أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

بمعنى خالصة لله تعالى وصوافن بمعنى معقلة في قيامها قوله تعالى (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) روى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم إذا سقطت وقال أهل اللغة الوجوب هو السقوط ومنه وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب قال قيس بن الخطيم :

أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم

عن السلم حتى كان أول واجب

يعنى أول مقتول سقط على الأرض وكذلك البدن إذا نحرت قياما سقطت لجنوبها وهذا يدل على أنه قد أراد بقوله صواف قياما لأنها إذا كانت باركة لا يقال إنها تسقط إلا بالإضافة فيقال سقطت لجنوبها وإذا كانت قائمة ثم نحرت فلا محالة يطلق عليها اسم السقوط وقد يقال للباركة إذا ماتت فانقلبت على الجنب أنها سقطت لجنبها فاللفظ محتمل للأمرين إلا أن أظهر هما أن تكون قائمة فتسقط لجنبها عند النحر وقوله تعالى (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها) يدل على أنه قد أريد بوجوبها لجنوبها موتها فهذا يدل على أنه ليس المراد سقوطها فحسب وأنه إنما أراد سقوطها للموت فجعل وجوبها عبارة عن الموت وهذا يدل على أنه لا يجوز الأكل منها إلا بعد موتها ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميتة وقوله تعالى (فَكُلُوا مِنْها) يقتضى إيجاب الأكل منها إلا أن أهل العلم متفقون على أن الأكل منها غير واجب وجائز أن يكون مستحسنا مندوبا إليه وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع وكان لا يأكل يوم الأضحى حتى يصلى صلاة العيد ثم يأكل من لحم أضحيته وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحى فوق ثلث فكلوا وادخروا وروى أبو بكر بن عياش عن أبى إسحاق عن علقمة قال بعث معى عبد الله بهدية فقلت له ماذا تأمرنى أن أصنع به قال إذا كان يوم عرفة فعرف به وإذا كان يوم النحر فانحره صواف فإذا وجب لجنبه فكل ثلثا وتصدق بثلث وابعث إلى أهل أخى ثلثا وروى نافع عن ابن عمر كان يفتي في النسك والأضحية ثلث لك ولأهلك وثلث في جيرانك وثلث للمساكين وقال عبد الملك عن عطاء مثله قال وكل شيء من البدن واجبا كان أو تطوعا فهو بهذه المنزلة إلا ما كان من جراد صيد أو فدية من صيام أو صدقة أو نسك أو نذر مسمى للمساكين وقد روى طلحة ابن عمر وعن عطاء عن ابن مسعود قال أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نتصدق بثلثها ونأكل ثلثها ونعطى الجازر ثلثها والجازر غلط لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلى لا تعطى الجازر منها شيئا وجائز أن

«٦ ـ أحكام مس»

٨١

يكون الجازر صحيحا وإنما أمرنا بإعطائه من غير أجرة الجزارة وإنما نهى أن يعطى الجازر منها من أجرته ولما ثبت جواز الأكل منها دل ذلك على جواز إعطائه الأغنياء لأن كل ما يجوز له أكله يجوز أن يعطى منه الغنى كسائر أمواله وإنما قدروا الثلث للصدقة على وجه الاستحباب لأنه لما جاز له أن يأكل بعضه ويتصدق ببعضه ويهدى بعضه على غير وجه الصدقة كان الذي حصل للصدقة الثلث وقد قدمنا قبل ذلك أنه لما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في لحوم الأضاحى فكلوا وادخروا وقال الله تعالى (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) حصل الثلث للصدقة وقوله تعالى (فَكُلُوا مِنْها) عطفا على البدن يقتضى عمومه جواز الأكل من بدن القرآن والتمتع لشمول اللفظ لها قوله تعالى (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) قال أبو بكر القانع قد يكون الراضي بما رزق والقانع السائل أخبرنا أبو عمر غلام ثعلب قال أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابى قال القناعة الرضا بما رزقه الله تعالى ويقال من القناعة رجل قانع وقنع ومن القنوع رجل قانع لا غير قال أبو بكر وقال الشماخ في القنوع :

لمال المرء يصلحه فيغنى

مفاقره أعف من القنوع

واختلف السلف في المراد بالآية فروى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا القانع الذي لا يسئل والمعتر الذي يسئل وروى عن الحسن وسعيد بن جبير قالا القانع الذي يسئل وروى عن الحسن قال المعتر يتعرض ولا يسئل وقال مجاهد القانع جارك الغنى والمعتر الذي يعتريك من الناس قال أبو بكر إن كان القانع هو الغنى فقد اقتضت الآية أن يكون المستحب الصدقة بالثلث لأن فيها الأمر بالأكل وإعطاء الغنى وإعطاء الفقير الذي يسئل قوله تعالى (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) قيل في معناه لن يتقبل الله اللحوم ولا الدماء ولكن يتقبل التقوى منها وقيل لن يبلغ رضا الله لحومها ولا دماءها ولكن يبلغه التقوى منكم وإنما قال ذلك بيانا أنهم إنما يستحقون الثواب بأعمالهم إذ كانت اللحوم والدماء فعل الله فلا يجوز أن يستحقوا بها الثواب وإنما يستحقونه بفعلهم الذي هو التقوى ومجرى موافقة أمر الله تعالى بذبحها قوله تعالى (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) يعنى ذللها لتصريف العباد فيما يريدون منها خلاف السباع الممتنعة بما أعطيت من القوة والآلة قوله تعالى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) قال مجاهد صوامع الرهبان والبيع كنائس اليهود وقال الضحاك

