الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

صحيحه (١) (١ / ١٤٣) في كتاب الصلاة باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. ومسلم في صحيحه (٢) (١ / ٢٠٤) باب جواز لعن الشيطان في الصلاة ، أخرجا بالإسناد عن أبي هريرة قال : صلّى رسول الله صلاة فقال : إنّ الشيطان عرض لي فشدّ عليّ ليقطع الصلاة عليّ ، فأمكنني الله منه فذعتُّه (٣). الحديث.

هب أنّ اللعين في هذه المرّة لم يصب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّه تجرّأ على مقامه الأسمى ، وقد جاء في الصحيحين (٤) عن أبي هريرة : أنّ الشيطان إذا سمع الأذان للصلاة من أي مسلم كان أدبر هارباً وولّى فرقاً ، وله ضراط هلِعٍ جزِع.

كيف يجرؤ اللعين على رسول الله حتى في حال صلاته؟ ولم يتجرّأ قطّ على عمر لأنّه يسلك فجّا غير فجّه. وجاء فيما أخرجه (٥) أحمد والترمذي وابن حبّان عن بريدة : أنّ الشيطان لَيفرَقُ منك يا عمر (٦) ، وفيما أخرجه الطبراني (٧) وابن مندة وأبو نعيم ، عن سديسة مولاة حفصة ، عن حفصة بنت عمر مرفوعاً : إنّ الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلاّ خرّ لوجهه (٨).

إنّي وإن لا يروقني خدش العواطف بذكر مواقف الرجل التي لم يكن العامل الوحيد فيها إلاّ الشيطان ، غير أنّي لست أدري هل الشيطان كان يفرق ويفرّ منه ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٤٠٥ ح ١١٥٢.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٢٣ ح ٣٩ كتاب الصلاة.

(٣) فذعتّه : فخنقته. والذعت والدعت بالمهملة والمعجمة : الدفع العنيف. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ١ / ٧٨ كتاب الأذان : [١ / ٢٢٠ ح ٥٨٣]. صحيح مسلم : ١ / ١٥٣ [١ / ٣٦٩ ح ١٦] ، باب فضل الأذان. (المؤلف)

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٤٨٥ ح ٢٢٤٨٠ ، سنن الترمذي : ٥ / ٥٨٠ ح ٣٦٩٠ ، الإحسان في صحيح ابن حبان : ١٥ / ٣١٥ ح ٦٨٩٢.

(٦) فيض القدير : ٢ / ٣٥٩ [ح ٢٠٣٧]. (المؤلف)

(٧) المعجم الكبير : ٢٤ / ٣٠٥ ح ٧٧٤.

(٨) الإصابة : ٤ / ٣٢٦ [رقم ٥٣٣] ، فيض القدير : ٢ / ٣٥٢ [ح ٢٠٢٦]. (المؤلف)

١٤١

ويخرّ على وجهه ، ويسلك فجّا غير فجّه أيضاً منذ أسلم إلى سنة الفتح الثامنة من الهجرة النبويّة؟ إلى نزول آية (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ إلى يوم قول الرجل : انتهينا انتهينا؟ إلى يوم النادي في دار أبي طلحة الأنصاري (١)؟ فعلى الباحث الوقوف على ما أسلفناه في الجزء السادس (ص ٢٥١ ـ ٢٦١) وفي الجزء السابع (ص ٩٥ ـ ١٠٢).

ثمّ أين كانت تلك البسالة من رسول الله ـ الحاجزة بين الشيطان الرجيم وبين صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرض له وشدّ عليه ـ يوم كانت عنده نساء قريش فتخنقه وتردع النسوة؟

فبهذه كلّها تعلم مقدار هذه الرواية ومقيلها من الصدق ، ومبلغ صحيح البخاري من الاعتبار ، وتعرف ما يفعله الغلوّ في الفضائل والحبّ المعمي والمصمّ.

أضف إلى هذه المخاريق ما أسلفناه في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات ممّا وضعته يد الغلوّ في فضائل عمر.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) (٢).

__________________

(١) هو زيد بن سهل الأنصاري ، فتح نادياً لشرب الخمر في داره ، وكان يحضره جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب.

(٢) سورة طه : ٩٩ ، ١٠٠.

١٤٢

الغلوّ في فضائل عثمان

ابن عفان بن أبي العاص بن أميّة الخليفة الأموي

قبل الشروع في سرد الفضائل نوقفك على موادّ تعرّفك مبلغ الخليفة من العلم ، ومقداره من النفسيّات الفاضلة ، وموقفه من التقوى ، ومبوّأه من الإيمان ، حتى يكون نظرك في فضائله نظر عارف به وبها.

ـ ١ ـ

قضاؤه في امرأة ولدت لستّة أشهر

أخرج الحفّاظ عن بعجة بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منّا امرأة من جهينة فولدت له تماماً لستّة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان ، فأمر بها أن ترجم ، فبلغ ذلك عليّا رضى الله عنه فأتاه فقال : «ما تصنع؟ ليس ذلك عليها ، قال الله تبارك وتعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (١). وقال : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢) فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً. والحمل ستّة أشهر». فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا. فأمر بها عثمان أن تردّ فوجدت قد رجمت ، وكان من قولها لأختها : يا أُخيّة لا تحزني فو الله ما كشف فَرجي أحد قطّ غيره ، قال : فشبّ الغلام بعد فاعترف

__________________

(١) الأحقاف : ١٥.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

١٤٣

الرجل به وكان أشبه الناس به ، وقال : فرأيت الرجل بعد يتساقط عضواً عضواً على فراشه.

أخرجه (١) : مالك ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، وأبو عمر ، وابن كثير ، وابن الديبع ، والعيني ، والسيوطي كما مرّ في الجزء السادس صفحة (٩٤).

