أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

روى إسماعيل بن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها وروى سعيد بن جبير عن بن عباس قال كانوا يرون الحرم كله مسجدا سواء العاكف فيه والبادي وروى يزيد بن أبى زياد عن عبد الرحمن بن سابط (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قال من يجيء من الحاج والمعتمرين سواء في المنازل ينزلون حيث شاءوا غير أن لا يخرج من بيته ساكنه قال وقال ابن عباس في قوله (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قال العاكف فيه أهله والباد من يأتيه من أرض أخرى وأهله في المنزل سواء وليس ينبغي لهم أن يأخذوا من البادي إجارة المنزل وروى جعفر بن عون عن الأعمش عن إبراهيم قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة حرمها الله لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها وروى أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله وروى عيسى ابن يونس عن عمر بن سعيد بن أبى حسين عن عثمان بن أبى سليمان عن علقمة بن نضلة قال كانت رباع مكة في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزمان أبى بكر وعمر وعثمان تسمى السوائب من احتاج سكن ومن استغنى سكن وروى الثوري عن منصور عن مجاهد قال قال عمر يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء وروى عبيد الله عن نافع عن بن عمر أن عمر نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم دون الحاج وروى ابن أبى نجيح عن عبد الله بن عمر قال من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في بطنه وروى عثمان بن الأسود عن عطاء قال يكره بيع بيوت مكة وكراؤها وروى ليث عن القاسم قال من أكل كراء بيوت مكة فإنما يأكل نارا وروى معمر عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد كانوا يكرهون أن يبيعوا شيئا من رباع مكة قال أبو بكر قد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ما ذكرنا وروى عن الصحابة والتابعين ما وصفنا من كراهة بيع بيوت مكة وأن الناس كلهم فيها سواء وهذا يدل على أن تأويلهم لقوله تعالى (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) للحرم كله وقد روى عن قوم إباحة بيع بيوت مكة وكراؤها وروى ابن جريج عن هشام بن حجير كان لي بيت بمكة فكنت أكريه فسألت طاوسا فأمرنى بأكله وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد وعطاء (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قالا سواء في تعظيم البلد وتحريمه وروى عمر وبن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ قال اشترى نافع بن عبد الحارث دار السجن لعمر بن الخطاب من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم

٦١

فإن رضى عمر فالبيع له وإن لم يرض عمر فلصفوان أربع مائة درهم زاد عبد الرحمن عن معمر فأخذها عمر وقال أبو حنيفة لا بأس ببيع بناء بيوت مكة وأكره بيع أراضيها وروى سليمان عن محمد عن أبى حنيفة قال أكره إجارة بيوت مكة في الموسم وفي الرجل يقيم ثم يرجع فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأسا وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة أن بيع دور مكة جائز قال أبو بكر لم يتأول هؤلاء السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا ولا اسم شامل له من طريق الشرع إذ غير جائز أن يتأول الآية على معنى لا يحتمله اللفظ وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على الحرم من طريق التوقيف ويدل عليه قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) والمراد فيما روى الحديبية وهي بعيدة من المسجد قريبة من الحرم وروى أنها على شفير الحرم وروى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مضربه في الحل ومصلاه في الحرم وهذا يدل على أنه أراد بالمسجد الحرام هاهنا الحرم كله ويدل عليه قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) والمراد به انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه وإذا ثبت ذلك اقتضى قوله (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) تساوى الناس كلهم في سكناه والمقام به فإن قيل يحتمل أن يريد به إنهم متساوون في وجوب اعتقاد تعظيمه وحرمته قيل له هو على الأمرين جميعا من اعتقاد تعظيمه وحرمته ومن تساويهم في سكناه والمقام به وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يجوز بيعه لأن لغير المشترى سكناه كما للمشتري فلا يصح للمشتري تسلمه والانتفاع به حسب الانتفاع بالأملاك وهذا يدل على أنه غير مملوك وأما إجارة البيوت فإنما أجازها أبو حنيفة إذا كان البناء ملكا للمؤاجر فيأخذ أجرة ملكه فأما أجرة الأرض فلا تجوز وهو مثل بناء الرجل في أرض لآخر يكون لصاحب البناء إجارة البناء وقوله (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) روى عن جماعة من السلف أن العاكف أهله والبادي من غير أهله قوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) فإن الإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل وإنما سمى اللحد في القبر لأنه مائل إلى شق

٦٢

القبر قال الله تعالى (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) وقال (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) أى لسان الذي يؤمنون إليه والباء في قوله (بِإِلْحادٍ) زائدة كقوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أى تنبت الدهن وقوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وروى عن ابن عمر أنه قال ظلم الخادم فيما فوقه بمكة إلحاد وقال عمر احتكار الطعام بمكة إلحاد وقال غيره الإلحاد بمكة الذنوب وقال الحسن أراد بالإلحاد الإشراك بالله قال أبو بكر الإلحاد مذموم لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق فالإلحاد اسم مذموم وخص الله تعالى الحرم بالوعيد في الملحد فيه تعظيما لحرمته ولم يختلف المتأولون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد وفي ذلك دليل على أن قوله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قد أريد به الحرم لأن قوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) هذه الهاء كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فثبت أن المراد بالمسجد هاهنا الحرم كله وقد روى عمارة ابن ثوبان قال أخبرنى موسى بن زياد قال سمعت يعلى بن أمية قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتكار الطعام بمكة إلحاد وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال بيع الطعام بمكة إلحاد وليس الجالب كالمقيم وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مرادا بقوله (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره ويشبه أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يلحد بمكة رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخول الجاهلية * قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) روى معتمر عن ليث عن مجاهد في قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) قال إبراهيم عليه‌السلام وكيف أؤذنهم قال تقول يا أيها الناس أجيبوا يا أيها الناس أجيبوا قال فقال يا أيها الناس أجيبوا فصارت التلبية لبيك اللهم لبيك وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس لما ابتنى إبراهيم عليه‌السلام البيت قال أوحى الله إليه أن أذن في الناس بالحج فقال إبراهيم عليه‌السلام إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه فاستجاب له ما سمعه من صخر أو شجر أو

