الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

الخليفة يعلم بنسبة الغضب إليه على إقامه حدّ الله وإيثار رحمه على حكم الشريعة؟ فيغضّ الطرف عنه رضاً منه بما يقول ، أولا يبلغه؟ وهو خلاف سياق الحديث الذي ينمّ عن اطّلاعه على كلّ ما هنالك ، وكان يتعلّل عن إقامة الحدّ بكلّ تلكم الأحوال ، حتى أنّه منع السبط المجتبى الحسن عليه‌السلام لما علم أنّه لا يجنح إلى الباطل بالرقّة عليه وأحبّ أن يجلده زبانيته الذين يتحرّون مرضاته ، لكن غلب أمر الله ونفذ حكمه بمولانا أمير المؤمنين الذي باشر الحدّ بنفسه والظالم يسبّه وهو سلام الله عليه لا تأخذه في الله لومة لائم ، أو أمر ـ سلام الله عليه ـ عبد الله بن جعفر فجلده وهو عليه‌السلام يعدّ كما في الصحيح لمسلم (١) والأغاني (٢) وغيرهما.

وهل الحدّ يعطّل بعد ثبوت ما يوجبه ، حتى يقع عليه الحجاج ، ويحتدم الحوار فيعود الجدال جلاداً ، وتتحوّل المكالمة ملاكمة ، وتعلو النعال والأحذية ، ويُشكّل أوّل قتال بين المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعقيرة أمّ المؤمنين مرتفعة : إنّ عثمان عطّل الحدود وتوعّد الشهود. ويوبّخه على ذلك سيّد العترة ـ صلوات الله عليه ـ بقوله : «عطّلت الحدود وضربت قوماً شهدوا على أخيك» وهل بعد هذه كلّها يستأهل مثل هذا الفاسق المهتوك بلسان الكتاب العزيز أن يبعث على الأموال؟ كما فعله عثمان وبعث الرجل بعد إقامة الحدّ عليه على صدقات كلب وبلقين (٣) ، وهل آصرة الإخاء تستبيح ذلك كلّه؟

ليست ذمّتي رهينة بالجواب عن هذه الأسئلة وإنّما عليّ سرد القصّة مشفوعة بالتعليل والتحليل ، وأمّا الجواب فعلى عهدة أنصار الخليفة ، أو أنّ المحكّم فيه هو القارئ الكريم.

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من صحيح مسلم : صفحة ٥٢ [٣ / ٥٣٩ ح ٣٨ كتاب الحدود]. (المؤلف)

(٢) الأغاني : ٥ / ١٤٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٤٢ [٢ / ١٦٥]. (المؤلف)

١٨١

ـ ٤ ـ

النداء الثالث بأمر الخليفة

أخرج البخاري وغيره بالإسناد عن السائب بن يزيد : إنّ النداء يوم الجمعة كان أوّله في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي زمان أبي بكر وفي زمان عمر إذا خرج الإمام ، وإذا قامت الصلاة ، حتى كان زمان عثمان فكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء فثبتت حتى الساعة (١).

وفي لفظ البخاري وأبي داود : إنّ الأذان كان أوّله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر ، فلمّا كان خلافة عثمان وكثر الناس ، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ، فأذّن به على الزوراء (٢) فثبت الأمر على ذلك.

وفي لفظ النسائي : أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذّن به على الزوراء.

وفي لفظ له أيضاً : كان بلال يؤذّن إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر يوم الجمعة فإذا نزل أقام ، ثمّ كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر.

وفي لفظ الترمذي : كان الأذان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر إذا

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٩٥ ، ٩٦ [١ / ٣٠٩ ح ٨٧٠ ، ٨٧٤] ، صحيح الترمذي : ١ / ٦٨ [٢ / ٣٩٢ ح ٥١٦] ، سنن أبي داود : ١ / ١٧١ [١ / ٢٨٥ ح ١٠٨٧] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٤٨ [١ / ٣٥٩ ح ١١٣٥] ، سنن النسائي : ٣ / ١٠٠ [١ / ٥٢٧ ح ١٧٠٠] ، كتاب الأُم للشافعي : ١ / ١٧٣ [١ / ١٩٥] ، سنن البيهقي : ١ / ٤٢٩ ، ٣ / ١٩٢ ، ٢٠٥ ، تاريخ الطبري : ٥ / ٦٨ [٤ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٠ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ٤٨ [٢ / ٢٥٣ حوادث سنة ٣٠ ه‍] ، فيض الإله المالك للبقاعي : ١ / ١٩٣ [١ / ٢٠١]. (المؤلف)

(٢) الزوراء : اسم موضع في سوق المدينة قرب المسجد ، وهو مرتفع كالمنارة. معجم البلدان : ٣ / ١٥٦.

١٨٢

خرج الإمام أُقيمت الصلاة ؛ فلمّا كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء.

وفي لفظ البلاذري في الأنساب (٥ / ٣٩) عن السائب بن يزيد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج للصلاة أذّن المؤذّن ثمّ يقيم ، وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر ، وفي صدر من أيّام عثمان ، ثمّ إنّ عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة (١) فعاب الناس ذلك وقالوا : بدعة.

وقال ابن حجر في فتح الباري (٢) (٢ / ٣١٥) : والذي يظهر أنّ الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر ، لكن ذكر الفاكهاني : أنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل بمكة الحجّاج وبالبصرة زياد ، وبلغني أنّ أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرّة ؛ وروى ابن أبي شيبة (٣) من طريق ابن عمر قال : الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار ، ويحتمل أن يريد أنّه لم يكن في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّ ما لم يكن في زمنه يسمّى بدعة.

