أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

بالإرشاد والدلالة ويحتج لأبى يوسف ومحمد بحديث أبى رزين عن أبى هريرة أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنى ضرير شاسع الدار وليس لي قائد يلازمنى أفلي رخصة أن لا آتى المسجد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا وفي خبر حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم نحوه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتسمع الإقامة قال نعم قال فأتها واختلفوا في عدد من تصح به الجمعة من المأمومين أبو حنيفة وزفر ومحمد والليث ثلاثة سوى الإمام وروى عن أبى يوسف اثنان سوى الإمام وبه قال الثوري وقال الحسن بن صالح إن لم يحضر الإمام إلا رجل واحد فخطب عليه وصلى به أجزأهما وأما مالك فلم يجد فيه شيئا واعتبر الشافعى أربعين رجلا قال أبو بكر روى جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب يوم الجمعة فقدم عير فنفر الناس إليه وبقي معه اثنا عشر رجلا فأنزل الله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) ومعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يترك الجمعة منذ قدم المدينة ولم يذكر رجوع القوم فوجب أن يكون قد صلى باثنى عشر رجلا ونقل أهل السير أن أول جمعة كانت بالمدينة صلاها مصعب بن عمير بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باثنى عشر رجلا وذلك قبل الهجرة فبطل بذلك اعتبار الأربعين وأيضا الثلاثة جمع صحيح فهي كالأربعين لاتفاقهما في كونهما جمعا صحيحا وما دون الثلاثة مختلف في كونه جمعا صحيحا فوجب الاقتصار على الثلاثة وإسقاط اعتبار ما زاد وقوله تعالى (وَذَرُوا الْبَيْعَ) قال أبو بكر اختلف السلف في وقت النهى عن البيع فروى عن مسروق والضحاك ومسلم بن يسار أن البيع يحرم بزوال الشمس وقال مجاهد والزهري يحرم بالنداء وقد قيل إن اعتبار الوقت في ذلك أولى إذ كان عليهم الحضور عند دخول الوقت فلا يسقط ذلك عنهم تأخير النداء ولما لم يكن للنداء قبل الزوال معنى دل ذلك على أن النداء الذي بعد الزوال إنما هو بعد ما قد وجب إتيان الصلاة واختلفوا في جواز البيع عند نداء الصلاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والشافعى البيع يقع مع النهى وقال مالك البيع باطل قال أبو بكر قال الله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وظاهره يقتضى وقوع الملك للمشتري في سائر الأوقات لوقوعه عن تراض فإن قيل قال الله تعالى (وَذَرُوا الْبَيْعَ) قيل له نستعملهما فنقول يقع محظورا عليه عقد البيع في ذلك الوقت لقوله (وَذَرُوا الْبَيْعَ) ويقع الملك بحكم

٣٤١

الآية الأخرى والخبر الذي رويناه وأيضا لما لم يتعلق النهى بمعنى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنى في غيره وهو الإشتغال عن الصلاة وجب أن لا يمنع وقوعه وصحته كالبيع في آخر وقت صلاة يخاف فوتها إن اشتغل به وهو منهى عنه ولا يمنع ذلك صحته لأن النهى تعلق باشتغاله عن الصلاة وأيضا هو مثل تلقى الجلب وبيع حاضر لباد والبيع في الأرض المغصوبة ونحوها كونه منهيا عنه لا يمنع وقوعه وقد روى عبد العزيز الدرا وروى عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأيتم من يبيع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لارد الله عليك وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يباع في المسجد وأن يشترى فيه وأن تنشد فيه ضالة أو تنشد فيه الأشعار ونهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وروى عبد الرزاق قال حدثنا محمد بن مسلم عن عبد ربه بن عبيد الله عن مكحول عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم وسل سيوفكم وبيعكم وشراكم وإقامة حدودكم وخصومتكم وجمروها يوم جمعكم واجعلوا مطاهركم على أبوابها فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيع في المسجد ولو باع فيه جاز لأن النهى تعلق بمعنى في غير العقد.

باب السفر يوم الجمعة

قال أصحابنا لا بأس به قبل الزوال وبعده إذا كان يخرج من مصره قبل خروج وقت الظهر حكاه محمد في السير بلا خلاف وقال مالك لا أحب له أن يخرج بعد طلوع الفجر وليس بحرام وبعد الزوال لا ينبغي أن يسافر حتى يصلى الجمعة وكان الأوزاعى والليث والشافعى يكرهون السفر يوم الجمعة حتى يصلى وروى حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه ابن رواحة وجعفرا وزيد بن حارثة فتخلف ابن رواحة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خلفك قال الجمعة يا رسول الله أجمع ثم أروح فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها قال فراح منطلقا وروى سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال لا تحبس الجمعة عن سفر ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه وروى يحيى بن سعيد عن نافع أن ابنا لعبد الله بن عمر كان بالعقيق على رأس أميال من المدينة

٣٤٢

فأتى ابن عمر غداة الجمعة فأخبر بشكواه فانطلق إليه وترك الجمعة وقال عبيد الله بن عمر خرج سالم من مكة يوم الجمعة وروى عن عطاء والقاسم بن محمد أنهما كرها أن يخرج يوم الجمعة في صدر النهار وعن الحسن وابن سيرين قالا لا بأس بالسفر يوم الجمعة ما لم تحضر الجمعة وروى إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن النخعي قال إذا أراد الرجل السفر يوم الخميس فليسافر غدوة إلى أن يرتفع النهار فإن أقام إلى العشى فلا يخرج حتى يصلى الجمعة وروى عن عطاء عن عائشة قالت إذا أدركتك ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تجمع فهذا مذهب عائشة وإبراهيم قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) فأباح السفر في سائر الأوقات ولم يخصصه بوقت دون وقت فإن قيل هذا واضح في ليلة الجمعة ويوم الجمعة قبل الزوال وإباحة السفر فيهما والواجب أن يكون منهيا عنه بعد الزوال لأنه قد صار من أهل الخطاب بحضورها لقوله تعالى (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) قيل له لا خلاف أن الخطاب بذلك لم يتوجه إلى المسافرين وفرض الصلاة عندنا يتعلق بآخر الوقت فإذا خرج وصار مسافرا في آخر الوقت علمنا أنه لم يكن من أهل الخطاب بفعل الجمعة وقوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) قال الحسن والضحاك هو إذن ورخصة قال أبو بكر لما ذكر بعد الحظر كان الظاهر أنه إباحة وإطلاق من حظر كقوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) وقيل وابتغوا من فضل الله بعمل الطاعة والدعاء لله وقيل وابتغوا من فضل الله بالتصرف في التجارة ونحوها وهو إباحة أيضا وهو أظهر الوجهين لأنه قد حظر البيع في صدر الآية كما أمر بالسعي إلى الجمعة قال أبو بكر ظاهر قوله (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) إباحة للبيع الذي حظر بديا وقال الله تعالى (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فكان المعنى يبتغون من فضل الله بالتجارة والتصرف ويدل على أنه إنما أراد ذلك أنه قد عقبه بذكر الله فقال (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) وفي هذه الآية دلالة على إباحة السفر بعد صلاة الجمعة لأنه قال (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) وقوله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) روى عن جابر بن عبد الله والحسن قالا؟؟؟ رأوا عير طعام قدمت المدينة وقد أصابتهم مجاعة وقال جابر اللهو المزامير وقال مجاهد الطبل (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب على سماع الخطبة وحضور الموعظة (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ)

