أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

رضى الله عنه بترك قسمة السواد وإقرار أهله عليه ومع ذلك فإنه لا يجوز أن يصح عن على ما ذكرت لأنه لا يخلو من خاطبهم على بذلك من أن يكونوا هم الذين فتحوا السواد فاستحقوا ملكه وقسمته بينهم من غير خيار للإمام فيه أو أن يكون المخاطبون به غير الذين فتحوه أو خاطب به الجيش وهم أخلاط منهم من شهد فتح السواد ومنهم من لم يشهده وغير جائز أن يكون الخطاب لمن لم يشهد فتحه لأن أحدا لا يقول أن الغنيمة تصرف إلى غير الغانمين ويخرج منها الغانمون وأن يكونوا أخلاطا فيهم من شهد الفتح واستحق الغنيمة وفيهم من لم يشهده وهذا مثل الأول لأن من لم يشهد الفتح لا يجوز أن يسهم له وتقسم الغنيمة بينه وبين الذين شهدوه أو أن يكون خاطب به من شهد الفتح دون غيره فإن كان كذلك وكانوا هم المستحقين له دون غيرهم من غير خيار للإمام فيه فغير جائز أن يجعل حقهم لغيرهم لأن بعضهم يضرب وجوه بعض إذ كان اتقى لله من أن يترك حقا يجب عليه القيام به إلى غيره لما وصفت وعلى أنه لم يخصص بهذا الخطاب الذين فتحوه دون غيرهم وفي ذلك دليل على فساد هذه الرواية وقد اختلف الناس بعد ثبوت هذا الأصل الذي ذكرنا وصحة الرواية عن عمر في كافة الصحابة على ترك قسمه السواد وإقرار أهله عليه فقال قائلون أقرهم على أملاكهم وترك أموالهم في أيديهم ولم يسترقهم وهو الذي ذكرناه من مذهب أصحابنا وقال آخرون إنما أقرهم على أرضهم على أنهم وأرضهم فيء للمسلمين وأنهم غير ملاك لها وقال آخرون أقرهم على أنهم أجرار والأرضون موقوفة على مصالح المسلمين قال أبو بكر ولم يختلفوا أن من أسلم من أهل السواد كان حرا وأنه ليس لأحد أن يسترقه وقد روى عن على رضى الله عنه أن دهقانا أسلم على عهده فقال له إن أقمت في أرضك رفعنا الجزية عن رأسك وأخذناها من أرضك وإن تحولت عنها فنحن أحق بها وكذلك روى عن عمر رضى الله عنه في دهقانة نهر الملك حين أسلمت فلو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بالإسلام فإن قيل فقد قالا إن تحولت عنها فنحن أحق بها قيل له إنما أراد بذلك أنك إن عجزت عن عمارتها عمرناها نحن وزرعناها لئلا تبطل الحقوق التي قد وجبت للمسلمين في رقابها وهو الخراج وكذلك يفعل الإمام عندنا بأراضى العاجزين عن عمارتها ولما ثبت بما وصفنا أن من أسلم من أهل السواد فهو حر ثبت أن أراضيهم على إملاكهم كما كانت رقابهم مبقاة على أصل الحرية ومن حيث جاز للإمام عند مخالفينا أن يقطع حق

«٢١ ـ أحكام مس»

٣٢١

الغانمين عن رقابها ويجعلها موقوفة على المسلمين بصرف خراجها إليهم جاز إقرارها على أملاك أهلها ويصرف خراجها إلى المسلمين إذ لا حق للمسلمين في نفى ملك ملاكها عنها بعد أن لا يحصل للمسلمين ملكها وإنما حقهم في الحالين في خراجها لا في رقابها بأن يتملكوها وذكر يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح قال سمعنا أن الغنيمة ما غلب عليه المسلمون حتى يأخذوه عنوة بالقتال وأن الفيء ما صولحوا عليه قال الحسن فأما سوادنا هذا فإنا سمعنا أنه كان في أيدى النبط فظهر عليهم أهل فارس فكانوا يؤدون إليهم الخراج فلما ظهر المسلمون على أهل فارس تركوا السواد ومن لم يقاتلهم من الدهاقين على حالهم ووضعوا الجزية على رموس الرجال ومسحوا ما كان في أيديهم من الأرضين ووضعوا عليهم الخراج وقبضوا على كل أرض ليست في يد أحد فكانت صوافي للإمام قال أبو بكر كأنه ذهب إلى أن النبط لما كانوا أحرارا في مملكة أهل فارس فكانت أملاكهم ثابتة في أراضيهم ثم ظهر المسلمون على أهل فارس وهم الذين قاتلوا المسلمين ولم يقاتلهم النبط كانت أراضيهم ورقابهم على ما كانت عليه في أيام الفرس لأنهم لم يقاتلوا المسلمين فكانت أرضوهم ورقابهم في معنى ما صولح عليه وأنهم إنما كانوا يملكون أراضيهم ورقابهم لو قاتلوهم وهذا وجه كان يحتمله الحال لو لا أن محاجة عمر لأصحابه الذين سألوه قسمة السواد كانت من غير هذا الوجه وإنما احتج بدلالة الكتاب دون ما ذكره الحسن فإن قيل إنما دفع عمر السواد إلى أهله بطيبة من نفوس الغانمين على وجه الإجارة والأجرة تسمى خراجا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخراج بالضمان ومراده أجرة العبد المشترى إذا رد بالعيب قال أبو بكر هذا غلط من وجوه أحدها أن عمر لم يستطب نفوس القوم في وضع الخراج وترك القسمة وإنما شاور الصحابة وحاج من طلب القسمة بما أوضح به قوله ولو كان قد استطاب نفوسهم لنقل كما نقل ما كان بينه وبينهم من المراجعة والمحاجة فإن قيل قد نقل ذلك وذكر ما رواه إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم قال كنا ربع الناس فأعطنا عمر ربع السواد فأخذناه ثلاث سنين ثم وقد جرير إلى عمر بعد ذلك فقال عمرو الله لو لا أنى قاسم مسئول لكنتم على ما قسم لكم فأرى أن تردوه على المسلمين ففعل فأجازه عمر ثمانين دينارا فأتته امرأة فقالت يا أمير المؤمنين إن قومي صالحوك على أمر ولست أرضى حتى تملأ كفى ذهبا وتحملني على جمل ذلول وتعطيني قطيفة حمراء قال ففعل قال أبو بكر ليس فيه دليل على