وحكى ما في الفتح ، الشوكاني في نيل الأوطار (٤) (٣ / ٣٣٢) ، وذكر العيني في عمدة القاري (٥) حديث ابن عمر من أنّ الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة ؛ وروى عن الزهري قوله : إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل عثمان يؤذّن لأهل الأسواق. وقال : وفي لفظ : فأحدث عثمان التأذينة الثالثة على الزوراء ليجتمع الناس ـ إلى أن قال ـ : وقيل : إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل بمكة الحجّاج وبالبصرة زياد.

__________________

(١) يعني السنة السابعة من خلافة عثمان توافق الثلاثين من الهجرة كما في تاريخ الطبري [٤ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٠ ه‍] وغيره. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ٢ / ٣٩٤.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة : ٢ / ٤٨ ح ٣.

(٤) نيل الأوطار : ٣ / ٢٩٨.

(٥) عمدة القاري : ٦ / ٢١١.

١٨٣

قال الأميني : إنّ أوّل ما يُستفهم من رواة هذه الأحاديث أنّ المراد من كثرة الناس الموجبة لتكرّر الأذان هل هو كثرتهم في مركز الخلافة المدينة المنوّرة أو كثرتهم في العالم؟ أمّا الثاني فلم يكن يُجديهم فيه ألف أذان ، فإنّ صوت مؤذّن المدينة لا يبلغ المدن والأمصار ؛ ولا أنّ أولئك مكلّفون بالإصغاء إلى أذان المدينة ولا الصلاة معه.

وأمّا كثرة الناس في المدينة نفسها لو تمّ كونها مصحّحاً للزيادة في النداء ، فإنّما يصحّح تكثير المؤذّنين في أنحاء البلد في وقت واحد لا الأذان بعد الإقامة الفاصل بينها وبين الصلاة ، وقد ثبت في السنّة خلافه في الترتيب ، وأُحدوثة الخليفة إنّما هي الزيادة في النداء بعد الإقامة لا إكثار المؤذّنين ، كما نبّه إليه التركماني في شرح السنن الكبرى للبيهقي (١ / ٤٢٩) ، ولذلك عابه عليه الصحابة ، وحسبوه بدعة ، ولا يخصّ تعدّد المؤذّنين بأيّام عثمان فحسب ، وقد كان في أيّام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤذّن بلال وابن أُمّ مكتوم ، واتّخذ عثمان أربعة للحاجة إليها حين كثر الناس كما في شرح الأُبّي على صحيح مسلم (١) (٢ / ١٣٦) ، ولا أجد خلافاً في جواز تعدّد المؤذّنين ، بل رتّبوا عليه أحكاماً مثل قولهم هل الحكاية المستحبّة أو الواجبة كما قيل تتعدّد بتعدد المؤذّنين أم لا؟ وقولهم : إذا أذّن المؤذّن الأوّل ، هل للإمام أن يبطئ بالصلاة ليفرغ من بعده؟ أو له أن يخرج ويقطع من بعده أذانه؟ وقولهم : إذا تعدّد المؤذّنون لهم أن يؤذّن واحد بعد واحد ، أو يؤذّن كلّهم في أوّل الوقت؟ وقال الشافعي في كتاب الأُم (٢) (١ / ٧٢) : إن كان مسجداً كبيراً له مؤذّنون عدد فلا بأس أن يؤذّن في كلّ منارة له مؤذّن فيسمع من يليه في وقت واحد.

وظاهر ما مرّ في الصحيح من أنّه زاد النداء الثالث هو إحداث الأذان بعد

__________________

(١) شرح صحيح مسلم للأُبِّي : ٢ / ٢٣٩.

(٢) كتاب الأُم : ١ / ٨٤.

١٨٤

الأذان والإقامة لا الأذان قبلهما كما يأتي عن الطبراني (١) ، ويومي إليه قول بعض شرّاح الحديث من أنّ النداء الثالث ثالث باعتبار الشرعيّة لكونه مزيداً على الأذان بين يدي الإمام وعلى الإقامة للصلاة (٢) ، نعم : قال ابن حجر في فتح الباري (٣) (٢ / ٣١٥) : تواردت الشرّاح على أنّ معنى قوله : الأذان الثالث ، أنّ الأوّلين الأذان والإقامة ، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثاً يستدعي سبق اثنين قبله. وقال العيني في عمدته (٤) (٢ / ٢٩٠) : إنّما أطلق الأذان على الإقامة لأنّها إعلام كالأذان ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء» (٥) ، ويعني به بين الأذان والإقامة.

وعلى تقدير إيجاب كثرة الناس الزيادة في النداء يلزم كما قلنا أن يكون الأذان الزائد في أطراف البلد وأقاصيه عن المسجد ليبلغ من لا يبلغه أذان المسجد الذي كان يؤذّن به على باب المسجد على العهد النبويّ ودور الشيخين ، كما ورد في سنن أبي داود (٦) (١ / ١٧١) ، لا في الزوراء التي هي دار بقرب المسجد كما في القاموس (٧) ، وتاج العروس (٨) ، سواء كانت هي دار عثمان بن عفّان التي ذكرها الحموي في المعجم (٩) (٤ / ٤١٢) ، وقال الطبراني (١٠) : فأمر عثمان بالنداء الأوّل على دار له يقال لها الزوراء

__________________

(١) المعجم الكبير : ٧ / ١٤٥ ح ٦٦٤٢.

(٢) شرح الترمذي في هامشه : ٢ / ٦٨. (المؤلف)

(٣) فتح الباري : ٢ / ٣٩٥.

(٤) عمدة القاري : ٥ / ٢١١.

(٥) أخرجه البخاري في صحيحه : ٢ / ٨ [١ / ٢٢٥ ح ٦٠١]. (المؤلف)

(٦) سنن أبي داود : ١ / ٢٨٥ ح ١٠٨٧.

(٧) القاموس المحيط : ص ٥١٦.

