إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

الفصل الثانى فى ذكر أسامى المدينة (١) وفضل سكانها

اعلم أن لهذه البلدة الشريفة التى شرفها الله تعالى بالنبى الأمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامى كثيرة وأعلاما منيرة ، وأن كثرة الأسامى تدل على شرف المسمى ؛ فمنها : المدينة ، وطيبة ، وطابة ، وطيّبة ، والمسكينة ، وجابرة ، والمجبورة ، والمرحومة ، والمحبة ، والمحبوبة ، والحبيبة ، والمحبّبة ، والقاصمة ، والهزراء. ومن أسمائها الدار أيضا.

عن كعب الأحبار قال : نجد فى كتاب الله الذى نزل على موسى عليه‌السلام أن الله تعالى قال للمدينة : يا طيبة يا طابة يا مسكينة ، لا تقبلى الكنوز ، ارفعى أجاجيرك على أجاجير القرى (٢).

قيل : الإجّار : المسطح بلغة أهل الحجاز والشام ، والجمع : أجاجير.

وقال عبد العزيز بن محمد : بلغنى أن لها فى التوراة أربعين اسما.

وقد كره بعض العلماء تسميتها يثرب ؛ والدليل على قولهم أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سمّى المدينة يثرب فليستغفر الله ؛ هى طابة هى طابة» (٣).

وتسميتها فى القرآن يثرب ؛ حكاية عن قول من قالها من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض (٤).

وحكى عن عيسى بن دينار : من سماها يثرب كتب عليه خطيئة.

__________________

(١) للمدينة النبوية أسماء كثيرة زادت عن مائة. انظر : سبل الهدى والرشاد ٣ / ٤١٤ ، والرحلة الحجازية للنابلسى (ص : ٣٣٦) وقد نظمها شعرا. ووفاء الوفاء ١ / ٨ ـ ٢٧ ، وإعلام الساجد (ص : ٢٣٢) ، وأخبار المدينة لابن النجار (ص : ١١) ، ومئير الغرام (ص : ٤٥١).

(٢) أخرجه الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٣٠٠ ، وعزاه للطبرانى فى الكبير.

(٣) أخرجه : أحمد فى مسنده ٤ / ٢٨٥ ، وأبو يعلى ٢ / ٢٩٠ ، ابن شبه فى أخبار المدينة ، والبخارى فى تاريخه ، وابن زبالة ، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٣٠٠ ، رجاله ثقات.

(٤) هداية السالك ١ / ١٠٨.

٣٠١

وسبب الكراهة : إما لكونه مأخوذا من الثرب وهو الفساد ، أو من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب ، وكان عليه‌السلام يحب الاسم الحسن ؛ ولهذا سماها عليه‌السلام طابة وطيبة لما فى اسم طيبة من معنى الطيب ـ وهو موجود فى المدينة حتى ذكروا أنه توجد أبدا رائحة الجنة فى هوائها أو تربتها لموافقتها لقوله تعالى : (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)(١) ، أو لطهارتها من الكفر ؛ لقوله تعالى : (الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ)(٢) الطيّب والطاب لغتان بمعنى واحد.

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت بقرية تأكل القرى يقولون لها يثرب» (٣).

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : يثرب اسم أرض ، ومدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ناحية منها (٤).

وهى اليوم معروفة بهذا الاسم ، وفيها نخيل كثيرة ملك لأهل المدينة ، وأوقاف للفقراء وغيرهم ، وهى غربى مشهد أبى عمارة حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرقى الموضع المعروف بالبركة مصرف عين الأزرق الذى ينزلها الركب الشامى فى وروده وصدوره ، ويسميها الحجاج عيون حمزة ، وكانت يثرب منازل بنى حارثة بن الحارث بطن ضخم من الأوس.

وفى قوله : تأكل القرى وجوه :

أحدها : أنها مركز جيوش الإسلام فى أول الأمر ؛ فمنها فتحت القرى وغنمت أموالها وسباياها.

والثانى : أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة وإليها يساق غنائمها.

الثالث : أن الإسلام يكون ابتداؤه من المدينة ثم يغلب على سائر القرى ويعلو على سائر الملك ؛ فكأنها أتت عليها (٥).

__________________

(١) سورة يونس : آية ٢٢.

(٢) سورة النور : آية ٢٦.

(٣) أخرجه : البخارى ٣ / ٢٠ (باب فضل المدينة) ، مسلم ٤ / ١٢٠ (باب : المدينة تنفى شرارها).

(٤) مثير الغرام (ص : ٤٥٢).

(٥) هذا المعنى الأخير كالأول ، والخبر فى : هداية السالك ١ / ١٠٨.

٣٠٢

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» (١).

ومعنى تأرز أى : تنضم وتنقبض.

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أيضا ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقرابته هلمّ إلى الرخاء ، هلمّ إلى الرخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والذى نفسى بيده ما يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه» رواه مسلم (٢).