٨٢

صلوات كنائس اليهود ويسمونها صلوتا وقيل إن الصلوات مواضع صلوات المسلمين مما في منازلهم وقال بعضهم لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع في أيام شريعة عيسى عليه‌السلام وبيع في أيام شريعة موسى عليه‌السلام ومساجد في أيام شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال الحسن يدفع عن هدم مصليات أهل الذمة بالمؤمنين قال أبو بكر في الآية دليل على أن هذه المواضع المذكورة لا يجوز أن تهدم على من كان له ذمة أو عهد من الكفار وأما في دار الحرب فجائز لهم أن يهدموها كما يهدمون سائر دورهم وقال محمد بن الحسن في أرض الصلح إذا صارت مصرا للمسلمين لم يهدم ما كان فيها من بيعة أو كنيسة أو بيت نار وأما ما فتح عنوة وأقر أهلها عليها بالجزية فإنه ما صار منها مصرا للمسلمين فإنهم يمنعون من فيها الصلاة في بيعهم وكنائسهم ولا تهدم عليهم ويؤمرون بأن يجعلوها إن شاءوا بيوتا مسكونة قوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) قال أبو بكر هذه صفة الذين أذن لهم في القتال بقوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ـ إلى قوله ـ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ ـ إلى قوله ـ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) وهذه صفة المهاجرين لأنهم الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق فأخبر تعالى أنه إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وهو صفة الخلفاء الراشدين الذين مكنهم الله في الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم وقد مكنوا في الأرض فوجب أن يكونوا أئمة القائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه ولا يدخل معاوية في هؤلاء لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وليس معاوية من المهاجرين بل هو من الطلقاء قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الآية روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس أن السبب في نزول هذه الآية إنه لما تلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان في تلاوته :

تلك الغرانيق العلى

وإن شفاعتهن لترتجى

٨٣

وقد اختلف في معنى ألقى الشيطان فقال قائلون لما تلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة وذكر فيها الأصنام علم الكفار أنه يذكرها بالذم والعيب فقال قائل منهم حين بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) تلك الغرانيق العلى وذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش في المسجد الحرام فقال سائر الكفار الذين كانوا بالبعد منه إن محمدا قد مدح آلهتنا وظنوا أن ذلك كان في تلاوته فأبطل الله ذلك من قولهم وبين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتله وإنما تلاه بعض المشركين وسمى الذي ألقى ذلك في حال تلاوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيطانا لأنه كان من شياطين الإنس كما قال تعالى (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس وقيل إنه جائز أن يكون شيطانا من شياطين الجن وقال ذلك عند تلاوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل ذلك جائز في أزمان الأنبياء عليهم‌السلام كما حكى الله تعالى عنه بقوله (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) وإنما قال ذلك إبليس حين تصور في صورة سراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر وكما تصور في صورة الشيخ النجدي حين تشاورت قريش في دار الندوة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان مثل ذلك جائزا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضرب من التدبير فجائز أن يكون الذي قال ذلك شيطانا فظن القوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله وقال بعضهم جائز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تكلم بذلك على سبيل السهو الذي لا يعرى منه بشر فلا يلبث أن ينبهه الله عليه وأنكر بعض العلماء ذلك وذهب إلى أن المعنى إن الشيطان كان يلقى وساوسه في صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يشغله عن بعض ما يقول فيقرأ غلطا في القصص المتشابهة نحو قصة موسى عليه‌السلام وفرعون في مواضع من القرآن مختلفة الألفاظ فكان المنافقون والمشركون ربما قالوا قد رجع عن بعض ما قرأ وكان ذلك يكون منه على طريق السهو فنبهه الله تعالى عليه فأما الغلط في قراءة تلك الغرانيق فإنه غير جائز وقوعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما لا يجوز وقوع الغلط على بعض القرآن بإنشاد شعر في أضعاف التلاوة على أنه من القرآن وروى عن الحسن أنه لما تلا ما فيه ذكر الأصنام قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هي عندكم كالغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى في قولكم على جهة النكير عليهم قوله تعالى (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) قيل إن المنسك الموضع المعتاد لعمل خير أو شر وهو المألف

٨٤

لذلك ومناسك الحج مواضع العبادات فيه فهي متعبدات الحج وقال ابن عباس منسكا عيدا وقال مجاهد وقتادة متعبدا في إراقة الدم بمنى وغيره وقال عطاء ومجاهد أيضا وعكرمة ذبائح هم ذابحوه وقيل إن المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها قال أبو بكر قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث البراء بن عازب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يوم الأضحى فقال إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فجعل الصلاة والذبح جميعا نسكا وهذا يدل على أن اسم النسك يقع على جميع العبادات إلا أن الأظهر الأغلب في العادة عند الإطلاق الذبح على وجه القربة قال الله تعالى (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وليس يمتنع أن يكون المراد جميع العبادات ويكون الذبح أحد ما أريد بالآية فيوجب ذلك أن يكونوا مأمورين بالذبح لقوله تعالى (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) وإذ كنا مأمورين بالذبح ساغ الاحتجاج به في إيجاب الأضحية لوقوعها عامة في الموسرين كالزكاة ولو جعلناه على الذبح الواجب في الحج كان خاصا في دم القران والمتعة إذ كانا نسكين في الحج دون غيرهما من الدماء إذ كانت سائر الدماء في الحج إنما يجب على جهة جبران نقص وجناية فلا يكون إيجابه على وجه ابتداء العبادة به وقوله تعالى (جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) يقتضى ظاهره ابتداء إيجاب العبادة به واختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب الأضحية فروى الشعبي عن أبى سريحة قال رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان وقال عكرمة كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى درهمين اشترى له لحما ويقول من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس وقال ابن عمر ليست بحتم ولكن سنة ومعروف وقال أبو مسعود الأنصارى إنى لأدع الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم على وقال إبراهيم النخعي الأضحية واجبة إلا على مسافر وروى عنه أنه قال كانوا إذا شهدوا ضحوا وإذا سافروا لم يضحوا وروى يحيى بن يمان عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال الأضحية واجبة وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر الأضحية واجبة على أهل اليسار من أهل الأمصار والقرى المقيمين دون المسافرين ولا أضحية على المسافر وإن كان موسرا وحد اليسار في ذلك ما تجب فيه صدقة الفطر وروى عن أبى يوسف مثل ذلك وروى عنه أنها ليست بواجبة وهي سنة وقال مالك بن أنس على الناس كلهم أضحية المسافر والمقيم ومن تركها من غير عذر فبئس ما صنع وقال الثوري والشافعى ليست بواجبة وقال الثوري لا بأس بتركها وقال عبد الله بن