٣٢٢

أنه كان ملكهم رقاب الأرضين وجائز أن يكون أعطاهم ربع الخراج ثم رأى بعد ذلك أن يقتصر بهم على أعطياتهم دون الخراج ليكونوا أسوة لسائر الناس وكيف يكون ذلك باستطابة منه لنفوسهم وقد أخبر عمر أنه رأى رده على المسلمين وأظهر أنه لا يسعه غيره لما كان عنده أنه صلح للمسلمين وأما أمر المرأة فإنه أعطاها من بيت المال لأنه قد كان جائزا له أن يفعله من أخذ ما كان في أيديهم من السواد وأما قوله إن الخراج أجرة ففاسد من وجوه أحدها أنه لا خلاف أن الإجارات لا تجوز إلا على مدة معلومة إذا وقعت على المدة وأيضا فإن أهلها لم يخلوا من أن يكونوا عبيدا أو أحرارا فإن كانوا عبيدا فإن إجارة المولى من عبده لا تجوز وإن كانوا أحرارا فكيف جاز أن تترك رقابهم على أصل الحرية ولا نترك أراضيهم على أملاكهم وأيضا لو كانوا عبيدا لم يجز أخذ الجزية من رقابهم لأنه لا خلاف أن العبيد لا جزية عليهم وأيضا لا خلاف أن إجارة النخل والشجر غير جائزة وقد أخذ عمر الخراج من النخل والشجر فدل على أنه ليس بأجرة وقد اختلف الفقهاء في شرى أرض الخراج واستئجارها فقال أصحابنا لا بأس بذلك وهو قول الأوزاعى وقال مالك أكره استئجار أرض الخراج وكره شريك شرى أرض الخراج وقال لا تجعل في عنقك صغارا وذكر الطحاوي عن بن أبى عمران عن سليمان بن بكار قال سأل رجل المعافى بن عمران عن الزرع في أرض الخراج فنهاه عن ذلك فقال له قائل فإنك تزرع أنت فيها فقال يا ابن أخى ليس في الشر قدوة وقال الشافعى لا بأس بأن يكترى المسلم أرض خراج كما يكترى دوابهم قال والحديث الذي جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي لمسلم أن يؤدى الخراج ولا لمشرك أن يدخل المسجد الحرام إنما هو خراج الجزية قال ابو بكر روى عن عبد الله بن مسعود أنه اشترى أرض خراج وروى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا قال عبد الله وبراذان ما براذان وبالمدينة ما بالمدينة وذلك أنه كانت له ضيعة براذان وراذان من أرض الخراج وروى أن الحسن والحسين ابني على رضى الله عنهم اشتروا من أرض السواد فهذا يدل على معنيين أحدهما أنهما أملاك لأهلها والثاني أنه غير مكره للمسلم شراها وروى عن على وعمر رضى الله عنهما فيمن أسلم من أهل الخراج أنه إن أقام على أرضه أخذ منه الخراج وروى عن ابن عباس أنه كره شرى أرض أهل الذمة وقال لا تجعل ما جعل الله في عنق هذا الكافر في عنقك وقال ابن عمر مثل ذلك

٣٢٣

وقال لا تجعل في عنقك الصغار قال أبو بكر وخراج الأرض ليس بصغار لأنا لا نعلم خلافا بين السلف أن الذمي إذا كانت له أرض خراج فأسلم أنه يؤخذ الخراج من أرضه ويسقط عن رأسه فلو كان صغارا لسقط بالإسلام وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها يدل على أنه واجب على المؤمنين لأنه أخبر عما يمنع المسلمون من حق الله في المستقبل ألا ترى أنه قال وعدتم كما بدأتم والصغار لا يجب على المسلمين وإنما يجب على الكفار للمسلمين وقوله تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) يعنى والله أعلم أن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول وللذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يعنى الأنصار وقد كان إسلام المهاجرين قبل إسلام الأنصار ولكنه أراد الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل هجرة المهاجرين وقوله تعالى (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) قال الحسن يعنى أنهم لا يحسدون المهاجرين على فضل آتاهم الله تعالى وقيل لا يجدون في أنفسهم ضيقا لما ينفقونه عليهم وقوله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الخصاصة الحاجة فأثنى عليهم بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم وإن كانوا هم محتاجين إليه فإن قيل روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا قال له معى دينار فقال أنفقه على نفسك فقال معى دينار آخر فقال أنفقه على عيالك فقال معى دينار آخر قال تصدق به وأن رجلا جاء ببيضة من ذهب فقال يا رسول الله تصدق بهذه فإنى ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءه من الشق الآخر فأعرض عنه إلى أن أعاد القول فأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورماه بها فلو أصابته لعقرته ثم قال يأتينى أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى وإن رجلا دخل المسجد والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب والرجل بحال بذاذة فحث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصدقة فطرح قوم ثيابا ودراهم فأعطاه ثوبين ثم حثهم على الصدقة فطرح الرجل أحد ثوبيه فأنكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس ثم الصدقة بالفضل قبل له إنما كره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ألا ترى أنه قال يأتينى أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه

٣٢٤

الصفة بل كانوا كما قال الله تعالى (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك والإمساك ممن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار وقد روى محارب بن دثار عن ابن عمر قال أهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأس شاة فقال إن فلانا وعياله أحوج إلى هذا منابه فبعث إليه فلم يزل يبعث به واحدا إلى آخر حتى تداولها تسعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) الآية وروى الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال جاء رجل إلى عبد الله فقال يا أبا عبد الرحمن قد خفت أن تصيبني هذه الآية (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) فو الله ما أقدر على أن أعطى شيئا أطيق منعه فقال عبد الله هذا البخل وبئس الشيء البخل ولكن الشح أن تأخذ مال أخيك بغير حق وروى عن سعيد بن جبير في قوله تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) قال إدخال الحرام ومنع الزكاة آخر سورة الحشر.

