الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

أم حين ضرب في المجزرة كلّ من اشترى اللحم لأهله يومين متتابعين؟ (غ) (٦ / ٢٦٧).

أم حين ضرب رجلاً أتى بيت المقدس وإتيانه سنّة؟ (غ) (٦ / ٢٧٨).

أم حين ضرب الصائمين في رجب وصومه سنّة مؤكّدة؟ (غ) (٦ / ٢٨٢).

أم حين ضرب سائلاً عن آية من القرآن لا يعرف مغزاها؟ (غ) (٦ / ٢٩٠).

أم حين ضرب مسلماً أصاب كتاباً فيه العلم؟ (غ) (٦ / ٢٩٧).

أم حين ضرب مسلماً اقتنى كتاباً لدانيال؟ (غ) (٦ / ٢٩٨).

أم حين ضرب من كنّي بأبي عيسى؟ (غ) (٦ / ٣٠٨).

أم حين ضرب سيّد ربيعة من غير ذنب أتى به؟ (غ) (٦ / ١٥٧).

أم حين ضرب معاوية من دون أن يقترف إثماً؟ كما في تاريخ ابن كثير (١) (٨ / ١٢٥).

أم حين ضرب أبا هريرة لابتياعه أفراساً من ماله؟ (غ) (٦ / ٢٧١).

أم حين ضرب من صام دهراً؟ (غ) (٦ / ٣٢٢).

إلى مواقف لا تحصى. فانظر إلى من تتوجّه قارصة الرجل في قوله : فكم أخافت غويّ النفس عاتيها.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٣٤ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٢) البقرة : ٢٠٤.

١٢١

ـ ٤ ـ

كرامات عمر الأربع

١ ـ لمّا فتح عمر مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنة من أَشهُر العجم ، فقالوا له : أيّها الأمير إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلاّ بها. فقال لهم : وما ذاك؟ فقالوا له : إنّا إذا كانت ثلاث عشرة ليلة نحواً (١) من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها ، فأرضينا أباها وحملنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون ثمّ ألقيناها في النيل ، فقال لهم عمرو : إنّ هذا شيء لا يكون في الإسلام وإنّ الإسلام يهدم ما كان قبله ، فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى (٢) ، لا يجري قليلاً ولا كثيراً ، فكتب إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه ، فكتب إليه عمر : أنّك قد أصبت بالذي فعلت ، إنّ الإسلام يهدم ما قبله ، وكتب إلى عمرو أنّي قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا إليك فألقها في النيل إذا وصل كتابي إليك ، فلمّا قدم كتاب عمر رضى الله عنه إلى عمرو بن العاص فإذا فيها مكتوب :

من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر : أمّا بعد : فان كنت إنّما تجري من قبلك فلا تجرِ ، وإن كان الله الواحد القهّار هو مجريك فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك.

وفي لفظ الواقدي : فان كنت مخلوقاً لا تملك ضراً ولا نفعاً وأنت تجري من قِبَل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك ، وإن كنت تجري بحول الله وقوّته فاجر كما كنت ، والسلام.

فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بشهر فقد تهيّأ أهل مصر للجلاء

__________________

(١) في البداية والنهاية : خلت.

(٢) أسماء الأشهر القبطية.

١٢٢

والخروج فإنّه لا تقوم مصلحتهم فيها إلاّ بالنيل ، فلمّا ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة ، فقطع الله تلك السنّة عن أهل مصر إلى اليوم.

٢ ـ قال الرازي في تفسيره : وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرّة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله. فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك.

٣ ـ في تفسير الرازي : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة : يا نار اسكني بإذن الله. فألقوها في النار فانطفأت في الحال.

٤ ـ في محاضرة الأوائل للسكتواري : أوّل زلزلة كانت في الإسلام سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر رضى الله عنه فضرب أمير المؤمنين رضى الله عنه برمحه قائلاً : يا أرض اسكني ، ألم أعدل عليك؟ فسكنت. فكان من جملة كرامته ، فظهرت له كرامات أربعة في العناصر الأربعة : تصرّف في عنصر التراب ، والماء في قصّة رسالته إلى نيل مصر ، وفي الهواء في قصّة سارية الجبل ، وفي النار في قصّة احتراق قرية رجل حين كلّفه أن يغيّر اسمه فأبى ، وكان اسمه يتعلّق بالنار كالشهاب والقبس والثاقب كما ذكر في تبصرة الأدلّة ودلائل النبوّة.

راجع (١) : فتوح الشام للواقدي (٢ / ٤٤) ، تفسير الرازي (٥ / ٤٧٨) ، سيرة عمر لابن الجوزي (ص ١٥٠) ، الرياض النضرة (٢ / ١٢) ، تاريخ ابن كثير (٧ / ١٠٠) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٨٦) ، محاضرة الأوائل للسكتواري (ص ١٦٨) ، خزانة الأسرار (ص ١٣٢) تاريخ القرماني هامش الكامل (١ / ٢٠٣) ، الروض الفائق

__________________

(١) فتوح الشام : ٢ / ٦٩ ، التفسير الكبير : ٢١ / ٨٨ ، سيرة عمر : ص ١٥٥ ـ ١٥٧ باب ٥٥ ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٧٨ ، البداية والنهاية : ٧ / ١١٤ حوادث سنة ١٩ ه‍ ، تاريخ الخلفاء : ص ١١٧ ـ ١١٩ ، خزانة الأسرار : ص ٩٣ ، أخبار الدول وآثار الأوَل : ١ / ٢٨٨ ، الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٢٨٢ ، نور الأبصار : ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

١٢٣

(ص ٢٤٦) ، الفتوحات الاسلاميّة (٢ / ٤٣٧) ، نور الأبصار (ص ٦٢) ، جوهرة الكلام للقراغولي الحنفي (ص ٤٤).