٨٥

الحسن يؤثر بها أباه أحب إلى من أن يضحى قال أبو بكر ومن يوجبها يحتج له بهذه الآية ويحتج له بقوله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) قد اقتضى الأمر بالأضحية لأن النسك في هذا الموضع المراد به الأضحية ويدل عليه ما روى سعيد بن جبير عن عمران بن حصين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يا فاطمة اشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه وقولي (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وروى أن عليا رضى الله عنه كان يقول عند ذبح الأضحية (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ) الآية وقال أبو بردة بن نيار يوم الأضحى يا رسول الله إنى عجلت بنسكى وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فدل ذلك على أن هذا النسك قد أريد به الأضحية وأخبر أنه مأمور به بقوله (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) والأمر يقتضى الوجوب ويحتج فيه بقوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قد روى أنه أراد صلاة العيد وبالنحر الأضحية والأمر يقتضى الإيجاب وإذا وجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو واجب علينا لقوله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) وقوله (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ويحتج للقائلين بإيجابها من جهة الأثر بما رواه زيد بن الحباب عن عبد الله بن عياش قال حدثني الأعرج عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان له يسار فلم يضح فلا يقر بن مصلانا وقد رواه غير زيد بن الحباب مرفوعا جماعة منهم يحيى بن سعيد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عباس بن الوليد بن المبارك قال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عياش عن الأعرج عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قدر على سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ورواه يحيى بن يعلى أيضا مرفوعا حدثنا عبد الباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن النعمان الفراء قال حدثنا يحيى بن يعلى عن عبد الله بن عياش أو عباس عن الأعرج عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجد سعة فلم يضح فلا يقر بن مسجدنا ورواه عبيد الله بن أبى جعفر عن الأعرج عن أبى هريرة قال من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ويقال إن عبيد الله بن أبى جعفر فوق ابن عياش في الضبط والجلالة فوقفه على أبى هريرة ولم يرفعه ويقال إن الصحيح أنه موقوف عليه غير مرفوع ويحتج لإيجابها أيضا بحديث أبى رملة الحنفي عن مخنف بن سليم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال على كل أهل بيت في عام أضحية وعتيرة قال أبو بكر والعتيرة

٨٦

منسوخة بالاتفاق وهي إنهم كانوا يصومون رجب ثم يعترون وهي الرجبية وقد كان ابن سيرين وابن عون يفعلانه ولم تقم الدلالة على نسخ الأضحية فهي واجبة بمقتضى الخبر إلا أنه ذكر في هذا الحديث على كل أهل بيت أضحية ومعلوم أن الواجب من الأضحية لا يجزى عن أهل البيت وإنما يجزى عن واحد فيدل ذلك على أنه لم يرد الإيجاب ومما يحتج لموجبيها ما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن أبى عون البزوري قال حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن مجاهد عن الشعبي عن جابر والبراء بن عازب قالا قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منبره يوم الأضحى فقال من صلى معنا هذه الصلاة فليذبح بعد الصلاة فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله إنى ذبحت ليأكل معنا أصحابنا إذا رجعنا قال ليس بنسك قال عندي جذعة من المعز قال تجزى عنك ولا تجزى عن غيرك فيستدل من هذا الخبر بوجوه على الوجوب أحدها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح بعد الصلاة وهو أمر بالذبح يقتضى ظاهره الوجوب والوجه الثاني قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجزى عنك ولا تجزى عن غيرك ومعناه تقضى عنك لأنه يقال جزى عنى كذا بمعنى قضى عنى والقضاء لا يكون إلا عن واجب فقد اقتضى ذلك الوجوب ومن جهة أخرى أن في بعض ألفاظ هذا الحديث فمن ذبح قبل الصلاة فليعد أضحيته وفي بعضها أنه قال لأبى بردة أعد أضحيتك ومن يأبى ذلك يقول إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح يدل على أنه لم يرد الإيجاب لأن وجوبها لا يتعلق بشهود الصلاة عند الجميع ولما عم الجميع ولم يخصص به الأغنياء دل على أنه أراد الندب وأما قوله تجزى عنك فإنما أراد به جواز قربة والجواز والقضاء على ضربين أحدهما جواز قربة والآخر جواز فرض فليس في ظاهر إطلاق لفظ الجواز والقضاء دلالة على الوجوب وأيضا يحتمل أن يكون أبو بردة قد كان أوجب الأضحية نذرا فأمره بالإعادة فإذا ليس فيما خاطب به أبو بردة دلالة على الوجوب لأنه حكم في شخص معين ليس بعموم لفظ في إيجابها على كل أحد فإن قيل لو أراد القضاء عن واجب لسأله عن قيمته ليوجب عليه مثله قيل له قد قال أبو بردة إن عندي جذعة خير من شاتى لحم فكانت الجذعة خيرا من الأولى ومما يحتج به على الوجوب من طريق النظر اتفاق الجميع على لزومها بالنذر فلولا أن لها أصلا في الوجوب لما لزمت بالنذر كسائر الأشياء التي ليس لها أصل في الوجوب فلا تلزم بالنذر ومما يحتج به للوجوب