قال الأميني : إن تعجب فعجب أنّ إمام المسلمين لا يفطن لما في كتاب الله العزيز ممّا تكثر حاجته إليه في شتّى الأحوال ، ثمّ يكون من جرّاء هذا الجهل أن تودى بريئة مؤمنة ، وتتّهم بالفاحشة ، ويهتك ناموسها بين الملأ الديني وعلى رءوس الأشهاد.

وهلاّ كان حين عزب عنه فقه المسألة قد استشار أحداً من الصحابة يعلم ما جهله فلا يبوء بإثم القتل والفضيحة؟ وهلاّ تذكّر لدة هذه القضيّة وقد وقعت غير مرّة على عهد عمر؟ حين أراد أن يرجم نساء ولدن ستّة أشهر فحال دونها أمير المؤمنين وابن عبّاس كما مرّت في الجزء السادس (ص ٩٣ ـ ٩٥).

ثمّ هب أنّه ذهل عن الآيتين الكريمتين ، ونسي ما سبق في العهد العمري ، فما ذا كان مدرك حكمه برجم تلك المسكينة؟ أهو الكتاب؟ فأنّى هو؟ أو السنّة؟ فمن ذا الذي رواها؟ أو الرأي والقياس؟ فأين مدرك الرأي؟ وما ترتيب القياس؟ وإن كانت فتوى مجرّدة؟ فحيّا الله المفتي ، وزه بالفتيا ، ومرحباً بالخلافة والخليفة ، نعم ؛ لا يُربّي بيت أُميّة أربى من هذا البشر ، ولا يجتنى من تلك الشجرة أشهى من هذا الثمر.

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٨٢٥ ح ١١ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٧ / ٤٤٢ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ١٥٨ ، تيسير الوصول : ٢ / ١١ ، عمدة القاري : ٢١ / ١٨ ، الدرّ المنثور : ٧ / ٤٤١.

١٤٤

ـ ٢ ـ

إتمام عثمان الصلاة في السفر

أخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الله بن عمر قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدراً من خلافته ، ثمّ إنّ عثمان صلّى بعد أربعاً ، فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعاً ، وإذا صلّى وحده صلّى ركعتين (١).

وفي لفظ ابن حزم في المحلّى (٤ / ٢٧٠) : إنّ ابن عمر كان إذا صلّى مع الإمام بمنى أربع ركعات انصرف إلى منزله فصلّى فيه ركعتين أعادها.

وأخرج مالك في الموطّأ (٢) (١ / ٢٨٢) عن عروة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى الرباعية بمنى ركعتين ، وأنّ أبا بكر صلاّها بمنى ركعتين ، وأنّ عمر بن الخطاب صلاّها بمنى ركعتين ، وأنّ عثمان صلاّها بمنى ركعتين شطر إمارته ثمّ أتمّها بعد.

وأخرج النسائي في سننه (٣) (٣ / ١٢٠) عن أنس بن مالك أنّه قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ومع أبي بكر وعمر ركعتين ومع عثمان ركعتين صدراً من إمارته.

وبإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلّى عثمان بمنى أربعاً حتى بلغ ذلك عبد الله فقال : لقد صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين. الحديث.

ورواه إمام الحنابلة أحمد في المسند (٤) (١ / ٣٧٨) ، وأخرج حديث أنس المذكور

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١٥٤ [٢ / ٥٩٦ ح ١٥٧٢] ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٦٠ [٢ / ١٤٢ ح ١٧ كتاب صلاة المسافرين] ، مسند أحمد : ٢ / ١٤٨ [٢ / ٣١٩ ح ٦٣١٦] ، سنن البيهقي : ٣ / ١٢٦. (المؤلف)

(٢) موطّأ مالك : ١ / ٤٠٢ ح ٢٠١.

(٣) السنن الكبرى : ١ / ٥٨٦ ح ١٠٩٥ و ١٩٠٧.

(٤) مسند أحمد : ١ / ٦٢٥ ح ٣٥٨٢ ، ٣ / ٦١١ ح ١٢٠٦٩.

١٤٥

في مسنده (٣ / ١٤٥) ولفظه : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة بمنى ركعتين وصلاّها أبو بكر بمنى ركعتين ، وصلاّها عمر بمنى ركعتين ، وصلاّها عثمان بن عفان بمنى ركعتين أربع سنين ثمّ أتمّها بعدُ.

وأخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلّى بنا عثمان بن عفان رضى الله عنه بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود ، فاسترجع ثمّ قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ركعتين ، وصلّيت مع أبي بكر رضى الله عنه بمنى ركعتين ، وصلّيت مع عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بمنى ركعتين ، فليت حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان (١).

وأخرج أبو داود وغيره عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلّى عثمان رضى الله عنه بمنى أربعاً ، فقال عبد الله : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدراً من إمارته ثمّ أتمّها ، ثمّ تفرّقت بكم الطرق فلوددت أنّ لي من أربع ركعات ركعتين متقبّلتين. قال الأعمش : فحدّثني معاوية بن قرّة عن أشياخه : أنّ عبد الله صلّى أربعاً فقيل له : عبت على عثمان ثمّ صلّيت أربعاً؟ قال : الخلاف شرّ (٢).