قال الأميني : أمّا رواية النيل فراويها الوحيد هو عبد الله بن صالح المصري أحد الكذّابين الوضّاعين كما مرّ في الجزء الخامس (ص ٢٣٩) قال أحمد بن حنبل (١) : كان أوّل أمره متماسكاً ثمّ فسد بآخره ، وقال أحمد بن صالح : متّهم ليس بشيء ، وقال صالح جزرة : كان ابن معين يوثّقه وهو عندي يكذب في الحديث ، وقال النسائي (٢) : ليس بثقة ، وقال ابن المديني : لا أروي عنه شيئاً ، وقال ابن حبّان (٣) : كان في نفسه صدوقاً إنّما وقعت المناكير في حديثه من قبل جارٍ له [رجل سوء] (٤) فسمعت ابن خزيمة يقول : كان له جار كان بينه وبينه عداوة كان يضع الحديث على شيخ أبي (٥) صالح ويكتبه بخطّ يشبه خطّ عبد الله [بن صالح] (٦) ويرميه في داره بين كتبه فيتوهّم عبد الله أنّه خطّه فيحدّث به ، وقال ابن عدي (٧) : يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمّد.

قامت القيامة على عبد الله بهذا الخبر الذي قال عن جابر مرفوعاً : إنّ الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار من أصحابي أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا فجعلهم خير أصحابي وأصحابي كلّهم خير. ثمّ ذكر أقوال الحفّاظ في بطلان هذا الحديث وأنّه موضوع. راجع ميزان الاعتدال (٨) (٢ / ٤٦).

__________________

(١) العلل ومعرفة الرجال : ٣ / ٢١٢ رقم ٤٩١٩.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٤٩ رقم ٣٥١.

(٣) كتاب المجروحين : ٢ / ٤٠.

(٤) من المصدر.

(٥) في المصدر : عبد الله بن صالح.

(٦) من المصدر.

(٧) الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ٢٠٨ رقم ١٠١٥.

(٨) ميزان الاعتدال : ٢ / ٤٤٢ رقم ٤٣٨٣.

١٢٤

فالرواية مكذوبة اختلقتها يد الغلوّ في الفضائل ، وإن كنّا لا نناقش في إمكان خضوع النيل لتلكم الكتابة ، فيكون معجزة للإسلام لمسيس حاجة القوم إلى مثلها لحداثة عهدهم بالإسلام.

وأمّا ما جاء به الرازي من حديث الزلزلة فلم يوجد في حوادث عهد عمر لا مسنداً ولا مرسلاً ، ولم يذكره قطّ مؤرّخ ضليع ، ولم يخرجه الحفّاظ حتى ينظر في إسناده. وقوله : وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك ، فكرامة مكذوبة يكذّبها التاريخ ، وقد وقعت الزلزلة بعد ذلك غير مرّة فقد وقعت زلزلة عظيمة بالحجاز سنة (٥١٥) فتضعضع بسببها الركن اليماني وتهدّم بعضه ، وتهدّم بها شيء من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكره ابن كثير في تاريخه (١) (١٢ / ١٨٨).

وحدثت بالمدينة زلزلة عظيمة ليلاً واستمرّت أيّاماً ، وكانت تزلزل كلّ يوم وليلة قدر عشر نوبات. وذلك سنة (٦٥٤) وقصّتها طويلة توجد في تاريخ ابن كثير (٢) (١٣ / ١٨٨ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢).

واعطف على ما قاله الرازي قول السكتواري من أنّها أوّل زلزلة كانت في الإسلام سنة عشرين من الهجرة. فقد وقعت سنة ستّ من الهجرة الشريفة كما في تاريخ الخميس (٣) (١ / ٥٦٥) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزّ وجلّ يستعتبكم فأعتبوه.

وأمّا حديث قول عمر : يا سارية الجبل الجبل ، فقال السيّد محمد بن درويش الحوت في أسنى المطالب (٤) (ص ٢٦٥) : هو من كلام عمر قاله على المنبر حين كُشِف

__________________

(١) البداية والنهاية : ١٢ / ٢٣٣ حوادث سنة ٥١٥ ه‍.

(٢) البداية والنهاية : ١٣ / ٢٢٠ حوادث سنة ٦٥٤ ه‍.

(٣) تاريخ الخميس : ١ / ٥٠٢.

(٤) أسنى المطالب : ص ٥٥٣ ح ١٧٦٤.

١٢٥

له عن سارية (١) وهو بنهاوند من أرض فارس ، روى قصّته الواحدي والبيهقي بسند ضعيف وهم في المناقب يتوسّعون. انتهى.