٦٣

أكمة أو تراب أو شيء لبيك اللهم لبيك* وهذه الآية تدل على أن فرض الحج كان في ذلك الوقت لأن الله تعالى أمر إبراهيم بدعاء الناس إلى الحج وأمره كان على الوجوب وجائز أن يكون وجوب الحج باقيا إلى أن بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجائز أن يكون نسخ على لسان بعض الأنبياء إلا أنه قد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حج قبل الهجرة حجتين وحج بعد الهجرة حجة الوداع وقد كان أهل الجاهلية يحجون على تخاليط وأشياء قد أدخلوها في الحج ويلبون تلبية الشرك فإن كان فرض الحج الذي أمر الله به إبراهيم في زمن إبراهيم باقيا حتى بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجتين بعد ما بعثه الله وقبل الهجرة والأولى فيهما هي الفرض وإن كان فرض الحج منسوخا على لسان بعض الأنبياء فإن الله تعالى قد فرضه في التنزيل بقوله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وقيل إنها نزلت في سنة تسع وروى أنها نزلت في سنة عشر وهي السنة التي حج فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا أشبه بالصحة لأنا لا نظن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأخير الحج المفروض عن وقته المأمور فيه إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشد الناس مسارعة إلى أمر الله وأسبقهم إلى أداء فروضه ووصف الله تعالى الأنبياء السالفين فأثنى عليهم بمسابقتهم إلى الخيرات بقوله تعالى (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) فلم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليختلف عن منزلة الأنبياء المتقدمين في المسابقة إلى الخيرات بل كان حظه منها أو في من حظ كل أحد لفضله عليهم وعلو منزلته في درجات النبوة فغير جائز أن يظن به تأخير الحج عن وقت وجوبه لا سيما وقد أمر غيره بتعجيله فيما روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أراد الحج فليتعجل فلم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليأمر غيره بتعجيل الحج ويؤخره عن وقت وجوبه فثبت بذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤخر الحج عن وقت وجوبه فإن كان فرض الحج لزم بقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) لأنه لم يخل تاريخ نزوله من أن يكون في سنة تسع أو سنة عشر فإن كان نزوله في سنة تسع فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أخره لعذر وهو أن وقت الحج اتفق على ما كانت العرب تحجه من إدخال النسيء فيه فلم يكن واقعا في وقت الحج الذي فرضه الله تعالى فيه فلذلك أخر الحج عن تلك السنة ليكون حجة في الوقت الذي فرض الله فيه الحج ليحضر الناس فيقتدوا به وإن كان نزوله في سنة عشر فهو الوقت الذي حج فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان فرض الحج باقيا منذ زمن إبراهيم عليه‌السلام إلى زمن النبي

٦٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الحج الذي فعله قبل الهجرة كان هو الفرض وما عداه نفل فلم يثبت في الوجهين جميعا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخر الحج بعد وجوبه عن أول أحوال الإمكان.

باب الحج ماشيا

روى موسى بن عبيد عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال ما أسى على شيء إلا أنى وددت أنى كنت حججت ماشيا لأن الله تعالى يقول (يَأْتُوكَ رِجالاً) وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام حجا ماشيين وروى القاسم بن الحكم العربي عن عبد الله الرصافي عن عبد الله بن عتبة بن عمير قال قال ابن عباس ما ندمت على شيء فاتنى في شبيبتى إلا أنى لم أحج راجلا ولقد حج الحسن بن على خمسا وعشرين حجة ماشيا من المدينة إلى مكة وإن النجائب لتقاد معه ولقد قاسم الله عز وجل ماله ثلاث مرات إنه ليعطى النعل ويمسك النعل ويعطى الخف ويمسك الخف وروى عبد الرزاق عن عمر وبن زرا عن مجاهد قال كانوا يحجون ولا يركبون فأنزل الله تعالى (رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وروى ابن جريج قال أخبرنى العلاء قال سمعت محمد بن على يقول كان الحسن بن على يمشى وتقاد دوابه* قال أبو بكر قوله تعالى (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) يقتضى إباحة الحج ماشيا وراكبا ولا دلالة فيه على الأفضل منهما وما رويناه عن السلف في اختيارهم الحج ماشيا وتأويل الآية عليه يدل على أن الحج ماشيا أفضل وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يفصح عن ذلك وهو أن أم عقبة بن عامر نذرت أن تمشى إلى بيت الله تعالى فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تركب وتهدى وهذا يدل على أن المشي قربة قد لزمت بالنذر لو لا ذلك لما أوجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها هديا عند تركها المشي* قوله تعالى (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) روى جويبر عن الضحاك من كل* فج عميق قال بلد بعيد وقال قتادة مكان بعيد* قال أبو بكر الفج الطريق فكأنه قال من طريق بعيد وقال بعض أهل اللغة العمق الذاهب على وجه الأرض والعمق الذاهب في الأرض قال رؤبة :

وقاتم الأعماق خاوى المخترق

فأراد بالعمق هذا الذاهب على وجه الأرض فالعميق البعيد لذهابه على وجه الأرض

«٥ ـ أحكام مس»

٦٥

قال الشاعر : يقطعن نور النازح العميق يعنى البعيد وقد روت أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من أهل بالمسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه وروى أبو إسحاق عن الأسود أن ابن مسعود أحرم من الكوفة بعمرة وعن ابن عباس أنه أحرم من الشام في الشتاء وأحرم ابن عمر من بيت المقدس وعمران بن حصين أحرم من البصرة وروى عمر وبن مرة عن عبد الله بن سلمة قال سئل على عن قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقال على وعمر ما أرى أن يعتمر إلا من حيث ابتدأ وروى عن مكحول قال قيل لابن عمر الرجل يحرم من سمرقند أو من خراسان أو البصرة أو الكوفة فقال يا ليتنا نسلم من وقتنا الذي وقت لنا فكأنه كرهه في هذا الحديث لما يخاف من مواقعة ما يحظره الإحرام لا لبعد المسافة.

