إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

ويروى أن الجنيد (١) ـ قدس الله سره ـ طاف بالبيت فى جوف الليل ، فسمع جارية تطوف وهى تقول شعرا :

أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته

فأصبح عندى قد أناخ وطنّبا

إذا اشتد شوقى هام قلبى بذكره

وإن رمت قربا من حبيبى تقرّبا

فقلت لها : يا جارية ، أما تتقين الله تعالى تتكلمين فى مثل هذا المكان بمثل هذا الكلام ، فالتفتت إلىّ وقالت : يا جنيد :

لو لا التقى لم ترنى

أهجر طيب الوسن

إنّ التقا شرّدنى

كما ترى من وطنى

أفرّ من وجدى به

فحبّه هيّمنى

ثم قالت : يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقلت : أطوف بالبيت ، فرفعت رأسها ، وقالت : سبحانك ما أعظم شأنك على خلقك ؛ خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار ، ثم أنشأت تقول :

يطوفون بالأحجار يبغون قربا

إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر

قال الجنيد : فغشى علىّ من قولها ، فلما أفقت لم أرها (٢).

وما أحسن كلام أبى يزيد ـ قدس الله سره ـ فى هذا المعنى قال : الحجاج يطوفون حول البيت يطلبون البقاء ، وأهل المحبة يطوفون حول العرش يطلبون اللقاء.

وقال الشيخ أبو الحسن الخرقانى قدس الله سره : القبلة خمس : فالكعبة قبلة المؤمنين ؛ وبيت المقدس قبلة الأنبياء ، والبيت المعمور قبلة الملائكة ، والعرش قبلة الدعاء ، والحق تعالى قبلة أحبابه ، فأين ما تولوا فثم وجه الله ، والحمد لله الذى هو قبلة أحبابه.

__________________

(١) هو : الإمام الحجة جنيد بن محمد بن جنيد البغدادى ، واحد من كبار علماء التصوف ، وهو الذى أوضح معالم التصوف وضبطها ؛ فجاء بطريقة التصوف الصحيح الذى ينضبط بالشرع.

(٢) هداية السالك ١ / ١٦٣ ، صفة الصفوة ٤ / ٣٣٨ ، مثير الغرام الساكن (ص : ٢٩٥).

٢٠١

لكلّ قوم قبلة يتوجهوا

وقبلة الأحباب فرد واحد

ففى كلّ شىء له آية

تدل على أنه واحد

ونقل عن أبى يزيد البسطامى (١) ـ رحمه الله ـ أنه قال : حججت ثلاث حجج ؛ ففى الحجة الأولى : رأيت البيت ولم أر رب البيت. وفى الثانية : رأيت البيت ورب البيت ، وفى الثالثة : رأيت رب البيت ولم أر البيت (٢).

وقال الشيخ أبو الحسن الخرقانى قدس الله سره : من زار مكة فليكن له ثلاث خلال : أولها : أن لا يقول فى البادية ليتها كانت كذا وكذا. والثانى : إذا مشى لا يمشى إلا فى بادية الوحدانية. والثالث : أن لا يرى الكعبة بل يرى ربها.

وقال على بن الموفق : طفت بالبيت وصليت ركعتين فى الحجر واستندت إلى جدار الكعبة أبكى وأقول : كم أحضر هذا البيت الشريف ولا أزداد فى نفسى خيرا ، فبينا أنا بين النائم واليقظان إذ هتف بى هاتف : يا علىّ سمعنا مقالتك ، أو تدعو أنت إلى بيتك من لا تحبه! (٣).

وقال الأوزاعى : رأيت رجلا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول : يا رب إنى فقير كما ترى ، وصبيتى قد عروا كما ترى ، وناقتى قد عجفت كما ترى ، وبردتى قد بليت كما ترى ، فما ترى مما يرى يا من يرى ولا يرى؟ وإذا بصوت من خلفه : يا عاصم الحق عمك قد هلك بالطائف وخلّف لك ألف نعجة وثلثمائة ناقة وأربعمائة دينار وأربعة أعبد وثلاثة أسياف يمانية ، فامض وخذها فليس له وارث غيرك ، قال الأوزاعى : فقلت له : يا عاصم إن الذى دعوته لقد كان قريبا. فقال :

__________________

(١) هو : سلطان العارفين ، أبو يزيد ، طيفور بن عيسى بن شروسان ، البسطامى نسبة إلى بسطام بلدة شرقى العراق ، زاهد تكلم كثيرا فى التصوف ، وتعمق ، فوضعت عليه قصص ، ولفقت أقوال يأباها العقل والشرع. (انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ١٣ / ٨٦ ، المنتظم ١٢ / ١٦٦).

(٢) هداية السالك ١ / ١٦٣ ، والمراد من هذه العبارات أن يلاحظ التقرب من الله عز وجل فى الطواف ، وأنه يتوصل إلى رضا رب البيت حتى يغلب ذلك الشعور على بعضهم ، كما فى الجملة الأخيرة. وقد علق «القارى» فى رسالته «أنوار الحجج» فقال : «فى المرة الثانية رأيت البيت ورب البيت» إنها حال أهل جمع الجمع فى الحضرة الأعلى ، وهى الفضلى والأولى كما لا يخفى».

(٣) تاريخ بغداد ١٢ / ١١١ ، طبقات الأولياء (٣٤١) ؛ وفى إسناده مجهول.

٢٠٢

يا هذا أما سمعت قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.)(١) وقيل : تعلق بأستار الكعبة شاب ، وقال : إلهى لا شريك لك فيؤتى ، ولا وزير فيرشى ، إن أطعتك فبفضلك ولك الحمد ، وإن عصيتك فبجهلى ولك الحجة علىّ ، فبإثبات حجتك علىّ وبانقطاع حجتى لديك إلا غفرت لى. فسمع هاتفا يقول : الفتى عتيق من النار (٢).