كنّا نرى السيد ابن الحوت غير منصف في حكمه على الحديث بالضعف وأنّه كان حقّا عليه الحكم بالوضع إلى أن أوقفنا السير على تصحيح ابن بدران المتوفى (١٣٤٦) إيّاه فيما علّق عليه في تاريخ ابن عساكر (٦ / ٤٦) بعد ذكر الحديث من طريق سيف بن عمر ، فوجدنا ابن الحوت عندئذٍ أنّه جاء بإحدى بنات طبق (٢) في حكمه ذلك ، ما أجرأ ابن بدران على هذا التمويه والدجل! أليست بين يديه أقوال أعلام قومه حول سيف بن عمر؟ أم ليسوا أولئك الحفّاظ رجال الجرح والتعديل في كلّ إسناد؟ قال ابن حبّان (٣) : كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال : قالوا : إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم : اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط ، وقال ابن عدي (٤) : بعض أحاديثه مشهورة وعامّتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي : عامّة حديثه منكر. وقال البرقاني عن الدارقطني (٥) : متروك. وقال ابن معين (٦) : ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم (٧) : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي (٨) : ضعيف. وقال السيوطي : وضّاع ، وذكر حديثاً من طريق السري بن يحيى عن

__________________

(١) اسم قائد الجيش.

(٢) بنات طبق : الدواهي. يقال للداهية إحدى بنات طبق ، وأصلها الحيّة. أي أنها استدارت حتى صارت مثل الطبق.

(٣) كتاب المجروحين : ١ / ٣٤٥.

(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٤٣٥ رقم ٨٥١.

(٥) الضعفاء والمتروكون : ص ٢٤٣ رقم ٢٨٣.

(٦) التاريخ : ٣ / ٤٦٠ رقم ٢٢٦٢.

(٧) الجرح والتعديل : ٤ / ٢٧٨ رقم ١١٩٨.

(٨) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٢٣ رقم ٢٧١.

١٢٦

شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال : موضوع ، فيه ضعفاء أشدّهم سيف.

راجع (١) : ميزان الاعتدال (١ / ٤٣٨) ، تهذيب التهذيب (٤ / ٢٩٥) ، اللآلئ المصنوعة (١ / ١٥٧ ، ١٩٩٠ ، ٤٢٩).

وأمّا احتراق القرية بإباء الرجل تغيير اسمه فخرافة يأباها الشرع والعقل والمنطق. إنّ ما تقدّم في الجزء السادس (ص ٣٠٨ ـ ٣١٥) من آراء الخليفة الخاصّة به في الأسماء والكنى ـ ومن جرّائها غيّر كنى رجال كنّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسماء آخرين سمّاهم بها هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجّة داحضة من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وغفر له ونحن لا ندري ما يفعل بنا ـ يستدعي ألاّ يُمتثل في أمثال ذلك لا أن يُعذّب الله قرية آمنة مطمئنّة لعدم امتثال صاحبها بما يقوله الخليفة دون أمر مباحٍ ، وهو من الظلم الفاحش لما احترق فيها من أبرياء وتلفت من أموال ، ولو وقفت بمطلع الأكمة من تلك القرية المضطرمة لبكيت على الرضّع والبهائم بكاء الثكلى ، نحاشي ربّنا الحكم العدل عن مثل ذلك ، ونحاشي أعلام الأمّة عن قبول هذه المخاريق المخزية. قاتل الله الحبّ ، ما ذا يفعل ويفتعل ويختلق!

ـ ٥ ـ

تسمية عمر بأمير المؤمنين

قال الواقدي : حدّثنا أبو حمزة (٢) يعقوب بن مجاهد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي عمرو قال : قلت لعائشة : من سمّى عمر الفاروق أمير المؤمنين؟ قالت : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أمير المؤمنين هو. ذكره ابن كثير في تاريخه (٣) (٧ / ١٣٧).

قال الأميني : كان أبو حزرة قاصّا يقصّ ، فَرَاقه أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٥٥ رقم ٣٦٣٧ ، تهذيب التهذيب : ٤ / ٢٥٩.

(٢) كذا في تاريخ ابن كثير والصحيح : أبو حزرة. بفتح المهملتين بينهما معجمة ساكنة. (المؤلف)

(٣) البداية والنهاية : ٧ / ١٥٤ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

١٢٧

وعلى حليلته أمّ المؤمنين ، لإرضاء مستمعيه بافتعال منقبة لعمر ذاهلاً عن أنّ التاريخ يكذّبه ويكشف عن سوأته ولو بعد حين.

أخرج الحاكم من طريق ابن شهاب قال : إنّ عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة : لأيّ شيء كان يُكتب : من خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد أبي بكر رضى الله عنه ثمّ كان عمر يكتب أوّلاً : من خليفة أبي بكر؟ فمن أوّل من كتب : من أمير المؤمنين؟ فقال : حدّثتني الشفاء وكانت من المهاجرات الأوّل : إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله ، فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة وعديّ بن حاتم ، فلمّا قدما المدينة أناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثمّ دخلا المسجد فإذا هما بعمرو بن العاص فقالا : استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين ، فقال عمرو : أنتما والله أصبتما اسمه ، هو الأمير ونحن المؤمنون ، فوثب عمرو فدخل على أمير المؤمنين. فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : ما بدا لك في هذا الاسم يا ابن العاص ، ربّي يعلم لتخرجنّ ممّا قلت. قال : إنّ لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثمّ دخلا عليّ فقالا لي : استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين فهما والله أصابا اسمك ، نحن المؤمنون وأنت أميرنا ، قال : فمضى به الكتاب من يومئذٍ.