٣٤٣

قوله تعالى (وَتَرَكُوكَ قائِماً) يدل على أن الخطبة قائما روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا سأل علقمة أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب قائما أو قاعدا فقال ألست تقرأ القرآن (وَتَرَكُوكَ قائِماً) وروى حصين عن سالم عن جابر قال قدمت عير من الشام يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فانصرف الناس ينظرون وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اثنى عشر رجلا فنزلت الآية (وَتَرَكُوكَ قائِماً) وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب فجاءت عير فخرج الناس إليها حتى بقي اثنى عشر رجلا فنزلت هذه الآية قال أبو بكر اختلف ابن فضيل وابن إدريس في الحديث الأول عن حصين فذكر ابن فضيل أنه قال كنا نصلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر ابن إدريس أنه قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ويحتمل أن يريد بقوله نصلى أنهم قد حضروا للصلاة منتظرين لها لأن من ينتظر الصلاة فهو في الصلاة وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله تعالى (انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) قال إن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر فقدمت عير والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها فخرجوا إليها والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم كما هو قال الله تعالى (وَتَرَكُوكَ قائِماً) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو اتبع آخرهم أولهم لا لتهب الوادي عليهم نارا آخر سورة الجمعة.

سورة المنافقين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال الله تعالى (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ـ إلى قوله ـ (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال أبو بكر هذا يدل على أن قوله أشهد يمين لأن القوم قالوا نشهد فجعله الله يمينا بقوله (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا والثوري والأوزاعى أشهد وأقسم وأعزم وأحلف كلها أيمان وقال زفر إذا قال أقسم لأفعلن فهو يمين ولو قال أشهد لأفعلن لم يكن يمينا وقال مالك إن أراد بقوله أقسم أى أقسم بالله فهو يمين وإلا فلا شيء وكذلك أحلف قال ولو قال أعزم لم يكن يمينا إلا أن يقول أعزم بالله ولو قال على نذر أو قال نذر لله فهو على ما نوى وإن لم تكن له نية فكفارته كفارة يمين وقال الشافعى أقسم ليس بيمين وأقسم بالله يمين إن أرادها وإن أراد الموعد فليست بيمين وأشهد بالله إن نوى اليمين فيمين وإن لم ينو يمينا فليست

٣٤٤

بيمين وأعزم بالله إن أراد يمينا فهو يمين وذكر الربيع عن الشافعى إذا قال أقسم أو أشهد أو أعزم ولم يقل بالله فهو كقوله والله وإن قال أحلف بالله فلا شيء عليه إلا أن ينوى اليمين قال أبو بكر لا يختلفون أن أشهد بالله يمين فكذلك أشهد من وجهين أحدهما أن الله حكى عن المنافقين أنهم قالوا نشهد إنك لرسول الله ثم جعل هذا الإطلاق يمينا من غير أن يقرنه باسم الله وقال تعالى (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) فعبر عن اليمين بالشهادة على الإطلاق والثاني أنه لما أخرج ذلك مخرج القسم وجب أن لا يختلف حكمه في حذف اسم الله تعالى وفي إظهاره وقد ذكر الله تعالى القسم في كتابه فأظهر تارة الاسم وحذفه أخرى والمفهوم باللفظ في الحالين واحد بقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وقال في موضع آخر (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) فحذفه تارة اكتفاء بعلم المخاطبين بإضماره وأظهره أخرى وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس إن أبا بكر عبر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤيا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال أبو بكر أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقسم وروى أنه قال والله لتخبرني فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله أقسمت عليك يمينا فمن الناس من يكره القسم لقوله لا تقسم ومنهم من لا يرى به بأسا وأنه إنما قال لا تقسم لأن عبارة الرؤيا ظن قد يقع فيها الخطأ وهذا يدل أيضا على أنه ليس على من أقسم عليه غيره أن يبر قسمه لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخبره لما أقسم عليه ليخبره ويدل أيضا على أن من علم تأويل رؤيا فليس عليه الإخبار به لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخبر بتأويل هذه الرؤيا وروى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال كان أبو بكر قد استعمل عمر على الشام فلقد رأيتنى وأنا أشد الإبل بأقتابها فلما أراد أن يرتحل قال له الناس تدع عمر ينطلق إلى الشام والله إن عمر ليكفيك الشام وهو هاهنا قال أقسمت عليك لما أقمت وروى عن ابن عباس أنه قال للعباس فيما خاصم فيه عليا من أشياء تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإيثاره أقسمت عليك لما سلمته لعلى وقد روى البراء قال أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبرار القسم وهذا يدل على إباحة القسم وأنه يمين وهذا على وجه الندب لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبر قسم أبى بكر لما قال أقسمت عليك وعن ابن مسعود وابن عباس وعلقمة وإبراهيم وأبى العالية والحسن القسم يمين وقال الحسن وأبو العالية أقسمت وأقسمت بالله سواء.

