزكاة لوجب أن يذكر في كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي فصّل فيه الفرائض تفصيلا (١) ، وقد أعطاه كبرنامج يعمل به في الفرائض وعليه كان عمل الصحابة ، ومنه أخذ أبو بكر ما كتبه دستوراً يعوّل عليه في الصدقات (٢) ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يهتف بتلك السنّة الثابتة ، وعليها كان عمله عليه‌السلام ، وعليها أصفقت الصحابةو جرت الفتيا من التابعين ، وبها قال عمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومكحول ، والشعبي ، والحسن ، والحكم بن عتيبة ، وابن سيرين ، والثوري ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأهل الظاهر ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحنفيّة (٣).

وقال ابن حزم : وذهب جمهور الناس إلى أن لا زكاة في الخيل أصلاً. وقال مالك والشافعي ، وأحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وجمهور العلماء : لا زكاة في الخيل بحال.

نعم ؛ للحنفيّة هاهنا تفصيل مجرّد عن أيّ برهنة ضربت عنه الأُمّة صفحاً قالوا : لا زكاة في الخيل الذكور ، ولو كثرت وبلغت ألف فرس ، وإن كانت إناثاً ، أو إناثاً وذكوراً سائمة غير معلوفة فحينئذ تجب فيها الزكاة. وصاحب الخيل مخيّر إن شاء أعطى عن كلّ فرس منها ديناراً أو عشرة دراهم ، وإن شاء قوّمها فأعطى من كلّ مائتي درهم خمسة دراهم.

__________________

(١) راجع سنن البيهقي : ٤ / ٨٥ ـ ٩٠ ، مستدرك الحاكم : ١ / ٣٩٠ ـ ٣٩٨ [١ / ٥٤٨ ـ ٥٥٤ ح ١٤٤١ ـ ١٤٤٧]. (المؤلف)

(٢) راجع مصابيح السنّة للبغوي : ١ / ١١٩ [٢ / ١٤ ح ١٢٦٣]. (المؤلف)

(٣) راجع المحلّى لابن حزم : ٥ / ٢٢٩ [المسألة ٦٤١] ، عمدة القاري : ٤ / ٣٨٣ [٩ / ٣٦].(المؤلف)

٢٢٥

كذا حكاه ابن حزم في المحلّى (٥ / ٢٢٨) ، وأبو زرعة في طرح التثريب (٤ / ١٤) ، وملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ٣٤) ، والنووي في شرح مسلم (١).

وهذا التفصيل ما كان قطّ يعرفه الصحابة والتابعون لأنّهم لم يجدوا له أثراً في كتاب أو سنّة ، وكان من الحقيق إن كان للحكم مدرك يعوّل عليه أن يعرفوه ، وأن يثبته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه ، وكذلك أبو بكر من بعده ، وهذا كاف في سقوطه ، ولذلك خالف أبا حنيفة فيه أبو يوسف ومحمد ، وقالا بعدم الزكاة في الخيل كما ذكره الجصاص في أحكام القرآن (٢) (٣ / ١٨٨) ، وملك العلماء في البدائع (٢ / ٣٤) ، والعيني في العمدة (٣) (٤ / ٣٨٣).

وغاية جهد أصحاب أبي حنيفة في تدعيم قوله بالحجّة أحاديث لم يوجد في شيء منها ما جاء به من الرأي المجرّد ، ألا وهي :

١ ـ أخرج البخاري (٤) ومسلم (٥) في الصحيحين من طريق أبي هريرة مرفوعاً : ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها. فذكر الوعيد الذي في منع حقّها وحقّ الإبل والبقر والغنم ، وذكر في الإبل : ومن حقّها يوم وردها ، ثمّ قال : قيل : يا رسول الله. فالخيل؟ قال : الخيل لثلاثة : هي لرجل وزر ، وهي لرجل أجر ، وهي لرجل ستر. فأمّا الذي هي له وزر : فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الاسلام فهي له وزر ، وأمّا الذي هي له ستر : فرجل ربطها في سبيل الله. ثمّ لم ينس حقّ الله في ظهورها ، ولا رقابها فهي له ستر. وأمّا الذي هي له أجر : فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الاسلام. الحديث. وفي لفظ مسلم بدل قوله : ثمّ لم ينس حقّ الله ...

__________________

(١) شرح صحيح مسلم : ٧ / ٥٥.

(٢) أحكام القرآن : ٣ / ١٥٣.

(٣) عمدة القاري : ٩ / ٣٦.

(٤) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٣٢ ح ٣٤٤٦.