٨٧

ما روى جابر الجعفي عن أبى جعفر قال نسخت الأضحية كل ذبح كان قبلها ونسخت الزكاة كل زكاة كانت قبلها ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ونسخ غسل الجنابة كل غسل كان قبله قالوا فهذا يدل على وجوب الأضحى لأنه نسخ به ما كان قبله ولا يكون المنسوخ به إلا واجبا ألا ترى أن كل ما ذكره أنه ناسخ لما قبله فهو فرض أو واجب قال أبو بكر وهذا عندي لا يدل على الوجوب لأن نسخ الواجب هو بيان مدة الوجوب فإذا بين بالنسخ أن مدة الإيجاب كانت إلى هذا الوقت لم يكن في ذلك ما يقتضى إيجاب شيء آخر ألا ترى أنه لو قال قد نسخت عنكم العتيرة والعقيقة وسائر الذبائح التي كانت تفعل لم تكن فيه دلالة على وجوب ذبيحة أخرى فليس إذا في قوله نسخت الأضحية كل ذبيحة كانت قبلها دلالة على وجوب الأضحية وإنما فائدة ذكر النسخ في هذا الموضع بالأضحية أنه بعد ما ندبنا إلى الأضحية لم تكن هناك ذبيحة أخرى واجبة ومما يحتج به من نفى وجوبها ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال حدثنا مندل بن على عن أبى حباب عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأضحى على فريضة وهو عليكم سنة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا سعيد بن محمد أبو عثمان الأنجدانى قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا عبد الرحيم بن سليم عن عبد الله بن محرز عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرت بالأضحى والوتر ولم تعزم على وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن على بن العباس الفقيه قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا محمد بن عبد الوارث قال حدثنا أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ثلاث هن على فريضة ولكم تطوع الأضحى والوتر والضحى ففي هذه الأخبار أنها ليست بواجبة علينا إلا أن الأخبار لو تعارضت لكانت الأخبار المقتضية للإيجاب أولى بالاستعمال من وجهين أحدهما أن الإيجاب طارئ على إباحة الترك والثاني أن فيه حظر الترك وفي نفيه إباحة الترك والحظر أولى من الإباحة ومما يحتج به في نفى الوجوب ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو دواد قال حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثني سعيد بن أيوب قال حدثني عياش القتبانى عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة فقال رجل أرأيت إن لم أجد إلا منيحة إننى أفأضحي بها قال لا

٨٨

ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك وتحلق عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل فلما جعل هذه الأشياء بمنزلة الأضحية دل على أن الأضحية غير واجبة إذ كان فعل هذه الأشياء غير واجب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني إبراهيم بن موسى الرازي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى عياش عن جابر بن عبد الله قال ذبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجئين فلما وجههما قال إنى وجهت وجهى للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح قالوا ففي ذبحه عن الأمة دلالة على أنها غير واجبة لأنها لو كانت واجبة لم تجز شاة عن جميع الأمة قال أبو بكر وهذا لا ينفى الوجوب لأنه تطوع بذلك وجائز أن يتطوع عمن قد وجب عليه كما يتطوع الرجل عن نفسه ولا يسقط ذلك عنه وجوب ما يلزمه ومما يحتج من نفى الوجوب ما قدمنا روايته عن السلف من نفى إيجابه وفيه الدلالة من وجهين على ذلك أحدهما أنه لم يظهر من أحد من نظرائهم من السلف خلافه وقد استفاض عمن ذكرنا قولهم من السلف نفى إيجابه والثاني أنه لو كان واجبا مع عموم الحاجة إليه لوجب أن يكون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف لأصحابه على وجوبه ولو كان كذلك لورد النقل به مستفيضا متواترا وكان لا أقل من أن يكون وروده في وزن ورود إيجاب صدقة الفطر لعموم الحاجة إليه وفي عدم النقل المستفيض فيه دلالة على نفى الوجوب ويحتج فيه بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما اختلف حكم المقيم والمسافر فيه كصدقة الفطر فلما لم يوجبه أبو حنيفة على المسافر دل على أنه غير واجب ويحتج فيه أيضا بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما أسقطه مضى الوقت فلما اتفق الجميع على أنه يسقط بمضى أيام النحر دل على أنه غير واجب إذ كانت سائر الحقوق الواجبة في الأموال نحو الزكاة وصدقة الفطر والعشر ونحوها لا يسقطها مضى الأوقات قوله تعالى (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ـ إلى قوله ـ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) قيل معناه جاهدوا في الله حق جهاده واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ولذلك نصب وقال بعضهم نصب لأنه أراد كملة أبيكم إلا أنه لما حذف الجار اتصل الاسم بالفعل فنصب قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن علينا اتباع شريعة إبراهيم إلا ما ثبت

٨٩

نسخه على لسان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل إنه إنما قال ملة أبيكم إبراهيم لأنها داخلة في ملة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان المعنى أنه كملة أبيكم إبراهيم فإنه يعنى أن الجهاد في الله حق جهاده كملة أبيكم إبراهيم عليه‌السلام لأنه جاهد في الله حق جهاده وقال ابن عباس (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) جاهدوا المشركين وروى عن ابن عباس أيضا لا تخافوا في الله لومة لائم وهو الجهاد في الله حق جهاده وقال الضحاك يعنى اعملوا بالحق لله عز وجل قوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قال ابن عباس من ضيق وكذلك قال مجاهد ويحتج به في كل ما اختلف فيه من الحوادث أن ما أدى إلى الضيق فهو منفي وما أوجب التوسعة فهو أولى وقد قيل (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) إنه من ضيق لا مخرج منه وذلك لأن منه ما يتخلص منه بالتوبة ومنه ما ترد به المظلمة فليس في دين الإسلام مالا سبيل إلى الخلاص من عقوبته وقوله (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) الخطاب لجميع المسلمين وليس كلهم راجعا بنسبه إلى أولاد إبراهيم فروى عن الحسن أنه أراد أن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد كما قال تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وفي بعض القراءات وهو أب لهم قوله تعالى (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) قال ابن عباس ومجاهد يعنى إن الله سماكم المسلمين وقيل إن إبراهيم سماكم المسلمين لقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) وقوله تعالى (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) قال مجاهد من قبل القرآن وفي القرآن وقوله تعالى (هُوَ اجْتَباكُمْ) يدل على أنهم عدول مرضيون وفي ذلك بطلان طعن الطاعنين عليهم إذ كان الله لا يجتبى إلا أهل طاعته واتباع مرضاته وفي ذلك مدح للصحابة المخاطبين بذلك ودليل على طهارتهم قوله تعالى (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فيه الدلالة على صحة إجماعهم لأن معناه ليكون الرسول شهيدا عليكم بطاعة من أطاع في تبليغه وعصيان من عصى وتكونوا شهداء على الناس بأعمالهم فيما بلغتموهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم وهذه الآية نظير قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فبدأ بمدحهم ووصفهم بالعدالة ثم أخبر أنهم شهداء وحجة على من بعدهم كما قال هنا (هُوَ اجْتَباكُمْ ـ إلى قوله ـ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) قوله تعالى (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) ربما يحتج به المحتج في إيجاب قربة مختلف في وجوبها وهذا عندنا لا يصح الاحتجاج به في إيجاب شيء ولا يصح اعتقاد العموم