وأخرج البيهقي في السنن الكبير (٣ / ١٤٤) عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنّا مع عبد الله بن مسعود بجمع ، فلمّا دخل مسجد منى فقال : كم صلّى أمير المؤمنين؟ قالوا : أربعاً ، فصلّى أربعاً قال : فقلنا : ألم تحدّثنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى ركعتين ، وأبا بكر صلّى ركعتين؟ فقال : بلى وأنا أحدّثكموه الآن ، ولكن عثمان كان إماما فما أخالفه والخلاف شرّ.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١٥٤ [١ / ٣٦٨ ح ١٠٣٤] ، صحيح مسلم : ١ / ٢٦١ [٢ / ١٤٣ ح ١٩ كتاب صلاة المسافرين] ، مسند أحمد : ١ / ٤٢٥ [١ / ٧٠٠ ح ٤٠٢٤]. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٣٠٨ [٢ / ١٩٩ ح ١٩٦٠] ، الآثار للقاضي أبي يوسف : ص ٣٠ ، كتاب الأمُ للشافعي : ١ / ١٥٩ و ٧ / ١٧٥ [١ / ١٨٥ و ٧ / ٢٤٨]. (المؤلف)

١٤٦

وأخرج البيهقي في السنن (٣ / ١٤٤) عن حميد ، عن عثمان بن عفّان أنّه أتمّ الصلاة بمنى ، ثمّ خطب الناس فقال : يا أيّها الناس إنّ السنّة سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّة صاحبيه ، ولكنّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنّوا. وأخرجه ابن عساكر كما في كنز العمّال (١) (٤ / ٢٣٩).

وأخرج أبو داود وغيره عن الزهري : أنّ عثمان بن عفّان رضى الله عنه أتمّ الصلاة بمنى من أجل الأعراب لأنّهم كثروا عامئذٍ فصلّى بالناس أربعاً ليعلمهم أنّ الصلاة أربعاً (٢).

وروى ابن حزم في المحلى (٤ / ٢٧٠) من طريق سفيان بن عيينه عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : اعتلّ عثمان وهو بمنى ، فأتى عليّ فقيل له : صلّ بالناس فقال : إن شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. يعني ركعتين قالوا : لا ، إلاّ صلاة أمير المؤمنين ـ يعنون عثمان ـ أربعاً. فأبى.

وذكره ابن التركماني في ذيل سنن البيهقي (٣ / ١٤٤).

وأخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (٣) (٢ / ٤٤) عن عبد الله بن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يصلّي صلاة السفر ـ يعني ركعتين ـ ومع أبي بكر وعمر وعثمان ستّ سنين من إمرته ثمّ صلّى أربعاً.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (٣ / ١٥٣) بالإسناد عن أبي نضرة : أنّ رجلاً سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر فقال : ائت مجلسنا. فقال : إنّ هذا قد سألني عن صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر فاحفظوها عنّي :

__________________

(١) كنز العمّال : ٨ / ٢٣٤ ح ٢٢٧٠١.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٣٠٨ [٢ / ١٩٩ ح ١٩٦٤] ، سنن البيهقي : ٣ / ١٤٤ ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٨٦ [٢ / ٣٤٣] ، نيل الأوطار : ٢ / ٢٦٠ [٣ / ٢٤١]. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ٢ / ١٣٧ ح ٥٠٢١.

١٤٧

ما سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفراً إلاّ صلّى ركعتين حتى يرجع ويقول : يا أهل مكة قوموا فصلّوا ركعتين فإنّا سفر ، وغزا الطائف وحنين فصلّى ركعتين ، وأتى الجعرانة فاعتمر منها ، وحججت مع أبي بكر رضى الله عنه واعتمرت فكان يصلّي ركعتين ، ومع عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فكان يصلّي ركعتين ، ومع عثمان فصلّى ركعتين صدراً من إمارته ، ثمّ صلّى عثمان بمنى أربعاً. وفي لفظ الترمذي في الصحيح (١) (١ / ٧١) : ومع عثمان ستّ سنين من خلافته أو ثماني سنين فصلّى ركعتين. فقال : حسن صحيح.

وفي الكنز (٢) (٤ / ٢٤٠) من طريق الدارقطني عن ابن جريج قال : سأل حميد الضمري ابن عبّاس فقال : إنّي أسافر ؛ فأقصر الصلاة في السفر أم أتمّها؟ فقال ابن عبّاس : لست تقصرها ولكن تمامها وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمناً لا يخاف إلاّ الله فصلّى اثنتين حتى رجع ، ثمّ خرج أبو بكر لا يخاف إلاّ الله فصلّى ركعتين حتى رجع ، ثمّ خرج عمر آمناً لا يخاف إلاّ الله فصلّى اثنتين حتى رجع ، ثمّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمّ صلاّها أربعاً ، ثمّ أخذ بها بنو أُميّة. قال ابن جريج : فبلغني أنّه أوفى أربعاً بمنى فقط من أجل أنّ أعرابيّا ناداه في مسجد الخيف بمنى : يا أمير المؤمنين ما زلت أُصلّيها ركعتين منذ رأيتك عام الأوّل صلّيتها ركعتين. فخشي عثمان أن يظنّ جهّال الناس الصلاة ركعتين وإنّما كان أوفاها بمنى.

وأخرج أحمد في المسند (٣) (٤ / ٩٤) من طريق عباد بن عبد الله قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا صلّى بنا الظهر ركعتين بمكة ، ثمّ انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له : لقد عبت أمر ابن عمّك لأنّه كان قد أتمّ الصلاة. قال : وكان عثمان حيث أتمّ الصلاة إذا قدم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً ، ثمّ إذا خرج إلى منى وعرفة قصّر الصلاة فإذا فرغ الحجّ وأقام

__________________

(١) سنن الترمذي : ٢ / ٤٣٠ ح ٥٤٥.

(٢) كنز العمّال : ٨ / ٢٣٨ ح ٢٢٧٢٠.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٥٨ ح ١٦٤١٥.

١٤٨

بمنى أتمّ الصلاة. وذكره ابن حجر في فتح الباري (١) (٢ / ٤٥٧) ، والشوكاني في نيل الأوطار (٢) (٢ / ٢٦٠).