وقال بعض السلف : كنت بالمزدلفة وأنا أحيى الليل ، فإذا بامرأة تصلى حتى الصباح ومعها شيخ سمعته يقول : اللهم إنا قد جئنا من حيث تعلم ، وحججنا كما أمرتنا ، ووقفنا كما دللتنا ، وقد رأينا أهل الدنيا ؛ إذا شاب المملوك فى خدمتهم يذمّوا أن يبيعوه بل يعتقونه ، وقد شبنا فى ملكك فارحمنا وأعتقنا من النار (٣).

قال بعض الصالحين : كنت عاهدت الله أن لا أنظر إلى حسان الوجوه ، فبينا أنا فى الطواف وإذا أنا بامرأة حسناء ، فتأملت فيها تعجبا ؛ فإذا بسهم من الهوى قد وقع فى إحدى عينى ، وإذا عليه مكتوب : نظرت بعين العبرة فرميناك بسهم الأدب ، فلو نظرت بعين الشهوة رميناك بسهم القطيعة.

وروى أن إبراهيم بن أدهم (٤) ـ قدس الله سره ـ خرج ليلة من الليالى بمكة على أنه يطوف بالبيت خاليا ـ وكانت ليلة مظلمة ـ فقال فى نفسه : وجدت الفسحة ، الليلة أطوف أنا وحدى. فلما دخل الطواف إذا هو بسبعين ألف طائف ، فتحير وقال : ما رأيت خلقا فى سائر الليالى مثل ما أرى هذه الليلة. فتعلق به شيخ وقال : يا إبراهيم هؤلاء كلهم طلاب الخلوة طمعوا فيما طمعت فاجتمع الطماعون!

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٨٦.

(٢) انظر : صفة الصفوة ٤ / ٣٣٣ ، ومثير الغرام الساكن (ص : ٢٩٨).

(٣) هداية السالك ١ / ١٦٨. وزاد «القارى» فى «رسالته» «فارحمنا بلطفك ، وأعتقنا بجودك» ثم ختم رسالته بقوله : «فهذا طريق العلماء الأبرار والمشايخ الأخيار فى اجتنابهم الآثام والأوزار ؛ خوف المحاسبة فى دار القرار. والمعاقبة بالنار فى دار البوار».

(٤) هو : إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر ، أبو إسحاق التميمى ، ويقال : العجلى البلخى الزاهد ، ثقة مأمون. (انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ٧ / ٣٨٧).

٢٠٣

حسب المحب من الحبيب بعلمه

أن الحبيب ببابه مطروح

والقلب منه إذا تنفس فى الدجى

بسهام لوعات الهوى مجروح

وروى عن بعض العارفين قال : رأيت شابة نحيفة البدن خفيفة الساقين فى الطواف وهى تقول : هذا بيت ربى هذا بيت معبودى هذا بيت من اشتقت إليه ، ثم وضعت خدها على حائط البيت فوقفت ساعة ثم قالت :

الشوق حيّرنى والشوق طيّرنى

والشوق قرّبنى والشوق أبعدنى

والشوق قيّدنى والشوق أطلقنى

والشوق فرّق بين الجفن والوسن

فقال الشبلى لها : هل اشتقت إلى ربك؟ قالت : لا ؛ لأن الشوق لا يكون إلا على غائب وما غبت عنه طرفة عين (١).

قال الحسن البصرى ـ رضى الله عنه ـ : وروى عن الأصمعى أنه قال : خرجت حاجا إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه محمد عليه‌السلام ، فبينا أنا أطوف حول الكعبة بالليل ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فإذا أنا بصوت حزين ، فاتبعت الصوت فإذا أنا بشاب حسن الثياب ، ظريف الشمائل ، عليه آثار الخير ، وكان على رأسه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ، وهو يقول : يا سيدى ومولاى ؛ نامت العيون وغابت النجوم وأنت ملك حى قيوم ، وغلقت الملوك أبوابها وقامت عليها حجابها وبابك مفتوح للسائلين ، فها أنا سائل ببابك ، مذنب فقير ببابك ، خاطئ ببابك ، مسكين ببابك ، جئت أنتظر رحمتك يا كريم يا رحيم ؛ ثم أنشأ يقول :

يا من يجيب دعاء المضطر فى الظّلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السّقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا

وعين جودك يا قيوم لم تنم

أدعوك ربى حزينا راجيا فرحا

فارحم بكائى بحقّ البيت والحرم

أنت الغفور فجد لى بمغفرة

واعطف بفضلك يا ذا الجود والكرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو زلل

من ذا يجود على العاصين بالكرم؟

ثم رفع رأسه إلى السماء وهو ينادى : يا سيدى ويا مولاى إن أطعتك بمنّك

__________________

(١) هداية السالك ١ / ١٥٧.

٢٠٤

فلك المنة علىّ ، وإن عصيتك بجهلى فلك الحجة لدى ؛ فبإظهار منّتك علىّ وبإثبات حجتك لدىّ أن ترحمنى وتغفر ذنوبى ولا تحرمنى رؤية جدّى وقرة عينى حبيبك وصفيك ونبيك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دار كرامتك ، ثم أنشأ يقول :

أتيت إليك رب العالمينا

وخلّيت الخلائق أجمعينا

وجئت إليك قصدا يا إلهى

فأنت السور والملجا الحصينا

أنخت بباب عفوك يا رجائى

لترحمنى بعفوك يا معينا

فأنت الله ذو الأفضال حقا

وأنت المؤنس المستوحشينا

ثم قال : يا سيدى ومولاى الحسنات لا تسرك ، والسيئات لا تضرك ، يا كريم أكرمنى ، ثم أنشأ يقول :

ألا أيها المأمول فى كلّ حاجة

شكوت إليك الضر فارحم شكايتى

ألا يا رجائى أنت كاشف كربتى

فهب لى ذنوبى كلّها واقض حاجتى

فزادى قليل لا أراه مبلّغى

أللزاد أبكى أم لبعد مسافتى؟

أتيت بأعمال قباح دنيّة

وما فى الورى خلق جنى كجنايتى

أتحرقنى بالنار يا غاية المنى

فأين رجائى ثمّ أين مخافتى؟

قال الأصمعى : وكان يكرر هذه الأبيات حتى سقط على الأرض مغشيا عليه ، فدنوت منه فإذا هو زين العابدين علىّ بن الحسين بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنهم أجمعين ـ فوضعت رأسه فى حجرى ، وبكيت بكاء شديدا إشفاقا عليه ؛ لرقة قلبه. فقطرت من دموعى قطرة على وجهه فأفاق من غشيته وفتح عينيه ، وقال : من ذا الذى أشغلنى عن مولاى؟ فقلت : أنا الأصمعى يا سيدى ، ما هذا البكاء وما هذا الجرع؟ وأنت من أهل البيت الطاهر ومعدن النبوة والكرامة ، أليس الله تعالى يقول : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١).