أخرجه الحاكم في المستدرك (١) وصحّحه. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك : صحيح. وقال السيوطي في شرح شواهد المغني (٢) (ص ٥٧) : روينا بسند صحيح أنّ لبيد بن ربيعة وعديّ بن حاتم هما اللذان سمّيا عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين حين قدما عليه من العراق. وذكر القصّة في تاريخ الخلفاء (٣) (ص ٩٤).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٨٧ ح ٤٤٨٠.

(٢) شرح شواهد المغني : ١ / ١٥٥ رقم ٥٩.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٢٩.

١٢٨

وأخرج الطبري في تاريخه (١) (٥ / ٢٢) بالإسناد عن حسّان الكوفي قال : لمّا ولي عمر قيل : يا خليفة خليفة رسول الله ، فقال عمر رضى الله عنه : هذا أمر يطول ، كلّ ما جاء خليفة قالوا : يا خليفة خليفة خليفة رسول الله ، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فسمّي أمير المؤمنين.

وقال ابن خلدون في مقدّمة تاريخه (٢) (ص ٢٢٧) : اتّفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضى الله عنه : يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به ، يقال : إنّ أوّل من دعا بذلك عبد الله بن جحش ، وقيل : عمرو بن العاصي ، والمغيرة بن شعبة ، وقيل : بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول : أين أمير المؤمنين؟ وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا : أصبت والله اسمه ، إنّه والله أمير المؤمنين حقّا ، فدعوه بذلك وذهب لقباً له في الناس ، وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلاّ سائر دولة بني أُميّة. انتهى.

فصريح هذه النقول أنّ عمر نفسه ما كانت له سابقة علم بهذا اللقب لا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عن غيره ، ولذلك استغربه وقال : ربّي يعلم لتخرجنّ ممّا قلت. ولا كان عمرو بن العاصي يعلم ذلك ولذلك نسب الإصابة بالتسمية إلى الرجلين ونحت لها من عنده ما يبرّرها. ولا كانت عند الرجلين ـ اللذين صحّ كما مرّ أنّهما هما اللذان سمّياه ـ أثارة من علم بما جاء به ابن كثير وإنّما هو شيء جرى على لسانهما ، ثمّ أعطف نظرةً ثانية على كلمة ابن خلدون المقرّرة للخلاف في أوّل من سمّاه بأمير المؤمنين ولم يذكر فيه قولاً بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي سمّاه ، وصريح رواية الطبري أنّ عمر هو الذي رأى هذه التسمية.

نعم ؛ إنّ الذي سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين هو مولانا عليّ عليه‌السلام. أخرج

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٠٨.

(٢) مقدّمة ابن خلدون : ١ / ٢٨٣ فصل ٣٢.

١٢٩

أبو نعيم في حلية الأولياء (١ / ٦٣) بإسناده عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أنس اسكب لي وضوءاً». ثمّ قام فصلّى ركعتين. ثمّ قال : «يا أنس أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين» ، قال أنس : قلت : اللهمّ اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته إذ جاء عليّ ، فقال : «من هذا يا أنس؟» فقلت : عليّ ، فقام مستبشراً فاعتنقه ثمّ جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ، ويمسح عرق عليّ بوجهه. قال عليّ : «يا رسول الله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل؟ قال : وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي ، وتُسمِعهم صوتي ، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي».

وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عبّاس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته فغدا عليه عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ بالغداة أن لا يسبقه إليه أحد ، فدخل فإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحن البيت ، فإذا رأسه في حجر دحيّة بن خليفة الكلبي فقال : «السلام عليك ، كيف أصبح رسول الله؟» قال : بخير يا أخا رسول الله ، فقال عليّ «جزاك الله عنّا خيراً أهل البيت» فقال له دحية : إنّي لأحبّك وإنّ لك عندي مدحةً أزفّها لك ، أنت أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين إلى آخره. وفيه : فأخذ رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعه في حجره فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما هذه الهمهمة؟» فقال عليّ بما جرى ، فقال : «يا عليّ لم يكن دحيّة ولكن كان جبرائيل سمّاك باسم سمّاك الله به».

وأخرج الحافظ أبو العلا الحسن بن أحمد العطّار من طريق ابن عبّاس في حديث : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أمّ سلمة اشهدي واسمعي هذا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين». الحديث مرّ بتمامه في الجزء السادس (ص ٨٠).

وأخرج الطبراني في معجمه (١) من طريق عبد الله بن عليم الجهني مرفوعاً : «إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إليّ في عليّ ثلاثة أشياء ليلة أسري بي : أنّه سيّد المؤمنين ،

__________________

(١) المعجم الصغير : ٢ / ٨٨.

١٣٠

وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين».

وتعضد هذه الأحاديث وتؤكّدها عدّة أحاديث ، منها ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء من طريق ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنزل الله آية فيها يا أيّها الذين آمنوا إلاّ وعليّ رأسها وأميرها».