وروى الطبري في تاريخه (٣) وغيره : حجّ بالناس في سنة (٢٩) عثمان فضرب بمنى فسطاطاً فكان أوّل فسطاطٍ ضربه عثمان بمنى ، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة ، فذكر الواقدي بالإسناد عن ابن عبّاس قال : إنّ أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين حتى إذا كانت السنة السادسة أتمّها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتكلّم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتى جاءه عليّ فيمن جاءه فقال : والله ما حدث أمر ولا قَدُم عهد ولقد عهدت نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي ركعتين ، ثمّ أبا بكر ، ثم عمر ، وأنت صدراً من ولايتك ، فما أدري ما يرجع إليه؟ فقال : رأي رأيته.

وعن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن عمّه قال : صلّى عثمان بالناس بمنى أربعاً فأتى آتٍ عبد الرحمن بن عوف فقال : هل لك في أخيك؟ قد صلّى بالناس أربعاً ، فصلّى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين ، ثمّ خرج حتى دخل على عثمان فقال له : ألم تُصلّ في هذا المكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين؟ قال : بلى. قال : ألم تُصلّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال : بلى. قال : أفلم تصلّ مع عمر ركعتين؟ قال : بلى. قال؟ ألم تُصلّ صدراً من خلافتك ركعتين؟ قال : بلى. قال : فاسمع منّي يا أبا محمد إنّي أُخبِرت أنّ بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين. وقد اتّخذت بمكّة أهلاً فرأيت أن أصلّي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس ، وأخرى قد اتّخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مال ، فربّما اطلعته فأقمت فيه بعد الصدر.

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٥٧١.

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٣) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٦٧ حوادث سنة ٢٩ ه‍.

١٤٩

فقال عبد الرحمن بن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر ، أمّا قولك : اتّخذت أهلاً ، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنّما تسكن بسكناك.

وأمّا قولك : ولي مال بالطائف. فإنّ بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت لست من أهل الطائف.

وأمّا قولك : يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين وهو مقيم ؛ فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل عليه الوحي والناس يومئذٍ الإسلام فيهم قليل ، ثمّ أبو بكر مثل ذلك ، ثمّ عمر ، فضرب الإسلام بجرانه فصلّى بهم عمر حتى مات ركعتين. فقال عثمان : هذا رأي رأيته.

قال : فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال : أبا محمد غيّر ما يُعلم؟ قال : لا. قال : فما أصنع؟ قال : اعمل أنت بما تعلم. فقال ابن مسعود : الخلاف شرّ ، قد بلغني أنّه صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي أربعاً. فقال عبد الرحمن بن عوف : قد بلغني أنّه صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي ركعتين ، وأمّا الآن فسوف يكون الذي تقول ، يعني نصلّي معه أربعاً.

أنساب البلاذري (٥ / ٣٩) ، تاريخ الطبري (٥ / ٥٦) ، كامل ابن الأثير (٣ / ٤٢) ، تاريخ ابن كثير (٧ / ١٥٤) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٣٨٦) (١).

نظرة في رأي الخليفة :

قال الأميني : أنت ترى أنّ ما ارتكبه الرجل مجرّد رأي غير مدعوم ببرهنة ولا معتضد بكتاب أو سنّة ، ولم يكن عنده غير ما تترّس به من حججه الثلاث التي دحضها عبد الرحمن بن عوف بأوفى وجه حين أدلى بها ، بعد أن أربكه النقد ، وكان

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٦٨ حوادث سنة ٢٩ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٤٤ حوادث سنة ٢٩ ه‍ ، البداية والنهاية : ٧ / ١٧٣ حوادث سنة ٢٩ ه‍ ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٥٨٨.

١٥٠

ذلك منه تشبّثاً كتشبّث الغريق ، ومن أمعن النظر فيها لا يشكّ أنّها ممّا لا يفوه به ذو ٨ / ١٠٣ مرّة في الفقاهة فضلاً عن إمام المسلمين ، ولو كان مجرّد أنّ زوجته مكّية من قواطع السفر فأيّ مهاجر من الصحابة ليس كمثله؟ فكان إذن من واجبهم الإتمام ، لكنّ الشريعة فرضت التقصير على المسافر مطلقاً ، والزوجة في قبضة الرجل تتبعه في ظعنه وإقامته ، فلا تخرج زوجها عن حكم المسافر لمحض أنّه بمقربة من بيئتها الأصليّة التي هاجر عنها وهاجرت.

قال ابن حجر في فتح الباري (١) (٢ / ٤٥٦) : أخرج أحمد والبيهقي من حديث عثمان وأنّه لمّا صلّى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه فقال : إنّي تأهّلت بمكة لمّا قدمت وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من تأهّل ببلدة فإنّه يصلّي صلاة مقيم. قال : هذا الحديث لا يصحّ منقطع ، وفي رواته من لا يُحتجّ به ، ويردّه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسافر بزوجاته وقصّر.

وقال ابن القيّم (٢) في عدّ أعذار الخليفة : إنّه كان قد تأهّل بمنى ، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوّج فيه ، أو كان له به زوجة أتمّ. ويُروى في ذلك حديث مرفوع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال : صلّى عثمان بأهل منى أربعاً وقال : يا أيّها الناس لمّا قدمت تأهّلت بها ، وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا تأهّل الرجل ببلدة فإنّه يصلّي بها صلاة مقيم. رواه الإمام أحمد رحمه‌الله في مسنده (٣) (١ / ٦٢) ، وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده (٤) أيضاً ، وقد أعلّه البيهقي بانقطاعه ، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم ، قال أبو البركات بن تيميّة :

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٢٧٠.