سورة الممتحنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) روى أنها نزلت في حاطب بن أبى بلتعة حين كتب إلى كفار قريش يتنصح لهم فيه فأطلع الله نبيه على ذلك فدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أنت كتبت هذا الكتاب قال نعم قال وما حملك على ذلك قال أما والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكني كنت امرأ غريبا في قريش وكان لي بمكة مال وبنون فأردت أن أدفع بذلك عنهم فقال عمر ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهلا يا ابن الخطاب أنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإنى غافر لكم حدثنا بذلك عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) عن عروة بن الزبير بمعنى ما قدمنا قال أبو بكر ظاهر ما فعله حاطب لا يوجب الردة وذلك لأنه ظن أن ذلك جائز له ليدفع به عن ولده وماله كما يدفع عن نفسه بمثله عند التقية ويستبيح إظهار كلمة الكفر ومثل هذا الظن إذا صدر عنه الكتاب الذي كتبه فإنه لا يوجب الإكفار ولو كان ذلك يوجب الإكفار لاستنابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما لم يستتبه وصدقه على ما قال علم أنه ما كان مرتد

٣٢٥

وإنما قال عمر ائذن لي فأضرب عنقه لأنه ظن أنه فعله عن غير تأويل فإن قيل قد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إنما منع عمر من قتله لأنه شهد بدرا وقال ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فجعل العلة المانعة من قتله كونه من أهل بدر وقيل له ليس كما ظننت لأن كونه من أهل بدر لا يمنع أن يكون كافرا مستحقا للنار إذا كفر وإنما معناه ما يدريك لعل الله قد علم أن أهل بدر وإن أذنبوا لا يموتون إلا على التوبة ومن علم الله منه وجود التوبة إذا أمهله فغير جائز أن يأمر بقتله أو يفعل ما يقتطعه به عن التوبة فيجوز أن يكون مراده أن أهل بدر وإن أذنبوا فإن مصيرهم إلى التوبة والإنابة وفي هذه الآية دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه لأن الله نهى المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله وكذلك قال أصحابنا إنه لو قال لرجل لأقتلن ولدك أو لتكفرن إنه لا يسعه إظهار الكفر ومن الناس من يقول فيمن له على رجل مال فقال لا أقر لك حتى تحط عنى بعضه فحط عنه بعضه أنه لا يصح الحط عنه وجعل خوفه على ذهاب ماله بمنزلة الإكراه على الحط وهو فيما أظن مذهب ابن أبى ليلى وما ذكرناه يدل على صحة قولنا ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح التقية أن الله فرض الهجرة على المؤمنين ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم فقال (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) الآية وقال (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) وقوله تعالى (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) الآية وقوله (وَالَّذِينَ مَعَهُ) قيل فيه الأنبياء وقيل الذين آمنوا معه فأمر الله الناس بالتأسى بهم في إظهار معاداة الكفار وقطع الموالاة بيننا وبينهم بقوله (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) فهذا حكم قد تعبد المؤمنون به وقوله (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) يعنى في أن لا يتأسوا به في الدعاء للأب الكافر وإنما فعل إبراهيم ذلك لأنه أظهر له الإيمان ووعده إظهاره فأخبر الله تعالى أنه منافق فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه فأمر الله تعالى بالتأسى بإبراهيم في كل أموره إلا في الاستغفار للأب الكافر وقوله تعالى (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال قتادة يعنى بإظهارهم علينا فيروا أنهم على حق

٣٢٦

وقال ابن عباس لا تسلطهم علينا فيفتنوننا.

باب صلة الرحم المشرك

قال الله تعالى (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن أسماء سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أم لها مشركة جاءتني أأصلها قال نعم صليها قال أبو بكر وقوله (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) عموم في جواز دفع الصدقات إلى أهل الذمة إذ ليس هم من أهل قتالنا فيه النهى عن الصدقة على أهل الحرب لقوله (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) وقد روى فيه غير ذلك حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) قال نسخها قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) الآية روى الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كان مما شرط سهيل بن عمرو على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلح الحديبية لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته علينا فرد أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجعها فأنزل الله فيهن (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) الآية قال عروة فأخبرتنى عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) قالت فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بايعتك كلاما يكلمها به والله ما مست يده يد امرأة من أهل المبايعة وروى عكرمة بن عمار عن أبى زميل عن عمر بن الخطاب قال لقد صالح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة يوم الحديبية وجعل لهم أن من لحق بالكفار من المسلمين لم يردوه ومن لحق بالمسلمين من الكفار يردونه وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كان في الصلح يوم الحديبية أن من أسلم من أهل مكة فهو رد إليهم ونزلت سورة الممتحنة بعد الصلح فكان من أسلم من نسائهم تسأل ما أخرجك فإن كانت خرجت هربا من زوجها ورغبة عنه ردت وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت وردت على زوجها ما أنفق قال أبو بكر لا يخلو