وفي لفظ الطبراني (١) وابن أبي حاتم : «إلاّ وعليّ أميرها وشريفها» ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر عليّا إلاّ بخير (٢).

ومنها ما أخرجه الخطيب والحاكم وصحّحه من طريق جابر بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد عليّ يقول : «هذا أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله» (٣).

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن عبّاس كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١١٥) ، ونور الأبصار (٤) (ص ٨٠) ، وأخرجه شيخ الإسلام الحمّوئي (٥) من طريق عبد الرحمن بن سهمان في فرائد السمطين ، وذكره ابن حجر في الصواعق (٦) نقلاً عن الحاكم وحرّفه وجعل مكان أمير البررة : إمام البررة. حيّا الله الأمانة.

__________________

(١) المعجم الكبير : ١١ / ٢١٠ ح ١١٦٨٧.

(٢) راجع حلية الأولياء : ١ / ٦٤ [رقم ٤] ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٠٦ [٣ / ١٥٨] ، كفاية الكنجي : ص ٥٤ [ص ١٤٠ باب ٣١] ، تذكرة السبط : ص ٨ [ص ١٣] ، درر السمطين لجمال الدين الزرندي [ص ٨٩] ، الصواعق لابن حجر : ص ٧٦ [ص ١٢٧] ، كنز العمّال : ٦ / ٢٩١ [١١ / ٦٠٤ ح ٣٢٩٢٠] ، تاريخ الخلفاء : ص ١١٥ [ص ١٦٠]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الخطيب البغدادي : ٢ / ٣٧٧ [رقم ٨٨٧] و ٤ / ٢١٩ [رقم ١٩١٥] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٢٩ [٣ / ١٤٠ ح ٤٦٤٤]. (المؤلف)

(٤) نور الأبصار : ص ١٦٣.

(٥) فرائد السمطين : ١ / ١٥٧ ح ١١٩ باب ٣٢.

(٦) الصواعق المحرقة : ص ١٢٥.

١٣١

ومنها ما أخرجه ابن عدي في كامله (١) من طريق عليّ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عليّ يعسوب (٢) المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين» ، وفي رواية : «يعسوب الظلمة» وفي رواية «يعسوب الكفّار» ذكره الدميري في حياة الحيوان (٣) (٢ / ٤١٢) ، وابن حجر في الصواعق (٤) (ص ٧٥) ، وقال الدميري : ومن هنا قيل لأمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه : أمير النحل.

ومنها قول عليّ : «أنا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكفّار» وفي لفظ : «المنافقين» ، وفي لفظ : «الفجّار» نهج البلاغة (٥) (٢ / ٢١١) ، تاج العروس (١ / ٣٨١).

هذه هي الحقيقة الراهنة لكن القوم نحتوا تجاهها بقضاء من الغلوّ في الفضائل ما عرفته من رواية القصّاص أبي حزرة.

ـ ٦ ـ

عمر لا يحبّ الباطل

أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء (٢ / ٤٦) من طريق الأسود بن سريع قال : أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : قد حمدت ربّي بمحامد ومِدَح وإيّاك. فقال : إنّ ربّك عزّ وجلّ يحبّ الحمد. فجعلت أنشده ، فاستأذن رجل طويل أصلع ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسكت ، فدخل فتكلّم ساعة ثمّ خرج فأنشدته ، ثمّ جاء فسكّتني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتكلّم ثمّ خرج ، ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً فقلت : يا رسول الله من هذا الذي أسكتّني له؟ فقال : هذا عمر ، رجل لا يحب الباطل.

__________________

(١) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٢٤٤ رقم ١٣٨٩.

(٢) اليعسوب : الأمير. الرئيس. (المؤلف)

(٣) حياة الحيوان : ٢ / ٤٤١.

(٤) الصواعق المحرقة : ص ١٢٥.

(٥) نهج البلاغة : ص ٥٣٠ رقم ٣١٦.

١٣٢

ومن طريق آخر عن الأسود التميمي قال : قدمت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعلت أنشده فدخل رجل أقنى (١) فقال لي : أمسك. فلمّا خرج قال : هات. فجعلت أنشده فلم ألبث أن عاد فقال لي : أمسك. فلمّا خرج قال : هات. فقلت : من هذا يا نبيّ الله الذي إذا دخل قلت : أمسك ، وإذا خرج قلت : هات؟ قال : هذا عمر بن الخطّاب ، وليس من الباطل في شيء.

ومن طريق آخر عن الأسود قال : كنت أنشده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أعرف أصحابه حتى جاء رجل بعيد ما بين المناكب أصلع ، فقيل : اسكت اسكت : قلت : وا ثكلاه ، من هذا الذي أسكت له عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقيل : عمر بن الخطّاب ، فعرفت والله بعد أنّه كان يهون عليه لو سمعني أن لا يكلّمني حتى يأخذ برجلي فيسحبني إلى البقيع.

قال الأميني : هل علمت رواة السوء بالذي تلوكه بين أشداقها؟ أم درت فتعمّدت؟ أم أنّ حبّ عمر والمغالاة في فضائله أعمياهم عن تبعات هذه القول الشائن (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢).