٩٠

فيه. آخر سورة الحج.

سورة المؤمنين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) روى ابن عوف عن محمد بن سيرين قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء فلما نزلت (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) نكس رأسه وروى هشام عن محمد قال لما نزلت (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) خفضوا أبصارهم فكان الرجل يحب أن لا يجاوز بصره موضع سجوده وروى عن جماعة الخشوع في الصلاة أن لا يجاوز بصره موضع سجوده وروى عن إبراهيم ومجاهد والزهري الخشوع السكون وروى المسعودي عن أبى سنان عن رجل منهم قال سئل على عن قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) قال الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء المسلم ولا تلتفت في صلاتك وقال الحسن خاشعون خائفون قال أبو بكر الخشوع ينتظم هذه المعاني كلها من السكون في الصلاة والتذلل وترك الالتفات والحركة والخوف من الله تعالى وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال اسكنوا في الصلاة وكفوا أيديكم في الصلاة وقال أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا وأنه نهى عن مس الحصى في الصلاة وقال إذا قام الرجل يصلى فإن الرحمة تواجهه فإذا التفت انصرفت عنه وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلمح في الصلاة ولا يلتفت وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو توبة قال حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام قال حدثني السلوى أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين وذكر الحديث إلى قوله من يحرسنا الليلة قال أنس بن أبى مرثد الغنوي أنا يا رسول الله قال فاركب فركب فرسا له فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يغرن من قبلك الليلة فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال هل أحسستم فارسكم قالوا يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلّم قال أبشروا فقد جاءكم فارسكم فأخبر في هذا الحديث أنه كان يلتفت إلى الشعب وهو في

٩١

الصلاة وهذا عندنا كان عذرا من وجهين أحدهما أنه لم يأمن من مجيء العدو من تلك الناحية والثاني اشتغال قلبه بالفارس إلى أن طلع وروى عن إبراهيم النخعي أنه كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا وروى حماد بن سلمة عن حميد عن معاوية بن قرة قال قيل لابن عمر إن كان الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا قال لكنا نقول هكذا وهكذا ونكون مثل الناس وروى عن ابن عمر أنه كان لا يلتفت في الصلاة فعلمنا أن الالتفات المنهي عنه أن يولى وجهه يمنة ويسرة فأما أن يلحظ يمنة ويسرة فإنه غير منهى عنه وروى سفيان عن الأعمش قال كان ابن مسعود إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى وروى أبو مجلن عن أبى عبيدة قال كان ابن مسعود إذا قام إلى الصلاة خفض فيها صوته وبدنه وبصره وروى على بن صالح عن زبير اليامى قال كان أراد أن يصلى كأنه خشبة قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) واللغو هو الفعل الذي لا فائدة فيه وما كان هذا وصفه من القول والفعل فهو محظور وقال ابن عباس اللغو الباطل والقول الذي لا فائدة فيه هو الباطل وإن كان الباطل قد يبتغى به فوائد عاجلة قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) يجوز أن يكون المراد عاما في الرجال والنساء لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر كقوله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) قد أريد به الرجال والنساء ومن الناس من يقول إن قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) خاص في الرجال بدلالة قوله تعالى (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) وذلك لا محالة أريد به الرجال قال أبو بكر وليس يمتنع أن يكون اللفظ الأول عاما في الجميع والاستثناء خاص في الرجال كقوله (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) ثم قال (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) فالأول عموم في الجميع والعطف في بعض ما انتظمه اللفظ وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) عام لدلالة الحال عليه وهو حفظها من مواقعة المحظور بها قوله تعالى (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) يقتضى تحريم نكاح المتعة إذ ليست بزوجة ولا مملوكة يمين وقد بينا ذلك في سورة النساء في قوله (وَراءَ ذلِكَ) معناه غير ذلك وقوله (العادُونَ) يعنى من يتعدى الحلال إلى الحرام فأما قوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) استثناء من الجملة المذكورة لحفظ الفروج وإخبار عن إباحة وطء الزوجة وملك اليمين فاقتضت الآية حظر ما عدا هذين الصنفين في الزوجات وملك الأيمان ودل بذلك على إباحة وطء الزوجات