٣٤٥

باب من فرط في زكاة ماله

قال الله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية روى عبد الرزاق قال حدثنا سفيان عن أبى حباب عن أبى الضحى عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من كان له مال تجب فيه الزكاة ومال يبلغه بيت الله ثم لم يحج ولم يزك سأل الرجعة وتلا قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) الآية وقد روى ذلك موقوفا على ابن عباس إلا أن دلالة الآية ظاهرة على حصول التفريط بالموت لأنه لو لم يكن مفرطا ووجب أداؤها من ماله بعد موته لكانت قد تحولت إلى المال فلزم الورثة إخراجها فلما سأل الرجعة علمنا أن الأداء فائت وأنه لا يتحول إلى المال ولا يؤخذ من تركته بعد موته إلا أن يتبرع به الورثة آخر سورة المنافقين.

سورة الطلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) قال أبو بكر يحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوها أحدها اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطاب لهم إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به إلا ما خص به دونهم فخصه بالذكر ثم عدل بالخطاب إلى الجماعة إذ كان خطابه خطابا للجماعة والثاني أن تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء والثالث على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع كقوله تعالى (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) وقوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) قال أبو بكر روى عن ابن عمر رضى الله عنه أنه طلق امرأته في الحيض فذكر ذلك عمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال مره فليراجعها وليمسكها حتى تطهر من حيضتها ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليفارقها قبل أن يجامعها أو يمسكها فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء رواه نافع عن ابن عمر وروى ابن جريج عن أبى الزبير أنه سمع ابن عمر يقول قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلقوهن في قبل عدتهن قال طاهرا من غير جماع وروى وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبى طلحة عن سالم عن ابن عمر أنه طلق امرأته في الحيض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال مره فليراجعها ثم يطلقها وهي حامل أو غير حامل وفي لفظ آخر فليطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها قال أبو بكر بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراد الله في قوله

٣٤٦

تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وإن وقت الطلاق المأمور به أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها وبين أيضا أن السنة في الإيقاع من وجه آخر وهو أن يفصل بين التطليقتين بحيضة بقوله يراجعها ثم يدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء فدل ذلك على أن الجمع بين التطليقتين في طهر واحد ليس من السنة وما نعلم أحدا أباح طلاقها في الطهر بعد الجماع إلا شيئا رواه وكيع عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال إذا طلقها وهي طاهر فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها وهذا القول خلاف السنة الثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلاف إجماع الأمة إلا أنه قد روى عنه ما يدل على أنه أراد الحامل وهو ما رواه يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال إذا طلقها حاملا فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها فيشبه أن يكون هذا أصل الحديث وأغفل بعض الرواة ذكر الحامل وقوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) منتظم للواحدة وللثلاث مفرقة في الأطهار لأن إدخال اللام يقتضى ذلك كقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) قد انتظم فعلها مكررا عند الدلوك فدل ذلك على معنيين أحدهما إباحة الثلاث مفرقة في الأطهار وإبطال قول من قال إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة ليس من السنة وهو مذهب مالك والأوزاعى والحسن بن صالح والليث والثاني تفريقها في الأطهار وحظر جمعها في طهر واحد لأن قوله (لِعِدَّتِهِنَ) يقتضى ذلك لا فعل الجميع في طهر واحد كقوله تعالى (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لم يقتض فعل صلاتين في وقت واحد وإنما اقتضى فعل الصلاة مكررة في الأوقات وقول أصحابنا إن طلاق السنة من وجهين أحدهما في الوقت وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها والآخر من جهة العدد وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة والوقت مشروط لمن يطلق في العدة لأن من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض لقوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) فأباح طلاقها في كل حال من طهر أو حيض وقد بينا بطلان قول من قال إن جمع الثلاث في طهر واحد من السنة ومن منع إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة في سورة البقرة فإن قيل لما جاز طلاق الحامل بعد الجماع كذلك الحائل يجوز طلاقها في الطهر بعد الجماع قيل له لا حظ للنظر مع الأثر واتفاق السلف ومع ذلك فإن الفرق بينهما واضح وهو أنه إذا طهرت

٣٤٧

من حيضتها ثم جامعها لا ندري لعلها قد حملت من الوطء وعسى أن لا يريد طلاقها إن كانت حاملا فيلحقه الندم وإذا لم يجامعها بعد الطهر فإن وجد الحيض علم براءة الرحم فيطلقها وهو على بصيرة من طلاقها قوله تعالى (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) يعنى والله أعلم العدة التي أوجبها الله بقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وبقوله (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ـ إلى قوله ـ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) لأن جميع ذلك عدد للمطلقات على حسب اختلاف الأحوال المذكورة لهن فيكون إحصاؤها لمعان أحدها لما يريد من رجعة وإمساك أو تسريح وفراق والثاني مراعاة حالها في بقائها على الحال التي طلقت عليها من غير حدوث حال يوجب انتقال عدتها إليها والثالث لكي إذا بانت يشهد على فراقها ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليها ولئلا يخرجها من بيتها قبل انقضائها وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن أبا حنيفة وأصحابه يقولون إن طلاق السنة واحدة وإن من طلاق السنة أيضا إذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها عند كل طهر تطليقة فذكروا أن الأول هو السنة والثاني أيضا سنة فكيف يكون شيء وخلافه سنة ولو جاز ذلك لجاز أن يكون حراما حلالا ولو قال إن الثاني رخصة كان أشبه قال أبو بكر وهذا كلام من لا تعلق له بمعرفة أصول العبادات ولا يجوز وروده منها مما لا يجوز ولا يمنع أحد من أهل العلم جواز ورود العبادات بمثله إذ جائز أن يكون السنة في الطلاق أن يخير بين إيقاع الواحدة في طهر والاقتصار عليها وبين أن يطلق بعدها في الطهر الثاني والثالث وجميع ذلك مندوب إليه ويكون مع ذلك أحد الوجهين أحسن من الآخر كما قال تعالى (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) ثم قال (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) وخير الله الحانث في يمينه بين أحد أشياء ثلاثة وأيها فعل كان فرضه وقوله ولو جاز ذلك لجاز أن يكون حلالا حراما يوجب نفى التخيير في شيء من السنن والفروض كما امتنع أن يكون شيء واحد حراما حلالا وعوار هذا القول وفساده أظهر من أن يحتاج إلى الإطناب في الرد على قائله وروى نحو قولنا بعينه عن ابن مسعود وجماعة من التابعين وقوله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) فيه نهى للزوج عن إخراجها ونهى لها من الخروج وفيه دليل على وجوب السكنى لها مادامت في العدة لأن بيوتهن التي نهى الله عن إخراجها منها هي