وفى صحيحه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتى إلا كنت له شفيعا يوم القيامة» (٣).

وفيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أهلها بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح فى الماء» (٤).

وفى صحيح البخارى من حديث سعد بن أبى وقاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يكيد أهل المدينة أحدا إلا انماع كما ينماع الملح فى الماء» (٥).

وعن أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال ، ولها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان» (٦).

وعن أنس ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ؛ ليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين

__________________

(١) أخرجه : البخارى ٣ / ٢١ ، مسلم ١ / ٩٠ (الإيمان : باب الإسلام بدأ غريبا).

(٢) أخرجه : مسلم ٣ / ٤٥٦ ، ابن حبان (٣٧٣٤). وقوله : «لا يخرج أحد منهم رغبة عنها» ؛ اختلفوا فيه ، فقيل : هو مختص بمدة حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : هو عام أبدا.

(٣) مسلم ٣ / ٤٢٩ ، أبو يعلى (١٢٦١). واللأواء : الشدة وضيق العيش.

(٤) أخرجه : مسلم ٣ / ٤٣١.

(٥) أخرجه : البخارى (١٨٧٧) ، مسلم (١٣٨٧) ، أحمد فى مسنده ١ / ١٨٠ ، البيهقى فى السنن ٥ / ١٨٧. وانماع : ذاب وسال.

(٦) أخرجه : البخارى (٧١٢٦) ، أحمد ٥ / ٤٣ ، الحاكم فى المستدرك ٤ / ٥٤١ ، ابن حبان (٣٧٣١ ، ٦٨٠٥) ، ابن أبى شيبة ١٢ / ١٨٠ ، عبد الرزاق فى مصنفه (٢٠٨٢٣).

٣٠٣

يحرسونهما ، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج منها كل كافر ومنافق» (١).

وعن أنس ـ رضى الله عنه ـ عن صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما جعلت بمكة من البركة» (٢).

وعن أنس ـ رضى الله عنه ـ أيضا ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قدم من سفر ونظر إلى جدران المدينة أوضع ، وإن كان على دابة حركها من حبها» ومعنى أوضع : أسرع.

وعن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أشرف على المدينة قط إلا عرف فى وجهه السرور والفرح.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ظلم أهل المدينة أو أخافهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل» (٣) رواه الطبرانى.

وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : كل البلاد افتتحت بالسيف ، والمدينة افتتحت بالقرآن (٤).

وعن سفيان بن أبى زهير ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يفتح اليمن ، فيأتى قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ويفتح الشام ، فيأتى قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ويفتح العراق ، فيأتى قوم يبسّون فيتحمّلون

__________________

(١) أخرجه : البخارى (١٨٨١) ، مسلم (٢٩٤٣) ، النسائى (٤٢٧٤) ، ابن حبان (٦٨٠٣) ، قال العينى فى عمدة القارى ١٠ / ٥٤٤ : أى يحصل بها زلزلة بعد أخرى ، ثم فى الرجفة الثالثة يخرج الله منها من ليس مخلصا فى إيمانه ؛ ولا تعارض بين هذا الحديث والحديث السابق ؛ لأن المراد بالرعب فى الحديث السابق : ما يحدث من الفزع من ذكره ، والخوف من عتوه ، لا الرجفة التى تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص. والنقب : الطريق بين جبلين.

(٢) ذكره ابن جماعة فى هداية السالك ١ / ١٠٩.

(٣) أخرجه : أحمد فى مسنده ٤ / ٥٥ ، الطبرانى فى الكبير (٦٦٣١ ـ ٦٦٣٧) النسائى فى الكبرى (٤٢٦٥). والصرف : الفريضة ، وقيل : التوبة. والعدل : النافلة ، وقيل : الفدية.

(٤) ذكره ابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٤٥٧) ، والمحب الطبرى فى القرى (ص : ٦٦٩) ولم يعزه.

٣٠٤

بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» (١).

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حرّم ما بين لابتى المدينة على لسانى» (٢).

وأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى حارثة ، وقال : «أراكم يا بنى حارثة قد خرجتم من الحرم ، ثم التفت ، وقال : بل أنتم فيه».

وعن أنس ـ رضى الله عنه ـ عن يحيى بن سعيد ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا وقبر يحفر بالمدينة ، فاطلع رجل من القبر ، فقال : بئس مضجع المؤمن ، فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بئس ما قلت» ، قال : إنى لم أرد هذا يا رسول الله ، إنما أردت القتل فى سبيل الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا مثل ولا شبيه للقتل فى سبيل الله ؛ وما على وجه الأرض بقعة هى أحب إلىّ أن يكون قبرى بها منها» ثلاث مرات (٣).

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : كان الناس إذا رأوا أول ثمرة جاءوا بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أخذها قال : «اللهم بارك لنا فى ثمرنا ، وبارك لنا فى مدينتنا ، وبارك لنا فى صاعنا ، وبارك لنا فى مدنا. اللهم إن إبراهيم عليه‌السلام عبدك وخليلك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة ، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة» ثم يدعو أصغر وليد ويعطيه الثمرة (٤).

وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المدينة فيها قبرى ، وفيها بيتى وتربتى ؛ فحق على كل مسلم زيارتها». رواه الطبرانى (٥).

__________________

(١) أخرجه : المحب الطبرى فى القرى (ص : ٦٧٤) وعزاه لمسلم.

(٢) أخرجه : البخارى ٣ / ٢١ (فضائل المدينة : باب لابتى المدينة). مسلم ٤ / ١١٦ (فضل المدينة).

(٣) أخرجه : مالك فى الموطأ ٢ / ٤٦٢ ، والحديث مرسل كما صرح ابن عبد البر (انظر : تنوير الحوالك ١ / ٣٠٧).

(٤) أخرجه : مسلم (١٣٧٣) ، الترمذى (٣٤٥٤) ، ابن ماجه (٣٣٢٩) ، مالك (١٩٢٠) ، ابن حبان (٣٧٤٧) البغوى (٢٠١٢).

(٥) أخرجه : الديلمى فى الفردوس (٦٩٥٣) ، وابن النجار (ص : ٣٣) ، والصالح الشامى فى السيرة ٣ / ٤٤٦ ، وعزاه إلى أبى عمرو بن السماك ، والسمهودى فى الوفا ١ / ٤٨ ، وعزاه إلى القاضى أبو الحسين الهاشمى فى «فوائده» ، وابن زبالة.

٣٠٥

وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال ـ رضى الله عنهما ـ فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :

كل أمرئ مصبّح فى أهله

والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال يقول :

ألا ليت شعرى هل أبتينّ ليلة

بواد وحولى إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنّة

وهل يبدون لى شامة وطفيل

اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم بارك لنا فى صاعنا وفى مدنا ، وصحّحها لنا ، وأنقل حماها إلى الجحفة» (١).

وروى أنه عليه‌السلام قال : «رأيت فى المنام أن امرأة سوداء أردفت خلفى حتى بلغت الجحفة (٢) فنزلت بها فأولتها حمى المدينة».

وفى صحيح مسلم : عن عبد الله بن زيد بن عاصم ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حرم مكة ودعا لأهلها ، وإنى حرّمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإنى دعوت فى صاعها ومدّها بمثلى ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» (٣).

وروى ابن النجار ، عن محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه فى قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً)(٤).

__________________

(١) أخرجه : البخارى ٣ / ٢٣ ، مسلم ٤ / ١١٩.

(٢) الجحفة : موضع على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل ، وهى ميقات أهل مصر والشام إذا لم يمروا على المدينة.

(٣) أخرجه : البخارى ٣ / ٨٨ ، مسلم ٣ / ٤٢٥ ، أحمد فى مسنده ٤ / ٤٠ ، المنتخب من مسند عبد بن حميد (٥١٨).

(٤) سورة الإسراء : آية ٨٠.

٣٠٦

قال : جعل الله مدخل صدق : المدينة ، ومخرج صدق : مكة ، وسلطانا نصيرا :الأنصار.

ونقل البغوى ، عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ فى قوله تعالى : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً)(١) قال : إنها المدينة.

وعن نافع بن جبير ، أن مروان بن الحكم خطب الناس فذكر مكة وأهلها وحرمتها ، فناداه رافع بن خديج ، فقال : أسمعك ذكرت مكة وأهلها وحرمتها ولم تذكر المدينة وأهلها وحرمتها ؛ فقد حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بين لابتيها وذلك عندنا فى أديم خولانى ، إن شئت أقرأتكه ، فسكت مروان ، ثم قال : قد سمعت بعض ذلك.

وعن عامر بن سعد بن أبى وقاص ، عن أبيه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثم ذكر مثل حديث ابن جبير ، وزاد فى الحديث «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله تعالى فى النار ذوب الرصاص ، أو ذوب الملح فى الماء» (٢).

وعن سهل بن حنيف قال : أومأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده إلى المدينة وقال : «إنها حرم آمن» (٣).

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : يأتى المسيح الدجال من قبل المشرق وهمّته المدينة حتى يأتى دبر أحد ، ثم يصرف الملائكة وجهه قبل الشام ، وهنالك يهلك.

وعن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى أحرّم ما بين لابتى المدينة أن يقطع عضاها أو يقتل صيدها» (٤).

__________________

(١) سورة النحل : آية ٤١.

(٢) أخرجه : مسلم ٤ / ١٢١ (باب من أراد أهل المدينة بسوء).

(٣) أخرجه : مسلم ٤ / ١٢٢ (باب من أراد أهل المدينة بسوء).

(٤) أخرجه : البخارى (١٨٧٣) ، مسلم ٣ / ٤٤٠ ، الترمذى (٤١٧٨) ، أحمد ٢ / ٢٣٦ ، مالك (٩٣٤) ، البيهقى فى السنن ٥ / ١٩٦ ، ابن حبان (٣٧٥١).