٩٢

وملك اليمين لعموم اللفظ فيهن فإن قيل لو كان ذلك عموما في إباحة وطئهن لوجب أن يجوز ووطؤهن في حال الحيض ووطء الأمة ذات الزوجة والمعتدة من وطء بشبهة ونحو ذلك قيل له قد اقتضى عموم اللفظ إباحة وطئهن في سائر الأحوال إلا أن الدلالة قد قامت على تخصيص من ذكرت كسائر العموم إذا خص منه شيء لم يمنع ذلك بقاء حكم العموم فيما لم يخص وملك اليمين متى أطلق عقل به الأمة والعبد المملوكان ولا يكاد يطلق ملك اليمين في غير بنى آدم لا يقال للدار والدابة ملك اليمين وذلك لأن ملك العبد والأمة أخص من ملك غيرهما ألا ترى أنه يملك التصرف في الدار بالنقض والبناء ولا يملك ذلك في بنى آدم ويجوز عارية الدار وغيرها من العروض ولا يجوز عارية الفروج قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) روى عن جماعة من السلف في قوله تعالى (يُحافِظُونَ) قالوا فعلها في الوقت وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن يترك الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى وقال مسروق الحفاظ على الصلاة فعلها لوقتها وقال إبراهيم النخعي يحافظون دائمون وقال قتادة يحافظون على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها قال أبو بكر المحافظة عليها مراعاتها للتأدية في وقتها على استكمال شرائطها وجميع المعاني التي تأول عليها السلف المحافظة هي مرادة بالآية وأعاد ذكر الصلاة لأنه مأمور بالمحافظة عليها كما هو بالخشوع فيها قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) الآية روى وكيع عن مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد ابن وهب عن عائشة قالت قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يشرب الخمر ويسرق قال لا يا عائشة ولكنه الرجل يصوم ويصلى ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه وروى جرير عن ليث عمن حدثه عن عائشة وعن ابن عمر يؤتون ما آتوا قال الزكاة ويروى عن الحسن قال لقد أدركت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها قوله تعالى (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) الخيرات هنا الطاعات يسارع إليها أهل الإيمان بالله ويجتهدون في السبق إليها رغبة فيها وعلما بما لهم بها من حسن الجزاء وقوله (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) قال ابن عباس سبقت لهم السعادة وقال غيره وهم من أهل الخيرات سابقون إلى الجنة وقال آخرون وهم إلى الخيرات سابقون قوله تعالى (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) قال

٩٣

قتادة وأبو العالية خطايا من دون الحق وعن الحسن ومجاهد أعمال لهم من دون ما هم عليه لا بد من أن يعملوها وقوله تعالى (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) قرئ بفتح التاء وضم الجيم وقرئ بضم التاء وكسر الجيم فقيل في تهجرون قولان أحدهما قول ابن عباس تهجرون الحق بالإعراض عنه وقال مجاهد وسعيد بن جبير تقولون الهجر وهو السيئ من القول ومن قرأ تهجرون فليس إلا من الهجر عن ابن عباس وغيره يقال اهجر المريض إذا هدأ ووحد سامرا وإن كان المراد السمار لأنه في موضع المصدر كما يقال قوموا قياما وقيل إنما وحد لأنه في موضع الوقت بتقدير ليلا تهجرون وكانوا يسمرون بالليل حول الكعبة وقد اختلف في السمر فروى شعبة عن أبى المنهال عن أبى برزة الأسلمى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وروى شعبة عن منصور عن خيثمة عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا سمر إلا لرجلين مصل أو مسافر وعن ابن عمر أنه كان ينهى عن السمر بعد العشاء وأما الرخصة فيه فما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال قال عمر كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال يسمر الليلة عند أبى بكر في الأمر من أمور المسلمين وكان ابن عباس يسمر بعد العشاء وكذلك عمر وبن دينار وأيوب السختياني إلى نصف الليل. آخر سورة المؤمنين.

سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) قال أبو بكر لم يختلف السلف في أن حد الزانيين في أول الإسلام ما قال الله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ـ إلى قوله ـ وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) فكان حد المرأة الحبس والأذى بالتعيير وكان حد الرجل التعيير ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ونسخ عن المحصن بالرجم وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم فكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ـ إلى قوله ـ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وذلك لتنبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيانا على أن ما ذكره

٩٤

من ذلك هو السبيل المراد بالآية ومعلوم أنه لم تكن بينهما واسطة حكم آخر لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدما لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحديث عبادة إن المراد بالسبيل هو ما ذكره دون غيره وإذا كان كذلك كان الأذى والحبس منسوخين عن غير المحصن بالآية وعن المحصن بالسنة وهو الرجم واختلف أهل العلم في حد المحصن وغير المحصن في الزنا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يرجم المحصن ولا يجلد ويجلد غير المحصن وليس نفيه بحد وإنما هو موكول إلى رأى الإمام إن رأى نفيه للدعارة فعل كما يجوز حبسه حتى يحدث توبة وقال ابن أبى ليلى ومالك والأوزاعى والثوري والحسن بن صالح لا يجتمع الجلد والرجم مثل قول أصحابنا واختلفوا في النفي بعد الجلد فقال ابن أبى ليلى ينفى البكر بعد الجلد وقال مالك ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد ومن نفى حبس في الموضع الذي ينفى إليه وقال الثوري والأوزاعى والحسن بن صالح والشافعى ينفى الزاني وقال الأوزاعى ولا تنفى المرأة وقال الشافعى ينفى العبد نصف سنة والدليل على أن نفى البكر الزاني ليس بحدان قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) يوجب أن يكون هذا هو الحد المستحق بالزنا وأنه كمال الحد فلو جعلنا النفي حدا معه لكان الجلد بعض الحد وفي ذلك إيجاب نسخ الآية فثبت أن النفي إنما هو تعزير وليس بحد ومن جهة أخرى أن الزيادة في النص غير جائزة إلا بمثلي ما يجوز به النسخ وأيضا لو كان النفي حدا مع الجلد لكان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند تلاوته توقيف للصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حده ولو كان كذلك لكان وروده في وزن ورود نقل الآية فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان ومن طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد وقد روى عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهر قل فقال عمر لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنا وروى عن على أنه قال في البكرين إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها وقال إبراهيم النخعي كفى بالنفي فتنة فلو كان النفي ثابتا مع الجلد على أنهما حد الزاني لما خفى على كبراء الصحابة ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة وشبل وزيد بن خالد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في الأمة إذا زنت فليجلدها فإن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير وقد حوى هذا الخبر الدلالة من وجهين على صحة قولنا أحدهما