٣٤٨

البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق فأمر بتبقيتها في بيتها ونسبها إليها بالسكنى كما قال (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) وإنما البيوت كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذه الآية قال أصحابنا لا يجوز له أن يسافر بها حتى يشهد على رجعتها ومنعوها من السفر في العدة قال أبو بكر ولا خلاف نعلمه بين أهل العلم في أن على الزوج إسكانها ونفقتها في الطلاق الرجعى وأنه غير جائز له إخراجها من بيتها وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) روى عن ابن عمر قال خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة وقال ابن عباس إلا أن تبذوا على أهله فإذا فعلت ذلك حل لهم أن يخرجوها وقال الضحاك الفاحشة المبينة عصيان الزوج وقال الحسن وزيد بن أسلم أن تزنى فتخرج للحد وقال قتادة إلا أن تنشز فإذا فعلت حل إخراجها قال أبو بكر هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ وجائز أن يكون جميعها مرادا فيكون خروجها فاحشة وإذا زنت أخرجت للحد وإذا بذت على أهله أخرجت أيضا وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة بنت قيس بالانتقال حين بذت على أحمائها فأما عصيان الزوج والنشوز فإن كان في البذاء وسوء الخلق اللذين يتعذر المقام معها فيه فجائز أن يكون مراد وإن كانت إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها وما ذكرنا من التأويل المراد يدل على جواز انتقالها للعذر لأنه تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا قوله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) يدل على أنه إذا طلق لغير السنة وقع طلاقه وكان ظالما لنفسه بتعدية حدود الله لأنه ذكر ذلك عقيب طلاق العدة فأبان أن من طلق لغير العدة فطلاقه واقع لأنه لو لم يقع طلاقه لم يكن ظالما لنفسه ويدل على أنه أراد وقوع طلاقه مع ظلمه لنفسه قوله تعالى عقيبه (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) يعنى أن يحدث له ندم فلا ينفعه لأنه قد طلق ثلاثا وهو يدل أيضا على بطلان قول الشافعى في أن إيقاع الثلاث في كلمة واحدة من السنة لأن الله جعله ظالما لنفسه حين طلق ثلاثا وترك اعتبار ما عسى أن يلحقه من الندم بإبانتها وحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ابن عمر بطلاقه إياها في الحيض وأمره بمراجعتها لأن الطلاق الأول كان خطأ فأمره بالرجعة ليقطع أسباب الخطأ ويبتدئه على السنة وزعم قوم أن الطلاق في حال الحيض لا يقع وقد بينا بطلان هذا القول في سورة البقرة من جهة الكتاب والسنة وسؤال يونس بن جبير لابن عمر عن الطلاق في الحيض وذكره لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه بالمراجعة قال قلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجز

٣٤٩

واستمخق فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرنا أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسئل ابن عمر وأبو الزبير يسمع فقال كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض فقال عبد الله فردها على ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) فقال المحتج فأخبر أنه ردها عليه ولم يرها شيئا وذلك يدل على أن الطلاق لم يقع فيقال له ليس فيما ذكرت دليل على أنه لم يحكم بالطلاق بل دلالته ظاهرة على وقوعه لأنه قال وردها على وهو يعنى الرجعة وقوله ولم يرها شيئا يعنى أنه لم يبنها منه وقد روى حديث ابن عمر عنه عن أنس بن سيرين وابن جبير وزيد ابن أسلم ومنصور عن أبى وائل عنه كلهم يقول فيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر وقوله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يعنى به مقاربة بلوغ الأجل لا حقيقة لأنه لا رجعة بعد بلوغ الأجل الذي هو انقضاء العدة ولم يذكر الله تعالى طلاق المدخول بها ابتداء إلا مقرونا بذكر الرجعة بقوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) يعنى أن يبدو له فيراجعها وقوله (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) قال في سورة البقرة (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

باب الإشهاد على الرجعة أو الفرقة

قال الله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأمر بالإشهاد على الرجعة والفرقة أيتهما اختار الزوج وقد روى عن عمران بن حصين وطاوس وإبراهيم وأبى قلابة أنه إذا رجع ولم يشهد فالرجعة صحيحة ويشهد بعد ذلك قال أبو بكر لما جعل له الإمساك أو الفراق ثم عقبه بذكر الإشهاد كان معلوما وقوع الرجعة إذا رجع وجواز الإشهاد بعدها إذ لم يجعل الإشهاد شرطا في الرجعة ولم يختلف الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في الآية إنما هو تركها حتى تنقضي عدتها وأن الفرقة تصح وإن لم يقع الإشهاد عليها ويشهد بعد ذلك وقد ذكر الإشهاد عقيب الفرقة ثم لم يكن شرطا في صحتها كذلك الرجعة وأيضا لما كانت الفرقة حقا

٣٥٠

له وجازت بغير إشهاد إذ لا يحتاج فيها إلى رضا غيره وكانت الرجعة أيضا حقا له وجب أن تجوز بغير إشهاد وأيضا لما أمر الله بالإشهاد على الإمساك أو الفرقة احتياطا لهما ونفيا للتهمة عنهما إذا علم الطلاق ولم يعلم الرجعة أو لم يعلم الطلاق والفراق فلا يؤمن التجاحد بينهما ولم يكن معنى الاحتياط فيهما مقصورا على الإشهاد في حال الرجعة أو الفرقة بل يكون الاحتياط باقيا وإن أشهد بعدهما وجب أن لا يختلف حكمهما إذا أشهد بعد الرجعة بساعة أو ساعتين ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في صحة وقوع الرجعة بغير شهود إلا شيئا يروى عن عطاء فإن سفيان روى عن ابن جريج عن عطاء قال الطلاق والنكاح والرجعة بالبينة وهذا محمول على أنه مأمور بالإشهاد على ذلك احتياطا من التجاحد لا على أن الرجعة لا تصح بغير شهود ألا ترى أنه ذكر الطلاق معها ولا يشك أحد في وقوع الطلاق بغير بينة وقد روى شعبة عن مطر الوراق عن عطاء والحكم قالا إذا غشيها في العدة فغشيانه رجعة وقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) فيه أمر بإقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها لأن الشهادة هنا اسم للجنس وإن كان مذكورا بعد الأمر بإشهاد ذوى عدل على الرجعة لأن ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه فانتظم ذلك معنيين أحدهما الأمر بإقامة الشهادة والآخر أن إقامة الشهادة حق لله تعالى وأفاد بذلك تأكيده والقيام به.