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٣٣.

٢٠٥

قال : فاستوى جالسا ، وقال : يا أصمعى ، هيهات ؛ إن الله خلق الجنة لمن أطاعه ، وإن كان عبدا حبشيا. وخلق النار لمن عصاه وإن كان شريفا قرشيا ؛ أما سمعت قول الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)(١) قال : فتركته على حاله ومضيت.

وروى أن عليا الرازى ـ رحمه الله ـ قد حج نيفا وخمسين حجة من نيسابور (٢) أحرم بكل حجة منها ، وكان يصلى فى كلّ البادية عند كل ميل ركعتين ، ويقول : قال الله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)(٣) وهذه منافعى فى حجى ، وقال بلسان الحال :

وجعلت قلبى منزلا لك عامرا

فإليه طرفى حين أطرف يسجد (٤)

وروى أن أبا بكر الكتانى ختم اثنى عشر ألف ختمة فى الطواف.

وقيل : أقام أبو عمرو الزجاجى بمكة أربعين سنة لم يبل ولم يتغوط فى الحرم ، وكان يخرج فى كل يوم خارج الحرم فيتطهر. وقيل : كان يعتمر كل يوم ثلاث عمرات ، وكان يأكل بعد ثلاثة أيام أكلة واحدة. ومات عن نيف وسبعين وقفة.

__________________

(١) سورة المؤمنون : آية ١٠١.

(٢) نيسابور : مدينة عظيمة فتحها المسلمون أيام عثمان بن عفان (انظر : مراصد الاطلاع : ١٤١١).

(٣) سورة الحج : آية ٢٨.

(٤) صفوة الصفوة ٢ / ١٠٩.

٢٠٦

النوع الثانى من الفصل الحادى والأربعين

فى ذكر من آثر أهل الفاقة بنفقة الحج ولم يحج

فبعث الله تعالى ملكا فحج عنه

عن عبد الله بن المبارك (١) رحمه الله قال : كان بعض المتقدمين قد حبب إليه الحج ، قال : فحدث عنه أنه قال : ورد الحاجّ فى بعض السنين إلى بغداد فعزمت على الخروج معهم إلى الحج فأخذت فى كمى خمسمائة دينار وخرجت إلى السوق أشترى بها آلة الحج ، فبينا أنا فى الطريق فعارضتنى فى الطريق امرأة فقالت : رحمك الله أنا امرأة شريفة ولى بنات عراة واليوم الرابع ما أكلنا شيئا ، قال : فوقع كلامها فى قلبى فطرحت الخمسمائة دينار فى طرف إزارها ، وقلت : عودى إلى بيتك واستعينى بهذه الدنانير على وقتك ، فحمدت الله تعالى وانصرفت ، ونزع الله من قلبى حلاوة الخروج فى تلك السنة ، وخرج الناس وحجوا وعادوا ، فقلت : أخرج للقاء الأصدقاء والسلام عليهم ، فخرجت ، فكلما لقيت صديقا سلمت عليه وقلت له : تقبل الله حجك وشكر سعيك يقول لى : وأنت تقبل الله حجك وشكر سعيك ، فطال علىّ ذلك فلما إن كانت تلك الليلة رأيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام فقال لى : يا فلان لا تعجب من تهنئة الناس لك بالحج ؛ أغثت ملهوفا وأعنته ، فسألت الله تعالى فخلق فى صورتك ملكا فهو يحج عنك فى كل عام فإن شئت حج وإن شئت لا تحج.

وقال أبو سعيد بن عبد الملك بن أبى عثمان الواعظ أن عبد الله بن المبارك دخل الكوفة وهو يريد الحج وإذا بامرأة جالسة على مزبلة تنتف بطة فوقع فى نفسه أنها ميتة ، فوقف وقال : يا هذه أهذه ميتة أم مذبوحة؟ قالت : ميتة وأنا أريد أكلها وعيالى. فقال : إن الله قد حرم الميتة وأنت فى هذه البلد ، فقالت : يا هذا انصرف

__________________

(١) هو : عبد الله بن المبارك ، أبو عبد الرحمن المروزى ؛ جمع بين العلم والزهد والجهاد. (انظر ترجمته فى سير أعلام النبلاء ٨ / ٣٧٨) ، والخبر فى مثير الغرام الساكن (ص : ٣٦٨).

٢٠٧

عنى ، فلم يزل يراجعها الكلام إلى أن تعرف منزلها ، ثم انصرف فحمل معه نفقة وكسوة وزادا على بغل وجاء وطرق الباب ففتحت فنزل عن البغل وربطه ودخل البيت ثم قال للمرأة : هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد لكم ، ثم أقام حتى رجع الحاج ، فجاءه قوم يهنؤنه بالحج ، فقال : ما حججت السنة ، فقال له بعضهم : سبحان الله ألم أودعك نفقتى فى موضع كذا وكذا؟ وقال آخر : ألم تشتر لى كذا وكذا؟ فقال : ما أدرى ما تقولون ؛ أما أنا لم أحج العام ، فلما كان الليل أتى فى منامه فقيل له : يا عبد الله بن المبارك إن الله عزّ وجلّ قد قبل صدقتك وإنه بعث ملكا على صورتك فحج عنك (١).