(٥) صحيح مسلم : ٢ / ٣٧٦ ح ٢٤ كتاب الزكاة.

٢٢٦

إلخ : ولم ينس حقّ الله في ظهورها وبطونها ، في عسرها ويسرها.

استدلّ به ابن التركماني المارديني في الجوهر النقيّ ـ ذيل سنن البيهقي ـ (٤ / ١٢٠) وقال : يدلّ عليه ظاهر قوله : ثمّ لم ينس حقّ الله. إلخ. مع قرينة قوله في أوّل الحديث : ما من صاحب كنز لا يؤدّي زكاته ، وما من صاحب إبل لا يؤدّي زكاتها ، وما من صاحب غنم لا يؤدّي زكاته. ونحن لا نعرف وجه الدلالة في ظاهر قوله : ثمّ لم ينس. مع ضمّ القرينة إليه على ما أفتى به أبو حنيفة ، وغيرنا أيضاً لا يرى فيه دلالة على الزكاة في الخيل ، كما قاله البيهقي في السنن (٤ / ١١٩).

٢ ـ أخرج البيهقي في سننه الكبرى (٤ / ١١٩) عن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن عبدان عن أبيه ، عن أبي عبد الله محمد بن موسى الإصطخري ، عن إسماعيل بن يحيى ابن بحر الأزدي ، عن الليث بن حماد الإصطخري ، عن أبي يوسف القاضي ، عن غورك بن الحصرم أبي عبد الله ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار.

قال البيهقي : تفرّد به غورك ، وأخبرنا أبو بكر بن الحارث قال : قال علي بن عمر الحافظ ـ يعني الدارقطني : تفرّد به غورك عن جعفر ، وهو ضعيف جدّا ومن دونه ضعفاء.

قال الأميني : في رجال الإسناد :

١ ـ أحمد بن عبدان : مجهول. قاله مسلمة بن قاسم.

٢ ـ محمد بن موسى الإصطخري : شيخ مجهول ، روى عن شعيب خبراً موضوعاً قاله ابن حجر.

٣ ـ إسماعيل بن يحيى الأزدي : ضعّفه الدارقطني ، وحكاه عنه ابن حجر.

٤ ـ ليث بن حمّاد الإصطخري : ضعّفه الدارقطني ، ونقله عنه الذهبي وابن حجر.

٢٢٧

٥ ـ أبو يوسف القاضي : قال البخاري : تركوه ، وعن المبارك : أنّه وهّاه. وعن يزيد بن هارون : لا تحلّ الرواية عنه. وقال الفلاس : صدوق كثير الخطأ. إلى آخر ما مرّ من ترجمته في هذا الجزء (ص ٣٠ ، ٣١).

٦ ـ غورك السعدي : قال الدارقطني : ضعيف جدّا ، وذكره الذهبي في الميزان (١).

ومما يوهن هذه الرواية عدم إخراج ابن أبي يوسف القاضي فيما جمعه من الأحاديث عن والده وأسماه بالآثار. وذكرها الذهبي في الميزان (٢) (٢ / ٣٢٣) فقال : ضعّف الدارقطني الليث وغيره في إسناده.

على أنّ الرواية خالية عن التفصيل الذي جاء به أبو حنيفة من نفي الزكاة في ذكور الخيل ولو كثرت ، ووجوبها إن كانت إناثا ، أو إناثا وذكوراً. إلى آخر ما تقوّل به.

٣ ـ أخرج ابن أبي شيبة في مسنده من طريق عمر مرفوعاً في حديث طويل قال : فلا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي : يا محمد. يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلّغت. ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي : يا محمد. يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً. الحديث.

استدلّ به على وجوب الزكاة في الخيل ابن التركماني المارديني في الجوهر النقيّ ذيل سنن البيهقي (٤ / ١٢٠). وقال : فدلّ على وجوب الزكاة في هذه الأنواع. انتهى.

__________________

(١) راجع ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٢٣ ، ٣٦٠ [٣ / ٣٣٧ ، ٤٢٠ رقم ٦٦٧٢ ، ٦٩٩٤] ، لسان الميزان : ١ / ١٩٢ ، ٤٤١ و ٤ / ٤٢١ ، ٤٩٣ و ٥ / ٤٠١ و ٦ / ٣٠٠ [١ / ٢٠٥ رقم ٦٠٧ ، ص ٤٩٢ رقم ١٣٧٧ و ٤ / ٤٩٠ رقم ٦٥٠٣ ، ص ٥٨٥ رقم ٦٧٧٩ و ٥ / ٤٥٤ رقم ٨٠٩٤ و ٦ / ٣٦٨ رقم ٩٣١٩]. (المؤلف)

(٢) ميزان الاعتدال : ٣ / ٤٢٠ رقم ٦٩٩٤.