(٢) زاد المعاد : ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٣) مسند أحمد : ١ / ١٠٠ ح ٤٤٥.

(٤) مسند الحميدي : ١ / ٢١ ح ٣٦.

١٥١

ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإنّ البخاري ذكره في تاريخه (١) ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نصّ أحمد وابن عباس قبله : إنّ المسافر إذا تزوّج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة رحمه‌الله ، ومالك وأصحابهما ، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان. انتهى.

قال الأميني : لو كان عثمان لهج بهذه المزعمة في وقته على رءوس الأشهاد ، وكان من المسلّم في الإسلام أنّ التزويج من قواطع السفر ـ وليس كذلك ـ لما بقيت كلمة مطويّة تحت أستار الخفاء حتى يكتشفها هذا الأثريّ المتمحّل ، أو يختلقها له رماة القول على عواهنه.

ثمّ لأيّ شيء كانت ، والحالة هذه ، نقود الصحابة الموجّهة إلى الرجل؟ أو لم يسمعوه لمّا رفع عقيرته بعذره الموجّه؟ أو سمعوه ولم يقيموا له وزنا؟ أو أنّ الخطاب من ولائد أمّ الفرية بعد منصرم أيّامه؟

على أنّ النكاح لا يتمّ عند القوم إلاّ بشاهدين عدلين ، وورد عن ابن عبّاس : «لا نكاح إلاّ بأربعة : وليّ ، وشاهدين ، وخاطب» (٢) ، فأين كان أركان نكاح الخليفة يوم توجيه النقود إليه؟ حتى يدافعوا عنه تلك الجلبة واللغط.

ومتى تأهّل الرجل بهذه المرأة الموهومة قاطعة السفر له؟ وما المسوّغ له ذلك وقد دخل مكة محرماً؟ وكيف يشيع المنكر ويقول : تأهّلت بمكة مذ قدمت؟ ولم يكن متمتّعاً بالعمرة ـ لأنّه لم يكن يبيح ذلك أخذاً برأي من حرّمها كما يأتي تفصيله ـ حتى يقال : إنّه تأهّل بين الإحرامين بعد قضاء نسك العمرة ، فهو كان لم يزل محرماً من مسجد الشجرة حتى أحلّ بعد تمام النسك بمنى ، فيجب أن يكون إتمامه الصلاة إن

__________________

(١) التاريخ الكبير : ٧ / ٥٠ رقم ٢٢٧.

(٢) سنن البيهقي : ٧ / ١٢٤ ـ ١٢٧ ، ١٤٢. (المؤلف)

١٥٢

صحّ الإتمام بالتأهّل ، وأنّى؟ من حيث أحلّ وتأهّل ، وقد صلاّها تامّة بمنى أيّام منى وبعرفات أيضاً محرماً مع الحاج ، فهذه مشكلة أخرى قطّ لا تنحلّ لما صحّ من طريق عثمان نفسه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لا يَنكِحُ المحرمُ ولا يُنكَحُ ولا يخطب» (١).

وعن مولانا أمير المؤمنين قال : «لا يجوز نكاح المحرم ، إن نكح نزعنا منه امرأته» (٢).

قال ابن حزم في المحلّى (٧ / ١٩٧) : مسألة : لا يحلّ لرجل ولا لامرأة أن يتزوّج أو تتزوّج ، ولا أن يزوّج الرجل غيره من وليّته ، ولا أن يخطب خطبة نكاح مذ يحرمان إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر ، ويدخل وقت رمي جمرة العقبة ، ويفسخ النكاح قبل الوقت المذكور ، كان فيه دخول وطول مدّة وولادة أو لم يكن ، فإذا دخل الوقت المذكور حلّ لهما النكاح والإنكاح. ثمّ ذكر دليل الحكم فقال :

فإن نكح المحرم أو المحرمة فسخ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ. وكذلك إن أنكح من لا نكاح لها إلاّ بإنكاحه فهو نكاح مفسوخ لما ذكرنا ، ولفساد الإنكاح الذي لا يصحّ النكاح إلاّ به ، ولا صحّة لما لا يصحّ ، إلاّ بما يصحّ ، وأمّا الخطبة فإن خطب فهو عاصٍ ولا يفسد النكاح ، لأنّ الخطبة لا متعلّق لها

__________________

(١) الموطّأ لمالك : ١ / ٣٢١ ، وفي طبعة ٢٥٤ [١ / ٣٤٨ ح ٧٠] ، الأُم للشافعي : ٥ / ١٦٠ [٥ / ١٧٨] ، مسند أحمد : ١ / ٥٧ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٨ ، ٧٣ [١ / ٩٢ ح ٤٠٣ ، ص ١٠٤ ح ٤٦٤ ، ص ١٠٥ ح ٤٦٨ ، ص ١١٠ ح ٤٩٤ ، ص ١١٧ ح ٥٣٥] ، صحيح مسلم : ١ / ٩٣٥ [٣ / ٢٠١ ح ٤١ كتاب النكاح] ، سنن الدارمي : ٢ / ٣٨ [٢ / ١٤١] ، سنن أبى داود : ١ / ٢٩٠ [٢ / ١٦٩ ح ١٨٤١] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٠٦ [١ / ٦٣٢ ح ١٩٦٦] ، سنن النسائي : ٥ / ١٩٢ [٢ / ٣٧٦ ح ٣٨٢٥] ، سنن البيهقي : ٥ / ٦٥ ، ٦٦. (المؤلف)

(٢) المحلّى لابن حزم : ٧ / ١٩٩ [مسألة ٨٦٩]. (المؤلف)

١٥٣

بالنكاح ، وقد يخطب ولا يتمّ النكاح إذا ردّ الخاطب ، وقد يتمّ النكاح بلا خطبة أصلاً ، لكن بأن يقول لها : أنكحيني نفسك فتقول : نعم قد فعلت. ويقول هو : قد رضيت ، ويأذن الوليّ في ذلك. ثمّ بسط القول في ردّ من زعم جواز نكاح المحرم بأحسن بيان. فراجع. وللإمام الشافعي في كتابه الأمّ (١) كلمة حول نكاح المحرم ضافية لدة هذه ، راجع (٥ / ١٦٠).