(٨) تاج العروس : ٣ / ٢٤٦.

(٩) معجم البلدان : ٣ / ١٥٦.

(١٠) المعجم الكبير : ٧ / ١٤٥ ح ٦٦٤٢.

١٨٥

فكان يؤذّن له عليها (١) ، أو موضع عند سوق المدينة بقرب المسجد كما ذكره الحموي أيضاً ، أو حجر كبير عند باب المسجد على ما جزم به ابن بطّال كما في فتح الباري (٢ / ٣١٥) ، وعمدة القاري (٣ / ٢٩١). فالنداء في الزوراء على كلّ حال كالنداء في باب المسجد في مدى الصوت ومبلغ الخبر ، فأيّ جدوى في هذه الزيادة المخالفة للسنّة؟

ثمّ إنّ كثرة الناس على فرضها في المدينة هل حصلت فجائيّة في السابعة من خلافة عثمان؟ أو أنّ الجمعيّة كانت إلى التكثّر منذ عادت عاصمة الخلافة الإسلاميّة؟ فما ذلك الحدّ الذي أوجب مخالفة السنّة أو ابتداع نداء ثالث؟ وهل هذه السنّة المبتدعة يجري ملاكها في العواصم والأوساط الكبيرة التي تحتوي أضعاف ما كان بالمدينة من الناس فيكرّر فيها الأذان عشرات أو مئات؟ سل الخليفة وأنصاره المبرّرين لعمله.

على أنّ كثرة الناس في المدينة إن كانت هي الموجبة للنداء الثالث فلما ذا أخذ فعل الخليفة أهل البلاد جمعاء وعمل به؟ ولم يكن فيها التكثّر ، وكان على الخليفة أن ينهاهم عنه وينوّه بأنّ الزيادة على الأذان المشروع تخصّ بالمدينة فحسب ، أو يؤخذ بحكمها في كلّ بلدة كثر الناس بها.

نعم ، فتح الخليفة باب الجرأة على الله فجاء بعده معاوية ومروان وزياد والحجّاج ولعبوا بدين الله على حسب ميولهم وشهواتهم والبادي أظلم.

ـ ٥ ـ

توسيع الخليفة المسجد الحرام

قال الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٤٧) في حوادث سنة (٢٦) الهجريّة : وفيها زاد

__________________

(١) فتح الباري لابن حجر : ٢ / ٣١٥ [٢ / ٣٩٤] ، عمدة القاري : ٣ / ٢٩١ [٦ / ٢١٢].(المؤلف)

(٢) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٥١.

١٨٦

عثمان في المسجد الحرام ووسّعه ، وابتاع من قوم وأبى آخرون ، فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال ، فصاحوا بعثمان فأمر بهم الحبس وقال : أتدرون ما جرّأكم عليّ؟ ما جرّأكم عليّ إلاّ حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. ثمّ كلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأُخرجوا. وذكره هكذا اليعقوبي في تاريخه (١) (٢ / ١٤٢) ، وابن الأثير في الكامل (٢) (٣ / ٣٩).

وأخرج البلاذري في الأنساب (٥ / ٣٨) من طريق مالك عن الزهري قال : وسّع عثمان مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنفق عليه من ماله عشرة آلاف درهم ، فقال الناس : يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته.

قال الأميني : كأنّ الخليفة لم يكن يرى لليد ناموساً مطّرداً في الإسلام ، ولا للملك والمالكيّة قيمة ولا كرامة في الشريعة المقدّسة ، وكأنّه لم يقرع سمعه قول نبيّ العظمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس منه» (٣).

وإنّ من العجب العجاب أنّ الخليفة نفسه أدرك عهد عمر وزيادته في المسجد ، وشاهد محاكمة العبّاس بن عبد المطّلب معه وإباءه عن إعطاء داره ، ورواية أبيّ بن كعب وأبي ذر الغفاري وغيرهما حديث بناء بيت المقدس عن داود عليه‌السلام ، وقد خصمه العبّاس بذلك ، وثبتت عند عمر السنّة الشريفة فخضع لها ، كما مرّ تفصيله في الجزء السادس (ص ٢٦٢ ـ ٢٦٦). غير أنّ الرجل لم يكترث لذلك كلّه ويخالف تلك السنّة الثابتة ، ثمّ يحتجّ بفعل عمر وهيبة الناس لكنّه حلم فلم يهابوه ، فهدم دور الناس من دون رضاهم وسجن من حاوره أو فاوضه في ذلك ، ووضع الأثمان في بيت المال

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٤.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٣٤ حوادث سنة ٢٦ ه‍.

(٣) ذكره بهذا اللفظ الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي في بهجة النفوس : ٢ / ١٣٤ [ح ٧٢] و ٤ / ١١١ [ح ٢٢٣]. (المؤلف)

١٨٧

حتى قال الناس : يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته.

ـ ٦ ـ

رأي الخليفة في متعة الحجّ

أخرج البخاري في الصحيح بالإسناد عن مروان بن الحكم قال : سمعت (١) عثمان وعليّا رضي الله عنهما بين مكة والمدينة ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعاً ، قال : «لبّيك بعمرة وحجّة معاً» قال : فقال عثمان : تراني أنهى الناس عن شيء وتفعله أنت؟ قال : «لم أكن لأدع سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول أحد من الناس».

وفي لفظ أحمد : كنّا نسير مع عثمان رضى الله عنه ، فإذا رجل يلبّي بهما جميعاً ، فقال عثمان رضى الله عنه : من هذا؟ فقالوا : عليّ. فقال. ألم تعلم أنّي قد نهيت عن هذا؟ قال : «بلى. ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقولك».