واللابتان : الحرتان ، واحدتهما «لابة» وهى الأرض المليئة حجارة سوداء ، وللمدينة لابتان : شرقية وغربية وهى بينهما.

٣٠٧

وقال : «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ؛ لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» (١).

__________________

(١) أخرجه : البزار بسند حسن ، وعزاه الحافظ الشامى فى السيرة ٣ / ٤٤٧ ، إلى أبى عمرو بن السماك. وأخرجه : ابن النجار مختصرا (ص : ٣٢).

٣٠٨

الفصل الثالث

فى ذكر فضيلة المدينة وذكر تفضيل مكة والمدينة

أجمع العلماء بالاتفاق أن موضع قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل بقاع الأرض ، وبعده مكة. والمدينة أفضل من جميع بقاع الدنيا.

ثم اختلفوا فى أن مكة شرفها الله تعالى أفضل أم المدينة كرمها الله تعالى وعظمها ؛ فذهب عمر وبعض الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ إلى تفضيل المدينة ؛ وهو قول مالك وأكثر المدنيين.

وذهب أبو حنيفة وأهل الكوفة إلى تفضيل مكة ، وبه قال ابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك. وإليه ذهب الشافعى وأحمد رحمهم الله (١).

أما حجة المدنيين : هذا الحديث ؛ وهو أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخرج من مكة وتوجه إلى المدينة قال : «إلهى إن أهل مكة أخرجونى من أحب البقاع إلىّ ، فأنزلنى إلى أحب البقاع إليك» ، فأنزله بالمدينة (٢).

ولا شك أن محبوب الله تعالى أفضل من محبوب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا اختار المقام فيها إلى أن مات ودفن بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذهب ابن عبد البر على ترجيح قول الأئمة الباقين وقال : حسبك بفضل مكة أن فيها بيت الله تعالى الذى يحط أوزار العباد بقصده إليه مرة فى العمر ، ولم تقبل من أحد صلاة إلا باستقبال جهته إذا قدر على التوجه إليها ، وهى قبلة لسائر المسلمين أحياء وأمواتا.

وأيضا : أن الله تعالى ذكر المسجد الحرام فى القرآن فى عدة من المواضع على

__________________

(١) القرى (ص : ٦٧٧) ، هداية السالك ١ / ٤٩.

(٢) أخرجه : الحاكم فى المستدرك ٣ / ٣. لكن لم يصححه ، وقال الذهبى : لكنه موضوع ؛ فقد ثبت أن أحب البلاد إلى الله مكة ، وسعد ليس بثقة.

٣٠٩

سبيل التعظيم صريحا ، ولم يذكر مسجد المدينة على تلك الصفة (١).

وحجة الأئمة الباقين قوله عليه‌السلام : «صلاة فى مسجد المدينة بعشرة ألاف صلاة ، وصلاة فى المسجد الأقصى بألف صلاة ، وصلاة فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» (٢).

فلولا أن مكة أفضل لما جعلت الصلاة بالمدينة بعشرة آلاف وبمكة بمائة ألف.

وقد تقدم ما يدل عليه من الأحاديث أو نقول الرواية الصحيحة : «فأنزلنى إلى أحبّ البقاع إلىّ ، فأنزله بالمدينة».

وأما الجمع فيما خصّ الله تعالى به الحرمين الشريفين ـ عظم الله قدرهما ـ من الشرف فى كتبه المنزلة على رسله وعلى سيدنا محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ)(٣) الآية. وقال أبو سعيد : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «مسجدى هذا الذى أسس على التقوى» (٤).

وقال الله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)(٥).

وقال تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)(٦). يعنى سائر البلدان ؛ فمن مكة كان أصل الإنذار ، ومن المدينة تم.

ومن مكة دحيت الأرض أولا ، ومن المدينة افتتحت بالإسلام آخرا. وفى مكة مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفى المدينة قبره. ومن مكة بعث فى الدنيا رحمة للعالمين ،

__________________

(١) هداية السالك ١ / ٤٨.

(٢) لم أعثر على من أخرجه بهذا النص ؛ وإنما ربما يقصد المؤلف أن كل صلاة بعشر حسنات فتكون الصلاة فى مسجده بعشرة آلاف حسنة ؛ وذلك تحقيقا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فى مسجدى» (أخرجه أحمد ٤ / ٥).

(٣) سورة التوبة : آية ١٠٩.

(٤) أخرجه : مسلم ٤ / ١٢٦ (باب بيان أن المسجد الذى أسس على التقوى).

(٥) سورة آل عمران : آية ٩٦.

(٦) سورة الأنعام : آية ٩٢.

٣١٠

ومن المدينة يبعث يوم القيامة شفيعا لهم يوم الدين فى كبائر المذنبين من أمته.

وقال الله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هجرته : «إنى أمرت بقرية تأكل القرى» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج ولم يزرنى فقد جفانى» (٣).