يقول القائل : إنّ ما أراد إنشاده محامد ومدح لله ولرسوله فيجيزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إنّ ربّك عزّ وجلّ يحبّ الحمد. فأيّ باطل في هذا حتى يبغضه عمر؟ ولو كان باطلاً لمنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل عمر ، وأيّ نبيّ هذا يتّقي رجلاً من أمّته ولا يتّقي الله؟ وكيف خشي الرجل أن يسحبه عمر برجله إلى البقيع ولم يخش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل به ذلك أو يأمر فيُفعل به؟ أو أنّ عمر ما كان يميّز بين الحقّ والباطل فيحسب أنّ كل ما ينشد من الباطل ، فيجاريه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مزعمته؟ فهل علم الراوي أو المؤلّف بهذه المفاسد ، أو لا؟

فإنّ كان لا يدري فتلك مصيبةٌ

وإن كان يدري فالمصيبةُ أعظمُ

__________________

(١) قنى الأنف وأقنى : ارتفع وسط قصبته وضاق منخراه. (المؤلف)

(٢) الحج : ٤٦.

١٣٣

ـ ٧ ـ

الملائكة تُكلّم عمر بن الخطّاب

أخرج البخاري في كتاب المناقب (١) باب مناقب عمر عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر.

وأخرج في الصحيح (٢) بعد حديث الغار عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدّثون ، إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر ابن الخطّاب. أسلفنا ألفاظ هذه الرواية في الجزء الخامس (٤٢ ـ ٤٦) ، ومرّ هناك عن القسطلاني قوله : ليس قوله ـ فإن يكن ـ للترديد بل للتأكيد كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ؛ إذ المراد الاختصاص بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء. إلى آخره.

قال الأميني : أنا لست أدري ما الغاية في حديث الملائكة مع عمر؟ أهي محض إيناسه باختلاف الملك إليه وتكليمه إيّاه؟ أم هي إقالة عثراته ، وتسديد خطاه ، وردّ أخطائه وتعليمه ما لم يعلم؟ حتى لا يكون خليفة المسلمين خلواً عن جواب مسألة ، صفراً عن حلّ معضلة ، ولا يفتي بخلاف الشريعة المطهّرة ، ولا يرمي القول على عواهنه ، إن كانت للمحادثة المزعومة غاية معقولة فهي هذه لا غيرها ، إذاً فراجع الجزء السادس وتتبّع الخطى ، وتروّ في الأخطاء ، واسمع مالا يعني ، وانظر إلى التافهات ، وعندنا أضعاف ما هنالك لعلّ بعض الأجزاء الآتية يتكفّل بعضها إن شاء الله تعالى ، فهل هذا الملَك طيلة صدور ما في نوادر الأثر في الجزء السادس منه كان في

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٤٩ ح ٣٤٨٦.

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٢٧٩ ح ٣٢٨٢.

١٣٤

سنة عن أداء وظيفته؟ أو كان ما يصدر خافياً عليه؟ أو أنّ الاستبداد في الرأي كان يحول بينهما؟ أو أنّ الملك في حلّه وترحاله قد يتأخّر عن الأوبة إليه ، فيقع ما يقع في غيبته ، أو أنّ القصّة مفتعلة لا مقيل لها في مستوى الصحّة؟ وهذه أقوى الوجوه ولعلّه غير خاف على البخاري نفسه لكنّه ...

ـ ٨ ـ

قرطاس في كفن عمر

إنّ الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطّاب وهو مشغول ، ثمّ انتبه لهما فقام فقبّلهما ووهب لكلّ واحد منهما ألفاً ، فرجعا فأخبرا أباهما فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : عمر نور الإسلام في الدنيا وسراج أهل الجنّة في الجنّة. فرجعا إلى عمر فحدّثاه فاستدعى دواة وقرطاساً وكتب : حدّثني سيّدا شباب أهل الجنّة عن أبيهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال كذا وكذا ، فأوصى أن يجعل في كفنه ففعل ذلك ، فأصبحوا وإذا القرطاس على القبر وفيه : صدق الحسن والحسين وصدق رسول الله!

قال الأميني : بلغ هذه القصّة الخياليّة من الخرافة حدّا ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات كما في تحذير الخواصّ للسيوطي (١) صفحة (٥٣) فقال : والعجب من هذا الذي بلغت به الوقاحة إلى أن يصنّف مثل هذا وما كفاه حتى عرضه على أكابر الفقهاء فكتبوا عليه تصويب هذا التصنيف. انتهى.

قاتل الله الغلوّ في الفضائل فإنّه شوّه سمعة أكابر الفقهاء ، كما سوّد صحيفة التاريخ ، وقبّح وجه التأليف.

__________________

(١) تحذير الخواص : ص ٢٠٧.

١٣٥

ـ ٩ ـ

لسان عمر وقلبه

أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند (١) (٢ / ٤٠١) عن نوح بن ميمون ، عن عبد الله ابن عمر العمري ، عن جهم بن أبي الجهم ، عن مسور بن المخرمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه.