٩٥

إنه لو كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد والثاني أن الله تعالى قال (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) فإذا كان جلد الأمة نصف حد الحرة وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حدها بالجلد دون النفي دل ذلك على أن حد الحرة هو الجلد ولا نفى فيه فإن قيل إنما أراد بذلك التأديب دون الحد وقد روى عن ابن عباس أن الأمة إذا زنت قبل أن تحصن أنه لا حد عليها لقوله تعالى (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) قيل له قد روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها قال ذلك ثلاث مرات ثم قال في الثالثة أو الرابعة ثم ليبعها ولو بضفير وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعها ولو بضفير يدل على أنها لا تنفى لأنه لو وجب نفيها لما جاز بيعها إذ لا يمكن المشترى تسلمها لأن حكمها أن تنفى فإن قيل في حديث شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر يجلد وينفى والثيب يجلد ويرجم وروى الحسن عن قبيصة بن ذؤيب عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله وحديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبى هريرة وزيد بن خالد أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديته منه بوليدة ومائة شاة ثم أخبرنى أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الغنم والوليدة فرد عليك وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قيل له غير جائز أن تزيد في حكم الآية بأخبار الآحاد لأنه يوجب النسخ لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ فالواجب إذا كان هكذا حمله على وجه التعزير لا أنه حد مع الجلد فرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الوقت نفى البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايات الخمر وكسر الأوانى لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة وأيضا فإن حديث عبادة وارد لا محالة قبل آية الجلد وذلك لأنه قال خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا فلو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لكان السبيل مجعولا قبل ذلك ولما كان الحكم مأخوذا عنه بل عن الآية فثبت بذلك أن آية الجلد

٩٦

إنما نزلت بعد ذلك وليس فيها ذكر النفي فوجب أن يكون ناسخا لما في حديث عبادة من النفي إن كان النفي حدا ومما يدل على أن النفي على وجه التعزير وليس بحد أن الحدود معلومة المقادير والنهايات ولذلك سميت حدودا لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها فلما لم يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنفي مكانا معلوما ولا مقدارا من المسافة والبعد علمنا أنه ليس بحد وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام كالتعزير لما لم يكن له مقدار معلوم كان تقديره موكولا إلى رأى الإمام ولو كان ذلك حدا لذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسافة الموضع الذي ينفى إليه كما ذكر توقيت السنة لمدة النفي وأما الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فإن فقهاء الأمصار متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد والدليل على صحة ذلك حديث أبى هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف وإن أبا الزاني قال سألت رجلا من أهل العلم فقالوا على امرأة هذا الرجم فلم يقل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل عليها الرجم والجلد وقال لأنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يذكر جلدا ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره له كما ذكر الرجم وقد وردت قصة ما عز من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد ولو كان الجلد حدا مع الرجم لجلده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو جلده لنقل كما نقل الرجم إذ ليس أحدهما بأولى بالنقل من الآخر وكذلك في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن وضعت ولم يذكر جلدا ولو كانت جلدت لنقل وفي حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال قال عمر قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده فأخبر أن الذي فرضه الله هو الرجم وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره واحتج من جمع بينهما بحديث عبادة الذي قدمناه وقوله الثيب بالثيب الجلد والرجم وبما روى ابن جريج عن أبى الزبير عن جابر أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلد ثم أخبر أنه قد كان أحصن فأمر به فرجم وبما روى أن عليا جلد شراحة الهمدانية تم رجمها وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما حديث عبادة فإنا قد علمنا أنه وارد عقيب كون حد الزانيين الحبس والأذى ناسخا له واسطة بينهما بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ثم كان رجم ماعز والغامدية وقوله واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها

«٧ ـ احكام مس»

٩٧

بعد حديث عبادة فلو كان ما ذكر في حديث عبادة من الجمع بين الجلد والرجم ثابتا لا يستعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الوجوه وأما حديث جابر فجائز أن يكون جلده بعض الحد لأنه لم يعلم بإحصانه ثم لما ثبت إحصانه رجمه وكذلك قول أصحابنا ويحتمل حديث على رضى الله عنه في جلده شراحة ثم رجمها أن يكون على هذا الوجه واختلف الفقهاء في الذميين هل يحدان إذا زنيا فقال أصحابنا والشافعى يحدان إلا أنهما لا يرجمان عندنا وعند الشافعى يرجمان إذا كانا محصنين وقد بينا ذلك فيما سلف وقال مالك لا يحد الذميان إذا زنيا قال أبو بكر وظاهر قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) يوجب الحد على الذميين ويدل عليه حديث زيد بن خالد وأبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ولم يفرق بين الذمي والمسلم وأيضا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم اليهوديين فلا يخلو ذلك من أن يكون بحكم التوراة أو حكما مبتدأ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان رجمهما بحكم التوراة فقد صار شريعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ما كان من شرائع الأنبياء المتقدمين مبقى إلى وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو شريعة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم ينسخ وإن كان رجمهما على أنه حكم مبتدأ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ثابت إذ لم يرد ما يوجب نسخه والصحيح عندنا أنه رجمهما على أنه شريعة مبتدأة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا على تبقية حكم التوراة والدليل عليه أن حد الزانيين في أول الإسلام كان الحبس والأذى المحصن وغير المحصن فيه سواء فدل ذلك على أن الرجم الذي أوجبه الله في التوراة قد كان منسوخا فإن قيل فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم اليهوديين وأنت لا ترجمهما فقد خالفت الخبر الذي احتججت له في إثبات حد الزنا على الذميين قيل له استدلالنا من خبر رجم اليهوديين على ما ذكرنا صحيح وذلك لأنه لما ثبت أنه رجمهما صح أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما وإنما رجمهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يكن من شرط الرجم الإحصان فلما شرط الإحصان فيه وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشرك بالله فليس بمحصن صار حدهما الجلد فإن قيل إنما رجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهوديين من قبل أنه لم تكن لليهوديين ذمة وتحاكموا إليه قيل له لو لم يكن الحد واجبا عليهم لما أقامه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما ومع ذلك فدلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا كان من لا ذمة له قد حده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الزنا فمن له ذمة وتجرى عليه أحكام المسلمين أحرى بذلك ويدل عليه أنهم لا يختلفون أن الذمي يقطع في السرقة فكذلك في الزنا إذ كان فعلا