باب عدة الآيسة والصغيرة

قال الله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) قال أبو بكر قد اقتضت الآية إثبات الإياس لمن ذكرت في الآية من النساء بلا ارتياب وقوله تعالى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) غير جائز أن يكون المراد به الارتياب في الإياس لأنه قد أثبت حكم من ثبت إياسها في أول الآية فوجب أن يكون الارتياب في غير الإياس واختلف أهل العلم في الريبة المذكورة في الآية فروى مطرف عن عمرو ابن سالم قال قال أبى بن كعب يا رسول الله إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فأخبر في هذا الحديث أن سبب نزول الآية كان ارتيابهم في عدد من ذكر من

٣٥١

الصغار والكبار وأولات الأحمال وأن ذكر الارتياب في الآية إنما هو على وجه ذكر السبب الذي نزل عليه الحكم فكان بمعنى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واختلف السلف ومن بعدهم من فقهاء الأمصار في التي يرتفع حيضها فروى ابن المسيب عن عمر رضى الله عنه قال أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعت حيضتها فإنه ينتظر بها تسعة أشهر فإن استبان بها حمل فذاك وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر بثلاثة أشهر ثم حلت وعن ابن عباس في التي ارتفع حيضها سنة قال تلك الريبة وروى معمر عن قتادة عن عكرمة في التي تحيض في كل سنة مرة قال هذه ريبة عدتها ثلاثة أشهر وروى سفيان عن عمر وعن طاوس مثله وروى عن على وعثمان وزيد ابن ثابت أن عدتها ثلاث حيض وروى مالك عن يحيى بن سعد عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال وكان عند جده حبان امرأتان هاشمية وأنصارية فطلق الأنصارية وهي ترضع فمرت به سنة ثم هلك ولم تحض فقالت أنا أرثه ولم أحض فاختصما إلى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بذلك يعنى على ابن أبى طالب وروى ابن وهب قال أخبرنى يونس عن ابن شهاب بهذه القصة قال وبقيت تسعة أشهر لا تحيض وذكر القصة فشاور عثمان عليا وزيدا فقالا ترثه لأنها ليست من القواعد اللائي قد يئسن من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يحضن وهي عنده على حيضتها ما كانت من قليل أو كثير وهذا يدل من قولهما أن قوله تعالى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ليس على ارتياب المرأة ولكنه على ارتياب الشاكين في حكم عددهن وأنها لا تكون آيسة حتى تكون من القواعد اللاتي لا يرجى حيضهن وروى عن ابن مسعود مثل ذلك* واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أصحابنا في التي يرتفع حيضها لا يأس منه في المستأنف إن عدتها الحيض حتى تدخل في السن التي لا تحيض أهلها من النساء فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر وهو قول الثوري والليث والشافعى قال مالك تنتظر تسعة أشهر فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض فإن مضت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر وقال ابن القاسم عن مالك إذا حاضت المطلقة ثم ارتابت فإنما تعتد بالتسعة الأشهر من يوم رفعت حيضتها لا من يوم طلقت قال مالك في قوله تعالى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) معناه إن لم تدروا ما تصنعون

٣٥٢

في أمرها وقال الأوزاعى في رجل طلق امرأته وهي شابة فارتفعت حيضتها فلم تر شيئا ثلاثة أشهر فإنها تعتد سنة قال أبو بكر أوجب الله بهذه الآية عدة الآيسة ثلاثة أشهر واقتضى ظاهر اللفظ أن تكون هذه العدة لمن قد ثبت إياسها من الحيض من غير ارتياب كما كان قوله (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) لمن ثبت أنها لم تحض وكقوله (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) لمن قد ثبت حملها فكذلك قوله (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) لمن قد ثبت إياسها وتيقن ذلك منها دون من يشك في إياسها ثم لا يخلو قوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) من أحد وجوه ثلاثة إما أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة وليست بآيسة أو الارتياب في أنها حامل أو غير حامل أو ارتياب المخاطبين في عدة الآيسة والصغيرة وغير جائز أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة أو غير آيسة لأنه تعالى قد أثبت من جعل الشهور عدتها أنها آيسة والمشكوك فيها لا تكون آيسة لاستحالة مجامعة اليأس الرجاء إذ هما ضدان لا يجوز اجتماعهما حتى تكون آيسة من المحيض مرجوا ذلك منها فبطل أن يكون المعنى الارتياب في اليأس ومن جهة أخرى اتفاق الجميع على أن المسنة التي قد تيقن إياسها من الحيض مرادة بالآية والارتياب المذكور راجع إلى جميع المخاطبين وهو في التي قد تيقن إياسها ارتياب المخاطبين في العدة فوجب أن يكون في المشكوك في إياسها مثله لعموم اللفظ في الجميع وأيضا فإذا كانت عادتها وهي شابة أنها تحيض في كل سنة مرة فهذه غير مرتاب في إياسها بل قد تيقن أنها من ذوات الحيض فكيف يجوز أن تكون عدتها سنة مع العلم بأنها غير آيسة وأنها من ذوات الحيض وتراخى ما بين الحيضتين من المدة لا يخرجها من أن تكون من ذوات الحيض فالموجب عليها عدة الشهور مخالف للكتاب لأن الله تعالى جعل عدة ذوات الإقراء الحيض بقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ولم يفرق بين من طالت مدة حيضتها أو قصرت ولا يجوز أيضا أن يكون المراد الارتياب في الإياس من الحمل لأن اليأس من الحيض هو الإياس من الحبل وقد دللنا على بطلان قول من رد الارتياب إلى الحيض فلم يبق إلا الوجه الثالث وهو ارتياب المخاطبين على ما روى عن أبى بن كعب حين سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين شك في عدة الآيسة والصغيرة وأيضا لو كان المراد الارتياب في الإياس لكان توجيه الخطاب إليهن أولى من توجيهه إلى الرجال لأن الحيض إنما يتوصل إلى معرفته من جهتها ولذلك كانت مصدقة فيه فكان يقول إن ارتبتن أو ارتبن