٢٢٨

أمعن النظر في الحديث لعلّك تعرف وجه الدلالة على ما ارتآه الرجل ، وما أحسبك أن تعرفه ، غير أنّ حبّ المارديني إمامه أبا حنيفة أعماه وأصمّه ، فحسب أنّه أقام البرهنة على ما خرق به الرجل إجماع الأُمّة ، وتقوّل تجاه النصّ الأغرّ ، والسنّة الثابتة ، وكلّ هذه من جرّاء رأي من صدّق الخيل بعد عفو الله ورسوله عنها.

٤ ـ فعل عمر بن الخطّاب وأخذه الزكاة من الخيل ، وليس في فعله أيّ حجّة للحنفية ولا لغيرهم ، لأنّه لم يكن ، فيما عمله ، التفصيل الذي ذكره القوم ، على أنّه كان يأخذ ما أخذه من الخيل تطوّعاً لا فريضة باستدعاء من أرباب الخيل كما مرّ في الجزء السادس (ص ١٥٥) ، وما كان يخافه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويحذّر به عمر في أخذه الزكاة من الخيل من أن يعود جزية يوجبها أُناس في المستقبل ، فكان كما توسّم سلام الله عليه على عهد عثمان ، فالتفصيل المذكور أحدوثة في الدين خارجة عن السنّة الثابتة ، وهو كما قال ابن حزم في المحلّى (٥ / ٢٢٨) : وأتوا بقول في صفة زكاتها لا نعلم أحداً قاله قبلهم.

وقولهم هذا يخالف القياس الذي هو أساس مذهبهم. قال ابن رشد في ممهدات المدوّنة الكبرى (١ / ٢٦٣) : والقياس أنّه لمّا اجتمع أهل العلم في البغال والحمير على أنّه لا زكاة فيها وإن كانت سائمة ، واجتمعوا في الإبل ، والبقر ، والغنم على الزكاة فيها إذا كانت سائمة ، واختلفوا في الخيل السائمة وجب ردّها إلى البغال والحمير لا إلى الإبل والبقر والغنم ، لأنّها بها أشبه لأنّها ذات حافر كما أنّها ذوات حوافر ، وذو الحافر بذي الحافر أشبه منه بذي الخفّ أو الظلف ، ولأنّ الله تبارك وتعالى قد جمع بينها فجعل الخيل والبغال والحمير صنفاً واحداً لقوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) (١) وجمع بين الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فجعلها صنفاً واحداً لقوله (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ

__________________

(١) النحل : ٨.

٢٢٩

تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (١) ولقوله عزّ وجلّ : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٢).

ـ ١١ ـ

تقديم عثمان الخطبة على الصلاة

قال ابن حجر في فتح الباري (٣) (٢ / ٣٦١) : روى ابن المنذر عن عثمان بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال : أوّل من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلّى بالناس ثمّ خطبهم (٤) فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ، ففعل ذلك ، أي صار يخطب قبل الصلاة ، وهذه العلّة غير التي اعتلّ بها مروان ، لأنّ عثمان رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة ، وأمّا مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة.

لكن قيل : إنّهم كانوا في زمن مروان يتعمّدون ترك سماع خطبته لما فيها من سبّ من لا يستحقّ السبّ ، والإفراط في مدح بعض الناس ، فعلى هذا إنّما راعى مصلحة نفسه ، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان الذي واظب عليه.

وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (٥) (٣ / ٣٦٢).

وأخرج ابن شبة (٦) عن أبي غسان قال : أوّل من خطب الناس في المصلّى على منبر عثمان بن عفّان. وقال ابن حجر : يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرّة ثمّ تركه

__________________

(١) النحل : ٥ ، ٦.

(٢) غافر : ٧٩.

(٣) فتح الباري : ٢ / ٤٥١.

(٤) على الباحث مناقشة الحساب حول هذه الكلمة. (المؤلف)

(٥) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٤ ، ٣٤٥.

(٦) تاريخ المدينة : ١ / ١٣٥.

٢٣٠

حتى أعاده مروان. فتح الباري (١) (٢ / ٣٥٩) ، نيل الأوطار (٢) (٣ / ٣٧٤).