وحكى عن بعض السلف أنه نودى بالحج ومعه ثمان مائة درهم فعرض له ذات يوم حاجة ، فبعث ولده إلى بعض جيرانه فرجع الولد يبكى ، فقال : ما لك؟ قال : دخلت على جارنا وعندهم طبيخ فاشتهيته فلم يطعمونى ، فذهب الرجل إلى جاره يعاتبه على ما فعل ، فبكى الجار ، فقال : ألجأتنى أن أكشف حالى ، إنا منذ خمسة أيام لم نطعم شيئا فطبخنا اليوم ميتة وأكلنا ، وعلمت أن ولدك يجد شيئا ولا يحل له أكل الميتة ، فتعجب الرجل ، وقال لنفسه كيف النجاة وفى جوارك مثل هذا الرجل وأنت تتأهب للحج؟ فرجع إلى بيته وأعطاه الثمان مائة درهم ، فلما كان عشية عرفة رأى ذو النون المصرى فى منامه وهو بعرفة كأن قائلا يقول : يا ذا النون ترى هذا الزحام على هذا الموقف؟ قال : نعم ، قال : ما حج منهم إلا رجل واحد تخلف عن الوقوف فحج بهمته فوهب الله له أهل الموقف ، قال ذو النون : من هو؟ قال : هو رجل يسكن دمشق ، فذهب ذو النون إلى دمشق وبحث عنه حتى عرفه وسلّم عليه (٢).

__________________

(١) مثير الغرام الساكن (ص : ٣٦٩).

(٢) هذه الحكاية مجهولة الإسناد ، وعلامات الوضع فيها لائحة. وقد ذكرها ابن الجوزى فى كتابه «مثير الغرام الساكن (ص : ٣٦٩ ـ ٣٧٠).

٢٠٨

النوع الثالث من الفصل الحادى والأربعين

فى ذكر طرف من أخبار المحبين وأحوال المقربين

عن سرى بن يحيى قال : حدثنى جار كان لأبى قلابة الجرمى ، أنه خرج حاجّا فتقدم على أصحابه فى يوم صائف وهو صائم فأصابه عطش شديد فقال : اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشى من غير فطر ، فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه وذهب العطش عنه ، فنزل فحّوض حوضا فملأها ماء ، فانتهى إليه أصحابه فشربوا منه وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شىء (١).

وقيل : حج شيبان الراعى مع سفيان الثورى فعرض لهما سبع فخاف سفيان وقال : يا شيبان ترى هذا السبع؟ فقال له شيبان : لا تخف وأخذ بأذن السبع وعركها فبسبس السبع بين يديه وحرك أذنيه ، فقال سفيان : ما هذه الشهرة؟! فقال شيبان : لو لا مخافتى من الشهرة لوضعت زادى على ظهره إلى مكة!

وعن ابن شوذب قال : كان حبيب العجمى (٢) أبو محمد يرى بالبصرة يوم التروية ، ويرى يوم عرفة بعرفة (٣).

وعن موسى بن إبراهيم ، قال : رأيت الحسن بن الخليل بن مرة بعرفات وكلمته ، ثم رأيته يطوف بالبيت. فقلت : ادع لى أن يقبل الله حجى ، فبكى ودعا لى ، فأتيت مصر ، فقلت : إن الحسن كان معنا بمكة ، فقالوا : ما حج العام. وقد كان يبلغنى أنه يمر إلى مكة فى ليلة فما كنت أصدق حتى رأيته وجاء فى بيتى

__________________

(١) أخرجه : ابن أبى الدينا فى الأولياء (٦٣) ، ومجابو الدعوة (١٣١) ، ومختصر تاريخ دمشق ١٢ / ٢١٦ ، مثير الغرام الساكن (ص : ٣٩٨). وفى إسناده مجاهيل.

(٢) هو : حبيب بن محمد ، أبو محمد العجمى ، زاهد أهل البصرة وعابدهم ، وكانت له كرامات وأحوال. (انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ٦ / ١٤٣).

(٣) الخبر فى مختصر تاريخ دمشق بنحوه ٦ / ١٨٨ ، وسير أعلام النبلاء ٦ / ١٤٤ ، وحلية الأولياء ٦ / ١٥٤ ، مثير الغرام الساكن (ص : ٣٩٩).

٢٠٩

وقال : شهرتنى ، ما كنت أحب أن تحدث به عنى فلا تعد بحقّى عليك (١).

وعن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا سنان ، عن جعفر ، عن حبيب العجمى : أنه كان يرى يوم التروية بالبصرة ويوم عرفة بعرفات (٢).

وعن محمد بن عمرو الواسطى قال : كنت مع معروف الكرخى يوما فدعانى ، فرجعت إليه من الغد وفى وجهه أثر ، فقال له إنسان : يا أبا محفوظ كنا عندك أمس وما بوجهك هذا الأثر!! فاليوم نرى على وجهك أثرا؟ فقال معروف : سل عما يعنيك. فقال الرجل : بمعبودك إلا عرّفتنى. فتغير معروف وقال : لم أعلم أنك تحلفنى بالله تعالى ؛ إنى قد وصلت البارحة ها هنا ، فاشتهيت أن أطوف بالبيت ، فمضيت إلى البيت فطفت بالبيت ، ثم جئت إلى زمزم لأشرب من مائها ؛ فزلقت على الباب فأصاب وجهى ما تراه (٣).

وعن أبى العباس السرمى قال : كنا مع أبى تراب النخشبى (٤) فى طريق مكة فمرض ، فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابه : أنا عطشان ، فضرب برجله فإذا عين ماء كالزلال ، فقال الفتى : أحب أن أشرب فى قدح ، فضرب بيده الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت فشرب وسقانا وما زال القدح معنا إلى مكة (٥).

وعن أبى جعفر محمد بن عبد الملك بن هاشم قال : قلت لذى النون المصرى : صف لنا من خيار من رأيت ، فذرفت عيناه وقال : مرة ركبنا فى البحر نريد جدة ومعنا فتى ابن نيف وعشرين سنة قد ألبس ثوبا من الهيبة فكنت أحب أن أكلمه

__________________

(١) المنتظم ٨ / ٣١٢ ، مثير الغرام الساكن (ص : ٤٠٠) ، وفى إسناده من لم أعثر عليه.