وليتني أدري بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة قال أبو حنيفة ومالك ونصّ أحمد ـ كما زعمه ابن القيّم (٢) ـ : على أنّ المسافر إذا تزوّج ببلدة لزمه الإتمام بها؟ وسنّة رسول الله الثابتة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافه ؛ وكان المهاجرون كلّهم يقصّرون بمكّة ، وهي قاعدة أزواجهم كما سمعت ، وليس مستند القوم إلاّ رواية عكرمة بن إبراهيم التي أعلّها البيهقي ، وقد مرّ عن ابن حجر أنّها لا تصحّ. وقال يحيى (٣) وأبو داود : عكرمة ليس بشيء. وقال النسائي (٤) : ضعيف ليس بثقة. وقال العقيلي (٥) : في حديثه اضطراب. وقال ابن حبّان (٦) : كان ممّن يقلّب الأخبار ، ويرفع المراسيل ، لا يجوز الاحتجاج به. وقال يعقوب : منكر الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقوي ، وذكره ابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء (٧).

نعم راق أولئك الأئمة التحفظ على كرامة الخليفة ولو بالإفتاء بغير ما أنزل الله ، وكم له من نظير! ونوقفك في الأجزاء الآتية على شطر مهمّ من الفتاوى الشاذّة عن

__________________

(١) كتاب الأُم : ٥ / ١٧٨.

(٢) زاد المعاد : ١ / ١٣٠.

(٣) التاريخ : ٤ / ١٧١ رقم ٣٧٧٠.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٩٤ رقم ٥٠٦.

(٥) الضعفاء الكبير : ٣ / ٣٧٧ رقم ١٤١٤.

(٦) كتاب المجروحين : ٢ / ١٨٨.

(٧) لسان الميزان : ٤ / ١٨٢ [٤ / ٢١٠ رقم ٥٦٧٦]. (المؤلف)

١٥٤

الكتاب والسنّة عند البحث عنها ، والعجب كلّ العجب عدّ ابن القيّم هذا العذر المفتعل أحسن ما اعتذر به عن عثمان ، وهو مكتنف بكلّ ما ذكرناه من النقود والعلل ، هذا شأن أحسن ما اعتذر به ، فما ظنّك بغيره؟!

وأمّا وجود مال له بالطائف فالرجل مكّي قد هاجر عنها لا طائفيّ ، وبينه وبين الطائف عدّة مراحل ، هب أنّ له مالاً بمكة أو بنفس منى وعرفة اللتين أتمّ فيهما الصلاة ، فإنّ مجرّد المال في مكان ليس يقطع السفر ما لم يجمع الرجل مكثاً ، وقد قصّر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه عام الفتح ، وفي حجة أبي بكر ولعدد منهم بمكة دار أو أكثر وقرابات. كما رواه الشافعي ، قال في كتاب الأم (١) (١ / ١٦٥) : قد قصّر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه عام الفتح ، وفي حجّته ، وفي حجّة أبي بكر ، ولعدد منهم بمكّة دار أو أكثر وقرابات منهم : أبو بكر له بمكّة دار وقرابة ، وعمر له بمكة دور كثيرة ، وعثمان له بمكة دار وقرابة ؛ فلم أعلم منهم أحداً أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإتمام ، ولا أتمّ ولا أتمّوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قدومهم مكة ، بل حفظ عمّن حفظ عنه منهم القصر بها. وذكره البيهقي في السنن (٣ / ١٥٣).

وأمّا الخيفة ممّن حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس الذين لم يتمرّنوا بالأحكام أن يقولوا : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان هذا إمام المسلمين يصلّيها كذلك. فقد كانت أولى بالرعاية على العهد النبويّ والناس حديثو عهد بالإسلام ، ولم تطرق جملة من الأحكام أسماعهم ، وكذلك على العهدين قبله ، لكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرعها بعد بيان حكمي الحاضر والمسافر ، وكذلك من اقتصّ أثره من بعده ، ولقد صلّى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ركعتين أيّام إقامته بها ثمّ قال : أتمّوا الصلاة يا أهل مكة فإنّا سفر. أو قال : يا أهل البلد صلّوا أربعاً فإنّا سفر (٢). فأزال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما حاذره الخليفة في تعليله المنحوت بعد

__________________

(١) كتاب الأُم : ١ / ١٨٧.

(٢) سنن البيهقي : ٣ / ١٣٦ ، ١٥٧ ، سنن أبي داود : ١ / ١٩١ [٢ / ٩ ح ١٢٢٩] ، أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ٣١٠. (المؤلف)

١٥٥

الوقوع ، فهلاّ كان منه اقتصاص لأثر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما لم يزل دائباً عليه في أسفاره؟ فهلاّ اقتصّ أثره مع ذلك البيان الأوفى؟ ولم يكن على الأفواه أوكية (١) ، ولا على الآذان صمم ، وهل الواجب تعليم الجاهل؟ أو تغيير الحكم الثابت من جرّاء جهله؟

على أنّ الخليفة إن أراد أن ينقذ الهمج من الجهل بتشريع الصلاة أربعاً فقد ألقاهم في الجهل بحكم صلاة المسافر ، فكان تعليمه العملي إغراء بالجهل ، وواجب التعليم هو الاستمرار على ما ثبت في الشريعة مع البيان ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة كما مرّ ، وكان عمر إذا قدم مكة صلّى لهم ركعتين ثمّ يقول : يا أهل مكة أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر ، وروى البيهقي عن أبي بكر مثل ذلك. سنن البيهقي (٣ / ١٢٦ ، ١٥٧) ، المحلّى لابن حزم (٥ / ١٨) ، موطّأ مالك (٢) (١ / ١٢٦).