وذكره السيوطي في الأوائل ، وتاريخ الخلفاء (٣) (ص ١١١) ، والسكتواري في محاضرة الأوائل (٤) (ص ١٤٥) : إنّ أوّل من خطب في العيدين قبل الصلاة عثمان رضى الله عنه.

قال الأميني : إنّ الثابت في السنّة الشريفة أنّ الخطبة في العيدين تكون بعد الصلاة ، قال الترمذي في الصحيح (٥) (١ / ٧٠) : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم أنّ صلاة العيدين قبل الخطبة ويقال : إنّ أوّل من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم. انتهى.

وإليك جملة ممّا ورد فيها :

١ ـ عن ابن عبّاس قال : أشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه صلّى يوم فطر أو أضحى قبل الخطبة ثمّ خطب (٦).

صحيح البخاري (٢ / ١١٦) ، صحيح مسلم (١ / ٣٢٥) ، سنن أبي داود (١ / ١٧٨ ، ١٧٩) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٥) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٤) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٩٦).

٢ ـ عن عبد الله بن عمر قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أبو بكر ثمّ عمر يصلّون العيد قبل الخطبة. وفي لفظ الشافعي : إنّ النبيّ وأبا بكر وعمر كانوا يصلّون في العيدين قبل

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٤٤٩.

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٣٤٥.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٥٤.

(٤) الأوائل : ص ١٤٥.

(٥) سنن الترمذي : ٢ / ٤١١ ح ٥٣١.

(٦) صحيح البخاري : ٢ / ٥٢٥ ح ١٣٨١ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٣ ح ٢ كتاب صلاة العيدين ، سنن أبي داود : ١ / ٢٩٧ ح ١١٤٢ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٦ ح ١٢٧٣ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٥ ح ١٧٦٦.

٢٣١

الخطبة ، وفي لفظ للبخاري : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي في الأضحى والفطر ثمّ يخطب بعد الصلاة (١).

صحيح البخاري (٢ / ١١١ ، ١١٢) ، صحيح مسلم (١ / ٣٢٦) ، موطّأ مالك (١ / ١٤٦) ، مسند أحمد (٢ / ٣٨) ، كتاب الأم للشافعي (١ / ٢٠٨) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٧) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٩٦) ، سنن الترمذي (١ / ٧٠) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٣) ، المحلّى لابن حزم (٥ / ٨٥) ، بدائع الصنائع (١ / ٢٧٦)

٣ ـ عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج يوم العيد فيصلّي بالناس ركعتين ثمّ يسلّم فيقف على رجليه (٢). انتهى.

سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٩) ، المدوّنة الكبرى لمالك (١ / ١٥٥) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٩٧).

٤ ـ عن عبد الله بن السائب ، قال : حضرت العيد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى بنا العيد ثمّ قال : «قد قضينا الصلاة فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب» (٣).

سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٦) ، سنن أبي داود (١ / ١٨٠) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٥) ، سنن البيهقي (٣ / ٣٠١) ، المحلّى (٥ / ٨٦).

٥ ـ عن جابر بن عبد الله قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام يوم الفطر فصلّى فبدأ بالصلاة

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٢٦ ح ٩١٤ ، ص ٣٢٧ ح ٩٢٠ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٦ ح ٨ كتاب صلاة العيدين ، موطّأ مالك : ١ / ١٧٨ ، مسند أحمد : ٢ / ١٢٦ ح ٤٩٤٣ ، كتاب الأُم : ١ / ٢٣٥ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٧ ح ١٢٧٦ ، سنن الترمذي : ٢ / ٤١١ ح ٥٣١ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٥ ح ١٧٦٧.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٩ ح ١٢٨٨ ، المدوّنه الكبرى : ١ / ١٦٩.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٤١٠ ح ١٢٩٠ ، سنن أبي داود : ١ / ٣٠٠ ح ١١٥٥ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٨ ح ١٧٧٩.

٢٣٢

قبل الخطبة ثمّ خطب الناس (١).

صحيح البخاري (٢ / ١١١) ، صحيح مسلم (١ / ٣٢٥) ، سنن أبي داود (١ / ١٧٨) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٦) ، سنن البيهقي (٢ / ٢٩٦ ، ٦٩٨).

٦ ـ عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي قبل الخطبة. المدوّنة الكبرى (٢) (١ / ١٥٥).

٧ ـ عن البراء بن عازب قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم النحر بعد الصلاة (٣).

صحيح البخاري (٢ / ١١٠) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٥).

٨ ـ عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عليّ بن أبي طالب وعثمان محصور ، فجاء فصلّى ثمّ انصرف فخطب (٤).