باب التجارة في الحج

قال الله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) روى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال التجارة وما يرضى الله من أمر الدنيا والآخرة وروى عاصم بن أبى النجود عن أبى رزين عن ابن عباس قال أسواق كانت ما ذكر المنافع إلا للدنيا وعن أبى جعفر المغفرة قال أبو بكر ظاهره يوجب أن يكون قد أريد به منافع الدين وإن كانت التجارة جائزة أن تراد وذلك لأنه قال (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) فاقتضى ذلك أنهم دعوا وأمروا بالحج ليشهدوا منافع لهم ومحال أن يكون المراد منافع الدنيا خاصة لأنه لو كان كذلك كان الدعاء إلى الحج واقعا لمنافع الدنيا وإنما الحج الطواف والسعى والوقوف بعرفة والمزدلفة ونحر الهدى وسائر مناسك الحج ويدخل فيها منافع الدنيا على وجه التبع والرخصة فيها دون أن تكون هي المقصودة بالحج وقد قال الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فجعل ذلك رخصة في التجارة في الحج وقد ذكرنا ما روى فيه في سورة البقرة.

باب الأيام المعلومات

قال الله عز وجل (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ

٦٦

الْأَنْعامِ) فروى عن على وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت قال ابن عمر المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبى عمران عن بشر بن الوليد الكندي القاضي قال كتب أبو العباس الطوسي إلى أبى يوسف يسئله عن الأيام المعلومات فأملى على أبو يوسف جواب كتابه اختلف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها فروى عن على وابن عمر أنها أيام النحر وإلى ذلك أذهب لأنه قال (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وذلك في أيام النحر وعن ابن عباس والحسن وإبراهيم أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق وروى معمر عن قتادة مثل ذلك وروى ابن أبى ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) يوم النحر وثلاثة أيام بعده وذكر أبو الحسن الكرخي أن أحمد القاري روى عن محمد عن أبى حنيفة أن المعلومات العشر وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده وذكر الطحاوي أن من قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد إن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق والذي رواه أبو الحسن عنهم أصح وقد قيل إنه إنما قيل لأيام التشريق معدودات لأنها قليلة كما قال تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) وإنه سماها معدودة لقلتها وقيل لأيام العشر معلومات حثا على علمها وحسابها من أجل أن وقت الحج في آخرها فكأنه أمر نا بمعرفة أول الشهر وطلب الهلال فيه حتى نعد عشرة ويكون آخرهن يوم النحر ويحتج لأبى حنيفة بذلك في أن تكبير التشريق مقصور على أيام العشر مفعول في يوم عرفة ويوم النحر وهما من أيام العشر فإن قيل لما قال (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) دل على أن المراد أيام النحر كما روى عن على قيل له يحتمل أن يريد لما رزقهم من بهيمة الأنعام كما قال (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) ومعناه لما هداكم وكما تقول أشكر الله على نعمه ومعناه لنعمه وأيضا فيحتمل أن يريد به يوم النحر ويكون قوله تعالى (عَلى ما رَزَقَهُمْ) يريد به يوم النحر وبتكرار السنين عليه تصير أياما وهذه الآية تدل على أن ذبح سائر الهدايا في أيام النحر أفضل منه في غيرها وإن كانت من تطوع أو جزاء صيد أو غيره واختلف أهل العلم في أيام النحر فقال أصحابنا والثوري هو يوم النحر ويومان بعده وقال الشافعى ثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق* قال أبو بكر وروى نحو قولنا عن على وابن عباس وابن عمر وأنس

٦٧

ابن مالك وأبى هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وروى مثل قول الشافعى عن الحسن وعطاء وروى عن إبراهيم النخعي أن النحر يومان وقال ابن سيرين النحر يوم واحد وروى يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة وسليمان بن يسار قالا الأضحى إلى هلال المحرم قال أبو بكر قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة واستفاض ذلك عنهم وغير جائز لمن بعدهم خلافهم إذ لم يرو عن أحد من نظرائهم خلافه فثبت حجته وأيضا فإن سبيل تقدير أيام النحر التوقيف أو الاتفاق إذ لا سبيل إليها من طريق المقاييس فلما قال من ذكرنا قوله من الصحابة بالثلاثة صار ذلك توقيفا كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق إذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته وكان ذلك توقيفا وأيضا قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في أيام النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر في يوم النحر وقال قائلون إلى آخر أيام التشريق وقلنا نحن يومان بعده وجب أن نوجب فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها واحتج من جعل النحر إلى آخر أيام التشريق بما روى سليمان بن موسى عن ابن أبى حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرفة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح وهذا حديث قد ذكر عن أحمد ابن حنبل أنه سئل عن هذا الحديث فقال لم يسمعه ابن أبى حسين من جبير بن مطعم وأكثر روايته عن سهو وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه قال سمعت أسامة بن زيد يقول سمعت عبد الله بن أبى حسين يخبر عن عطاء عن أبى رباح وعطاء يسمع قال سمعت جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه وكل أيام التشريق ذبح ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه لأنه لم يذكره وأيضا لما ثبت أن النحر فيما يقع عليه اسم الأيام وكان أقل ما يتناوله اسم الأيام ثلاثة وجب أن يثبت الثلاثة وما زاد لم تقم عليه

٦٨

الدلالة فلم يثبت.