وعن بكر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتى المدينة زائرا إلىّ وجبت له شفاعتى ، ومن مات فى أحد الحرمين بعثه الله تعالى يوم القيامة آمنّا» (٤).

وعن سليمان عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات فى أحد الحرمين استوجب شفاعتى وجاء يوم القيامة من الآمنين» (٥).

وعن جابر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات فى أحد الحرمين ـ مكة والمدينة ـ بعث آمنا» (٦).

وعن أنس ـ رضى الله عنه ـ يرفعه إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صبر على حر مكة وجوع المدينة صابرا محتسبا كنت له شفيعا يوم القيامة».

يقال : احتسب فلان عمله أى : عمله طلبا لوجه الله تعالى وثوابه.

وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما تجلى الله إلى جبل طور سيناء تشظّى منه ستة أشظاظ ، فنزلت بمكة ثلاثة : حراء وثبير وثور ، وفى المدينة :

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٩٧.

(٢) أخرجه : البخارى ٣ / ٢٠ (باب فضل المدينة) ، مسلم ٤ / ٢٠ (باب المدينة تنفى شرارها).

(٣) ذكره ابن النجار فى «الدرة الثمينة فى تاريخ المدينة» ٢ / ٣٩٧ ، والحديث لا يصح ، انظر : الفوائد المجموعة (ص : ١١٨) ، تنزيه الشريعة ٢ / ١٧٢ ، الموضوعات ٢ / ٢١٧.

(٤) أخرجه : الدارقطنى ٢ / ٢٧٨.

(٥) أخرجه : الهيثمى فى مجمع الزوائد ٢ / ٣١٩ ، وعزاه للطبرانى فى الكبير ، وفيه : عبد الغفور بن سعيد ، وهو متروك.

(٦) ذكره الفاسى : فى شفاء الغرام ١ / ٨٥ ، وعزاه للجندى فى فضائل مكة ، والسيوطى فى الكبير ١ / ٨٣٦ ، وعزاه لأبى نعيم فى معرفة الصحابة. وفيه عبد الله بن المؤمل ، ضعيف الحديث ، ومحمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب المطلبى. يقال : له رؤية ، وجزم البغوى بأن حديثه مرسل (الإصابة ٣ / ٤٥٤).

٣١١

أحد ، وورقان وعير ؛ وقيل : رضوى» (١).

وعن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس من بلد إلا سيطأه الدجال إلا مكة والمدينة ليس من أنقابها نقب إلا وعليه الملائكة صافين يحرسونها ، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فيخرج منها كل كافر ومنافق فيها ، وإن إبراهيم خليلك دعاك لمكة وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به إبراهيم» (٢).

وعن إبراهيم التيمى ، عن أبيه ، قال : خطبنا علىّ بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وقال فى آخر خطبته : من زعم أن عندنا شىء يقرأ إلا كتاب الله أو ما فى هذه الصحيفة فقد كذب ، وفيها : أن المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ؛ من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (٣).

وقال عبد القاسم : عير وثور جبلان بالمدينة ، وأهل المدينة لا يعرفون بها جبلا يقال له ثور وإنما الثور بمكة ، فيرى أن الحديث أصله ما بين عير إلى أحد.

ونقل أهل المدينة عن أسلافهم أن خلف جبل أحد من جهة الشمال جبلا صغيرا يضرب إلى الحمرة ، وله تدوير يسمى ثورا (٤) ، والله أعلم.

ثم اختلف العلماء فى حرم المدينة : ألها حرم كما لمكة حرم؟ فقال أبو حنيفة ومن تابعه رضى الله عنهم : ليس للمدينة حرم على مثال حرم مكة فى تحريم الصيد ووجوب الإحرام للدخول فيها ونحو ذلك بل يجوز الاصطياد ولا يحرم ذبحه.

وقال مالك والشافعى وأحمد رحمهم الله : للمدينة حرم يحرم قتل صيدها ، ولا يعضد شوكها قولا واحدا ؛ اللهم إلا أنهم اختلفوا فى تضمين صيدها ؛ إلا أن

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٦٣ ، وورقان : جبل أسود على الطريق من المدينة إلى مكة. ورضوى جبل بالمدينة ، والحديث حول صحته كلام ، انظر : الفوائد المجموعة (ص : ٤٤٥).

(٢) أخرجه : البخارى (١٨٨١) ، مسلم (٢٩٤٣) ، النسائى فى الكبير (٤٢٧٤) ، ابن حبان (٦٨٠٣) ، البغوى (٢٠٢٢).

(٣) أخرجه : البخارى ٣ / ٢٠ (باب حرم المدينة) ، مسلم ٤ / ١١٥ (باب فضل المدينة) فى خطبة طويلة للإمام على.

(٤) هداية السالك ٣ / ١٤٠١.

٣١٢

عند الحنفية لها حرم بمعنى أن لها حرمة ما هى لغيرها من البلدان ؛ لكون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدفون فيها ، وأنها مهاجره على ما قال عليه‌السلام : «المدينة مهاجرى وفيها بيتى وحق على أمتى حفظ جيرانى» (١).