٣٢٧

الصلح من أن يكون كان خاصا في الرجال دون النساء على الوجه الذي ذكر من رد من جاء منهم مسلما إليهم أو أن يكون وقع بديا عاما ثم نسخ عن النساء وهذا أظهر الوجهين وذلك جائز عندنا وإن لم يرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكن من الفعل وإن لم يقع الفعل وقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين والمراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هاجرن إليه لأنه هو الذي يتولى امتحانهن دون المؤمنين وقد أريد به سائر المؤمنين عند غيبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حضرتهم وقوله تعالى (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) المراد به العلم الظاهر لا حقيقة اليقين لأن ذلك لا سبيل لنا إليه وهو مثل قول أخوة يوسف (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) يعنون يعنون العلم الظاهر لأنه لم يكن سرق في الحقيقة ألا ترى إلى قوله (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) وإنما حكموا عليه بالسرقة من جهة الظاهر لما وجدوا الصواع في رحله وهو مثل شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة قد تعبدنا الله بالحكم بها من طريق الظاهر وحمل شهادتهما على الصحة وكذلك قبول أخبار الآحاد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الطريق وقد ألزمنا الله بهذه الآية قبول قول من أظهر لنا الإيمان والحكم بصحة ما أخبر به عن نفسه فيما بيننا وبينه وهذا أصل في تصديق كل من أخبر عما لا يطلع عليه غيره من حاله مثل المرأة إذا أخبرت عن حيضها وطهرها وحبلها ومثل الرجل يقول لامرأته أنت طالق إذا حضت أو قال إذا طهرت فيكون قولها مقبولا فيه وقال عطاء ابن أبى رباح وتلا هذه الآية (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) فقال عطاء ما علمنا إيمانهم إلا بما ظهر من قولهن وقال قتادة امتحانهن ما خرجن إلا للدين والرغبة في الإسلام وحب الله تعالى ورسوله.

باب وقوع الفرقة باختلاف الدارين

قال الله تعالى (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) الآية قال أبو بكر في هذه الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين واختلاف الدارين أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب والآخر من أهل دار الإسلام وذلك لأن المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب فقد اختلفت بهما الداران وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)

٣٢٨

ولو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد ويدل عليه أيضا قوله (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) وقوله (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) يدل عليه أيضا لأنه أمر برد مهرها على الزوج ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله ويدل عليه قوله (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ولو كان النكاح الأول باقيا لما جاز لها أن تتزوج ويدل عليه قوله (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) والعصمة المنع فنهانا أن نمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي واختلف أهل العلم في الحربية تخرج إلينا مسلمة فقال أبو حنيفة في الحربية تخرج إلينا مسلمة ولها زوج كافر في دار الحرب قد وقعت الفرقة فيما بينهم ولا عدة عليها وقال أبو يوسف ومحمد عليها العدة وإن أسلم الزوج لم تحل له إلا بنكاح مستقبل وهو قول الثوري وقال مالك والأوزاعى والليث والشافعى إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فقد وقعت الفرقة ولا فرق عند الشافعى بين دار الحرب وبين دار الإسلام لا حكم للدار عنده قال أبو بكر روى قتادة عن سعيد بن المسيب عن على قال إذا أسلمت اليهودية والنصرانية قبل زوجها فهو أحق بها ماداموا في دار الهجرة وروى الشيباني عن السفاح بن مطر عن داود بن كردوس قال كان رجل من بنى تغلب نصراني عنده امرأة من بنى تميم نصرانية فأسلمت المرأة وأبى الزوج أن يسلم ففرق عمر بينهما وروى ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد في النصراني تسلم امرأته قالوا إن أسلم معها فهي امرأته وإن لم يسلم فرق بينهما وروى قتادة عن مجاهد قال إذا أسلم وهي في عدتها فهي امرأته وإن لم يسلم فرق بينهما وروى حجاج عن عطاء مثله وعن الحسن وابن المسيب مثله وقال إبراهيم إن أبى أن يسلم فرق بينهما وروى عباد بن العوام عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها فهي أملك لنفسها قال أبو بكر حصل اختلاف السلف في ذلك على ثلاثة أنحاء فقال على رضى الله عنه هو أحق بها ماداموا في دار الهجرة وهذا معناه عندنا إذا كانا في دار واحدة ومتى اختلفت بهما الدار فصار أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام بانت وقال عمر رضى الله عنه إذا أسلمت وأبى الزوج الإسلام فرق بينهما وهذا أيضا على أنهما في دار الإسلام وقال آخرون ممن ذكرنا قوله هي امرأته مادامت في العدة فإذا انقضت العدة وقعت الفرقة وقال ابن عباس تقع الفرقة بإسلامها واتفق فقهاء الأمصار على أنها لا تبين

٣٢٩

منه بإسلامها إذا كانا في دار واحدة واختلفوا في وقت وقوع الفرقة إذا أسلمت ولم يسلم الزوج فقال أصحابنا إن كانا ذميين لم تقع الفرقة حتى يعرض الإسلام عليه فإن أسلم وإلا فرق بينهما وهو معنى ما روى عن على وعمر وقالوا إن كانا حربيين في دار الحرب فأسلمت فهي امرأته ما لم تحض ثلاث حيض فإذا حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم فرق بينهما ويجوز أن يكون من روى عنه من السلف اعتبار الحيض إنما أرادوا به الحربيين في دار الحرب وقال أصحابنا إذا أسلم أحد الحربيين وخرج إلينا أيهما كان وبقي الآخر في دار الحرب فقد وقعت الفرقة باختلاف الدارين وقد ذكرنا وجوه دلائل الآية على صحة هذا القول ومن الدليل على ذلك قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال أبو سعيد الخدري نزلت في سبايا أو طاس كان لهن أزواج في الشرك وأباحهن لهم بالسبي وروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال كل ذات زوج فإتيانها زنا إلا ما سبيت وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السبايا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة واتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها فلا يخلو وقوع الفرقة من أن يتعلق بإسلامها أو باختلاف الدارين على الحد الذي بينا أو بحدوث الملك عليها وقد اتفق الجميع على أن إسلامها لا يوجب الفرقة في الحال وثبت أيضا أن حدوث الملك لا يرفع النكاح بدلالة أن الأمة التي لها زوج إذا بيعت لم تقع الفرقة وكذلك إذا مات رجل عن أمة لها زوج لم يكن انتقال الملك إلى الوارث رافعا للنكاح فلم يبق وجه لإيقاع الفرقة إلا اختلاف الدارين فإن قيل اختلاف الدارين لا يوجب الفرقة لأن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان لم يبطل نكاح امرأته وكذلك لو دخل حربى إلينا بأمان لم تقع الفرقة بينه وبين زوجته وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ثم خرج أحدهما إلى دار الإسلام لم تقع الفرقة فعلمنا أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيجاب الفرقة قيل له ليس معنى اختلاف الدارين ما ذهبت إليه وإنما معناه أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام إما بالإسلام أو بالذمة والآخر من أهل دار الحرب فيكون حربيا كافرا فأما إذا كانا مسلمين فهما من أهل دار واحدة وإن كان أحدهما مقيما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام فإن احتج المخالف لنا بما روى يونس عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس

٣٣٠

قال رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنته زينب على أبى العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد ست سنين وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها بمكة مشركا ثم ردها عليه بالنكاح الأول وهذا يدل على أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيقاع الفرقة فيقال لا يصح الاحتجاج به للمخالف من وجوه أحدها أنه قال ردها بعد ست سنين بالنكاح الأول لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا ترد إليه بالعقد الأول بعد انقضاء ثلاث حيض ومعلوم أنه ليس في العادة أنها لا تحيض ثلاث في ست سنين فسقط احتجاج المخالف به من هذا الوجه ووجه آخر وهو ما روى خالد عن عكرمة عن ابن عباس في اليهودية تسلم قبل زوجها أنها أملك لنفسها فكان من مذهبه أن الفرقة قد وقعت بإسلامها وغير جائز أن يخالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما قد رواه عنه والوجه الثالث أن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردا بنته زينب على بن العاص بنكاح ثان فهذا يعارض حديث داود بن الحصين وهو مع ذلك أولى لأن حديث ابن عباس إن صح فإنما هو إخبار عن كونها زوجة له بعد ما أسلم ولم يعلم حدوث عقد ثان وفي حديث عمرو بن شعيب الإخبار عن حدوث عقد ثان بعد إسلامه فهو أولى لأن الأول إخبار عن ظاهر الحال والثاني إخبار عن معنى حادث قد علمه وهذا مثل ما نقوله في رواية ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج ميمونة وهو محرم وحديث يزيد بن الأصم أنه تزوجها وهو حلال فقلنا حديث ابن عباس أولى لأنه أخبر عن حال حادثة وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول وحديث زوج بريرة أنه كان حرا حين اعتقت ورواية من روى أنه كان عبدا فكان الأول أولى لإخباره عن حال حادثة علمها وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول ولم يعلم حدوث حال أخرى.

(فصل) وإنما قال أبو حنيفة في المهاجرة إنه لا عدة عليها من الزوج الحربي لقوله تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فأباح نكاحها من غير ذكر عدة وقال في نسق التلاوة (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) والعصمة المنع فحظر الامتناع من نكاحها لأجل زوجها الحربي والكوافر يجوز أن يتناول الرجال وظاهره في هذا الموضع الرجال لأنه في ذكر المهاجرات وأيضا أباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطء المسبية بعد الاستبراء ليس بعدة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عدة الأمة حيضتان والمعنى فيها وقوع الفرقة باختلاف الدارين وقوله تعالى (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) قال معمر عن الزهري يعنى رد الصداق واسئلوا أهل

٣٣١

الحرب مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم وليسئلوهم أيضا مهر من صارت إلينا مسلمة منهم وقال الزهري فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله وأما المشركون فأبوا أن يقروا فأنزل الله (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) فأمر المسلمون أن يردوا الصداق إذا ذهبت امرأة من المسلمين ولها زوج مسلم أن يرد إليه المسلمون صداق امرأته إن كان في أيديهم مما يردون وأن يردوا إلى المشركين وروى خصيف عن مجاهد في قوله تعالى (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) من الغنيمة أن يعوض منها وروى زكريا ابن أبى زائدة عن الشعبي قال كانت زينب امرأة عبد الله بن مسعود ممن ذكر الله في القرآن (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) خرجت إلى المؤمنين وروى الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) قال ليس بينكم وبينهم عهد (فَعاقَبْتُمْ) وأصبتم غنيمة (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) قالوا عوضوا زوجها مثل الذي ذهب منه وروى سعيد عن قتادة مثله وزاد يعطى من جميع الغنيمة ثم يقسمون غنيمتهم وقال ابن إسحاق عن الزهري قال إن فات أحدكم أهله إلى الكفار ولم يأت من الكفار من تأخذون منه مثل ما أخذ منكم فعوضوهم من فيء إن أصبتموه وجائز أن تكون هذه الرواية عن الزهري غير مخالفة لما قدمنا من أنهم يعوضون من صداق إن وجب عليهم رده إلى الكفار وإنه إنما يجب رده من صداق وجب للكفار إذا كان هناك صداق قد وجب رده عليهم وإذا لم يكن صداق رد عليهم من الغنيمة وهذه الأحكام في رد المهر وأخذه من الكفار تعويض الزوج من الغنيمة أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب منسوخ عند جماعة أهل العلم غير ثابت الحكم إلا شيئا روى عن عطاء فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت لو أن امرأة من أهل الشرك جاءت المسلمين فأسلمت أيعوض زوجها منها شيئا لقوله تعالى في الممتحنة (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) قال إنما كان ذلك بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أهل عهد قلت فجاءت امرأة الآن من أهل عهد قال نعم يعاض فهذا مذهب عطاء في ذلك وهو خلاف الإجماع فإن قيل ليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخ هذه الأحكام فمن أين وجب نسخها قيل له يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) وبقول