وأخرج الشيخان بالإسناد عن سعيد بن المسيب قال : اجتمع عليّ وعثمان رضي الله عنهما بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال له عليّ «ما تريد إلى امر فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنهى عنه؟» قال دعا منك قال : «انّى لا أستطيع أن أدعك». فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعاً.

وأخرج مسلم من طريق عبد الله بن شقيق قال : كان عثمان رضى الله عنه ينهى عن المتعة وكان عليّ رضى الله عنه يأمر بها ، فقال عثمان لعليّ كلمة ، ثمّ قال عليّ : «لقد علمت أنّا قد تمتّعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قال : أجل ولكنّا كنّا خائفين.

راجع (٢) : صحيح البخاري (٣ / ٦٩ ، ٧١) ، صحيح مسلم (١ / ٣٤٩) ، مسند أحمد

__________________

(١) في المصدر : شهدت عثمان وعليّا ....

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٦٧ ح ١٤٨٨ ، ص ٥٦٩ ح ١٤٩٤ ، صحيح مسلم : ٣ / ٦٨ ح ١٥٨ كتاب الحج ، مسند أحمد : ١ / ٩٨ ح ٤٣٣ ، ص ١٥٣ ح ٧٣٥ ، السنن الكبرى : ٢ / ٣٤٥ ح ٣٧٠٣ ، المستدرك على الصحيحين : / ٦٤٤ ح ١٧٣٥ ، تيسير الوصول : ١ / ٣٣٣.

١٨٨

(١ / ٦١ ، ٩٥) ، سنن النسائي (٥ / ١٤٨ ، ١٥٢) ، سنن البيهقي (٤ / ٣٥٢ و ٥ / ٢٢) ، مستدرك الحاكم (١ / ٤٧٢) ، تيسير الوصول (١ / ٢٨٢).

قال الأميني : لقد فصّلنا القول في هذه المسألة في نوادر الأثر من الجزء السادس (ص ١٩٨ ـ ٢٠٥ و ٢١٣ ـ ٢٢٠) ، تفصيلاً وذكرنا هنالك أحاديث جمّة أنّ متعة الحجّ ثابتة بالكتاب والسنّة ، ولم تنزل آية تنسخ متعة الحجّ ولم ينه عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى مات ، وإنّما النهي عنها رأي رآه الخليفة الثاني كما أخرجه الشيخان وجمع من أئمّة الحديث من طرقهم المتكثّرة. ولقد شاهد عثمان تلكم المواقف وما وقع فيها من الحوار وما أنكره الصحابة على من نهى عنها ، وكان كلّ حجّته : إنّي لو رخّصت في المتعة لهم لعرّسوا بهنّ في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجّاجاً. وأنت ترى أنّ هذه الحجّة الداحضة لم تكن إلاّ رأياً تافهاً غير مدعوم ببرهنة ، بل منقوض بالكتاب والسنّة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرف من صاحب هذا الرأي بهذه الدقيقة التي اكتشفها بنظّارته المقرّبة ، والله سبحانه قبله يعلم كلّ ذلك ، فلم ينهيا عن متعة الحج بل أثبتاها.

ما العلمُ إلاّ كتابُ اللهِ والأثرُ

وما سوى ذاك لا عينٌ ولا أثرُ

إلاّ هوىً وخصوماتٌ ملفّقةٌ

فلا يغرنّكَ من أربابِها هدَرُ (١)

نعم ، شهد عثمان كلّ ذلك لكنّه لم يكترث لشيء منها ، وطفق يقتصّ أثر من قبله ، وكان حقّا عليه أن يتّبع كتاب الله وسنّة نبيّه والحقّ أحقّ أن يتّبع ، ولم يقنعه كلّ ذلك حتى أخذ يعاتب أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام ـ الذي هو نفس الرسول ، وباب مدينة علمه ، وأقضى أمّته وأعلمها ـ على عدم موافقته له في رأيه المجرد الشاذّ عن حكم الله ، حتى وقع الحوار بينهما في عسفان وفي الجحفة وأمير المؤمنين عليه‌السلام متمتّع بالحجّ ، وكاد من جرّاء ذلك يُقتَلُ عليّ ـ سلام الله عليه ـ كما مرّ حديثه في الجزء السادس ص (٢٠٥)

__________________

(١) البيان للفقيه أبي زيد علي الزبيدي المتوفّى ٨١٣ ، ذكرهما صاحب شذرات الذهب : ٧ / ٢٠٣ [٩ / ١٥٣ حوادث سنة ٨١٣ ه‍]. (المؤلف)

١٨٩

[من] الطبعة الأُولى و (٢١٩) من الطبعة الثانية.

ونحن لا ندري مغزى جواب الرجل لمولانا عليّ عليه‌السلام لمّا قال له : «لقد علمت أنّا تمتّعنا مع رسول الله». من قوله : أجل ولكنّا كنّا خائفين. أيّ خوف كان في سنة حجّة التمتع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وهي حجّة الوداع والنبيّ الأقدس كان معه مائة ألف أو يزيدون ، وأنت تجد أعلام الأمّة غير عارفين بهذا العذر التافه المختلق أيضاً ، قال إمام الحنابلة أحمد في المسند بعد ذكر (١) الحديث : قال شعبة لقتادة : ما كان خوفهم. قال : لا أدري!

أنا لا أدري ، هذا مبلغ علم الخليفة ، أو مدى عقليّته ، أو كميّة إصراره على تنفيذ ما أراد ، أو حدّ اتّباعه كتاب الله وسنّة نبيّه ، أو مقدار أمانته على ودائع الدين؟ وهو خليفة المسلمين (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢).

أليس من الغلوّ الممقوت الفاحش عندئذٍ ما جاء به البلاذري في الأنساب (٥ / ٤) من قول ابن سيرين : كان عثمان أعلمهم بالمناسك وبعده ابن عمر؟

إن كان أعلم الأُمّة هذه سيرته وهذا حديثه ، فعلى الإسلام السلام.