ويجوز الدخول فيها بغير إحرام إلا فى القول القديم للشافعى أنه لا يجوز.

والصحيح أنه يجوز الدخول فيها بغير إحرام كمذهب أبى حنيفة رضى الله عنه ؛ لما روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقدم من غزواته ويدخل المدينة من غير إحرام.

__________________

(١) أخرجه : الديلمى فى الفردوس (٦٩٥٣). وابن النجار (ص : ٣٣) ، والصالح الشامى فى السيرة ٣ / ٤٤٦ ، وعزاه إلى أبى عمرو بن السماك والمدارك للقاضى عياض ، والسمهودى فى الوفا ١ / ٤٨ ، وعزاه إلى القاضى أبو الحسن الهاشمى فى فوائده ، وابن زبالة.

وينظر فى هذا الباب فى : هداية السالك ٣ / ١٣٩٩ ، الإيضاح (ص : ٥٤٢) ، بدائع الصنائع ٢ / ٢٢١ ، الدر المختار ٢ / ٣٥٢ ، المغنى ٣ / ٣٥٤.

٣١٣

الفصل الرابع

فى ذكر كيفية فتح المدينة (١)

اعلم أن المدينة لم تفتح بقتال وإنما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه فى كل موسم على الناس ويقول : ألا رجل يحملنى إلى قومه فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى ، فلقى فى بعض السنين رهطا من الخزرج ، فدعاهم إلى الله تعالى وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن ، وقد كانوا يسمعون من اليهود أن نبيا مبعوثا قد أظل زمانه ، فقال بعضهم لبعض : يا قوم والله إن هذا النبى الذى تعدكم به اليهود فلا تسبقكم إليه ، فأجابوه ، وكانوا ستة : أسعد بن زرارة ، وعوف ، ورافع ابن مالك ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وعقبة بن عامر بن نابى ، وجابر بن عبد الله ابن رباب ، فلما انصرفوا ذكروا لقومهم ما جرى لهم ، ففشى الإسلام فيهم حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ذكر ، حتى إذا كان العام المقبل أتى فى الموسم اثنى عشر رجلا من الأنصار ، فلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة ـ أى : جمرة العقبة ـ فبايعوه عندها ، فلما انصرفوا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم مصعب بن عمير إلى المدينة يفقه أهلها ويقرئهم القرآن ويدعو الناس إلى الإسلام ، فأسلم على يديه خلق كثير. ثم لقيه فى الموسم الآخر سبعون رجلا من الأنصار ومعهم امرأتان فبايعوه ، وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه إلى المدينة ، ثم خرج من الغار بعد ذلك فقدمها يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة مضت من ربيع الأول ، وقيل : لليلتين خلتا منه ، وقيل : لهلال ربيع الأول ، والقول الأول أصح. ولما أرخوا من الهجرة ردوا التاريخ إلى المحرم ؛ لأنه أول السنة (٢).

ولما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة مكث بقباء ثلاث ليال ، ثم ركب يوم

__________________

(١) انظر : السيرة الشامية ٣ / ٣٧٧ ، وفاء الوفا ٢ / ٢٢٠ ، أخبار المدينة لابن النجار (ص : ٢٠) ، عيون الأثر ١ / ٢٦٢ ، السيرة لابن هشام ١ / ٤٢٨.

(٢) وفاء الوفا ١ / ٢٤٦.

٣١٤

الجمعة فمر على بنى سالم فجمع بهم ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ، ثم ركب من بنى سالم فمرت الناقة حتى بركت فى بنى النجار على باب دار أبى أيوب الأنصارى ، فنزل عليه إلى أن بنى مسجده ومساكنه ، فأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة عشر سنين كوامل وتوفى بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

__________________

(١) انظر : شرح المواهب ١ / ٣٥١ ، مختصر تاريخ دمشق ١ / ٣٢ ، طبقات ابن سعد ١ / ٣٢٣ ، دلائل النبوة للبيهقى ٢ / ٥٠٣.

٣١٥

الفصل الخامس

فى ذكر وصية النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر وفاته

قال الفقيه أبو الليث السمرقندى فى كتابه المسمى ب «تنبيه الغافلين» مسندا إلى علىّ بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(١) مرض النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما لبث أن خرج إلى الناس يوم الخميس وقد شد رأسه بعصابة ، فرقى المنبر وجلس عليه مصفارّ الوجه تدمع عيناه ، ثم دعا بلالا فأمر أن ينادى الناس : أن اجتمعوا لوصية رسول الله ، فإنها آخر وصية لكم. فنادى بلال ، فاجتمع الناس كبيرهم وصغيرهم وتركوا أبواب بيوتهم مفتوحة وأسواقهم على حالها ؛ حتى خرجت العذارى من خدورهن ليسمعن وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حتى غص المسجد بأهله والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «وسعوا لمن وراءكم». ثم قام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبكى ويسترجع ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الأنبياء وعلى نفسه ، ثم قال : «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم العربى الحرمى المكى الذى لا نبى بعدى ، أيها الناس اعلموا أن نفسى قد نعيت إلىّ وجان فراقى من الدنيا ، واشتقت إلى لقاء ربى ، فواحسرتاه على فراق أمتى ؛ ماذا يلقون بعدى. اللهم سلم سلم.