قال الأميني : أمّا قلب الرجل فلا صلة لنا به لأنّ ما فيه من السرائر لا يعلمه إلاّ الله ، نعم ربّما ينمّ عنه ما جرى على لسانه ، وإن شئت فسائل الإمام أحمد أكان الحقّ على لسان عمر لمّا جابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله الفظّ حين أراد الكتف والدواة ليكتب للمسلمين كتاباً لا يضلّون بعده؟ فحال بينه وبين ما أراده من هداية الأمّة. ومهما كانت الكلمة القارصة فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزّه عنها في كلّ حين فلا يغلبه الوجع ، ولا يهجر من شدّة ما به ، ولا سيّما وهو في صدد تبليغ ما به من الهداية والصون عن الضلال (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٢). وانتظر لهذه الجملة بحثاً ضافياً إن شاء الله تعالى.

أم كان الحقّ على لسانه في المائة مورد التي أخطأ فيها جمعاء؟ وقد فصّلناها تفصيلاً في نوادر الأثر من الجزء السادس ، وقد اتّخذناها مقياساً لمعرفة حال هذه الرواية وأمثالها ممّا نسجته يد الغلوّ في الفضائل.

أضف إلى هذا ما في سنده من الضعف فإنّ فيه : نوح بن ميمون ، قال ابن حبّان (٣) : ربّما أخطأ (٤).

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١١٦ ح ٨٩٦٠.

(٢) النجم : ٣ و ٤.

(٣) الثقات : ٩ / ٢١١.

(٤) تهذيب التهذيب : ١٠ / ٤٨٩ [١٠ / ٤٣٥]. (المؤلف)

١٣٦

وفيه : عبد الله بن عمر العمري. قال أبو زرعة عن أحمد إمام الحنابلة : إنّه كان يزيد في الأسانيد ويخالف. وقال عليّ بن المديني : ضعيف. وقال يحيى بن سعيد : لا يحدّث عنه. وقال يعقوب بن شيبة : في حديثه اضطراب. وقال صالح جزرة : ليّن مختلط الحديث. وقال النسائي (١) : ضعيف الحديث. وقال ابن سعد (٢) : كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم (٣) : يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال ابن حبّان (٤) : كان ممّن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحقّ الترك. وقال البخاري في التاريخ (٥) : كان يحيى بن سعيد يضعّفه. وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقويّ عندهم. وقال المروزي : ذكره أحمد (٦) فلم يرضه (٧).

وفيه : جهم بن أبي الجهم ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال (٨) : لا يعرف.

ـ ١٠ ـ

رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علم عمر

أخرج البخاري في صحيحه (٩) (٥ / ٣٥٥) في مناقب عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : بينا أنا نائم شربت ـ يعني اللبن ـ حتى أنظر إلى الريّ يجري في ظفري أو في أظفاري ، ثمّ ناولت عمر. فقالوا : فما أوّلته؟ قال : العلم.

__________________

(١) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٤٦ رقم ٣٤١.

(٢) الطبقات الكبرى ـ القسم المتمّم ـ : ص ٣٦٧ رقم ٢٨٨.

(٣) الجرح والتعديل : ٥ / ١٠٩ رقم ٤٩٩.

(٤) كتاب المجروحين : ٢ / ٦.

(٥) التاريخ الكبير : ٥ / ١٤٥ رقم ٤٤١.

(٦) العلل ومعرفة الرجال : ٢ / ٦٠٥ رقم ٣٨٧٧.

(٧) تهذيب التهذيب : ٥ / ٣٢٧ [٥ / ٢٨٧]. (المؤلف)

(٨) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٢٦ رقم ١٥٨٣.

(٩) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٤٦ ح ٣٤٧٨.

١٣٧

وأخرجه (١) الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص ١١٩) ، والبغوي في المصابيح (٢ / ٢٧٠) ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب (٢ / ٤٢٩) ، والمحبّ الطبري في الرياض (٢ / ٨). وفي لفظهم :

بينا أنا نائم أُتِيتُ بقدح لبن فشربت حتى رأيت الريّ يخرج من أظفاري ثمّ أعطيت فضلي عمر. الحديث.

قال الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي الأندلسي في بهجة النفوس (٤ / ٢٤٤) عند شرحه الحديث : فانظر بنظرك إلى الذي شرب فضله عليه‌السلام كيف كان قوّة علمه الذي لم يقدر أحد من الخلفاء يماثله فيه؟ فكيف بغيرهم من الصحابة؟ وكيف ممّن بعد الصحابة؟ إلى آخر ما جاء به من التافهات.

قال الأميني : إنّ طبع الحال يستدعي أن تكون هذه الرؤيا بعد إسلام عمر وبعد مضيّ سنين من البعثة ، وهل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة هذه المدّة خلواً من العلم؟ وهو في دور الرسالة ، أو كان في علمه إعواز أكمله هذا اللبن الساري ريّه في ظفره أو أظفاره؟ أو كان فيها إعلام بمبلغ علم عمر فحسب ، وكناية عن أنّه من مستقى الوحي؟ فهل تخفى على من هو هذا شأنه جليّة المسائل فضلاً عن معضلاتها؟ وهل يسعه أن يعتذر في الجهل بكتاب الله بقوله : ألهاني عنه الصفق بالأسواق؟

وهلاّ تأثّرت نفس الرجل بالعلم لمّا شرب من منهل علم النبيّ العظيم؟ فما معنى قوله : كلّ الناس أفقه من عمر حتى ربّات الحجال؟ وأمثاله (٢) ، وما الوجه في أخطائه التي لا تحصى في الفتيا وغيرها؟ ممّا سبق ويأتي إن شاء الله تعالى.