موطّأ مالك (١ / ١٤٧) ، كتاب الأُم للشافعي (١ / ١٧١) ذكر من طريق مالك شطراً منه.

هذه الأحاديث تكشف عن استمرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه السنّة المرتّبة ولم يُعزَ إليه غيرها قطّ ، وعلى ذلك مضى الشيخان ومولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وعثمان نفسه ردحاً من أيّامه ، كما جاء في رواية ابن عمر من أنّ النبيّ وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلّون في العيدين قبل الخطبة (٥). وظاهر هذا اللفظ وإن كان مطلقاً إلاّ أنّ الجمع بينه وبين ما جاء من مخالفة عثمان للقوم وأنّه أوّل من قدّم الخطبة أنّه كان

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٣٢ ح ٩٣٥ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٤ ح ٣ كتاب صلاة العيدين ، سنن أبي داود : ١ / ٢٩٧ ح ١١٤١ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٥ ح ١٧٦٥.

(٢) المدوّنة الكبرى : ١ / ١٦٩.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٣٤ ح ٩٤٠ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٧ ح ١٧٧٧.

(٤) موطّأ مالك : ١ / ١٧٨ ، كتاب الأم : ١ / ١٩٢.

(٥) كتاب الأُم للشافعي : ١ / ٢٠٨ [١ / ٢٣٥] ، صحيح البخاري : ٢ / ١١٢ [١ / ٣٢٧ ح ٩٢٠]. (المؤلف)

٢٣٣

أوّلاً على وتيرتهم حتى بدا له أن يغيّر الترتيب ففعل ، ويؤيّده سكوت ابن عمر نفسه عن عثمان فيما مرّ (ص ١٦١) من قوله : كان النبيّ ثمّ أبو بكر ثمّ عمر يصلّون العيد قبل الخطبة. فإن كان عثمان أيضاً مستمرّا على سيرتهم وسنّتهم لذكره ولم يفصل بينهم وبهذا يتأتّى الجمع أيضاً بين حديثي ابن عبّاس من قوله : شهدت العيد مع النبيّ وأبي بكر وعمر فبدءوا بالصلاة قبل الخطبة. ومن قوله : صلّى رسول الله ثمّ خطب وأبو بكر وعمر وعثمان (١).

وليتني أدري كيف يُتقرّب إلى المولى سبحانه بصلاة بدّلوا فيها سنّة الله التي لا تبديل لها؟ قال الشوكاني في نيل الأوطار (٢) (٣ / ٣٦٣) : قد اختُلف في صحّة العيدين مع تقدّم الخطبة ، ففي مختصر المزني (٣) عن الشافعي ما يدلّ على عدم الاعتداد بها ، وكذا قال النووي في شرح المهذّب : إنّ ظاهر نصّ الشافعي أنّه لا يعتدّ بها. قال : وهو الصواب.

ثمّ تابع عثمان المسيطرون من الأمويّين من بعده فخالفوا السنّة المتّبعة بتقديم الخطبة لكن الوجه في فعل عثمان غيره في من تبعه ، أمّا هو فكان يُرتج عليه القول فلا يروق المجتمعين ما يتكلّفه من تلفيقه غير المنسجم فيتفرّقون عنه ، فقدّمها ليصيخوا إليه وهم منتظرون للصلاة ولا يسعهم التفرّق قبلها.

قال الجاحظ : صعد عثمان بن عفّان رضى الله عنه المنبر فأُرتج عليه فقال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب ، وستأتيكم الخطب على وجهها وتعلمون إن شاء الله (٤).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣٤٥ ، ٣٤٦ [١ / ٥٦٩ ح ٣٢١٥ ـ ٣٢١٧] ، صحيح مسلم : ١ / ٣٢٤ [٢ / ٢٨٣ ح ١ كتاب صلاة العيدين]. (المؤلف)

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٥.

(٣) مختصر المزني : ص ٣١.

(٤) البيان والتبيين : ١ / ٢٧٢ و ٢ / ١٩٥ [١ / ٢٧٩ و ٢ / ١٧١]. (المؤلف)

٢٣٤

وقال البلاذري في الأنساب (١) (٥ / ٢٤) : إنّ عثمان لمّا بويع خرج إلى الناس ، فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس إنّ أوّل مركب صعب ، وإنّ بعد اليوم أيّاماً ، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها ، فما كنّا خطباء وسيعلّمنا الله. وبهذا اللفظ أخرجه ابن سعد في طبقاته (٢) : (٣ / ٤٣) طبع ليدن ، وفي لفظ أبي الفداء في تاريخه : (١ / ١٦٦) : لمّا بويع عثمان رقى المنبر وقام خطيباً فحمد الله وتشهّد ثمّ أُرتج عليه ، فقال : إنّ أوّل كلّ أمر صعب وإن أعش فستأتيكم الخطب على وجهها. ثمّ نزل.