أيها الناس اسمعوا وصيتى وعوها ، وليبلغ الشاهد منكم الغائب ؛ فإنها آخر وصية لكم ، أيها الناس قد بيّن الله فى محكم كتابه ما أحل لكم وما حرم عليكم ، وما تأتون وما تتقون ، فأحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وآمنوا بمتشابهه ، واعملوا بمحكمه ، واعتبروا بأمثاله».

ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : «ألا هل بلغت ، أيها الناس ، إياكم وهذه الأهواء الضالة المضلة البعيدة من الله البعيدة من الجنة القريبة من النار ، وعليكم بالجماعة ، والاستقامة عليها قريبة من الله قريبة من الجنة بعيدة من النار. ثم قال :«اللهم هل بلغت».

__________________

(١) سورة النصر : آية ١.

٣١٦

أيها الناس ، الله الله فى دينكم وأمانتكم ، الله الله فيما ملكت أيمانكم ، أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ؛ فإنهم لحم ودم وخلق أمثالكم ، ألا فمن ظلمهم فأنا خصمه يوم القيامة والله حاكمهم.

الله الله فى النساء أوفوا لهن مهورهن ولا تظلمونهن فتحرمكم حسناتكم يوم القيامة ؛ ألا هل بلغت.

أيها الناس ، أطيعوا ولاة أموركم ولا تعصوهم وإن كان عبدا حبشيا مجدّعا ؛ فإن من أطاعهم فقد أطاعنى ومن أطاعنى فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصانى ومن عصانى فقد عصى الله ، ألا لا تخرجوا عليهم ولا تنقضوا عهودهم ؛ ألا هل بلغت.

أيها الناس عليكم بحب أهل بيتى ، عليكم بحب حملة القرآن ، عليكم بحب علمائكم ، لا تبغضوهم ولا تحسدوهم ولا تطعنوا فيهم ؛ ألا من أحبهم فقد أحبنى ومن أحبنى فقد أحب الله ، ومن أبغضهم فقد

أبغضنى ومن أبغضنى فقد أبغض الله ؛ ألا هل بلغت.

أيها الناس عليكم بالصلوات الخمس بإسباغ وضوئها وإتمام ركوعها وسجودها ، ألا هل بلغت.

أيها الناس ، أدوا زكاة أموالكم ؛ ألا من لا يزكى فلا صلاة له ، ألا من لا صلاة له لا دين له ولا صوم له ولا حج له ولا جهاد له ؛ اللهم هل بلغت.

أيها الناس ، إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ، ومن لم يفعل فليمت على أى دين شاء إن شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ، إلا أن يكون به مرض أو منع من سلطان جائر ؛ ألا لا نصيب له من شفاعتى ولا يرد حوضى ؛ اللهم هل بلغت.

أيها الناس إن الله جامعكم يوم القيامة فى صعيد واحد فى مقام عظيم وهول شديد ، فى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ؛ ألا هل بلغت.

أيها الناس ، احفظوا ألسنتكم ، وأبكوا أعينكم ، وأخضعوا قلوبكم ، وأتعبوا أبدانكم ، وجاهدوا عدوكم ، وأعمروا مساجدكم ، وأخلصوا إيمانكم ، وانصحوا

٣١٧

إخوانكم ، وقدموا لأنفسكم ، واحفظوا فروجكم ، وتصدقوا عن أموالكم ، ولا تحاسدوا ؛ فتذهب حسناتكم ، ولا يغتب بعضكم بعضا فتهلكوا ، اللهم هل بلغت.

أيها الناس ، اسعوا فى رقابكم واعملوا الخير ليوم فقركم وفاقتكم.

أيها الناس ، لا تظلموا ؛ فإن الله يطالب لمن جاروا ؛ عليه حسابكم وإليه إيابكم. إن الله لا يرضى منكم بالمعصية.

أيها الناس (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها)(١) الآية. (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)(٢) الآية.

أيها الناس إنى قادم على ربى ونعيت إلىّ نفسى فاستودع الله دينكم والسلام عليكم يا معشر أصحابى وعلى جميع أمتى ورحمة الله وبركاته».

قال فى «الملخص» سئل أبو زرعة عن عدة أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قبض صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن رآه وروى عنه وسمع منه. فقيل له : يا أبا زرعة ، هؤلاء أين كانوا ، وأين سمعوا منه؟ قال : أهل مكة ، وأهل المدينة ، ومن بينهما ، والأعراب ، ومن شهد معه حجة الوداع ، كل رآه وسمع منه بعرفة. انتهى كلامه. قال : ثم نزل فدخل المنزل فما خرج بعده إلى يوم القيامة صلوات الله وسلامه.