٩٨

لا يقر عليه فوجب أن يزجر عنه بالحد كما وجب زجر المسلم به وليس هو كالمسلم في شرب الخمر لأنهم مقرون على التخلية بينهم وبين شربها وليسوا مقرين على السرقة ولا على الزنا واختلف فيمن أكره على الزنا فقال أبو حنيفة إن أكرهه غير سلطان حد وإن أكرهه سلطان لم يحد وقال أبو يوسف ومحمد لا يحد في الوجهين جميعا وهو قول الحسن بن صالح والشافعى وقال زفر إن أكرهه سلطان حد أيضا وأما المكرهة فلا تحد في قولهم جميعا فأما إيجاب الحد عليه في حال الإكراه فإن أبا حنيفة قال القياس أن يحد سواء أكرهه سلطان أو غيره ولكنه ترك القياس في إكراه السلطان ويحتمل قوله في إكراه السلطان معنيين أحدهما أن يريد به الخليفة فإن كان قد أراد هذا فإنما أسقط الحد لأنه قد فسق وانغزل عن الخلافة بإكراهه إياه على الزنا فلم يبق هناك من يقيم الحد عليه والحد إنما يقيمه السلطان فإذا لم يكن هناك سلطان لم يقم الحد كمن زنى في دار الحرب ويحتمل أن يريد به من دون الخليفة فإن كان أراد ذلك فوجهه أن السلطان مأمور بالتوصل إلى درء الحد فإذا أكرهه على الزنا فإنما أراد التوصل إلى إيجابه فلا تجوز له إقامته إذا لأنه بإكراهه أراد التوصل إلى إيجابه فلا يجوز له ذلك ويسقط الحد وأما إذا أكرهه غير سلطان فإن الحد واجب وذلك لأنه معلوم أن الإكراه ينافي الرضا وما وقع عن طوع ورضا فغير مكره عليه فلما كانت الحال شاهدة بوجود الرضا منه بالفعل دل ذلك على أنه لم يفعله مكرها ودلالة الحال على ما وصفنا أنه معلوم أن حال الإكراه هي حال خوف وتلف النفس والانتشار والشهوة ينافيهما الخوف والوجل فلما وجد منه الانتشار والشهوة في هذه الحال علم أنه فعله غير مكره لأنه لو كان مكرها خائفا لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة وفي ذلك دليل على أن فعله ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحد فإن قيل إن وجود الانتشار لا ينافي ترك الفعل فعلمنا حين فعل مع ظهور الإكراه أنه فعله مكرها كشرب الخمر والقذف ونحوه قيل له هذا لعمري هكذا ولكنه لما كان في العادة أن الخوف على النفس ينافي الانتشار دل ذلك على أنه فعله طائعا ألا ترى أن من أكره على الكفر فأقر أنه فعله طائعا كان كافرا مع وجود الإكراه في الظاهر كذلك الحال الشاهدة بالتطوع هي بمنزلة الإقرار منه بذلك فيحد.

٩٩

باب صفة الضرب في الزنا

قال الله تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) روى عن الحسن وعطاء ومجاهد وأبى مجلز قالوا في تعطيل الحدود لا في شدة الضرب وروى ابن أبى مليكة عن عبيد الله ابن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وأحسبه قال وظهرها قال فقلت لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله قال يا بنى ورأيتنى أخذتنى بها رأفة إن الله تعالى لم يأمرنى أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها وقد أوجعت حيث ضربت وروى عن سعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي قالوا في الضرب. واختلف الفقهاء في شدة الضرب في الحدود فقال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر التعزير أشد الضرب وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف وقال مالك والليث الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح بين الضربين وقال الثوري ضرب الزنا أشد من ضرب القذف وضرب القذف أشد من ضرب الشرب وقال الحسن بن صالح ضرب الزنا أشد من ضرب الشرب والقذف وروى عن عطاء قال حد الزانية أشد من حد الفرية وحد الفرية والخمر واحد وعن الحسن قال ضرب الزنا أشد من القذف والقذف أشد من الشرب وضرب الشرب أشد من ضرب التعزير وروى عن على أنه ضرب رجلا قاعدا وعليه كساء قسطلانى قال أبو بكر قوله تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) لما كان محتملا لما تأوله السلف عليه من تعطيل الحد ومن تخفيف الضرب اقتضى ظاهره أن يكون عليهما جميعا في أن لا يعطل الحد تشديد في الضرب وذلك يقتضى أن يكون أشد من ضرب القاذف والشارب وإنما قالوا إن التعزير أشد الضرب وأرادوا بذلك أنه جائز للإمام أن يزيد في شدة الضرب للإيلام على جهة الزجر والردع إذ لا يمكنه فيه بلوغ الحد ولم يعنوا بذلك أنه لا محالة أشد الضرب لأنه موكول إلى رأى الإمام واجتهاده ولو رأى أن يقتصر من الضرب في التعزير على الحبس إذا كان ذا مروءة وكان ذلك الفعل منه ذلة جاز له أن يتجافى عنه ولا يعزره فعلمت أن مرادهم بقولهم التعزير أشد الضرب إنما هو إذا رأى الإمام ذلك للزجر والردع فعل وقد روى شريك عن جامع بن أبى راشد عن أبى وائل قال كان لرجل على بن أخ لأم سلمة رضى الله عنها دين فمات فقضت عنه فكتب إليها يحرج عليها فيه فرفعت ذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عامله اضربه ثلاثين

١٠٠