ولقد تلطّف المولى سبحانه على الأمّة المرحومة أنّه ولي أمرها بعد شرب تلك

__________________

(١) نوادر الأصول : ١ / ٢٦٠ الأصل ٧٧ ، مصابيح السنّة : ٤ / ١٥٥ ح ٤٧٢٨ ، الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٤٨ رقم ١٨٧٨ ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٧٤.

(٢) راجع ما مرّ في الجزء السادس : ص ٣٢٨. (المؤلف)

١٣٨

الكأس. وأنا لا أدري لو كان وليه قبل ذلك ما ذا كان يصدر من ولائد الجهل؟ وأيّ حدّ كانت تبلغ نوادر الأثر في علمه؟

وليت مصطنع هذه المهزأة اصطنعها على وجه ينطبق حكمها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الخليفة ، لكنّه لا ينطبق على أيّ منهما كما بينّاه ، غير أنّ وظيفة المائن أن يأتي بأساطيره على كلّ حال ، وإنّما العتب على البخاري الذي يعتبرها ويدرجها في الصحيح غلوّا منه في الفضائل ، وأشدّ منه وأعظم على أمثال ابن أبي جمرة الأزدي من الذين يموّهون الحقائق بزخرف القول على أغرار الأمّة ، ويحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم.

ـ ١١ ـ

عمر وفَرَق الشيطان منه

أخرج البخاري في صحيحه (١) في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده (٥ / ٨٩) ، وفي كتاب المناقب باب مناقب عمر (٥ / ٢٥٦) عن سعد بن أبي وقّاص قال : استأذن عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده نساء من قريش يُكلّمنه ويستكثرنه ، عالية أصواتهنّ ، فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب ، فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضحك ، فقال عمر : أضحك الله سنّك يا رسول الله ، قال : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر : فأنت يا رسول الله كنت أحقّ أن يهبنَ ، ثمّ قال ـ عمر ـ : أي عدوّات أنفسهنّ ، أتهبنَني ولا تهبْنَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قلن : نعم ، أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قطّ سالكاً فجّا إلاّ سلك فجّا غير فجّك.

قال الأميني : ما أوقح هذا الراوي الذي ساق هذا الحديث في عداد الفضائل وهو بعدِّه عند سياق السفاسف أولى ، حسب أوّلاً أن النساء لم يكنَّ يهبنَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١١٩٩ ح ٣١٢٠ ، ص ١٣٤٧ ح ٣٤٨٠.

١٣٩

وهبن عمر ، فعلى هذا نسائله : أكنّ هذه النسوة نساءَه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ كما ذكره شرّاح الحديث (١) ستراً لعوار الرواية ، أم كنّ أجنبيّات عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وعلى الأوّل فلا وجه لهيبتهنّ إيّاه على الإسفار أو الإكثار أمامه ، فإنّ للحلائل مع أزواجهنّ شئوناً خاصّة ، فتسترهنّ عن عمر لكونه أجنبيّا عنهنّ لا هيبةً له.

وعلى الثاني وهو الذي يعطيه سياق الحديث كقوله : وعنده نساء من قريش. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي. إلى آخره. وقول عمر : فأنت يا رسول الله كنت. إلى آخره. وقوله : يا عدوّات أنفسهن إلى آخره. فكلّ هذه لا يلتئم مع كونهنّ نساءَه لتنكير النساء في الأوّل ، وظهور قوله : كنّ عندي في أنّ حضورهنّ لديه من ولائد الاتفاق لا أنّهنّ نساؤه الكائنات معه أطراف الليل وآناء النهار ، وقلنا أيضاً : إنّه لا وجه للهيبة مع كونهنّ أزواجه ، ولا هنّ على ذلك عدوّات أنفسهنّ ، فإنّ إبداء الزينة والجمال للزوجة عبادة لا معصية ، فجلوسهنّ وهنّ أجنبيّات عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافرات على هذا الوجه إمّا لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحرّم السفور ، وإمّا لأنّه حرّمه ونسيه ، أو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسامح في النهي عنه ، أو أنّه هابهنّ وإن لم يهبن ، وكان مع ذلك يروقه أن ينتهين عمّا هنّ عليه ، ولذلك استبشر لمّا بادرن الحجاب وأثنى على عمر ، ولازم هذا أن يكون عمر أفقه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أثبت منه على المبدأ ، أو أخشن منه في ذات الله ، أو أقوى منه نفساً. أعوذ بالله من التقوّل بلا تعقّل.

وأمّا ما عُزي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً من قوله : والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قطّ سالكاً فجّا إلاّ سلك فجّا غير فجّك ، فما بال الشيطان يهاب الخليفة فيسلك فجاً غير فجّه ولا تروعه عظمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاقوّة إيمانه؟ فيسلك في فجّه فلا يدعه أن ينهى عن المنكر ، ويحدو بصواحب المنكر إلى أن يتظاهرن به أمامه. بل الشيطان لعنه الله يعرض له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقطع عليه صلاته وإن رجع عنه خائباً ، كما أخرجه البخاري في

__________________

(١) راجع إرشاد الساري : ٥ / ٢٩٠ [٨ / ١٩٨ ح ٣٦٨٣]. (المؤلف)

١٤٠