في التسمية على الذبيحة

قال الله تعالى (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) فإن كان المراد بهذا الذكر التسمية على الذبيحة فقد دل ذلك على أن ذلك من شرائط الذكاة لأن الآية تقتضي وجوبها وذلك لأنه قال (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ ـ إلى قوله ـ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) فكانت المنافع هي أفعال المناسك التي يقتضى الإحرام إيجابها فوجب أن تكون التسمية واجبة إذ كان الدعاء إلى الحج وقع لها كوقوعها لسائر مناسك الحج وإن كان المراد بالتسمية هي الذكور المفعول عند رمى الجمار أو تكبير التشريق فقد دلت الآية على وجوب هذا الذكر وليس يمتنع أن يكون المراد جميع ذلك وهو التسمية على الهدايا الموجبة بالإحرام للقران أو التمتع وما تعلق وجوبها بالإحرام ويراد بها تكبير التشريق والذكر المفعول عند رمى الجمار إذ لم تكن إرادة جميع ذلك ممتنعة بالآية وروى معمر عن أيوب عن نافع قال كان ابن عمر يقول حين ينحر لا إله إلا الله والله أكبر وروى الأعمش عن أبى ظبيان عن ابن عباس قال قلت كيف تقول إذا نحرت قال أقول الله أكبر لا إله إلا الله وروى سفيان عن أبى بكر الزبيدي عن عاصم بن شريف أن عليا ضحى يوم النحر بكبش فقال بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك ومن على لك

. باب في أكل لحوم الهدايا

قال الله عز وجل (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها) قال أبو بكر ظاهره يقتضى إيجاب الأكل إلا أن السلف متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب وذلك لأن قوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) لا يخلو من أن يكون المراد به الأضاحى وهدى المتعة والقران والتطوع أو الهدايا التي تجب من جنايات تقع من المحرم في الإحرام نجو جزاء الصيد وما يجب على اللابس والمتطيب وفدية الأذى وهدى الإحصار ونحوها فأما دماء الجنايات فمحظور عليه الأكل منها وأما دم القران والمتعة والتطوع فلا خلاف أيضا أن الأكل منها ليس بواجب

٦٩

لأن الناس في دم القران والمتعة على قولين منهم من لا يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه ولا خلاف بين السلف ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله (فَكُلُوا مِنْها) ليس على الوجوب وقد روى عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل قال مجاهد إنما هو بمنزلة قوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) وقال إبراهيم كان المشركون لا يأكلون من البدن حتى نزلت (فَكُلُوا مِنْها) فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل وروى يونس بن بكير عن أبى بكر الهذلي عن الحسن قال كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله فأنزل الله تعالى (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله وقال الحسن فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فكل وإن شئت فدع وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أكل من لحم الأضحية * قال أبو بكر وظاهر الآية يقتضى أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القرآن والمتعة وأقل أحوالها أن تكون شاملة لدم القرآن والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة وزعم الشافعى أن دم المتعة والقران لا يؤكل منهما وظاهر الآية يقتضى بطلان قوله وقد روى جابر وأنس وغيرهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قارنا في حجة الوداع وروى جابر أيضا وابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة فأكل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دم القران وأيضا لما ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قارنا وإنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران أفضل من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحى

٧٠

والتطوع ويدل على أنه كان قارنا أن حفصة قالت يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمر تك فقال إنى سقت الهدى فلا أحل إلا يوم النحر ولو استقبلت من أمرى ما استدبرته ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة فلو كان هديه تطوعا لما منعه الإحلال لأن هدى التطوع لا يمنع الإحلال فإن قيل إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قارنا فقد كان إحرام الحج يمنعه الإحلال فلا تأثير للهدى في ذلك قيل له لم يكن إحرام الحج مانعا في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر لأن فسخ الحج كان جائزا وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه الذين أحرموا بالحج أن يتحللوا بعمل عمرة فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم بالعمرة مفردا بها فلم يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدى فيمنعه ذلك من الإحلال وهذه كانت حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قرانه وكان المانع له من الإحلال سوق الهدى دون إحرام الحج وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هدى القران لا التطوع إذ لا تأثير لهدى التطوع في المنع من الإحلال بحال ويدل على أنه كان قارنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتانى آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة وعمرة ويمتنع أن يخالف ما أمره به ربه ورواية ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفرد الحج لا يعارض رواية من روى القران وذلك لأن راوي القران قد علم زيادة إحرام لم يعلمه الآخر فهو أولى وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لبيك اللهم لبيك ولم يسمعه يذكر العمرة أو سمعه ذكر الحج دون العمرة وظن أنه مفرد إذ جائز للقارن أن يقول لبيك بحجة دون العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبى بهما معا فلما كان ذلك سائغا وسمعه بعضهم يلبى بالحج وبعضهم سمعه يلبى بحج وعمرة كانت رواية من روى الزيادة أولى وأيضا فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفراد الحج أفعال الحج وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر للإحرامين على فعل الحج دون العمرة وأبطل بذلك قول من يجيز لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وقد روى عن جماعة من الصحابة والتابعين الأكل من هدى القران والمتعة وروى عطاء عن ابن عباس قال من كل الهدى يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر وروى عبيد الله بن عمر قال لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا لا يؤكل من الهدى كله إلا الجزاء فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا

٧١

الأكل من دم القران والتمتع ولا نعلم أحدا من السلف حظره* قوله تعالى (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) روى طلحة بن عمر وعن عطاء وأطعموا البائس الفقير قال من سألك وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال البائس الذي يسأل بيده إذا سأل وإنما سمى من كانت هذه حاله بائسا لظهور أثر البؤس عليه يمد يده للمسئلة وهذا على جهة المبالغة في الوصف له بالفقر وهو في معنى المسكين لأن المسكين من هو في نهاية الحاجة والفقر وهو الذي قد ظهر عليه السكون للحاجة وسوء الحال وهو الذي لا يجد شيئا وقيل هو الذي يسئل وهذه الآية قد انتظمت سائر الهدايا والأضاحى وهي مقتضية لإباحة الأكل منها والندب إلى الصدقة ببعضها وقدر أصحابنا فيه الصدقة بالثلث وذلك لقوله تعالى (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في لحوم الأضاحى فكلوا وادخروا فجعلوا الثلث للأكل والثلث للادخار والثلث للبائس الفقير وفي قوله تعالى (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) دلالة على حظر بيعها ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلوا وادخروا وفي ذلك منع البيع ويدل عليه ما روى سفيان عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن على قال أمرنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقوم على بدنة وقال أقسم جلودها وحلالها ولا تعط الجازر منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا فمنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطى منها أجرة الجازر وفي ذلك منع من البيع لأن إعطاء الجازر ذلك من أجرته هو على وجه البيع ولما جاز الأكل منها دل على جواز الانتفاع بجلودها من غير جهة البيع ولذلك قال أصحابنا يجوز الانتفاع بجلد الأضحية وروى ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة وقال الشعبي كان مسروق يتخذ مسك أضحيته مصلى فيصلى عليه وعن إبراهيم وعطاء وطاوس والشعبي أنه ينتفع به قال أبو بكر ولما منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطى الجازر من الهدى شيئا في جزارتها وقال إنا نعطيه من عندنا دل ذلك على معنيين أحدهما أن المحظور من ذلك أن يعطيه منها على وجه الأجرة لأن في بعض ألفاظ حديث على وأمرنى أن لا أعطى أجر الجزار منها وفي بعضها أن لا أعطيه في جزارتها منها شيئا فدل على أنه جائز أن يعطى الجازر من غير أجرته كما يعطى سائر الناس وفيه دليل على جواز الإجارة على نحر البدن لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال نحن نعطيه من عندنا وهو أصل في جواز الإجارة على كل عمل معلوم وأجاز أصحابنا الإجارة على ذبح شاة ومنع أبو حنيفة الإجارة على قتل رجل بقصاص والفرق بينهما

٧٢

أن الذبح عمل معلوم والقتل مبهم غير معلوم ولا يدرى أيقتله بضربة أو ضربتين أو أو أكثر* قوله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) روى عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس قال التفث الذبح والحلق والتقصير وقص الأظفار والشارب ونتف الإبط وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد مثله وكذلك عن الحسن وأبى عبيدة وقال ابن عمر وسعيد بن جبير في قوله (تَفَثَهُمْ) قال المناسك وروى أشعث عن الحسن قال نسكهم وروى حماد بن سلمة عن قيس عن عطاء ثم ليقضوا تفثهم قال الشعر والأظفار وقيل التفث قشف الإحرام وقضاؤه بحلق الرأس والاغتسال ونحوه قال أبو بكر لما تأول السلف قضاء التفث على ما ذكرنا دل ذلك على أن من قضائه حلق الرأس لأنهم تأولوه عليه ولولا أن ذلك اسم له لما تأولوه عليه إذ لا يسوغ التأويل على ما ليس اللفظ عبارة عنه وذلك دليل على وجوب الحلق لأن الأمر على الوجوب فيبطل قول من قال إن الحلق ليس بنسك في الإحرام ومن الناس من يزعم أنه إطلاق من حظر إذ كانت هذه الأشياء محظورة قبل الإحلال ولقوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) وقوله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) والأول أصح لأن أمره بقضاء التفث قد انتظم سائر المناسك على ما روى عن ابن عمر ومن ذكرنا قوله من السلف ومعلوم أن فعل سائر المناسك ليس على وجه الإباحة بل على وجه الإيجاب فكذلك الحلق لأنه قد ثبت أنه قد أريد بالأمر بقضاء التفث الإيجاب في غير الحلق فكذلك الحلق وقوله (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال ابن عباس نحر ما نذروا من البدن وقال مجاهد كل ما نذر في الحج قال أبو بكر إن كان التأويل نحر البدن المنذورة فإن قوله تعالى (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها) لم يرد به ما نذر نحره من البدن والهدايا لأنه لو كان مرادا لما ذكره بعد ذكره الذبح بهيمة الأنعام وأمره إيانا بالأكل منها فيكون قوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها) في غير المنذور به وهو دم التطوع والتمتع والقران يدل على أنه لم يرد الهدى المنذور أن دم النذر لا يؤكل منه وقد أمر الله تعالى بالأكل من بهيمة الأنعام المذكور في الآية فدل على أنه لم يرد النذر واستأنف ذكر النذر وأفاد به معاني أحدها أنه لا يؤكل منه والثاني أن ذبح النذر في هذه الأيام أفضل منه في غيرها والثالث إيجاب الوفاء بنفس المنذور دون كفارة يمين وجائز أن يكون المراد سائر النذور في الحج من صدقة أو طواف ونحوه

٧٣

وقد روى عن ابن عباس أيضا أنه قال هو كل نذر إلى أجل قال أبو بكر وفيه الدلالة على لزوم الوفاء بالنذر لقوله تعالى (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) والأمر على الوجوب وهو يدل على بطلان قول الشافعى فيمن نذر حجا أو عمرة أو بدنة أو نحوها أن عليه كفارة يمين لأن الله أمرنا بالوفاء بنفس المنذور.