(٢) مثير الغرام الساكن (ص : ٤٠٠).

(٣) الخبر فى : صفة الصفوة ٢ / ٢١٣ ، المنتظم ١٠ / ٨٨ ، تاريخ بغداد ١٣ / ٢٠٢ ، الرسالة القشيرية (ص : ١٨٤) ، مثير الغرام الساكن (ص : ٤٠٥).

(٤) هو : أبو تراب ، عسكر بن الحسين التّخشبىّ ، مات فى طريق الحج سنة (٢٤٥ ه‍) ، (انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ١١ / ٥٤٥ ، العبر ١ / ٤٤٥ ، حلية الأولياء ١٠ / ٤٥ ، تاريخ بغداد ١٢ / ٣١٥ ، ٣١٨).

(٥) الخبر فى : مختصر تاريخ دمشق ١٧ / ٥٣ ، صفة الصفوة ٤ / ١٥٠ ، الرسالة القشيرية (ص : ١٨٦) ، مثير الغرام (ص : ٤٠٦).

٢١٠

فلم أستطع ، فحينا نراه مصليا ، وحينا نراه قارئا ، وحينا نراه مسبحا ، إلى أن رقد ذات يوم ، فوقع فى المركب تهمة ، فجعل الناس يفتش بعضهم بعضا إلى أن بلغوا إلى الفتى النائم ، فقال صاحب الصرّة : لم يكن أحد أقرب إلىّ من هذا الفتى النائم ، فلما سمعت ذلك قمت فأيقظته ، فما كلمنى حتى توضأ للصلاة ، فصلى أربع ركعات ، ثم قال لى : يا فتى ما تشاء؟ فقلت : إن تهمة وقعت فى المركب ، وإن الناس لم يزل يفتش بعضهم بعضا حتى بلغوا إليك. فالتفت إلى صاحب الصرة ، وقال : هو كما يقول؟ قال : نعم. لم يكن أحدا أقرب إلىّ منك ، فرفع الفتى يديه يدعو ، وخفت على أهل المركب من دعائه ، وخيل إلينا أن كل حوت فى البحر قد خرجت. وفى فم كل حوت جوهرة. فقام الفتى إلى جوهرة فى فم الحوت ، فأخذها وألقاها إلى صاحب الصرة ، وقال : فى هذه عوض عما ذهب منك وأنت فى حلّ مما زاد.

وقال ابن خفيف سمعت أبا الحسن المزين بمكة قال : كنت فى بادية تبوك فتقدمت إلى بئر لاستقى منها فزلقت رجلى فوقعت فى جوف البئر ، فرأيت فى البئر زاوية واسعة فأصلحت موضعا وجلست عليه ، وقلت : إن كان خرج منى شىء لا أفسد الماء على الناس ، وسكن قلبى ، فبينما أنا قاعد وإذا بخشخشة ؛ فتأملت ، فإذا بأفعى تنزل علىّ ، فراجعت نفسى فإذا هى ساكنة ، فنزل ودار بى ، ثم لف بى ذنبه فأخرجنى من البئر ، ثم حل عنى فلا أدرى أرض ابتلعته أم سماء رفعته وقمت فمشيت (١).

وعن علىّ بن سالم قال : سمعت سهل بن عبد الله (٢) يقول لأحمد بن سالم وكان قريب المغرب : اترك الحيل والتدبير حتى نصلى العشاء بمكة!

وعن جعفر الخلدى قال : حججت سنة من السنين فصحبنى بعض الصوفية

__________________

(١) الخبر فى المنتظم ١٣ / ٣٨٨ ، صفة الصفوة ٢ / ١٥٠ ، مثير الغرام الساكن (ص : ٤٠٧) ، وليت هذا الرجل كما تورع عن أن يفسد على الناس ماءهم تورع أيضا عن أن يفسد عليهم دينهم بادعائه عدم الخوف من ذلك الثعبان المبين ؛ وقد خاف من قبله كليم الله موسى عليه‌السلام!! وكيف لا يخاف وهذا من خصائص النفس البشرية.

(٢) هو : سهل بن عبد الله بن يونس ، أبو محمد التسترى ، الصوفى الزاهد. (انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٣٠) ، والخبر فى مثير الغرام الساكن (ص : ٤٠٨).

٢١١

وكان ممن يشار إليه بالعلم والمعرفة ، فأضافتنا الطريق إلى الجبل ، وكنا جماعة ، فاستسقيناه ماء ولم يكن بالقرب ماء ، فأخذ ركوته ورمى بها إلى الجبل فسمعت خرير الماء بأذنى حتى امتلأت الركوة ، فسقى الجماعة ، وكانت عينى إلى الموضع فلا أرى للماء أثرا ولا شقا فى الجبل ، قال أبى : فسألت جعفرا عن هذا فقال : كرامة الله لأوليائه (١).

وعن أبى تراب النخشبى قال : كنت أنا وجماعة من أصحابى قد خرجنا من مكة فمضيت إلى طريق ومضوا على طريق ، وكان قد أصابنا جوع شديد ، فلما افترقنا صاد أصحابى ظبيا فذبحوه وشووه فلما جلسوا ليأكلوه إذا بنسر قد انقض عليهم واحتمل ربع الظبى ، قالوا : فأقبلنا ننظر إليه ولا نقدر عليه ، قال أبو تراب : فلما اجتمعنا بمكة قلت لهم : أى شىء كان خبركم بعدى؟ فأخبرونى بخبرهم وما كان من قصة الظبى ، فقلت لهم : إنى كنت سائرا فإذا بنسر قد ألقى إلىّ ربع ظبى مشوى فأكلت ، وكان أكلنا فى وقت واحد (٢).

وعن جعفر الخلدى قال سمعت إبراهيم الخواص (٣) يقول : إنى أعرف من طريق مكة ستة عشر طريقا منها طريقان طريق ذهب وطريق فضة (٤).