هذه حجج الخليفة التي أدلى بها يوم ضايقه عبد الرحمن بن عوف لكنّها عادت عنده مدحورة ، وقد أربكه عبد الرحمن بنقد ما جاء به فلم يبق عنده إلاَّ أن يقول : هذا رأي رأيته ، كما أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا دخل عليه وخصمه بحجاجه فقال : والله ما حدث أمر ولا قدم عهد. إلخ. وعجز الرجل عن جوابه فقال : رأي رأيته.

هذا منقطع معاذير عثمان في تبرير أُحدوثته فلم يبق له بعد ارتحاضه إلاّ قوله : رأي رأيته ، لكنّ للرجل من بعده أنصاراً اصطنعوا له أعذاراً أخرى هي أوهن من بيت العنكبوت ، ولم يهتد إليها نفس الخليفة حتى يُغبّر بها في وجه منتقديه ، ولكن كم ترك الأوّل للآخر ، منها :

١ ـ إنّ منى كانت قد بنيت وصارت قرية ، كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانت فضاء ولهذا قيل له : يا رسول الله ألا تبني لك

__________________

(١) جمع وكاء وهو ما يشدّ به فم القربة.

(٢) موطّأ مالك : ١ / ٤٠٢ ح ٢٠٢.

١٥٦

بمنى بيتاً يظلّك من الحرّ؟ فقال : لا ، منى مناخ من سبق ، فتأوّل عثمان أنّ القصر إنّما في حال السفر (١).

أنا لا أدري ما صلة كثرة المساكن وصيرورة المحلّ قرية بحكم القصر والإتمام؟ وهل السفر يتحقّق بالمفاوز والفلوات دون القرى والمدن حتى إذا لم ينو فيها الإقامة؟ إنّ هذا لحكم عجاب ، وهذه فتوى من لا يعرف مغزى الشريعة ، ولا ملاك تحقق السفر والحضر المستتبعين للقصر والإتمام ، على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى أيّام إقامته بمكة قصراً وكذلك في خيبر ، وكانت مكة أمّ القرى ، وفي خيبر قلاع وحصون مشيّدة وقرى ورساتيق ، وكذلك كان يفعل في أسفاره ، وكان يمرّ بها على قرية ويهبط أخرى.

على أنّ صيرورة المحلّ قرية لم تكن مفاجأة منها وإنّما عادت كذلك بالتدريج ، ففي أيّ حدّ منها كان يلزم الخليفة تغيير الحكم؟ وعلى أيّ حدّ غيّر؟ أنا لا أدري.

٢ ـ إنّه أقام بها ثلاثاً وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة / ثلاثاً» فسمّاه مقيماً والمقيم غير مسافر (٢). وفي لفظ مسلم (٣) : «يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً». وفي لفظ البخاري : «للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة» انتهى (٤).

إنّ ملاك قطع السفر ليس صدق لفظ الإقامة ، فليست المسألة لغويّة وإنّما هي شرعيّة ، وقد أناطت السنّة الشريفة الإتمام في السفر بإقامة محدودة ليس فيما دونها إلاّ

__________________

(١) ذكره ابن القيّم في زاد المعاد [١ / ١٢٩] هامش شرح المواهب للزرقاني : ٢ / ٢٤ وفنّده بقول موجز. (المؤلف)

(٢) هذا الوجه ذكره ابن القيّم في زاد المعاد [١ / ١٢٩] هامش شرح المواهب : ٢ / ٢٤ ونقده بكلام وجيز. (المؤلف)

(٣) صحيح مسلم : ٣ / ١٥٩ ح ٤٤٤ كتاب الحج.

(٤) ألفاظ هذا الحديث مذكورة في تاريخ الخطيب : ٦ / ٢٦٧ ـ ٢٧٠ [رقم ٣٢٩٩]. (المؤلف)

١٥٧

التقصير في الصلاة ، وليس لمكة حكم خاصّ يُعدل به عمّا سنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد من الإقامة فيما تشبّث به ناحت المعذرة هو المكث للمهاجر بمكة لما لهم بها من سوابق وعلائق وقرابات ، لا الإقامة الشرعيّة التي هي موضوع حكم الإتمام ، وقد أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة عشراً كما في الصحيحين (١) أو أكثر منها كما في غيره (٢) ولم يزد على التقصير في الصلاة ، فقصر المكث بمكة ثلاثاً على المهاجر دون غيره من الوافدين إلى مكة ، وعلى مكة دون غيرها كما هو صريح تلكم الألفاظ المذكورة يُعرب عن إرادة المعنى المذكور ، ولا يسع لفقيه أن يرى الإقامة ثلاثاً بمكة خاصّة من قواطع السفر للمهاجر فحسب ، وقد أعرض عن استيطانها بالهجرة ، ولم يتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع بمكة وقد أقام بها أكثر من ثلاثة أيام بلغ عشراً أو لم يبلغ أو زاد عليها.