باب طواف الزيارة

قال الله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فروى عن الحسن أنه قال (وَلْيَطَّوَّفُوا) طواف الزيارة وقال مجاهد الطواف الواجب* قال أبو بكر ظاهره يقتضى الوجوب لأنه أمر والأوامر على الوجوب ويدل عليه أنه أمر به معطوفا على الأمر بقضاء التفث ولا طواف مفعول في ذلك الوقت وهو يوم النحر بعد الذبح إلا طواف الزيارة فدل على أنه أراد طواف الزيارة* فإن قيل يحتمل أن يريد به طواف القدوم الذي فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين قدموا مكة وحلوا به من إحرام الحج وجعلوه عمرة إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قد كان ساق الهدى فمنعه ذلك من الإحلال ومضى على حجته * قيل له لا يجوز أن يكون المراد به طواف القدوم من وجوه أحدها أنه مأمور به عقيب الذبح وذبح الهدى إنما يكون يوم النحر لأنه قال (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وحقيقة ثم للترتيب والتراخي القدوم مفعول قبل يوم النحر فثبت أنه لم يرد به طواف القدوم والوجه الثاني أن قوله (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هو أمر والأمر على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب وطواف القدوم غير واجب وفي صرف المعنى إليه صرف للكلام عن حقيقته والثالث أنه لو كان المراد الطواف الذي أمر به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدموا مكة لكان منسوخا لأن ذلك الطواف إنما أمروا به لفسخ الحج وذلك منسوخ بقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وبما روى ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت فسخ حجتنا لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لكم خاصة وروى عن عمر وعثمان وأبى ذر وغيرهم مثل ذلك وقال ابن عباس لا يطوف الحاج للقدوم وإنه إن طاف قبل عرفة صارت حجته عمرة وكان يحتج بقوله (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فذهب إلى أنه

٧٤

يحل بالطواف فعله قبل عرفة أو بعده فكان ابن عباس يذهب إلى أن هذا الحكم باق لم ينسخ وإن فسخ الحج قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة فيصير حجه عمرة وقد ثبت بظاهر قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) نسخه وهذا معنى ما أراده عمر ابن الخطاب بقوله متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة النساء ومتعة الحج وذهب فيه إلى ظاهر هذه الآية وإلى ما علمه من توقيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم على أن فسخ الحج كان لهم خاصة وإذا ثبت أن ذلك منسوخ لم يجز تأويل قوله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) عليه فثبت بما وصفنا أن المراد طواف الزيارة* وفيه الدلالة على وجوب تقديمه قبل مضى أيام النحر إذ كان الأمر على الفور حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير ولا خلاف في إباحة تأخيره إلى آخر أيام النحر وقد روى سفيان الثوري وغيره عن أفلح بن حميد عن أبيه أنه حج مع ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم أبو أيوب فلما كان يوم النحر لم يزر أحد منهم البيت إلى يوم النفر إلا رجالا كانت معهم نساء فتعجلوا وإنما أراد بذلك عندنا النفر الأول وهو اليوم الثالث من يوم النحر فلو خلينا وظاهر الآية لما جاز تأخير الطواف عن يوم النحر إلا أنه لما اتفق السلف وفقهاء الأمصار على إباحة تأخيره إلى اليوم الثالث من أيام النحر أخرناه ولم يجز تأخيره إلى آخر أيام التشريق ولذلك قال أبو حنيفة من أخره إلى أيام التشريق فعليه دم وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء عليه* فإن قيل لما كانت ثم تقتضي التراخي وجب جواز تأخيره* إلى أى وقت شاء الطائف* قيل له لا خلاف أنه ليس بواجب عليه التأخير وظاهر اللفظ يقتضى إيجاب تأخيره إذا حمل على حقيقته فلما لم يكن التأخير واجبا وكان فعله واجبا لا محالة اقتضى ذلك لزوم فعله يوم النحر من غير تأخير وهو الوقت الذي أمر فيه بقضاء التفث فاستدلالك بظاهر اللفظ على جواز تأخيره أبدا غير صحيح مع كون ثم في هذا الموضع غير مراد بها حقيقة معناها من وجوب فعله على التراخي ولهذا قال أبو حنيفة فيمن أخر الحلق إلى آخر أيام التشريق أن عليه دما لأن قوله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قد اقتضى فعل الحلق على الفور في يوم النحر وأباح تأخيره إلى آخر أيام النحر بالاتفاق ولم يبحه أكثر من ذلك* ومما يحتج به لأبى حنيفة في ذلك أن الله تعالى قد أباح النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو الثالث من النحر بقوله تعالى (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ

٧٥

مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ويمتنع إباحة النفر قبل تقديم طواف الزيارة فثبت أنه مأمور به قبل النفر الأول وهو اليوم الثالث من النحر فإذا تضمن ذلك فقد تم الطواف فهو لا محالة منهى عن تأخيره فإذا أخره لزمه جبرانه بدم* وقوله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) لما كان لفظا ظاهر المعنى بين المراد اقتضى جواز الطواف على أى وجه أوقعه من حدث أو جنابة أو عريان أو منكوسا أو زحفا إذ ليس فيه دلالة على كون الطهارة وما ذكرنا شرطا فيه ولو شرطنا فيه الطهارة وما ذكرنا كنا زائدين في النص ما ليس فيه والزيادة في النص غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ فقد دلت الآية على وقوع الطواف موقع الجواز وإن فعله على هذه الوجوه المنهي عنها* وقوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يقتضى جواز أى ذلك فعله من غير ترتيب إذ ليس في اللفظ دلالة على الترتيب فإن فعل الطواف قبل قضاء التفث أو قضى التفث ثم طاف فإن مقتضى الآية أن يجزى جميع ذلك إذ الواو لا توجب الترتيب ولم يختلف الفقهاء في إباحة الحلق واللبس قبل طواف الزيارة ولم يختلفوا أيضا في حظر الجماع قبله* واختلفوا في الطيب والصيد فقال قائلون هما مباحان قبل الطواف وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وهو قول عائشة في آخرين من السلف وقال عمر بن الخطاب وابن عمر لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف للزيارة وقال قوم لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف وروى سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة قالت طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على إباحة اللبس والحلق قبل الطواف وليس لهما تأثير في إفساد الإحرام فوجب أن يكون الطيب والصيد مثلهما وقوله تعالى (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال معمر عن الزهري قال قال ابن الزبير إنما سمى البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة وقال مجاهد أعتق من أن يملكه الجبابرة وقيل إنه أول بيت وضع للناس بناه آدم عليه‌السلام ثم جدده إبراهيم عليه‌السلام فهو أقدم بيت فسمى لذلك عتيقا قوله تعالى (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) يعنى به والله أعلم اجتناب ما حرم الله عليه في وقت الإحرام تعظيما لله عز وجل واستعظاما لمواقعة ما نهى الله عنه في إحرامه صيانة لحجه وإحرامه فهو خير له عند ربه من ترك استعظامه والتهاون به قوله تعالى

٧٦

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) قيل فيه وجهان أحدهما إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله من الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب والثاني وأحلت لكم بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم في حال إحرامكم إلا ما يتلى عليكم من الصيد فإنه يحرم على المحرم قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) يعنى اجتنبوا تعظيم الأوثان فلا تعظموها واجتنبوا الذبائح لها على ما كان يفعله المشركون وسماها رجسا استقذارا لها واستخفافا بها وإنما أمرهم باستقذارها لأن المشركين كانوا ينحرون عليها هداياهم ويصبون عليها الدماء وكانوا مع هذه النجاسات يعظمونها فهي الله المسلمين عن تعظيمها وعبادتها وسماها رجسا لقذارتها ونجاستها من الوجوه التي ذكرنا ويحتمل أن يكون سماها رجسا للزوم اجتنابها كاجتناب الأقذار والأنجاس.

باب شهادة الزور

قال الله عز وجل (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) والزور الكذب وذلك عام في سائر وجوه الكذب وأعظمها الكفر بالله والكذب على الله عز وجل وقد دخل فيه شهادة الزور حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو بكر ابن أبى شيبة قال حدثنا محمد ويعلى ابنا عبيد عن سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان عن خريم بن فاتك قال صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح ثم قال عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثم تلا هذه الآية (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وروى وائل بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود قال عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن العباس المؤدب قال حدثنا عاصم بن على قال حدثنا محمد بن الفرات التميمي قال سمعت محارب بن دثار يقول أخبرنى عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول شاهد الزور لا تزول قدماه حتى توجب له النار وقد اختلف في حكم شاهد الزور فقال أبو حنيفة لا يعزر وهذا عندنا على أنه إن جاء تائبا فأما إن كان مصرا فإنه لا خلاف عندي بينهم في أنه يعزر وقال أبو يوسف ومحمد يضرب ويسخم وجهه ويشهر ويحبس وقد روى عبد الله بن عامر عن أبيه قال أتى عمر بن الخطاب بشاهد زور فجرده وأوقفه للناس يوما وقال هذا فلان بن فلان فاعرفوه ثم حبسه

٧٧

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا العباس بن الوليد البزاز قال حدثنا خلف بن هشام قال حدثنا حماد بن زيد عن الحجاج عن مكحول أن عمر بن الخطاب قال في شاهد الزور يضرب ظهره ويحلق رأسه ويسخم وجهه ويطال حبسه* قوله تعالى (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) قال أهل اللغة الشعائر جمع شعيرة هي العلامة التي تشعر بما جعلت له وإشعار البدن هو أن تعلمها بما يشعر أنها هدى فقيل على هذا إن الشعائر علامات مناسك الحج كلها منها رمى الجمار والسعى بين الصفا والمروة وروى حبيب المعلم عن عطاء أنه سئل عن شعائر الله فقال حرمات الله اتباع طاعته واجتناب معصيته فذلك شعائر الله وروى شريك عن جابر عن عطاء (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) قال استسمانها واستعظامها وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) قال في الاستحسان والاستسمان والاستعظام وعن عكرمة مثله وكذلك قول مجاهد وقال الحسن شعائر الله دين الله قال أبو بكر يجوز أن تكون هذه الوجوه كلها مرادة بالآية لاحتمالها لها.