«٢٣ ـ أحكام مس»

٣٥٣

فلما خاطب الرجال بذلك دونهن علم أنه أراد ارتياب المخاطبين في العدة وقوله تعالى (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) يعنى واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر لأنه كلام لا يستقل بنفسه فلا بد له من ضمير وضميره ما تقدم ذكره مظهرا وهو العدة بالشهور.

باب عدة الحامل

قال الله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال أبو بكر لم يختلف السلف والخلف بعدهم أن عدة المطلقة الحامل أن تضع حملها واختلف السلف في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال على وابن عباس تعتد الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين وقال عمر وابن مسعود وابن عمر وأبو مسعود البدري وأبو هريرة عدتها الحمل فإذا وضعت حلت للأزواج وهو قول فقهاء الأمصار قال أبو بكر روى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال من شاء لا عنته ما نزلت (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها قال أبو بكر قد تضمن قول ابن مسعود هذا معنيين أحدهما إثبات تاريخ نزول الآية وأنها نزلت بعد ذكر الشهور للمتوفى عنها زوجها والثاني أن الآية مكتفية بنفسها في إفادة الحكم على عمومها غير مضمنة بما قبلها من ذكر المطلقة فوجب اعتبار الحمل في الجميع من المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن وأن لا يجعل الحكم مقصورا على المطلقات لأنه تخصيص عموم بلا دلالة ويدل على أن المتوفى عنها زوجها داخلة في الآية مرادة بها اتفاق الجميع على أن مضى شهور المتوفى عنها زوجها لا يوجب انقضاء عدتها دون وضع الحمل فدل على أنها مرادة بها فوجب اعتبار الحمل فيها دون غيره ولو جاز اعتبار الشهور لأنها مذكورة في آية أخرى لجاز اعتبار الحيض مع الحمل في المطلقة لأنها مذكورة في قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وفي سقوط اعتبار الحيض مع الحمل دليل على سقوط اعتبار الشهور مع الحمل وقد روى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبى السنابل بن بعكك أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين فتشوفت للنكاح فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن تفعل فقد خلا أجلها وروى يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال اختلف ابن عباس وأبو هريرة في ذلك فأرسل ابن عباس كريبا إلى أم سلمة فقالت إن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن تتزوج وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبى سلمة عن

٣٥٤

سبيعة أنها وضعت بعد موت زوجها بشهرين فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجي وجعل أصحابنا عدة امرأة الصغير من الوفاة الحمل إذا مات عنها زوجها وهي حامل لقوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ولم يفرق بين امرأة الصغير والكبير ولا بين من يلحقه بالنسب أو لا يلحقه.

باب السكنى للمطلقة

قال الله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) الآية قال أبو بكر اتفق الجميع من فقهاء الأمصار وأهل العراق ومالك والشافعى على وجوب السكنى للمبتوتة وقال ابن أبى ليلى لا سكنى للمبتوتة إنما هي للرجعية قال أبو بكر قوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) قد انتظم الرجعية والمبتوتة والدليل على ذلك أن من بقي من طلاقها واحدة فعليه أن يطلقها للعدة إذا أراد طلاقها بالآية وكذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها ولم يفرق بين التطليقة الأولى وبين الثالثة فإذا كان قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) قد تضمن البائن ثم قال (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) وجب ذلك للجميع من البائن والرجعى فإن قيل لما قال تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وقال (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) دل ذلك على أنه أراد الرجعى قيل له هذا أحد ما انتظمته الآية ولا دلالة فيه على أن أول الخطاب في الرجعى دون البائن وهو مثل قوله (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وهو عموم في البائن والرجعى ثم قوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) إنما هو حكم خاص في الرجعى ولم يمنع أن يكون قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) عاما في الجميع واحتج ابن أبى ليلى بحديث فاطمة بنت قيس وسنتكلم فيه عند ذكر نفقة المبتوتة إن شاء الله تعالى واختلف فقهاء الأمصار في نفقة المبتوتة فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح لكل مطلقة السكنى والنفقة ما دامت في العدة حاملا كانت أو غير حامل وروى مثله عن عمر وابن مسعود وقال ابن أبى ليلى لا سكنى للمبتوتة ولا نفقة وروى عنه أن لها السكنى ولا نفقة لها وقال عثمان البتى لكل مطلقة السكنى والنفقة وإن كانت غير حامل وكان يرى أنها تنتقل إن شاءت وقال مالك للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا وروى عنه أن عليه نفقة الحامل المبتوتة إن