على أنّ الشافعي ومالكاً وأصحابهما وآخرين احتجّوا بالألفاظ المذكورة على استثناء مكث المهاجر بمكة ثلاثاً من الإقامة المكروهة لهم بها ، قالوا : كره رسول الله للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها ، ثمّ أباح لهم المقام بها ثلاثاً بعد تمام النسك. وقال ابن حزم : إنّ المسافر مباح له أن يقيم ثلاثاً وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك ، وأمّا المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث (٣) ، فأين هذا الحكم الخاصّ بمكة للمهاجر فحسب من الإقامة القاطعة للسفر؟

ثمّ لو كان هذا عذر الرجل لكان عليه أن يتمّ بمكة لا بمنى وعرفة وقد أتمّ بهما.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١٥٣ [١ / ٣٦٧ ح ١٠٣١ و ٤ / ١٥٦٤ ح ٤٠٤٦] ، صحيح مسلم : ١ / ٢٦٠ [٢ / ١٤١ ح ١٥]. (المؤلف)

(٢) المحلّى لابن حزم : ٥ / ٢٧ [المسألة ٥١٥]. (المؤلف)

(٣) المحلّى لابن حزم : ٥ / ٢٤. (المؤلف)

١٥٨

٣ ـ إنّه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتّخاذها دار الخلافة ، فلهذا أَتمّ ثمّ بدا له أن يرجع إلى المدينة. انتهى.

كأنّ هذا المتأوّل استشفّ عالم الغيب من وراء ستر رقيق ولا يعلم الغيب إلاّ الله ، إنّ مثل هذه العزيمة وفسخها ممّا لا يُعلم إلاّ من قبل صاحبها ، أو من يخبره بها هو ، وقد علمت أنّ الخليفة لمّا ضويق بالنقد لم يعدّ ذلك من معاذيره ، وإلاّ لكانت له فيه منتدح ، وكان خيراً له من تحشيد التافهات ، لكن كشف ذلك لصاحب المزعمة بعد لأي من عمر الدهر فحيّا الله الكشف والشهود.

وكان من المستصعب جدّا والبعيد غايته تغيير العاصمة الإسلاميّة والتعريجة على التعرّب بعد الهجرة من دون استشارة أحد من أكابر الصحابة ، وإلغاء مقدّمات تستوعب برهة طويلة من الزمن كأبسط أمر ينعقد بمحض النيّة ويفسخ بمثلها.

وقال ابن حجر في الفتح (١) (٢ / ٤٥٧) ، والشوكاني في نيل الأوطار (٢) (٣ / ٢٦٠) : روى عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن عثمان : إنّما أتمّ الصلاة لأنّه نوى الإقامة بعد الحجّ وأُجيب بأنّه مرسل ، وفيه أيضاً نظر لأنّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام ، وقد صحّ عن عثمان أنّه كان لا يودّع البيت إلاّ على ظهر راحلته ، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته ، وثبت أنّه قال له المغيرة لمّا حاصروه : اركب رواحلك إلى مكّة. فقال : لن أُفارق دار هجرتي. انتهى.

ولابن القيّم في زاد المعاد (٣) (٢ / ٢٥) وجه آخر في دحض هذه الشبهة. فراجع.

٤ ـ إنّه كان إماماً للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحلّ ولايته ، فكأنّه وطنه.

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٥٧١.

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٢٤١.

(٣) زاد المعاد : ١ / ١٢٩.

١٥٩

قال الأميني : إنّ ملاك حكم الشريعة هو المقرّر من قبل الدين لا الاعتبارات المنحوتة ، والإمام والسوقة شرع سواء في شمول الأحكام ، بل هو أولى بالاتّباع لنواميس الدين حتى يكون قدوة للناس وتكون به أُسوتهم ، وهو وإن سرت ولايته وعمله مع مسير نفوذه في البلاد أو في العالم كلّه إلاّ أنّ التكليف الشرعيّ غير منوط بهذا السير ، بل هو مرتبط بتحقّق الموازين الشرعيّة ، فإن أقام في محلّ جاءه حكم الإقامة ، وإن لم ينوِ الإقامة فهو على حكم السفر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام الخلائق على الإطلاق ، ومع ذلك كان يقصّر صلاته في أسفاره ، ولا يعزى إليه أنّه ربّع بمكة أو في منى أو بعرفة أو بغيرها ، وإنّما اتّبع ما استنّه للأمّة جمعاء وبهذا ردّه ابن القيّم في زاد المعاد ، وابن حجر في فتح الباري (١) (٢ / ٤٥٦)

أضف إليه هتاف النبيّ الأعظم وأبي بكر وعمر بن الخطّاب بما مرّ (ص ١٠٧) من قولهم : أتمّوا صلاتكم يا أهل مكة فإنّا قوم سفر. فإنّه يعرب عن أنّ حكم القصر والإتمام يعمّ الصادع الكريم ومن شغل منصّة الخلافة بعده.

على أنّه لو كان تربيع الرجل من هذه الناحية لوجب عليه أن يهتف بين الناس بأنّ ذلك لمقام الإمامة فحسب ، وأمّا من ليس له ذلك المقام فحكمه التقصير ، وإلاّ لكان إغراءً بالجهل بعمله ، وإبطالاً لصلاتهم بترك البيان ، فإذ لم يهتف بذلك ولم يعلّل عمله به جواباً لمنتقديه علمنا أنّه لم يرد ذلك ، وأنّ من تابعه من الصحابة لم يعلّلوا عمله بهذا التعليل ، وإنّما تابعوه دفعاً لشرّ الخلاف كما مرّ في صفحة (٩٩ ، ١٠٢) وهذا ينبئ عن عدم صحّة عمله عندهم.

ويشبه هذا التشبّث في السقوط ما نحتوه لأمّ المؤمنين عائشة في تربيعها الصلاة في السفر بأنّها كانت أمّ المؤمنين ، فحيث نزلت فكان وطنها كما ذكره ابن القيّم في زاد

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٥٧٠.

١٦٠