باب في ركوب البدنة

قال الله عز وجل (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة لكم فيها منافع في ألبانها وظهورها وأصوافها إلى أن تسمى بدنا ثم محلها إلى البيت العتيق وعن محمد بن كعب القرظي مثله وقال عطاء إنه ينتفع بها إلى أن تنحر وهو قول عروة بن الزبير قال أبو بكر فاتفق ابن عباس ومن تابعه على أن قوله (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أريد به إلى أن تصير بدنا فذلك هو الأجل المسمى وكرهوا بعد ذلك أن تركب وقال عطاء ومن واقفه يركبها بعد أن تصير بدنة وقال عروة بن الزبير يركبها غير فادح لها ويحلبها عن فضل ولدها وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك أخبار يحتج بها من أباح ركوبها فروى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له ويحك اركبها فقال إنها بدنة فقال ويحك اركبها وروى شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ذلك وهذا عندنا إنما أباحه لضرورة علمه من حاجة الرجل إليها وقد بين ذلك في أخبار أخر منها ما روى إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس قال مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل يسوق بدنة وهو يمشى وقد بلغ منه فقال اركبها قال إنها بدنة قال اركبها وسئل جابر عن ركوب الهدى

٧٨

فقال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا وقد روى ابن جريج عن أبى الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ركوب الهدى قال اركب بالمعروف إذا احتجت إليها حتى تجد ظهرا فبين في هذه الأخبار أن إباحة ركوبها معقودة بشريطة الضرورة إليها ويدل على أنه لا يملك منافعها أنه لا يجوز له أن يؤاجرها للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات.

باب محل الهدى

قال الله تعالى (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ـ إلى قوله ـ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ومعلوم أن مراده تعالى فيما جعل هديا أو بدنة فيما وجب أن تجعل هديا من واجب في ذمته فأخبر تعالى أن محل ما كان هذا وصفه إلى البيت العتيق والمراد بالبيت هاهنا الحرم كله إذ معلوم أنها لا تذبح عند البيت ولا في المسجد فدل على أنه الحرم كله فعبر عنه بذكر البيت إذ كانت حرمة الحرم كله متعلقة بالبيت وهو كقوله تعالى في جزاء الصيد (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ولا خلاف أن المراد الحرم كله وقد روى أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفة كلها موقف ومنى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر وعموم الآية يقتضى أن يكون محل سائر الهدايا الحرم ولا يجزى في غيره إذ لم تفرق بين شيء منها وقد اختلف في هدى الإحصار فقال أصحابنا محله ذبحه في الحرم وذلك لأنه قال (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وكان المحل مجملا في هذه الآية فلما قال (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) بين فيه ما أجمل ذكره في الآية الأولى فوجب أن يكون محل هدى الإحصار الحرم ولم يختلفوا في سائر الهدايا التي يتعلق وجوبها بالإحرام مثل جزاء الصيد وفدية الأذى ودم التمتع أن محلها الحرم فكذلك هدى الإحصار لما تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون في الحرم قوله (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) قيل إن البدن الإبل المبدنة بالسمن يقال بدنت الناقة إذا سمنتها ويقال بدن الرجل إذا سمن وإنما قيل لها بدنة من هذه الجهة ثم سميت الإبل بدنا مهزولة كانت أو سمينة فالبدنة اسم يختص بالبعير في اللغة إلا أن البقرة لما صارت في حكم البدنة قامت مقامها وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فصار البقر في حكم البدن ولذلك كان تقليد البقرة كتقليد البدنة في باب وقوع

٧٩

الإحرام بها لسائقها ولا يقلد غيرهما فهذان المعنيان اللذان يختص بهما البدن دون سائر الهدايا وروى عن جابر بن عبد الله قال البقرة من البدن واختلف أصحابنا فيمن قال الله على بدنة هل يجوز له نحرها بغير مكة فقال أبو حنيفة ومحمد يجوز له ذلك وقال أبو يوسف لا يجوز له نحره إلا بمكة ولم يختلفوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة وأن من قال لله على جزور أنه يذبحه حيث شاء وروى عن ابن عمر أنه قال من نذر جزورا نحرها حيث شاء وإذا نذر بدنة نحرها بمكة وكذا روى عن الحسن وعطاء وكذا روى عن عبد الله بن محمد ابن على وسالم وسعيد بن المسيب قالا إذا جعل على نفسه هديا فبمكة وإذا قال بدنة فحيث نوى وقال مجاهد ليست البدن إلا بمكة وذهب أبو حنيفة أن البدنة بمنزلة الجزور ولا يقتضى إهداءها إلى موضع فكان بمنزلة ناذر الجزور والشاة ونحوها وأما الهدى فإنه يقتضى إهداءه إلى موضع وقال الله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدى ويحتج لأبى يوسف بقوله تعالى (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) فكان اسم للبدنة مفيدا لكونها قربة كالهدى إذ كان اسم الهدى يقتضى كونه قربة مجعولا لله فلما لم يجز الهدى إلا بمكة كان كذلك حكم البدنة قال أبو بكر وهذا لا يلزم من قبل أنه ليس كل ما كان ذبحه قربة فهو مختص بالحرم لأن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن فوصفه للبدن بأنها من شعائر الله لا يوجب تخصيصها بالحرم قوله تعالى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) روى يونس عن زياد قال رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ راحلته فنحرها وهي باركة فقال أنحرها قياما مقيدة سنة أبى القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى أيمن بن نابل عن طاوس في قوله تعالى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) قياما وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال من قرأ صواف فهي قائمة مضمومة يداها ومن قرأ صوافن قيام معقولة وروى الأعمش عن أبى ظبيان عن ابن عباس قال قرأها صوافن قال معقولة يقول بسم الله والله أكبر وروى الأعمش عن أبى الضحى قال سمعت ابن عباس وسئل عن هذه الآية صواف قال قياما معقولة وروى جويبر عن الضحاك قال كان ابن مسعود يقرأها صوافن وصوافن أن يعقل أحدى يديهما فتقوم على ثلاث وروى قتادة عن الحسن أنه قرأها صوافي قال خالصة من الشرك وعن ابن عمر وعروة بن الزبير أنها تنحر مستقبلة القبلة قال أبو بكر حصلت قراءة السلف لذلك على ثلاثة أنحاء أحدها صواف بمعنى مصطفة قياما وصوافي

٨٠