٣٥٥

كان موسرا وإن كان معسرا فلا نفقة لها عليه وقال الأوزاعى والليث والشافعى للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا قال الله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) وقد تضمنت هذه الآية الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من ثلاثة أوجه أحدها أن السكنى لما كانت حقا في مال وقد أوجبها الله لها بنص الكتاب إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذ كانت السكنى حقا في مال وهي بعض النفقة والثاني قوله (وَلا تُضآرُّوهُنَ) والمضارة تقع في النفقة كهي في السكنى والثالث قوله (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) والتضييق قد يكون في النفقة أيضا فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها وقوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) قد انتظم المبتوتة والرجعية ثم لا تخلو هذه النفقة من أن يكون وجوبها لأجل الحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته فلما اتفق الجميع على أن النفقة واجبة للرجعية بالآية لا للحمل بل لأنها محبوسة عليه في بيته وجب أن تستحق المبتوتة النفقة لهذه العلة إذ قد علم ضمير الآية في علية استحقاق النفقة للرجعية فصار كقوله فأنفقوا عليهن لعلة أنها محبوسة عليه في بيته لأن الضمير الذي تقوم الدلالة عليه بمنزلة المنطوق به ومن جهة أخرى وهي أن نفقة الحامل لا تخلو من أن تكون مستحقة للحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته فلو كانت مستحقة للحمل لوجب أن الحمل لو كان له مال أن ينفق عليها من ماله كما أن نفقة الصغير في مال نفسه فلما اتفق الجميع على أن الحمل إذا كان له مال كانت نفقة أمه على الزوج لا في مال الحمل دل على أن وجوب النفقة متعلق بكونها محبوسة في بيته وأيضا كان يجب أن تكون في الطلاق الرجعى نفقة الحامل في مال الحمل إذا كان له مال كما أن نفقته بعد الولادة من ماله فلما اتفق الجميع على أن نفقتها في الطلاق الرجعى لم تجب في مال الحمل وجب مثله في البائن وكان يجب أن تكون نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها في نصيب الحمل من الميراث فإن قيل فما فائدة تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة قيل له قد دخلت فيه المطلقة الرجعية ولم يمنع نفى النفقة لغير الحامل فكذلك في المبتوتة وإنما ذكر الحمل لأن مدته قد تطول وتقصر فأراد إعلامنا وجوب النفقة مع طول مدة الحمل التي هي في العدة أطول من مدة الحيض ومن جهة النظر أن الناشزة إذا خرجت من بيت زوجها لا تستحق النفقة مع بقاء الزوجية لعدم تسليم نفسها

٣٥٦

في بيت الزوج ومتى عادت إلى بيته استحقت النفقة فثبت أن المعنى الذي تستحق به النفقة هو تسليم نفسها في بيت الزوج فلما اتفقنا ومن أوجب السكنى على وجوب السكنى وصارت بها مسلمة لنفسها في بيت زوجها وجب أن تستحق النفقة وأيضا لما اتفق الجميع على أن المطلقة الرجعية تستحق النفقة في العدة وجب أن تستحقها المبتوتة والمعنى فيها أنها معتدة من طلاق وإن شئت قلت إنها محبوسة عليه بحكم عقد صحيح وإن شئت قلت إنها مستحقة للسكنى فأى هذه المعاني اعتللت به صح القياس عليها ومن جهة السنة ما روى حماد بن سلمة عن حماد بن أبى سليمان عن الشعبي أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها طلاقا بائنا فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لا نفقة لك ولا سكنى قال فأخبرت بذلك النخعي فقال قال عمر بن الخطاب وأخبر بذلك فقال لسنا بتاركي آية في كتاب الله وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقول امرأة لعلها أوهمت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لها السكنى والنفقة وروى سفيان عن سلمة عن الشعبي عن فاطمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يجعل لها حين طلقها زوجها ثلاثا سكنى ولا نفقة فذكرت ذلك لإبراهيم فقال قد رفع ذلك إلى عمر فقال لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة لها السكنى والنفقة فقد نص هذان الخبران على إيجاب النفقة والسكنى وفي الأول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لها السكنى والنفقة ولو لم يقل ذلك كان قوله لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا يقضى أن يكون ذلك نصا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيجابهما واحتج المبطلون للسكنى والنفقة ومن نفى النفقة دون السكنى بحديث فاطمة بنت قيس هذا وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راوية ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعريها من نكير السلف أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس في الحديث الأول الذي قدمناه وروى القاسم بن محمد أن مروان ذكر لعائشة حديث فاطمة بنت قيس فقال لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة بنت قيس وقالت في بعضه ما لفاطمة خير في أن تذكر هذا الحديث يعنى قولها لا سكنى لك ولا نفقة وقال ابن المسيب تلك امرأة فتنت الناس استطالت على أحمائها بلسانها فأمرت بالانتقال وقال أبو سلمة أنكر الناس عليها ما كانت تحدث به وروى الأعرج عن أبى سلمة أن فاطمة كانت تحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لها اعتدى في بيت ابن أم مكتوم قال وكان محمد بن أسامة يقول كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئا رماها بما كان في يده فلم يكن ينكر عليها هذا النكير إلا وقد علم بطلان ما روته وروى

٣٥٧

عمار بن رزيق عن أبى إسحاق قال كنت عند الأسود بن يزيد في المسجد فقال الشعبي حدثتني فاطمة بنت قيس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها لا سكنى لك ولا نفقة قال فرماه الأسود بحصا ثم قال ويلك اتخذت بمثل هذا قد رفع ذلك إلى عمر فقال لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا تدرى لعلها كذبت قال الله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) وروى الزهري قال أخبرنى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن فاطمة بنت قيس أفتت بنت أخيها وقد طلقها زوجها بالانتقال من بيت زوجها فأنكر ذلك مروان فأرسل إلى فاطمة يسئلها عن ذلك فذكرت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفتاها بذلك فأنكر ذلك مروان وقال قال الله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) قالت فاطمة إنما هذا في الرجعى لقوله تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فقال مروان لم أسمع بهذا الحديث من أحد قبلك وسآخذ بالعصمة التي وجدت الناس عليها فقد ظهر من هؤلاء السلف النكير على فاطمة في روايتها لهذا الحديث ومعلوم أنهم كانوا لا ينكرون روايات الأفراد بالنظر والمقايسة فلو أنهم قد علموا خلافه من السنة ومن ظاهر الكتاب لما أنكروه عليها وقد استفاض خير فاطمة في الصحابة فلم يعمل به منهم أحد إلا شيئا روى عن ابن عباس رواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول في المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها لا نفقة لهما وتعتدان حيث شاءتا فهذا الذي ذكرنا في رد خبر فاطمة بنت قيس من جهة ظهور النكير من السلف عليها وفي روايتها ومعارضة حديث عمر إياه يلزم الفريقين من نفاة السكنى والنفقة وممن نفى النفقة وأثبت السكنى وهو لمن نفى النفقة دون السكنى ألزم لأنهم قد تركوا حديثها في نفى السكنى لعلة أوجبت ذلك فتلك العلة بعينها هي الموجبة لترك حديثها في نفى النفقة فإن قيل إنما لم يقبل حديثها في نفى السكنى لمخالفته لظاهر الكتاب وهو قوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) قيل له قد احتجت هي في أن ذلك في المطلقة الرجعية ومع ذلك فإن جاز عليها الوهم والغلط في روايتها حدثنا مخالفا للكتاب فكذلك سبيلها في النفقة وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبها فيما روته من نفى السكنى والنفقة وذلك لأنه قد روى أنها استطالت بلسانها على أحمائها فأمروها بالانتقال وكانت سبب النقلة وقال الله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وقد روى عن ابن عباس في تأويله