وعن علىّ بن محمد السروانى قال : سمعت إبراهيم الخواص يقول : سلكت البادية ستة عشر طريقا على غير الجادة فأعجب ما رأيت فيها رجلا ليس له يدان ولا رجلان وعليه من البلاء أمر عظيم وهو يزحف زحفا ، فتحيرت منه ، وسملت عليه فقال : وعليك السلام يا إبراهيم ، قال : فقلت له : فبما عرفتنى ولم ترنى قبلها؟ قال : الذى جاء بك عرّف بينى وبينك ، فقلت : صدقت ، إلى أين تريد؟ فقال : إلى مكة ، فقلت : من أين؟ قال : من بخارى ، فبقيت متعجبا أنظر إليه ، فنظر إلىّ شزرا وقال : يا إبراهيم تعجب من قوى يحمل ضعيفا ويرفق به؟! ثم

__________________

(١) الخبر فى : المنتظم ٥ / ١٦٢ ، حلية الأولياء ١٠ / ١٨٩ ، مثير الغرام (ص : ٤٠٨).

(٢) الخبر فى : صفوة الصفوة ٤ / ٣٢٧ ، ومثير الغرام الساكن (ص : ٤٠٨ ، ٤٠٩). وفى إسناده : أبو الحسن الصوفى ، ابن جهضم ، دجال من الدجاجلة.

(٣) هو : أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص. (انظر ترجمته فى : حلية الأولياء ١٠ / ٣٢٥).

(٤) الخبر فى صفوة الصفوة ، ومثير الغرام (ص : ٤١٧).

٢١٢

دمعت عيناه ، فقلت له : لا يا جيبى ، فتركته على حاله ومضيت أنا ، فلما دخلت مكة رأيته فى الطواف وهو يزحف زحفا (١).

وعن الخلدى رحمه الله قال : حج عبد الله الأقطع على فرد قدم ، قال : فلما بلغت بين المسجدين (٢) وقع فى سرى أنه لم يحج أحد قبلى فإذا أنا بمقعد يحبو فوقفت عليه أتعجب منه ، فقال لى : ما لك تعجب من قوى يحمل ضعيفا؟!

__________________

(١) الخبر فى صفوة الصفوة ، ومثير الغرام (ص : ٤١٧) ، وفى إسناده ابن جهضم.

(٢) بين المسجدين : مكة والمدينة.

٢١٣

و [النوع] الرابع من الفصل الحادى والأربعين فى ذكر من جاور منهم بمكة ومن مات بها فمنهم : الشيخ أبو علىّ الفضيل بن عياض (١) بن مسعود التميمى اليربوعى الخراسانى من ناحية مرو (٢) ، مات بها فى المحرم سنة تسع وثلاثين ومائة ، ودفن بمقبرة المعلاة.

ومنهم : الشيخ أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصر آبادى الخراسانى ، ومات بها سنة سبع وستين وثلثمائة.

ومنهم : الشيخ أبو عمرو محمد بن إبراهيم الزجّاج (٣) النيسابورى الخراسانى حج قريبا من ستين حجة ـ وقيل : نيفا وسبعين حجة ـ ولم يبل ولم يتغوط فى الحرم أربعين سنة ، توفى بها سنة ثمان وأربعين وثلثمائة.

ومنهم : الشيخ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن محمد بن طلحة القشيرى (٤) الخراسانى النيسابورى الواثق المستأنس بالله الصادق العطوف بخلق الله تعالى. وحكى أن كثيرا من أكابر نيسابور رأوا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام فأخبرهم أن أبا القاسم القشيرى سر الله فى الأرض من خلقه ، توفى بها ودفن بالمعلاة ، وقبره اليوم مشهور ظاهر.

__________________

(١) الفضيل بن عياض ، هو : شيخ مكة وعابدها ، أخذ عنه الأئمة وتوفى سنة ١٨٧ ه‍ (انظر ترجمته فى العقد الثمين ٧ / ١٣ ، مرآة الجنان ١ / ٤١٥).

(٢) مرو : أشهر مدن خراسان (مراصد الاطلاع : ١٢٦٢).

(٣) أبو عمرو الزجاج : انظر ترجمته فى : العقد الثمين ١ / ٤٠٨ برقم ٨٧ ، وطبقات الأولياء ١٥٦ ، وفيه توفى فى سنة ٣٤٦ ه‍.

(٤) انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ١٨ / ٢٢٧ ، تاريخ بغداد ١١ / ٨٣ ، البداية والنهاية ١٢ / ١٠٧ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٩.

٢١٤

ومنهم : الشيخ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم بن الأعرابى ، بصرى الأصل ، وكان شيخ الحرم فى وقته وعلمه ، وصنف للقوم كتبا كثيرة ، توفى بها سنة إحدى وأربعين وثلثمائة.

ومنهم : الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد الحداد الرازى الخراسانى ، جاور بالحرم مدة ، وتوفى بها سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة.

ومنهم : الشيخ أبو يعقوب إسحاق بن محمد النّهرجورى (١) ، جاور بمكة مدة ، وتوفى بها سنة ثلاثين وثلثمائة.

ومنهم : الشيخ أبو بكر محمد بن على بن جعفر الكتانى (٢) البغدادى يعرف بسراج الحرم ، توفى بها سنة اثنين وعشرين وثلثمائة. وقيل : إنه ختم القرآن اثنتى عشرة ألف ختمة فى الطواف.

ومنهم : الشيخ عمر النسائى الخراسانى ، كان شيخ الشيوخ بالموصل ، ثم جاور بالمدينة مدة ، ثم جاور بمكة ، وتوفى بها فى سنة ست وخمسين وخمسمائة.

ومنهم : الشيخ أبو الحسن على بن محمد المعروف بالمزيّن (٣) ، جاور بمكة ، ومات بها سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.

ومنهم : أبو جعفر أحمد بن حمدان بن على بن سنان (٤) النيسابورى ، جاور

__________________

(١) أبو يعقوب النهرجورى : انظر ترجمته فى : البداية والنهاية ١١ / ٢٠٣ ، طبقات الأولياء ١٠٥ ، سير أعلام النبلاء ١٥ / ٢٣٢ ، حلية الأولياء ١٠ / ٣٥٦ ، المنتظم ١٤ / ٢٠.