ـ ٧ ـ

تعطيل الخليفة القصاص

أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال : لمّا قتل عمر إنّي مررت بالهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم نجيٌّ ، فلمّا رأوني ثاروا فسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، فنظروا إلى الخنجر الذي قتل به عمر فإذا هو الذي وصفه ، فانطلق عبيد الله بن عمر

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٩٨ ح ٤٣٣.

(٢) النحل : ٤٣.

١٩٠

فأخذ سيفه حتى سمع ذلك من عبد الرحمن ، فأتى الهرمزان فقتله وقتل جفينة [وقتل] (١) بنت أبي لؤلؤة صغيرة وأراد قتل كلّ سبيّ بالمدينة فمنعوه ؛ فلمّا استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص : إنّ هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان فذهب دم الهرمزان هدراً.

وأخرجه الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٤٢) بتغيير يسير والمحبّ الطبري في الرياض (٣) (٢ / ١٥٠) ، وذكره ابن حجر في الإصابة (٣ / ٦١٩) وصحّحه باللفظ المذكور.

وذكر البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٤) عن المدائني ، عن غياث بن إبراهيم : أن عثمان صعد المنبر فقال : أيّها الناس إنّا لم نكن خطباء وإن نَعِش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله ، وقد كان من قضاء الله أنّ عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان من المسلمين (٤) ولا وارث له إلاّ المسلمون عامّة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ قالوا : نعم. فقال عليّ : «أَقِدِ الفاسقَ فإنّه أتى عظيماً ، قتل مسلماً بلا ذنب». وقال لعبيد الله : «يا فاسق لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنّك بالهرمزان».

وقال اليعقوبي في تاريخه (٥) (٢ / ١٤١) : أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر ، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ، ثمّ قال : ألا إنّي وليّ دم الهرمزان وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن عمرو فقال : إنّ الهرمزان مولى لله ولرسوله وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال : فننظر وتنظرون ، ثمّ أخرج

__________________

(١) الزيادة من المصدر.

(٢) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٤٠ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٣) الرياض النضرة : ٣ / ٨٩.

(٤) أسلم على يد عمر وفرض له في ألفين كما في الإصابة وغيرها. (المؤلف)

(٥) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٣.

١٩١

عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً فنُسِب الموضع إليه ـ كُوَيْفة ابن عمر ـ فقال بعضهم.

أبا عمرو (١) عبيدُ اللهِ رهنٌ

فلا تشكُكْ بقتلِ الهرمزان

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٦١) بإسناد عن عبد الله (٢) بن عبيد بن عمير قال : لمّا طعن عمر رضى الله عنه وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله ، فقيل لعمر : إنّ عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان. قال : ولم قتله؟ قال : إنّه قتل أبي. قيل : وكيف ذاك؟ قال : رأيته قبل ذلك مستخلياً بأبي لؤلؤة وهو أمره بقتل أبي. قال عمر : ما أدري ما هذا ، انظروا إذا أنا متّ فاسألوا عبيد الله البيّنة على الهرمزان : هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي ، وإن لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان. فلمّا ولي عثمان رضي‌الله‌عنه قيل له : ألا تمضي وصيّة عمر رضى الله عنه في عبيد الله؟ قال : ومن وليّ الهرمزان؟ قالوا : أنت يا أمير المؤمنين. فقال قد عفوت عن عبيد الله بن عمر.

وفي طبقات ابن سعد (٣) (٥ / ٨ ـ ١٠) طبع ليدن : انطلق عبيد الله فقتل ابنة أبي لؤلؤة وكانت تدّعي الإسلام ، وأراد عبيد الله ألاّ يترك سبياً بالمدينة يومئذٍ إلاّ قتله. فاجتمع المهاجرون الأوّلون فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء واشتدّوا عليه وزجروه عن السبي ، فقال : والله لأقتلنّهم وغيرهم. يعرّض ببعض المهاجرين ، فلم يزل عمرو بن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه ، فأتاه سعد فأخذ كلّ واحد منهما برأس صاحبه يتناصيان (٤) ، حتى حجز بينهما الناس ، فأقبل عثمان وذلك في الثلاثة الأيّام الشورى قبل أن يبايع له ، حتى أخذ برأس عبيد الله بن عمر وأخذ عبيد الله برأسه ثمّ حُجز بينهما وأظلمت الأرض يومئذٍ على الناس ، فعظم ذلك في صدور

__________________

(١) أبو عمرو هي كنية عثمان بن عفّان.

(٢) في الأصل عبيد الله ، وصحّحناه من السنن الكبرى.

(٣) الطبقات الكبرى : ٥ / ١٥ ـ ١٧.

(٤) التناصي : هو الأخذ بالنواصي جمع ناصية ، وهي شعر مقدّم الرأس.

١٩٢

الناس وأشفقوا أن تكون عقوبة حين قتل عبيد الله جُفَينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة.

وعن أبي وجزة عن أبيه قال : رأيت عبيد الله يومئذٍ وإنّه ليناصي عثمان ، وإنّ عثمان ليقول : قاتلك الله قتلت رجلاً يصلّي وصبيّة صغيرة ، وآخر من ذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما في الحقّ تركك. قال : فعجبت لعثمان حين ولي كيف تركه! ولكن عرفت أنّ عمرو بن العاص كان دخل في ذلك فلفته عن رأيه.