وروى أبو مخنف كما في أنساب البلاذري : إنّ عثمان لمّا صعد المنبر قال : أيّها الناس إنّ هذا مقام لم أزوّر له خطبة ولا أعددت له كلاماً ، وسنعود فنقول إن شاء الله.

وعن غياث بن إبراهيم : إنّ عثمان صعد المنبر فقال : أيّها الناس إنّا لم نكن خطباء ، وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله.

وروي أنّ عثمان خطب فقال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً وسيأتي الله به. انتهى.

وذكره اليعقوبي في تاريخه (٣) (٢ / ١٤٠) فقال : صعد عثمان المنبر وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة (٤) فتكلّم الناس في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشرّ ، وكان عثمان رجلاً حييّا فأُرتج عليه فقام مليّا لا يتكلّم ثمّ قال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقّق الخطب ، وإن تعيشوا فستأتيكم الخطبة. ثمّ نزل.

__________________

(١) أنساب الأشراف : ٥ / ٢٤.

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ٦٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٢.

(٤) وذكره غير واحد من مؤلّفي القوم. (المؤلف)

٢٣٥

وفي لفظ ملك العلماء في بدائع الصنائع (١ / ٢٦٢) : إنّ عثمان لمّا استخلف خطب في أوّل جمعة ، فلمّا قال : الحمد لله. أُرتج عليه ، فقال : أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال ، وإنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المكان مقالاً وستأتيكم الخطب من بعد ، وأستغفر الله لي ولكم. ونزل وصلّى بهم الجمعة.

ولعلّه لحراجة الموقف عليه كان يماطل الخطبة باستخبار الناس وسؤالهم عن أخبارهم وأسعارهم وهو على المنبر ، كما أخرجه أحمد في المسند (١) (١ / ٧٣) من طريق موسى بن طلحة. وذكره الهيثمي في المجمع (٢ / ١٨٧) فقال : رجاله رجال الصحيح.

ولا يبرّر عمل الخليفة ما احتجّ به ابن حجر فيما مرّ عن فتح الباري (ص ١٦٠) من أنّه رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة ... إلخ. لأنّ هذه المصلحة المزعومة كانت مرموقة على العهد النبويّ لكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرعها لما رآه من مصلحة التشريع الأقوى ، فهذا الرأي تجاه ما ثبت من السنّة نظير الاجتهاد في مقابلة النصّ ، ولو سوّغنا تغيير الأحكام ، وما قرّره الشرع الأقدس بآراء الرجال ، فلا تبقى قائمة للإسلام ، فلا فرق بينه وبين ما ارتآه مروان في كونهما بدعة مستحدثة ، وإن ضمّ إليه شنعة أخرى من سبّ من لا يحلّ سبّه.

هذا مجمل القول في أحدوثة الخليفة ، وأمّا من عداه من آل أميّة. فكانوا يسبّون ويلعنون مولانا أمير المؤمنين عليّا ـ صلوات الله عليه ـ في خطبهم على صهوات المنابر ، فلا تجلس لهم الناس وينثالون عنهم (٢) ، فقدّموا الخطبة ليضطرّ الناس إلى الاستماع له بالرغم من عدم استباحتهم ذلك القول الشائن ، لما وعوه من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصحيح المأثور من طريق ابن عبّاس وأُمّ سلمة من قوله : «من سبّ عليّا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله تعالى» (٣).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١١٨ ح ٥٤١.

(٢) أي : يتفرقون.

(٣) المستدرك : ٣ / ١٢١ [٣ / ١٣٠ ح ٤٦١٦] ، وستوافيك طرقه ومصادره. (المؤلف)

٢٣٦

أخرج أئمّة الصحاح من طريق أبي سعيد الخدري قال : أخرج مروان المنبر يوم العيد ، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، فقام رجل فقال : يا مروان خالفت السنّة ، أخرجت المنبر يوم عيد ، ولم يكن يخرج به ، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ، ولم يكن يُبدأ بها. فقال مروان : ذاك شيء قد ترك. فقال أبو سعيد : أمّا هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله يقول : «من رأى منكراً فاستطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان».