٣٥٨

إن تستطيل على أهله فيخرجوها فلما كان سبب النقلة من جهتها كانت بمنزلة الناشزة فسقطت نفقتها وسكناها جميعا فكانت العلة الموجبة لا سقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى وهذا يدل على صحة أصلنا الذي قدمنا في أن استحقاق النفقة متعلق باستحقاق السكنى فإن قيل ليست النفقة كالسكنى لأن السكنى حق الله تعالى لا يجوز تراضيهما على إسقاطها والنفقة حق لها لو رضيت بإسقاطها لسقطت قيل له لا فرق بينهما من الوجه الذي وجب قياسها عليها وذلك لأن السكنى فيها معنيان أحدهما حق لله تعالى وهو كونها في بيت الزوج والآخر حق لها وهو ما يلزم في المال من أجرة البيت إن لم يكن له ولو رضيت بأن تعطى هي الأجرة وتسقطها عن الزوج جاز فمن حيث هي حق في المال قد استويا واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وشريح وأبو العالية والشعبي وإبراهيم نفقتها من جميع المال وقال ابن عباس وجابر وابن الزبير والحسن وابن المسيب وعطاء لا نفقة لها في مال الزوج بل هي على نفسها واختلف فقهاء الأمصار أيضا في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد لا سكنى لها ولا نفقة في مال الميت حاملا كانت أو غير حامل وقال ابن أبى ليلى نفقتها في مال الزوج بمنزلة الدين على الميت إذا كانت حاملا وقال مالك نفقتها على نفسها وإن كانت حاملا ولها السكنى إن كانت الدار للزوج وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بسكناها حتى ينقضي عدتها وإن كانت في بيت بكراء فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج هذه رواية ابن وهب وقال ابن القاسم عن مالك لا نفقة لها في مال الزوج الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت وإن كان عليه دين فهي أحق بالسكنى من الغرماء وتباع للغرماء ويشترط السكنى على المشترى وقال الأشجعى عن الثوري إذا كانت حاملا أنفق عليها من جميع المال حتى تضع فإذا وضعت أنفق على الصبى من نصيبه وروى المعافى عنه أن نفقتها من حصتها وقال الأوزاعى في المرأة يموت زوجها وهي حامل فلا نفقة لها وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال حتى تضع وقال الليث في أم الولد إذا كانت حاملا منه فإنه ينفق عليها من جميع المال فإن ولدت كان ذلك في حظ ولدها وإن لم تلد كان ذلك دينا يتبع به وقال الحسن بن صالح للمتوفى عنها زوجها بالنفقة من جميع المال وقال الشافعى في المتوفى عنها زوجها قولين أحدهما لها السكنى والنفقة والآخر لا سكنى لها ولا نفقة قال أبو بكر قد اتفق الجميع على أن لا نفقة للمتوفى

٣٥٩

عنها زوجها غير الحامل ولا سكنى فوجب أن تكون الحامل مثلها لا تفاق الجميع على أن هذه النفقة غير مستحقة للحمل ألا ترى أن أحدا منهم لم يوجبها في نصيب الحمل من الميراث وإنما قالوا فيه قولين قائل يجعل نفقتها من نصيبها وقائل يجعل النفقة من جميع مال الميت ولم يوجبها أحد في حصة الحمل فلما تجب النفقة لأجل الحمل ولم يجز أن تكون مستحقة لأجل كونها في العدة لأنها لو وجبت للعدة لوجبت لغير الحامل فلم يبق وجه تستحق به النفقة وأيضا لما لم تستحق السكنى في مال الزوج بدلائل قد قامت عليه لم تستحق النفقة وأيضا فإن النفقة إذا وجبت فإنما تجب حالا فحالا فلما مات الزوج انتقل ميراثه إلى الورثة وليس للزوج مال في هذا الحال وإنما هو مال الوارث فلا يجوز إيجابها عليهم فإن قيل تصير بمنزلة الدين قيل له الدين الذي يثبت في ميراث المتوفى إنما يثبت بأحد وجهين إما أن يكون ثابتا على الميت في حياته أو يتعلق وجوبه بسبب كان من الميت قبل موته مثل الجنايات وحفر البئر إذا وقع فيها إنسان بعد موته والنفقة خارجة عن الوجهين فلا يجوز إيجابها في ماله لعدم السبب الذي به تعلق وجوب النفقة وعدم ماله بزواله إلى الورثة ألا ترى أن النكاح قد بطل بالموت وإن ملك الميت قد زال إلى الورثة فلم يبق لإيجاب النفقة وجه ألا ترى أن غير الحامل لا نفقة لها بهذه العلة فإن قيل قال الله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) وهو عموم في المتوفى عنها زوجها والمطلقة كما كان قوله (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) عموما في الصنفين قيل له هذا غلط من قبل أن قوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) خطاب للأزواج وكذلك قوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) خطاب لهم وقد زال عنهم الخطاب بالموت ولا جائز أن يكون ذلك خطابا لغير الأزواج فلم تقتض الآية إيجاب نفقة المتوفى عنها زوجها بحال وقوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) قد انتظم الدلالة على أحكام منها أنها إذا رضيت بأن ترضعه بأجر مثلها لم يكن للأب أن يسترضع غيرها لأمر الله إياه بإعطاء الأجر إذا أرضعت ويدل على أن الأم أولى بحضانة الولد من كل أحد ويدل على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل ولا تستحق بالعقد لأنه أوجبها بعد الرضاع بقوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وقد دل على أن لبن المرأة وإن كان عينا فقد أجرى مجرى المنافع التي تستحق بعقود الإجارات ولذلك لم يجز أصحابنا بيع لبن المرأة

٣٦٠