(٢) أبو بكر محمد بن جعفر الكتانى : المثبت عن صفوة الصفوة ٢ / ٢٥٧ ، وحلية الأولياء ١٠ / ٣٥٧ ، والنجوم الزاهرة ٣ / ٢٤٨ ؛ أن اسمه : أبو محمد بن مجلى بن جعفر الكتانى. وفى إتحاف الورى ٢ / ٣٨٥ كما فى نسختنا.

(٣) أبو الحسن على بن المزين البغدادى ، توفى سنة ٣٢٨ ه‍ (انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ١٥ / ٢٣٢ ، تاريخ بغداد ٢ / ٧٣ ، العبر ٢ / ٢١٥).

(٤) أبو جعفر أحمد بن سنان بن أسد بن حبّان القطان ، حدث عنه البخارى ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، توفى سنة ٢٥٦ على الأرجح (انظر ترجمته فى : سير أعلام النبلاء ١٢ / ٢٤٤ ، الجرح والتعديل ٢ / ٥٣ ، العبر ٢ / ١٦).

٢١٥

بمكة ، ومات بها سنة إحدى عشرة وثلثمائة.

ومنهم : الشيخ أبو بشر محمد بن أحمد الجلاوى من أولاد أبى جعفر أحمد بن حمدان النيسابورى ، كان أوحد المشايخ فى وقته ، جاور بمكة ، ومات بها سنة سبع وثمانين وثلثمائة ، قدس الله أرواحهم أجمعين.

* * *

٢١٦

الفصل الثانى والأربعون

فى ذكر تاريخ الكعبة الشريفة على وجه الاختصار

اعلم وفقنا الله تعالى وإياك بالخير والطاعة أن العلماء أجمعوا على أن الكعبة أول بيت وضع للعبادة ولكن اختلفوا : هل هو أول بيت مطلقا أم لا؟ فقيل : كانت قبله بيوت. والمنقول عن جمهور العلماء أنه أول بيت وضع للعبادة مطلقا (١).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البيت المعمور الذى فى السماء يقال له الضراح ، وهو على البيت الحرام ، لو سقط عليه لغمره ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لم يروه قط ، وإن له فى السماء السابعة حرما على قدر حرم هذا». رواه عبد الرزاق (٢).

ويروى : أنه كان قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنة ، وكان له بابان من زمرد أخضر ، شرقى وغربى ، وفيه قناديل من قناديل الجنة (٣).

وعن أبى ذر ـ رضى الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله أى مسجد وضع فى الأرض أوّلا؟ قال : «المسجد الحرام» ، قلت : ثم أى؟ قال : «المسجد الأقصى» ، قلت : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» ـ متفق عليه واللفظ لمسلم.

ويروى : أن ذو القرنين قدم مكة وإبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة ، فقال : ما

__________________

(١) ينظر فى ذلك : القرى (ص : ٣٣٨) ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٦٤.

(٢) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه (٨٨٧٤) مرسلا عن كريب ، والبيهقى فى الشعب (٣٩٩٧) موقوفا ، والديلمى فى الفردوس (٢٠٤٩) ، والأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٩.

وسمى الضراح : لأنه ضرح عن الأرض زمن الطوفان.

وقيل : من المضارحة ؛ وهى المقابلة (النهاية ٣ / ٨١).

(٣) أخرجه : الأزرقى موقوفا على أبى هريرة ١ / ٤٣ ، ابن الجوزى فى العلل (٩٣٧) ، السيوطى فى الدر المنثور ١ / ٢٤٥ ، وعزاه إلى الجندى ، الديلمى (٤٨٥١). وفيه : محمد بن زياد اليشكرى الجزرى صاحب ميمون بن مهران الفأفأ. قال عنه الدارقطنى : كذاب ، وقال الترمذى : ضعيف جدّا ، وقال النسائى : متروك الحديث.

٢١٧

هذا؟ فقالا : نحن مأموران بهذا البناء ، قال : فهاتما البينة على ما تدعيان ، فقامت خمسة أكبش فقلن : نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران بهذا البناء ، فقال : رضيت وسلمت ومضى (١).

ويروى : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ جعل طول الكعبة فى السماء تسعة أذرع وطولها فى الأرض ثلاثين ذراعا وعرضها فى الأرض اثنين وعشرين ذراعا ، ولم يسقفها ، وكان بابها لاصقا بالأرض ، ولما فرغ من بنائها أتاه جبريل فأراه الطواف ، ثم أتى به جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات (٢).

ويروى : أنه كان بين ذلك وبين أن يبعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة آلاف سنة (٣).

ويقال : إن قصىّ بن كلاب جدّد بنائها بعد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل ، ثم بنتها قريش ، وقيل : إن العمالقة بنتها بعد إبراهيم عليه‌السلام ، ثم بنتها جرهم ، ثم بنتها قريش حين وهن البيت فى زمنهم فى الجاهلية ؛ وكان سبب ذلك أن امرأة جاءت بمجمرة نحو الكعبة فسقطت منها شرارة فتعلقت بكسوة الكعبة فاحترقت واحترق قرن الكبش الذى كان فدى به إسماعيل ـ أو إسحاق على الاختلاف ـ فتصدعت الكعبة بسبب ذلك ، فخافت قريش من أن ينهدم فأجمعوا على هدمها وتجديدها ، فيروى أنهم كانوا كلما أرادوا نقضها خرجت حية سوداء الظهر بيضاء البطن رأسها مثل رأس الجدى فمنعتهم عن ذلك ، فلما رأوا ذلك اجتمعوا عند المقام واتفقوا على أنهم لا يدخلون فى بنائها من كسبهم إلا طيبا حلالا ، وعجّوا إلى الله تعالى وقالوا : ربنا ما أردنا إلا عمارة بيتك فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك ، فإذا هم بطائر أسود الظهر أبيض البطن أعظم من النسر جاء فغرز مخاليبه فى رأس الحية حتى انطلق بها يجرها نحو أجياد.