٣٣٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله تعالى (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) قال ابن عباس لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وقيل إنه قد دخل فيه قذف أهل الإحصان والكذب على الناس وقذفهم بالباطل وما ليس فيهم وسائر ضروب الكذب وظاهر الآية يقتضى جميع ذلك وقوله تعالى (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) روى معمر عن ثابت عن أنس قال أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله إن نساء أسعدننا في الجاهلية فنساعدهن في الإسلام فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إسعاد في الإسلام ولا شغار في الإسلام ولا جلب في الإسلام ولا جنب في الإسلام ومن انتهب فليس منا وروى عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال النوح وروى هشام عن حفصة عن أم عطية قالت أخذ علينا في البيعة أن لا ننوح وهو قوله تعالى (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وروى عطاء عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال نهيت عن صوتين أحمقين صوت لعب ولهو ومزامير شيطان عند نغمة وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان قال أبو بكر هو عموم في جميع طاعة الله لأنها كلها معروف وترك النوح أحد ما أريد بالآية وقد علم الله أن نبيه لا يأمر إلا بمعروف إلا أنه شرط في النهى عن عصيانه إذا أمرهن بالمعروف لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين إذا لم تكن طاعة الله تعالى إذ كان الله تعالى قد شرط في طاعة أفضل البشر فعل المعروف وهو في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أطاع مخلوقا في معصية الخالق سلط الله عليه ذلك المخلوق وفي لفظ آخر عاد حامده من الناس ذاما وإنما خص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمخاطبة في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) لأن بيعة من أسلم كان مخصوصا بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعم المؤمنين بذكر الممتحنة في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) لأنه لم يكن يختص بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيره ألا ترى إنا نمتحن المهاجرة الآن والله أعلم بالصواب آخر سورة الممتحنة.

سورة الصف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ

٣٣٣

تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قال أبو بكر يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة وأوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلا ما لا يفعل وقد ذم الله فاعل ذلك وهذا فيما لم يكن معصية فأما المعصية فإن إيجابها في القول لا يلزمه الوفاء بها وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين وإنما يلزم ذلك فيما عقده على نفسه مما يتقرب به إلى الله عز وجل مثل النذور وفي حقوق الآدميين العقود التي يتعاقدونها وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان فأما قول القائل إنى سأفعل كذا فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله تعالى وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به ولا جائز له أن يعدوا في ضميره أن لا يفي به لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه لأنه لا يدرى هل يقع منه الوفاء به أم لا فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف الوعد فيه وهو يدل على أن من قال إن فعلت كذا فأنا أحج أو أهدى أو أصوم فإن ذلك بمنزلة الإيجاب بالنذر لأن ترك فعله يؤديه إلى أن يكون قائلا ما لم يفعل وروى عن ابن عباس ومجاهد أنها نزلت في قوم قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه وقال قتادة نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا وقال الحسن نزلت في المنافقين وسماهم بالإيمان لإظهارهم له وقوله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) من دلائل النبوة لأنه أخبر بذلك والمسلمون في ضعف وقلة وحال خوف مستذلون مقهورون فكان مخبره على ما أخبر به لأن الأديان التي كانت في ذلك الزمان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة وعباد الأصنام من السند وغيرهم فلم تبق من أهل هذه الأديان أمة إلا وقد ظهر عليهم المسلمون فقهروهم وغلبوهم على جميع بلادهم أو بعضها وشردوهم إلى أقاصى بلادهم فهذا هو مصداق هذه الآية التي وعد الله تعالى رسوله فيها إظهاره على جميع الأديان وقد علمنا أن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ولا يوحى به إلا إلى رسله فهذه دلالة واضحة على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قيل كيف يكون ذلك إظهارا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع الأديان وإنما حدث بعد موته قيل له إنما وعد الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يظهر دينه على سائر الأديان لأنه قال (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) يعنى دين

٣٣٤

الحق وعلى أنه لو أراد رسوله لكان مستقيما لأنه إذا أظهر دينه ومن آمن به على سائر الأديان فجائز أن يقال قد أظهر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن جيشا لو فتحوا بلدا عنوة جاز أن يقال إن الخليفة فتحه وإن لم يشهد القتال إذ كان بأمره وتجهيزه للجيش فعلوا وقوله تعالى (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ـ إلى قوله ـ (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) وهذا أيضا من دلائل النبوة لوعده من أمر بالنصر والفتح وقد وجد ذلك لمن آمن منهم والله الموفق آخر سورة الصف.

سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) قيل إنما سموا أميين لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون الكتابة وأراد الأكثر الأعم وإن كان فيهم القليل ممن يكتب ويقرأ وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشهر هكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب وقال تعالى (رَسُولاً مِنْهُمْ) لأنه كان أميا وقال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) وقيل إنما سمى من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم دون الحال التي يجرى عليها المولود وأما وجه الحكمة في جعل النبوة في أمى إنه ليوافق ما تقدمت به البشارة في كتب الأنبياء السالفة ولأنه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة فهذان وجهان من الدلالة في كونه أميا على صحة النبوة ومع أن حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم وذلك إلى مساواته لو كان ذلك ممكنا فيه فدل عجزهم عما أتى به على مساواته لهم في هذا الوجه على أنه من قبل الله عز وجل وقوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) الآية وروى أنه أراد اليهود الذين أمروا بتعلم التوراة والعمل بها فتعلموها ثم لم يعملوا بها فشبههم الله بالحمار الذي يحمل الكتب وهي الأسفار إذ لم ينتفعوا بما حملوه كما لا ينتفع الحمار بالكتب التي حملها وهو نحو قوله (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) وقوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها ـ إلى قوله ـ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) وقوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) روى أن اليهود زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس فأنزل الله هذه الآية