وعن عمران بن منّاح قال : جعل سعد بن أبي وقّاص يناصي عبيد الله بن عمر حيث قتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة ، وجعل سعد يقول وهو يناصيه :

لا أُسْدَ إلاّ أنتَ تنهِتُ واحداً

وغالت أُسودَ الأرض عنك الغوائلُ (١)

فقال عبيد الله :

تعلّمُ أنّي لحمُ ما لا تسيغه

فكلْ من خشاش الأرض ما كنت آكلا

فجاء عمرو بن العاص فلم يزل يكلّم عبيد الله ، ويرفق به حتى أخذ سيفه منه ، وحبس في السجن حتى أطلقه عثمان حين ولي.

عن محمود بن لبيد : كنتُ أحسب أنّ عثمان إن ولي سيقتل عبيد الله لما كنت أراه صنع به ، كان هو وسعد أشدّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه.

وعن المطّلب بن عبد الله قال : قال عليّ لعبيد الله بن عمر : «ما ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها؟». قال : فكان رأي عليّ حين استشاره عثمان ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله ، لكن عمرو بن العاص كلّم عثمان حتى تركه ، فكان عليّ يقول : «لو قدرت على عبيد الله بن عمر ولي سلطان لاقتصصت منه».

__________________

(١) الشعر لكلاب بن علاط أخي الحجّاج بن علاط. (المؤلف)

١٩٣

وعن الزهري : لمّا استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال : أشيروا عليّ في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق. فأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله ، وقال جلّ الناس : أبعد الله الهرمزان وجفينة يريدون يُتبعون عبيد الله أباه. فكثر ذلك القول ، فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين إنّ هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطان على الناس فأعرض عنه ، فتفرّق الناس عن كلام عمرو بن العاص.

وعن ابن جريح : إنّ عثمان استشار المسلمين فأجمعوا على ديتهما ، ولا يقتل بهما عبيد الله بن عمر ، وكانا قد أسلما ، وفرض لهما عمر ، وكان عليّ بن أبي طالب لمّا بويع له أراد قتل عبيد الله بن عمر فهرب منه إلى معاوية بن أبي سفيان ، فلم يزل معه فقتل بصفين (١).

وذكر الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٤١) قال : جلس عثمان في جانب المسجد ـ لمّا بويع ـ ودعا عبيد الله بن عمر ، وكان محبوساً في دار سعد بن أبي وقّاص ، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جُفَينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة ، وكان يقول : والله لأقتلنّ رجالاً ممّن شرك في دم أبي. يعرّض بالمهاجرين والأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف من يده ، وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض ، وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه ، فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار : أشيروا عليّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق ، فقال عليّ : «أرى أن تقتله». فقال بعض المهاجرين : قُتل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين إنّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنّما كان هذا الحدث ولا سلطان لك ، قال عثمان : أنا وليّهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي ،

__________________

(١) حذفنا أسانيد هذه الأحاديث روماً للاختصار وهي كلّها مسندة. (المؤلف)

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٣٩.

١٩٤

قال : وكان رجل من الأنصار يقال له : زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال :

ألا يا عبيدَ اللهِ ما لك مهربٌ

ولا ملجأٌ من ابن أروى (١) ولا خفرْ

أصبتَ دماً واللهِ في غيرِ حلّهِ

حراماً وقتلُ الهرمزان له خطرْ

على غير شيءٍ غير أنْ قالَ قائلٌ

أتتّهمون الهرمزانَ على عمرْ

فقال سفيهٌ والحوادث جمّةٌ

نعم اتّهمه قد أشار وقد أمرْ

وكان سلاحُ العبدِ في جوفِ بيتِهِ

يقلّبها والأمرُ بالأمرِ يعتبرْ

قال : فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره ، فدعا عثمان زياد ابن لبيد فنهاه ، قال : فأنشأ زياد يقول في عثمان :

أبا عمرو عبيدُ اللهِ رهنٌ

فلا تشكك بقتلِ الهرمزانِ

فإنَّك إن غفرتَ الجرمَ عنه

وأسباب الخطا فَرَسا رهانِ

أتعفو إذ عفوت بغير حقٍ

فما لك بالذي تحكي يدانِ

فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشذّبه. وذكره ابن الأثير في الكامل (٢) (٥ / ٣١)

قال الأميني : الذي يعطيه الأخذ بمجامع هذه النقول أنّ الخليفة لم يُقِد عبيد الله قاتل الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة الصغيرة ، مع إصرار غير واحد من الصحابة على القصاص ، ووافقهم على ذلك مولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، لكنه قدّم على رأيه الموافق للكتاب والسنّة ، وهو أقضى الأمّة بنص النبيّ الأمين وعلى آراء الصحابة إشارة عمرو بن العاصي ابن النابغة ـ المترجم في الجزء الثاني صفحة (١٢٠ ـ ١٧٦) بترجمة ضافية تعلمك حسبه ونسبه وعلمه ودينه ـ حيث قال له : إنّ هذا الأمر كان

__________________

(١) أروى بنت كريز أمّ عثمان كما مرّ في : ص ١٢٠. (المؤلف)

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٢٦ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

١٩٥

وليس لك على الناس سلطان ... إلخ. على حين أنّ من كانت له السلطة عندئذٍ ، وهو الخليفة المقتول ، في آخر رمق من حياته حكم بأن يقتصّ من ابنه إن لم يقم البيّنة العادلة بأنّ الهرمزان قتل أباه ، ومن الواضح أنّه لم يقمها ، فلم يزل عبيد الله رهن هذا الحكم حتى أطلق سراحه ، وكان عليه مع ذلك دم جفينة وابنة أبي لؤلؤة.