__________________

(١) الخبر فى : هداية السالك ٣ / ١٣٢٤.

(٢) أخرجه : الحاكم فى المستدرك ١ / ٤٧٧ وصححه ، ووافقه الذهبى ، البيهقى فى السنن ٥ / ١٥٣ ، ١٥٤ ، الأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) هداية السالك ٣ / ١٣٢٦.

٢١٨

ويروى أن هذه الحية هى الدابة التى تخرج عند قيام الساعة من أجياد تكلم الناس وتسم وجه المؤمن والكافر ، وأنها تخرج قبل يوم التروية بيوم ، وقيل : يوم التروية ، وقيل : يوم عرفة ، وقيل : يوم النحر أو الغد من يوم النحر ، ويروى أنها تخرج من شعب أجياد ، وأنها يمس رأسها السحاب وما خرجت رجلاها من الأرض ، وقيل : تخرج من تحت الصفا ، وقيل : من المروة (١) ، والله أعلم.

ثم هدمت قريش الكعبة ، وأول من بدأ بالهدم الوليد بن المغيرة ، ثم أخذوا فى البناء ، وحضر سيدنا محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ينقل معهم الحجارة وهو ابن خمس وعشرين سنة ـ وقيل : خمس وثلاثين سنة ـ ثم لما بلغوا موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه من القبائل حتى هموا بالقتال ، فاجتمع رأيهم أن يتحاكموا إلى أول داخل من باب المسجد ، فكانوا منتظرين فإذا هم كذلك دخل سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غلام ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين قد رضينا بما يقضى به بيننا ، ثم أخبروه بالخبر ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رداءه وبسطه على الأرض ثم وضع الحجر فيه ، ثم أمر سيد كل قبيلة أن يأخذ بناحية من الثوب ، ثم قال : «ارفعوا جميعا» ، فلما رفعوه وضعه سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده المباركة الطاهرة (٢).

وسبب تسميته بالأمين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قائما بين الصفا والمروة وهو ابن سبع سنين إذ نزل جماعة من تجار الشام وكانوا على ملة المسيح عليه‌السلام فنظر إليه أحدهم فعرفه بعلامات وجدها فى كتبهم من نعوته وسيره فقال له : من أنت؟ فقال : «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب» فقال له : من رب هذه؟ وأشار إلى السماء فقال : «الله ربها» ، وقال : من رب هذه؟ وأشار إلى الأرض فقال : «الله ربها» ، فقال : من رب هذه؟ وأشار إلى الجبال ، فقال : «الله ربها لا شريك له» ، فقال النصرانى : فهل لها رب غيره؟ فقال : «لا جئت لتشككنى فى الله تعالى ما له

__________________

(١) ينظر عن أمر بناء الكعبة فى هذا الوقت فى : أخبار مكة للأزرقى ١ / ٦٦ ـ ٧٢ ، السيرة لابن هشام ٢ / ٣٠٠ ، شفاء الغرام ١ / ١٥٤ ـ ١٥٧ ، فتح البارى ٣ / ٥١٥ ـ ٥١٧ ، عبد الرزاق فى مصنفه (٩١٠٤). البيهقى فى دلائل النبوة ١ / ٥٧.

(٢) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه (٩١٠٤) ، البيهقى فى الدلائل ١ / ٥٧ ، الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٦٢ ، الفاكهى فى أخبار مكة ٥ / ٢٢٨ ، ابن إسحاق فى السير والمغازى ٢ / ١٠٨ ، ابن سيد الناس فى عيون الأثر ١ / ٥١ ، ٥٢.

٢١٩

شريك ولا ضد».

ولما ترعرع كانت قريش تسميه محمدا الأمين لما شاهدوا فيه من الأمانة والصدق.

وزادت قريش فى طولها فى السماء تسعة أذرع ونقصت من طولها فى الأرض ما تركته فى الحجر ؛ لأنه قصرت بهم النفقة الحلال ، ورفعوا باب الكعبة ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا (١) ، وسقفوه.

ولم يزل على ذلك حتى كان زمن عبد الله بن الزّبير ـ رضى الله عنهما ـ فاستشار فى هدم الكعبة وتجديدها ، فأشار جابر بن عبد الله وغيره بهدمها وتجديدها ، وأشار ابن عباس وغيره بتركها على حالها. فعزم ابن الزّبير على هدمها ، فخرج أهل مكة إلى منى فأقاموا بها ثلاثة أيام خوفا من أن ينزل عليهم عذاب بسبب هدمها ، فأمر ابن الزّبير بهدمها فما اجترأ أحد على ذلك ، فعلاها ابن الزّبير بنفسه وأخذ المعول فجعل يهدمها ويرمى أحجارها فلما رأوا أنه لا يصيبه شىء اجترؤا وهدموها حجرا حجرا ، ثم عزل ابن الزّبير ما يصلح أن يعاد من الأحجار فى البناء فبنى به ، وما لا يصلح أن يبنى به فأمر به فدفن فى جوف الكعبة ، وبناها على قواعد إبراهيم عليه‌السلام فأدخل فيها ما نقصته قريش من الحجر ، وجعل لها بابين ، وزاد فى طولها فى السماء تسعة أذرع أخرى فصار طولها فى السماء سبعا وعشرين ذراعا ، كذا قاله الأزرقى.

قال : وكان هدمها فى يوم السبت للنصف من شهر جمادى الآخر سنة أربع وستين من الهجرة.

وجعل ابن الزّبير الحجر الأسود عنده فى صندوق فى بيته وقفل عليه ، وكان قد انكسر ثلاث فلق من الحريق الذى أصاب الكعبة ، فلما بلغ البناء موضع الحجر جاء به ووضعه بنفسه وشده بالفضة. والذى حمل ابن الزّبير على ذلك قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة رضى الله عنها : «لو لا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لأمرت بهدم البيت وأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقت بابه بالأرض ، وجعلت له بابين شرقيا

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ١٥٧ ، وما بعدها ، شفاء الغرام ١ / ١٥٥ ، هداية السالك ٣ / ١٣٢٨.

٢٢٠