وعن عكرمة قال : لما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عمر : والله ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما وعده الله كما وعد موسى عليه‌السلام ، وسيجىء ويقطع أيدى قوم وأرجلهم. فكان ذلك قوله حتى جاء أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ فقال : تأخر يا عمر ، ثم دخل عليه فقبّل بين عينى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : بأبى أنت وأمى يا رسول الله طبت حيا وميتا ، أما الموتة التى كتبها الله عليك فقد متها ، ثم قرأ :(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(٣).

__________________

(١) سورة فصلت : آية ٤٦.

(٢) سورة البقرة : آية ٢٨١.

(٣) سورة آل عمران : آية ١٤٤ ، والحديث أخرجه البخارى (٣٦٦٨).

٣١٨

فموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى يوم الاثنين ضحىّ لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة ، ودفن ليلة الأربعاء ، وقيل : ليلة الثلاثاء.

وكانت مدة مرضه اثنى عشر يوما. وقيل : أربعة عشر يوما. وقيل : ثلاثة عشر يوما. وقيل : عشرة أيام ، وكان عمره عليه‌السلام ثلاثا وستين سنة (١).

وغسله علىّ بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وعمه العباس والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وقثم بن العباس وشقران مولاه ، وحضرهم أوس بن خولى من الأنصار ، وكفن فى ثلاثة أثواب بيض سحولية من ثياب سحول ـ بلدة من اليمن ـ لا تكون إلا من القطن ليس فيها قميص ولا عمامة ، فلما فرغوا كان أول من صلى عليه الملائكة صلوا عليه أفواجا بلا إمام ، ثم صلى عليه أهل بيته ، ثم الناس فوجا فوجا ، ثم نساءه آخرا (٢). وفى كتاب يحيى : ثم الصبيان آخرا.

ثم قالوا : أين تدفنون؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما يهلك نبى قط إلا يدفن حيث يقبض روحه» (٣).

وقال علىّ : وأنا أيضا سمعته ؛ فحفروا لحد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى موضع فراشه فنزعوا الفراش وحفروا له فى موضعه حيث قبض ، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطّى بها ؛ وهو بيت عائشة رضى الله عنها (٤).

وقيل : دخل فى قبره علىّ والعباس وحضر معهم رجل من الأنصار. وقيل : دخل معهم الفضل وقثم وشقران ، وأطبق عليه تسع لبنات. ثم دفن ورشّ قبره بماء ، وجعل عليه من حصباء حمراء وبيضاء ، ورفع قبره من الأرض قدر شبر وسنم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومما قاله أبو بكر رضى الله عنه فى مرثية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) تاريخ الطبرى ٣ / ٢٠٠.

(٢) تاريخ الطبرى ٣ / ٢١١.

(٣) تاريخ الطبرى ٣ / ٢١٣ ، السيرة لابن هشام ٢ / ٣٧٥.

(٤) تاريخ الطبرى ٣ / ٢١٣.

٣١٩

ودعنا البيت إذ ولّيت عنّا

فودّعنا من الله الكلام

سوى ما قد تركت لنا رهينا

تضمنه القراطيس الكرام

وقال أيضا :

يا عين أبكى ولا تسأمى

وحقّ البكاء على السيد

على خير خندف عند البلا

أمسى يغيّب فى الملحد

فكيف الحياة لفقد الحبيب

وزين المعاشر فى المشهد

فليت الممات لنا كلنا

فإنا جميعا مع المهتدى

وروى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها رأت فى منامها كأن ثلاثة أقمار نزلوا من السماء فدخلوا من باب حجرتها وغاصوا فى الأرض ، فقصت الرؤيا على أبيها أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ فلم يجبها بشىء ، فبعد أيام يسيرة توفى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفن فى حجرتها ، فقال لها أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ : هذا أحد أقمارك يا بنية وهو خيرها.

ورأى العباس ـ رضى الله عنه ـ قبل موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيسير كأن القمر قد رفع من الأرض إلى السماء بأشطان ، فقصّها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هو ابن أخيك».

ثم مات أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ بعده بعامين وهو ابن ثلاث وستين سنة فى الأصح ، وكانت وفاته فى ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء ، ودفن قبل الصبح لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال ، وقيل : وثلاثة أشهر وتسع ليال ، وصلى عليه عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى المسجد عند المنبر ، ودفن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلف ظهره. كذا قاله يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب.

ثم مات عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ بطعن أبو لؤلؤة يوم الأربعاء عند صلاة الصبح لأربع ، وقيل : لثلاث بقين من ذى الحجة ـ وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ـ سنة ثلاث وعشرين من الهجرة. ودفن يوم الأحد صبيحة هلال المحرم ، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام. وقيل : وخمس ليال. وكان

٣٢٠