وهل يشترط ناموس الإسلام للخليفة في إجرائه حدود الله وقوع الحوادث عند سلطانه؟ حتى يصاخ إلى ما جاء به ابن النابغة ، وإن صحّت الأحلام فاستيهاب الخليفة لما ذا؟ وهب أنّ خليفة الوقت له أن يهب أو يستوهب المسلمين حيث لا يوجد وليّ للمقتول ، ولكن هل له إلغاء الحكم النافذ من الخليفة قبله؟ وهل للمسلمين الذين استوهبهم فوهبوا مالا يملكون ردّ ذلك الحكم البات؟ وعلى تقدير أن يكون لهم ذلك ، فهل هبة أفراد منهم وافية لسقوط القصاص ، أو يجب أن يوافقهم عليها عامّة المسلمين؟ وأنت ترى أنّ في المسلمين من ينقم ذلك الإسقاط وينقد من فعله ، حتى أنّ عثمان لمّا رأى المسلمين أنّهم قد أبوا إلاّ قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه بها داراً وأرضاً ، وهي التي يقال لها : كويفة ابن عمر ، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه (١).

وكان أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وهو سيّد الأمّة وأعلمها بالحدود والأحكام يكاشف عبيد الله ويهدّده بالقتل على جريمته متى ظفر به ، ولمّا ولي الأمر تطلّبه ليقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، وقتل بصفّين ، كما في الكامل لابن الأثير (٢) (٣ / ٣٢). وفي الاستيعاب (٣) لابن عبد البرّ : إنّه قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان ، فلمّا ولي عليّ خشي على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفّين. وفي مروج

__________________

(١) راجع ما مرّ في : ص ١٣٣ ، ومعجم البلدان : ٧ / ٣٠٧ [٤ / ٤٩٦]. (المؤلف)

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٢٦ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٠١٢ رقم ١٧١٨.

١٩٦

الذهب (١) (٢ / ٢٤): إنّ عليّا ضربه [ضربةً] (٢) فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حشوة جوفه ، وإنّ عليّا قال حين هرب فطلبه ليقيد منه بالهرمزان : «لئن فاتني في هذا اليوم ، لا يفوتني في غيره».

هذه كلّها تنمّ عن أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان مستمرّا على عدم العفو عنه ، وأنّه لم يكن هناك حكم نافذ بالعفو يُتّبع ، وإلاّ لما طلبه ولا تحرّى قتله ، وقد ذكّره بذلك يوم صفّين لمّا برز عبيد الله أمام الناس فناداه عليّ : «ويحك يا ابن عمر علام تقاتلني؟ والله لو كان أبوك حيّا ما قاتلني». قال : أطلب (٣) بدم عثمان. قال : «أنت تطلب بدم عثمان ، والله يطلبك بدم الهرمزان» ؛ وأمر عليّ الأشتر النخعي بالخروج إليه (٤).

إلى هنا انقطعت المعاذير في إبقاء عبيد الله والعفو عنه ، لكن قاضي القضاة أطلع رأسه من مكمن التمويه ، فعزا إلى شيخه ، أبي عليّ أنّه قال (٥) : إنّما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عزّ الدين ، لأنّه خاف أن يبلغ العدوّ قتله فيقال : قتلوا إمامهم ، وقتلوا ولده ، ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة. انتهى.

أولا تسائل هذا الرجل؟ عن أيّ شماتة تتوجّه إلى المسلمين في تنفيذهم حكم شرعهم وإجرائهم قضاء الخليفة الماضي في ابنه الفاسق قاتل الأبرياء ، وأنّهم لم تأخذهم عليه رأفة في دين الله لتعدّيه حدوده سبحانه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٦) ولم يكترثوا لأنّه في الأمس أُصيب بقتل أبيه واليوم يقتل هو

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ٤٠٣.

(٢) من المصدر.

(٣) في المصدر : أطالب.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ١٢ [٢ / ٣٩٩]. (المؤلف)

(٥) راجع شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٤٢ [٣ / ٦٠ خطبة ٤٣]. (المؤلف)

(٦) البقرة : ٢٢٩.

١٩٧

فتشتبك المصيبتان على أهله ، هذا هو الفخر المرموق إليه في باب الأديان لأنّه منبعث عن صلابة في إيمان ، ونفوذ في البصيرة ، وتنمّر في ذات الله ، وتحفّظ على كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وأخذ بمجاميع الدين الحنيف ، فأيّ أمّة هي هكذا لا تنعقد عليها جمل الثناء ولا تفد إليها ألفاظ المدح والإطراء؟ وإنّما الشماتة في التهاون بالأحكام ، وإضاعة الحدود بالتافهات ، واتّباع الهوى والشهوات ، لكن الشيخ أبا علي راقه أن يكون له حظٌّ من الدفاع فدافع.

ثمّ إنّ ما ارتكبه الخليفة خلق لمن يحتذي مثاله مشكلة ارتبكوا في التأوّل في تبرير عمله الشاذّ عن الكتاب والسنّة. فمن زاعم أنّه عفا عنه ولوليّ الأمر ذلك. وهم يقولون : إنّ الإمام له أن يصالح على الدية إلاّ أنّه لا يملك العفو ، لأنّ القصاص حقّ المسلمين بدليل أنّ ميراثه لهم ، وإنّما الإمام نائب عنهم في الإقامة ، وفي العفو إسقاط حقّهم أصلاً ورأساً وهذا لا يجوز ، ولهذا لا يملكه الأب والجدّ وإن كانا يملكان استيفاء القصاص ، وله أن يصلح على الدية (١).