٣٣٥

وأخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم إن تمنوه ماتوا فقامت الحجة عليهم بها من وجهين أحدهما أنهم لو كانوا صادقين فيما ادعوه من المنزلة عند الله لتمنوا الموت لأن دخول الجنة مع الموت خير من البقاء في الدنيا والثاني إنه أخبر أنهم لا يتمنونه فوجد مخبره على ما أخبر به فهذا واضح من دلائل النبوة وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) الآية قال أبو بكر يفعل في يوم الجمعة جماعة صلوات كما يفعل في سائر الأفعال ولم يبين في الآية أنها هي واتفق المسلمون على أن المراد الصلاة التي إذا فعلها مع الإمام جمعة لم يلزمه فعل الظهر معها وهي ركعتان بعد الزوال على شرائط الجمعة واتفق الجميع أيضا على أن المراد بهذا النداء هو الأذان ولم يبين في الآية كيفيته وبينه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عبد الله بن زائد الذي رأى في المنام الأذان ورآه عمر أيضا كما رآه ابن زيد وعلمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا محذورة وذكر فيه الترجيع وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وروى عن ابن عمر والحسن في قوله (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قال إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة وروى الزهري عن السائب بن زيد قال ما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مؤذن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر ثم يقيم إذا نزل ثم أبو بكر كذلك ثم عمر كذلك فلما كان عثمان وفشا الناس وكثروا زاد النداء الثالث وقد روى عن جماعة من السلف إنكار الأذان الأول قبل خروج الإمام روى وكيع قال حدثنا هشام بن الغار قال سألت نافعا عن الأذان الأول يوم الجمعة قال قال ابن عمر بدعة وكل بدعة ضلالة وإن رآه الناس حسنا وروى منصور عن الحسن قال النداء يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإمام والذي قبل محدث وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال إنما كان أذان يوم الجمعة فيما مضى واحدا ثم الإقامة وأما الأذان الأول الذي يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه على المنبر فهو باطل أول من أحدثه الحجاج وأما أصحابنا فإنهم إنما ذكروا أذانا واحدا إذا قعد الإمام على المنبر فإذا نزل أقام على ما كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر وعمر رضى الله عنهما وأما وقت الجمعة فإنه بعد الزوال وروى أنس وجابر وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى الجمعة إذا زالت الشمس وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال صلى بنا عبد الله بن مسعود وأصحابه الجمعة ضحى ثم قال إنما فعلت ذلك مخافة الحر عليكم

٣٣٦

وروى عن عمر وعلى أنهما رضى الله عنهما صلياها بعد الزوال ولما قال عبد الله إنى قدمت مخافة الحر عليكم علمنا أنه فعلها على غير الوجه المعتاد المتعارف بينهم ومعلوم أن فعل الفروض قبل أوقاتها لا يجوز لحر ولا لبرد إذا لم يوجد أسبابها ويحتمل أن يكون فعلها في أول وقت الظهر الذي هو أقرب أوقات الظهر إلى الضحى فسماه الراوي ضحى لقربه منه كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتسحر تعالى إلى الغداء المبارك فسماه غداء لقربه من الغداء وكماقال حذيفة تسحرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان نهارا والمعنى قريب من النهار ولما اختلف الفقهاء في الذي يلزم من الفرض بدخول الوقت فقال قائلون فرض الوقت الجمعة والظهر بدل منها وقال آخرون فرض الوقت الظهر والجمعة بدل منه استحال أن يفعل البدل إلا في وقت يصح فيه فعل المبدل عنه وهو الظهر ولما ثبت أن وقتها بعد الزوال ثبت أن وقت النداء لها بعد الزوال كسائر الصلوات وقوله تعالى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قرأ عمر وابن مسعود وأبى وابن الزبير فامضوا إلى ذكر الله قال عبد الله لو قرأت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي قال أبو بكر يجوز أن يكون أراد التفسير لا نص القراءة كما قال ابن مسعود للأعجمى الذي كان يلقنه (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) فكان يقول طعام اليتيم فلما أعياه قال له طعام الفاجر وإنما أراد إفهامه المعنى وقال الحسن ليس يريد به العدو وإنما السعى بقلبك ونينك وقال عطاء السعى الذهاب وقال عكرمة السعى العمل قال أبو عبيدة فاسعوا أجيبوا وليس من العدو قال أبو بكر الأولى أن يكون المراد بالسعي هاهنا إخلاص النية والعمل وقد ذكر الله السعى في مواضع من كتابه ولم يكن مراده سرعة المشي منها قوله (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وإنما أراد العمل وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ولم يفرق بين الجمعة وغيرها واتفق فقهاء الأمصار على أنه يمشى إلى الجمعة على هينته.

(فصل) واتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة بموضع لا يجوز فعلها في غيره لأنهم مجمعون على أن الجمعة لا تجوز في البوادي ومناهل الأعراب فقال أصحابنا هي مخصوصة بالأمصار ولا تصح في السواد وهو قول الثوري وعبيد الله بن الحسن

«٢٢ ـ أحكام مس»

٣٣٧

وقال مالك تصح الجمعة في كل قرية فيها بيوت متصلة وأسواق متصلة يقدمون رجلا يخطب ويصلى بهم الجمعة إن لم يكن لهم إمام وقال الأوزاعى لا جمعة إلا في مسجد جماعة مع الإمام وقال الشافعى إذا كانت قرية مجتمعة البناء والمنازل وكان أهلها لا يظعنون عنها إلا ظعن حاجة وهم أربعون رجلا حرا بالغا غير مغلوب على عقله وجبت عليهم الجمعة قال أبو بكر روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع وروى عن على مثله وأيضا لو كانت الجمعة جائزة في القرى لورد النقل به متواترا كوروده في فعلها في الأمصار لعموم الحاجة إليه وأيضا لما اتفقوا على امتناع جوازها في البوادي لأنها ليست بمصر وجب مثله في السواد وروى أنه قيل للحسن إن الحجاج أقام الجمعة بالأهواز فقال لعن الله الحجاج يترك الجمعة في الأمصار ويقيمها في حلاقيم البلاد فإن قيل روى عن ابن عمر أن الجمعة تجب على من أواه الليل وإن أنس بن مالك كان بألطف فربما جمع وربما لم يجمع وقيل من الطف إلى البصرة أقل من أربع فراسخ وأقل من مسيرة نصف يوم قيل له إنما هذا كلام فيما حكمه حكم المصر فرأى ابن عمر أن ما قرب من المصر فحكمه حكمه وتجب على أهله الجمعة وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يرون الجمعة إلا في الأمصار أو ما حكمه حكم الأمصار والجمعة ركعتان نقلتها الأمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا وعملا وقال عمر صلاة السفر ركعتان وصلاة الفجر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة.