وفي لفظ الشافعي في كتاب الأُم (١) من طريق عياض بن عبد الله قال : إنّ أبا سعيد الخدري قال : أرسل إليّ مروان وإلى رجل قد سمّاه ، فمشى بنا حتى أتى المصلّى ، فذهب ليصعد فجبذته (٢) إليّ فقال : يا أبا سعيد تُرك الذي تعلم. قال أبو سعيد : فهتفت ثلاث مرّات ، فقلت : والله لا تأتون إلاّ شرّا منه.

وفي لفظ البخاري في صحيحه : خرجت مع مروان ـ وهو أمير المدينة ـ في أضحى أو فطر ، فلمّا أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي ، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتم والله. فقال : أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت : ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم ، فقال : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة (٣).

وفي لفظ : قال أبو سعيد : قلت : أين الابتداء بالصلاة؟ فقال : لا يا أبا سعيد قد

__________________

(١) كتاب الأُم : ١ / ٢٣٥.

(٢) جبذ : جذب. (المؤلف)

(٣) راجع صحيح البخاري : ٢ / ١١١ [١ / ٣٢٦ ح ٩١٣] ، صحيح مسلم : ١ / ٢٤٢ [٢ / ٢٨٦ ح ٩ كتاب صلاة العيدين] ، سنن أبي داود : ١ / ١٧٨ [١ / ٢٩٦ ح ١١٤٠] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٨٦ [١ / ٤٠٦ ح ١٢٧٥] ، سنن البيهقي : ٣ / ٢٩٧ ، مسند أحمد : ٣ / ١٠ ، ٢٠ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٩٢ [٣ / ٣٨١ ح ١٠٦٨٩ ، ص ٣٩٧ ح ١٠٧٦٦ ، ص ٤٥٢ ح ١١١٠٠ ، ص ٤٥٦ ح ١١١٢٢ ، ص ٥١٨ ، ح ١١٤٦٦] ، بدائع الصنائع : ١ / ٢٧٦. (المؤلف)

٢٣٧

تُرك ما تعلم ، قلت : كلاّ والذي نفسي بيده لا تأتون بخير ممّا أعلم. ثلاث مرّات.

قال ابن حزم في المحلّى (٥ / ٨٦) : أحدث بنو أميّة تقديم الخطبة قبل الصلاة واعتلّوا بأنّ الناس كانوا إذا صلّوا تركوهم ، ولم يشهدوا الخطبة ، وذلك لأنّهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فكان المسلمون يفرّون وحقّ لهم ، فكيف وليس الجلوس واجباً؟

وقال ملك العلماء في بدائع الصنائع (١ / ٢٧٦) : وإنّما أحدث بنو أُميّة الخطبة قبل الصلاة لأنّهم كانوا يتكلّمون في خطبتهم بما لا يحلّ ، وكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس. وبمثل هذا قال السرخسي في المبسوط (٢ / ٣٧).

وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٦) : قيل : سبب ذلك أنّهم كانوا يسبّون في الخطبة من لا يحلّ سبّه ، فتفرّق الناس عند الخطبة إذا كانت متأخّرة لئلاّ يسمعوا ذلك فقدّم الخطبة ليُسمعهم.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار (١) : (٣ / ٣٦٣) : قد ثبت في صحيح مسلم (٢) من رواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال : أوّل من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، وقيل : أوّل من فعل ذلك معاوية ، حكاه القاضي عياض. وأخرجه الشافعي (٣) عن ابن عبّاس بلفظ : حتى قدم معاوية فقدّم الخطبة. ورواه عبد الرزاق (٤) عن الزهري بلفظ : أوّل من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية. وقيل : أوّل

__________________

(١) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٥.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ١٠٠ ح ٧٨ كتاب الإيمان.

(٣) أخرجه في كتاب الأُم : ١ / ٢٠٨ [١ / ٢٣٥] من طريق عبد الله بن يزيد الخطمي ، ولعلّ حديث ابن عبّاس مذكور في غير هذا الموضع. (المؤلف)

(٤) المصنّف : ٣ / ٢٨٤ ح ٥٦٤٦.

٢٣٨

من فعل ذلك زياد بالبصرة في خلافة معاوية ، حكاه القاضي أيضاً. وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أنّ أوّل من فعل ذلك زياد بالبصرة قال : ولا مخالفة بين هذين الأثرين ، وأثر مروان ، لأنّ كلاّ من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية فيحمل على أنّه ابتدأ ذلك ، وتبعه عمّاله. انتهى.