وثان يحسب أنّه استعفى المسلمين مع ذلك وأجابوه إلى طلبته وهم أولياء المقتول إذ لا وليّ له. ونحن لا ندري أنّهم هل فحصوا عن وليّه في بلاد فارس؟ والرجل فارسيّ هو وأهله ، أو أنّهم اكتفوا بالحكم بالعدم؟ لأنّهم لم يشاهدوه بالمدينة ، وهو غريب فيها ليس له أهل ولا ذوو قرابة ، أو أنّهم حكموا بذلك من تلقاء أنفسهم؟ وما كان يضرّهم لو أرجعوا الأمر إلى أوليائه ، في بلاده فيؤمنوهم حتى يأتوا إلى صاحب ترتهم (٢) فيقتصّوا منه أو يعفوا عنه؟

ثمّ متى أجاب المسلمون إلى طلبة عثمان؟ وسيّدهم يقول : «أقدِ الفاسق فإنّه أتى عظيماً». وقد حكم خليفة الوقت قبله بالقصاص منه ، ولم يكن في مجتمع الإسلام

__________________

(١) بدائع الصنائع لملك العلماء الحنفي : ٧ / ٢٤٥. (المؤلف)

(٢) الترة : الثأر.

١٩٨

من يدافع عنه ويعفو إلاّ ابن النابغة ، وقد مرّ عن ابن سعد قول الزهري من أنّه أجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله.

وثالث يتفلسف بما سمعته عن الشيخ أبي علي ، وهل يتفلسف بتلك الشماتة والوصمة والمسبّة على بني أميّة في قتلهم من العترة الطاهرة والداً وما ولد وذبحهم في يوم واحد منهم رضيعاً ويافعاً وكهلاً وشيخاً سيد شباب أهل الجنّة؟

وهناك من يصوغ لهرمزان وليّا يسمّيه القماذبان ، ويحسب أنّه عفا بإلحاح من المسلمين ، أخرج الطبري في تاريخه (١) (٥ / ٤٣) عن السري وقد كتب إليه عن شعيب ، عن سيف بن عمر ، عن أبي منصور قال : سمعت القماذبان يحدّث عن قتل أبيه قال : كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض ، فمرّ فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه وقال : ما تصنع في هذه البلاد؟ فقال أبس (٢) به ، فرآه رجل. فلمّا أُصيب عمر قال : رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز ، فاقبل عبيد الله فقتله ، فلمّا ولي عثمان دعاني فأمكنني منه ، ثمّ قال : يا بنيّ هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منّا فاذهب فاقتله. فخرجت به وما في الأرض أحد إلاّ معي إلاّ أنّهم يطلبون إليّ فيه فقلت لهم : ألي قتله؟ قالوا : نعم. وسبّوا عبيد الله ، فقلت : أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا : لا ، وسبّوه. فتركته لله ولهم فاحتملوني ، فو الله ما بلغت المنزل إلاّ على رءوس الرجال وأكفّهم.

لو كان هذا الوليّ المزعوم موجوداً عند ذاك فما معنى قول عثمان في الصحيح المذكور على صهوة المنبر : لا وارث له إلاّ المسلمون عامّة وأنا إمامكم؟ وما قوله الآخر في حديث الطبري نفسه : أنا وليّهم وقد جعلته دية واحتملتها في مالي؟ ولو كان يعلم بمكان هذا الوارث فلم حوّل القصاص إلى الدية قبل مراجعته؟ ثمّ لما حوّله فلم لم يدفع الدية إليه واحتملها في ماله؟ ثمّ أين صارت الدية وما فعل بها؟ أنا لا أدري!

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٤٣.

(٢) بسّ الشيء : حطمه ، وفي المصدر : آنس بدلاً من أبس.

١٩٩

ولو كان المسلمون يعترفون بوجود القماذبان وما في الأرض أحد إلاّ معه وهو الذي عفا عن قاتل أبيه ، فما معنى قول الخليفة : وقد عفوت ، أفتعفون؟ وقوله في حديث البيهقي : قد عفوت عن عبيد الله بن عمر؟ وما معنى استيهاب الخليفة المسلمين ووليّ المقتول حيّ يرزق؟ وما معنى مبادرة المسلمين إلى موافقته في العفو والهبة؟ وما معنى تشديد مولانا أمير المؤمنين في النكير على من تماهل في القصاص؟ وما معنى قوله عليه‌السلام لعبيد الله «يا فاسق لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنّك بالهرمزان»؟ وما معنى تطلّبه لعبيد الله ليقتله إبّان خلافته؟ وما معنى هربه من المدينة إلى الشام خوفاً من أمير المؤمنين؟ وما معنى قول عمرو بن العاصي لعثمان : إنّ هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان؟ وما معنى قول سعيد بن المسيّب : فذهب دم الهرمزان هدراً؟ وما معنى قول لبيد بن زياد وهو يخاطب عثمان : أتعفو إذ عفوت بغير حقّ .. الخ؟ وما معنى ما رواه ملك العلماء الحنفي في بدائع الصنائع (٧ / ٢٤٥) وجعله مدرك الفتوى في الشريعة؟ قال : روي أنّه لمّا قُتِل سيّدنا عمر رضى الله عنه خرج الهرمزان والخنجر في يده ، فظنّ عبيد الله أنّ هذا هو الذي قتل سيّدنا عمر رضى الله عنه فقتله ، فرجع ذلك إلى سيّدنا عثمان رضى الله عنه فقال سيّدنا عليّ رضى الله عنه لسيّدنا عثمان : «اقتل عبيد الله» فامتنع سيّدنا عثمان رضى الله عنه وقال : كيف أقتل رجلاً قُتل أبوه أمس؟ لا أفعل ؛ ولكن هذا رجل من أهل الأرض وأنا وليّة أعفو عنه وأودي ديته.

وما معنى قول الشيخ أبي علي : إنّه لم يكن للهرمزان وليّ يطلب بدمه والإمام وليّ من لا وليّ له ، وللوليّ أن يعفو؟

ولبعض ما ذكر زيّفه ابن الأثير في الكامل (١) (٣ / ٣٢) فقال : الأول أصحّ في إطلاق عبيد الله ، لأنّ عليّا لمّا ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر وليّ الدم لم يتعرّض له عليّ. انتهى.

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٢٧ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

٢٠٠