باب وجوب خطبة الجمعة

قال الله تعالى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) فاقتضى ذلك وجوب السعى إلى الذكر ودل على أن هناك ذكرا واجبا يجب السعى إليه وقال ابن المسيب فاسعوا إلى ذكر الله موعظة الإمام وقال عمر في الحديث الذي قدمنا إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة فالمهجر إلى الجمعة كالذي يهدى بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة ويدل على أن المراد بالذكر هاهنا هو الخطبة أن الخطبة هي التي

٣٣٨

تلى النداء وقد أمر بالسعي إليه فدل على أن المراد الخطبة وقد روى عن جماعة من السلف أنه إذا لم يخطب صلى أربعا منهم الحسن وابن سيرين وطاوس وابن جبير وغيرهم وهو قول فقهاء الأمصار واختلف أهل العلم فيمن لم يدرك الخطبة وأدرك الصلاة أو بعضها فروى عن عطاء بن أبى رباح في الرجل تفوته الخطبة يوم الجمعة إنه يصلى الظهر أربعا وروى سفيان عن ابن أبى نجيح عن مجاهد وعطاء وطاوس قالوا من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا وقال ابن عون ذكر لمحمد بن سيرين قول أهل مكة إذا لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا قال ليس هذا بشيء قال أبو بكر ولا خلاف بين فقهاء الأمصار والسلف ما خلا عطاء ومن ذكرنا قوله إن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ولم يخالفهم عطاء وغيره أنه لو شهد الخطبة فذهب يتوضأ ثم جاء فأدرك مع الإمام ركعة أنه يصلى ركعتين فلما لم يمنعه فوات الركعة من فعل الجمعة كانت الخطبة أولى وأحرى بذلك وروى الأوزاعى عن عطاء أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها ثلاثا وهذا يدل على أنه فاتته الخطبة وركعة منها وروى عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والحسن وابن المسيب والنخعي والشعبي إذا أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى وروى الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى ومن فاتته الركعتان يصلى أربعا واختلف السلف وفقهاء الأمصار فيمن أدرك الإمام في التشهد فروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة وروى ابن جريج عن عبد الكريم عن معاذ بن جبل قال إذا دخل في صلاة الجمعة قبل التسليم وهو جالس فقد أدرك الجمعة وروى عن الحسن وإبراهيم والشعبي قالوا من لم يدرك الركوع يوم الجمعة صلى أربعا وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا أدركهم في التشهد صلى ركعتين وقال زفر ومحمد يصلى أربعا وذكر الطحاوي عن ابن أبى عمران عن محمد بن سماعة عن محمد أنه قال يصلى أربعا يقعد في الثنتين الأوليين قدر التشهد فإن لم يقعد قدر التشهد أمرته أن يصلى الظهر أربعا وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والشافعى يصلى أربعا إلا أن مالكا قال إذا قام يكبر تكبيرة أخرى وقال الثوري إذا أدرك الإمام جالسا لم يسلم صلى أربعا ينوى الظهر وأحب إلى أن يستفتح الصلاة وقال عبد العزيز بن أبى سلمة إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد قعد بغير تكبير فإذا سلم الإمام قام فكبر ودخل في الصلاة نفسه

٣٣٩

وإن قعد مع الإمام بتكبير سلم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبر للظهر وقال الليث إذا أدرك ركعة مع الإمام يوم الجمعة وعنده أن الإمام قد خطب فإنما يصل إليها ركعة أخرى ثم يسلم فإن أخبره الناس أن الإمام لم يخطب وأنه صلى أربعا صلى ركعتين وسجد سجدتي السهو قال أبو بكر لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا وجب على مدرك الإمام في تشهد الجمعة اتباعه فيه والقعود معه ولما كان مدركا لهذا الجزء من الصلاة وجب عليه قضاء الفائت منها بظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فاتكم فاقضوا والفائت منها هي الجمعة فوجب أن يقضى ركعتين وأيضا لما كان مدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام إذا كان مسافرا وكان بمنزلة مدركه في التحريمة وجب مثله في الجمعة إذ الدخول في كل واحدة من الصلاتين بغير الفرض فإن قيل روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى وفي بعض الأخبار وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا قيل له أصل الحديث من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فقال الزهري وهو راوي الحديث ما أرى الجمعة إلا من الصلاة فذكر الجمعة إنما هو من كلام الزهري والحديث إنما يدور على الزهري مرة يرويه عن سعيد بن المسيب ومرة عن أبى سلمة عن أبى هريرة وقد قال حين روى الحديث في صلاة مطلقة أرى الجمعة من الصلاة فلو كان عنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص في الجمعة لما قال ما أرى الجمعة إلا من الصلاة وعلى أن قوله من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك لا دلالة فيه أنه إذا لم يدرك ركعة صلى أربعا كذلك قوله من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى وأما ما روى وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا فإنه لم يثبت أنه من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجائز أن يكون من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث ولو صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معناه وإن أدركهم جلوسا وقد سلم الإمام ولم يختلف الفقهاء أن وجوب الجمعة مخصوص بالأحرار البالغين المقيمين دون النساء والعبيد والمسافرين والعاجزين وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أربعة لا جمعة عليهم العبد والمرأة والمريض والمسافر وأما الأعمى فإن أبا حنيفة قال لا جمعة عليه وجعله بمنزلة المقيمين دون النساء والعبيد والمسافرين والعاجزين وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أربعة لا جمعة عليهم العبد والمرأة والمريض والمسافر وأما الأعمى فإن أبا حنيفة قال لا جمعة عليه وجعله بمنزلة المقعد لأنه لا يقدر على الحضور بنفسه إلا بغيره وقال أبو يوسف ومحمد عليه الجمعة وفرقا بينه وبين المقعد لأن الأعمى بمنزلة من لا يهتدى الطريق فإذا هدى سعى بنفسه والمقعد لا يمكنه السعى بنفسه ويحتاج إلى من يحمله وفرق أبو حنيفة بين الأعمى وبين من لا يعرف الطريق لأن الذي لا يعرف وهو بصير إذا أرشد اهتدى بنفسه والأعمى لا يهتدى بنفسه ولا يعرفه

٣٤٠