لا شكّ أنّ كلاّ من هؤلاء الثلاثة جاء ببدعة وتردّى بالفضيحة ، لكنّ كلّ التبعة على من جرّأهم على تغيير السنّة فعلّوا على أساسه ، ولعبوا بسنن المصطفى حتى الصلاة. أخرج الشافعي في كتاب الأُم (١) (١ / ٢٠٨) من طريق وهب بن كيسان قال : رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثمّ قال : كلّ سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غُيّرت حتى الصلاة.

فإن كان ما ينقم على الخليفة من هذا الوجه أمراً واحداً فهو في بقيّة الأمويّين أمران : مخالفة السنّة ، والابتداع بسبّ أمير المؤمنين. فهم مورد المثل السائر : أحشفاً وسوء كيلة (٢). أنا لا أعجب من هؤلاء الثلاثة إن جاءوا بالبدع ، فإنّ بقيّة أعمالهم تلائم هاتيك الخطّة ، فإنّ الخلاعة والتهتّك مزيج نفسيّاتهم ، والمعاصي المقترفة ملء أرديتهم فلا عجب منهم إن غيّروا السنّة كلّها ، ولا أعجب من مروان إن قال لأبي سعيد بكلّ ابتهاج : تُرك الذي تعلم. أو قال : قد ذهب ما تعلم ، ولا عجب إن بدّلوا الخطبة المجعولة للموعظة وتهذيب النفوس ؛ الخطبة التي قالوا فيها : وجبت لتعليم ما يجب إقامته يوم العيد والوعظ والتكبير ، كما في البدائع (١ / ٢٧٦) بدّلوها بما هو محظور شرعاً أشدّ الحظر من الوقيعة في أمير المؤمنين ، وأوّل المسلمين ، وحامية الدين ، الإمام المعصوم ، المطهّر بنصّ الكتاب العزيز ، نفس النبيّ الأقدس بصريح القرآن ، وعدل الثقل الأكبر في حديث الثقلين ، صلوات الله عليه. ولعلّك لا تعجب من الخليفة

__________________

(١) كتاب الأُم : ١ / ٢٣٥.

(٢) مثل يضرب لخلّتي الإساءة تجتمعان على الرجل. المستقصى في أمثال العرب : ١ / ٢٥٩.

٢٣٩

أيضاً تغييره سنّة الله وسنّة رسوله بعد أن درست تاريخ حياته ، وسيرته المعربة عن نفسيّاته ، وهو وهم من شجرة واحدة اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار.

لكنّ العجب كلّه ممّن يرى هؤلاء ، وأمثالهم من سماسرة الشهوات والميول ، عدولاً بما أنّهم من الصحابة ، والصحابة كلّهم عدول عندهم ، وأعجب من هذا أن يُحتجّ في غير واحد من أبواب الفقه بقول هؤلاء وعملهم. نعم ، وافق شنّ طبقه.

ـ ١٢ ـ

رأي الخليفة في القصاص والدية

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٣٣) من طريق الزهري : أنّ ابن شاس الجذامي قتل رجلاً من أنباط الشام ، فرُفِع إلى عثمان رضى الله عنه فأمر بقتله ، فكلّمه الزبير رضى الله عنه وناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنهوه عن قتله ، قال : فجعل ديته ألف دينار. وذكره الشافعي في كتاب الأُم (١) (٧ / ٢٩٣).

وأخرج البيهقي من طريق الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر رضى الله عنه : أنّ رجلاً مسلماً قتل رجلاً من أهل الذمّة عمداً ، ورُفِع إلى عثمان رضى الله عنه فلم يقتله وغلّظ عليه الدية مثل دية المسلم.

وقال أبو عاصم الضحّاك في الديات (ص ٧٦) : وممّن يرى قتل المسلم بالكافر عمر بن عبد العزيز ، وإبراهيم ، وأبان بن عثمان بن عفّان ، وعبد الله ؛ رواه الحكم عنهم ، وممّن أوجب دية الذمّي مثل دية المسلم عثمان بن عفّان.

قال الأميني : إنّ عجبي مقسّم بين إرادة الخليفة قتل المسلم بالكافر ، وبين جعل عقل الكافر مثل دية المسلم ، فلا هذا مدعوم بحجّة ، ولا ذلك مشفوع بسنّة ، وأيّ خليفة هذا يزحزحه مثل الزبير ، المعروف سيرته والمكشوف سريرته ، عن رأيه في

__________________

(١) كتاب الأُم : ٧ / ٣٢١.

٢٤٠