أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

ألا ترى إلى قوله (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) وقوله (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) فهذه الوجوه كلها تقتضي تفضيلها وقوله تعالى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الآية يدل على أن كثرة المعاصي ومساكنتها وألفها تقسى القلب وتبعد من التوبة وهو نحو قوله (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) وقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) روى البراء بن عازب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كل مؤمن شهيد لهذه الآية وجعل قوله (وَالشُّهَداءُ) صفة لمن تقدم ذكره من المؤمنين وهو قول عبد الله ومجاهد وقال ابن عباس ومسروق وأبو الضحى والضحاك هو ابتداء كلام وخبره (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وقوله تعالى (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الآية قال أبو بكر أخبر عما ابتدعوه من القرب والرهبانية ثم ذمهم على ترك رعايتها بقوله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) والابتداع قد يكون بالقول وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه وقد يكون بالفعل بالدخول فيه وعمومه يتضمن الأمرين فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها وإتمامها فوجب على ذلك أن من دخل في صلاة أو صوم أو حج أو غيرها من القرب فعليه إتمامها إلا وهي واجبة عليه فيجب عليه القضاء إذا أفسدها وروى عن أبى أمامة الباهلي قال كان ناس من بنى إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعابهم الله بتركها فقال (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الآية آخر سورة الحديد.

سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله عز وجل (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ـ إلى قوله ـ وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) روى سفيان عن خالد عن أبى قلابة قال كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاء والظهار فلما جاء الإسلام جعل الله في الظهار ما جعل فيه وجعل في الإيلاء ما جعل فيه وقال عكرمة كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) الآية وأما المجادلة التي كانت في المرأة فإن عبد الله بن محمد حدثنا قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أبى إسحاق في قوله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) في امرأة تقال لها خويلة وقال عكرمة بنت ثعلبة زوجها أوس بن

٣٠١

الصامت قالت إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه وهو يومئذ يغسل رأسه فقالت انظر جعلني الله فداك يا نبي الله قال ما أراك إلا قد حرمت عليه فأعادت ذلك مرارا فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ـ إلى قوله ـ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال قتادة حرمها ثم يريد أن يعود لها فيطأها فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا قال أبو بكر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه يحتمل أن يريد به تحريم الطلاق على ما كان عليه حكم الظهار ويحتمل أن يريد به تحريم الظهار والأولى أن يكون المراد بجميع الطلاق لأن حكم الظهار مأخوذ من الآية والآية نزلت بعد هذا القول فثبت أن مراده تحريم الطلاق ورفع النكاح وهذا يوجب أن يكون هذا الحكم قد كان ثابتا في الشريعة قبل نزول آية الظهار وإن كان قبل ذلك من حكم أهل الجاهلية فإن قيل إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حكم فيها بالطلاق بقوله ما أراك إلا قد حرمت فكيف حكم فيها بعينها بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه وإنما النسخ يوجب الحكم في المستقبل بخلاف الأول في الماضي قيل له لم يحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطلاق وإنما علق القول فيه فقال ما أراك إلا قد حرمت فلم يقطع بالتحريم وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه قبل ذلك أنه سينسخ هذا الحكم وينقله من الطلاق إلى تحريم الظهار الآن فجوز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل الله الآية فلم يثبت الحكم فيه فلما نزلت الآية حكم فيها بموجبها وقوله تعالى (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) يعنى والله أعلم في تشبيهها بظهر الأم لأن الاستمتاع بالأم محرم تحريما مؤبدا وهي لا تحرم عليه بهذا القول تحريما مؤبدا فكان ذلك منكرا من القول وزورا وقوله تعالى (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) وذلك خطاب للمؤمنين يدل على أن الظهار مخصوص به المؤمنون دون أهل الذمة فإن قيل فقد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) ولم يخصص المذكورين في الثانية قيل له المذكورون في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى فوجب أن يكون خاصا في المسلمين دون غيرهم وأما قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) فقد اختلف الناس فيه فروى معمر عن طاوس عن أبيه (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال الوطء فإذا حنث فعليه الكفارة وهذا تأويل مخالف للآية لأنه قال (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وقد روى سفيان عن ابن أبى نجيح عن طاوس قال إذا تكلم بالظهار لزمه وروى عن ابن عباس

٣٠٢

أنه إذا قال أنت على كظهر أمى لم تحل له حتى يكفر وروى عن ابن شهاب وقتادة إذا أراد جماعها لم يقربها حتى يكفر وقد اختلف فقهاء الأمصار في معنى العود فقال أصحابنا والليث ابن سعد الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة ومعنى العود عندهم استباحة وطئها فلا يفعله إلا بكفارة يقدمها وذكر بشر بن الوليد عن أبى يوسف لو وطئها ثم ماتت لم يكن عليه كفارة وقال الثوري إذا ظاهره بها لم تحل له إلا بعد الكفارة وإن طلقها ثم تزوجها لم يطأها حتى يكفر وهذا موافق لقول أصحابنا وقال ابن وهب عن مالك إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها فقد وجبت عليه الكفارة فإن طلقها بعد الظهار ولم يجمع على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة الظهار وذكر ابن القاسم عنه أنه إذا ظاهر منه ثم وطئها ثم ماتت فلا بد من الكفارة لأنه وطئ بعد الظهار وقال أشهب عن مالك إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها وطلب الكفارة فماتت امرأته فعليه الكفارة وقال الحسن إذا أجمع رأى المظاهر على أن يجامع امرأته فقد لزمته الكفارة وإن أراد تركها بعد ذلك لأن العود هو الإجماع على مجامعتها وقال عثمان البتى فيمن ظاهر من امرأته ثم طلقها قبل أن يطأها قال أرى عليه الكفارة راجعها أو لم يراجعها وإن ماتت لم يصل إلى ميراثها حتى يكفر وقال الشافعى إن أمكنه أن يطلقها بعد الظهار فلم يطلق فقد وجبت الكفارة ماتت أو عاشت وحكى عن بعض من لا يعد خلافا أن العود أن يعيد القول مرتين قال أبو بكر روت عائشة وأبو العالية أن آية الظهار نزلت في شأن خولة حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعتق رقبة فقال لا أجد فقال صم شهرين متتابعين قال لو لم آكل في اليوم ثلاث مرات كاد أن يغشى على بصرى فأمره بالإطعام وهذا يدل على بطلان قول من اعتبر العزم على إمساكها ووطئها لأنه لم يسئله عن ذلك وبطلان قول من اعتبر إرادة الجماع لأنه لم يسئله وبطلان قول من اعتبر الطلاق لأنه لم يقل هل طلقتها وبطلان قول من اعتبر إعادة القول لأنه لم يسئله هل أعدت القول مرتين فثبت قول أصحابنا وهو أن لفظ الظهار يوجب تحريما ترفعه الكفارة ومعنى قوله تعالى (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) يحتمل وجهين أحدهما ذكر الحال الذي خرج عليه الخطاب وهو أنه قد كان من عادتهم في الجاهلية الظهار فقال (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) قبل هذه الحال (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) والمعنى ويعودون

٣٠٣

بعد الإسلام إلى ذلك كما قال تعالى (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) ومعناه والله شهيد فيكون نفس القول عود إلى العادة التي كانت لهم في ذلك كما قال (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) والمعنى حتى صار كذلك وكما قال أمية بن أبى الصلت :

هذى المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

معناه صارا كذلك لأنهما في الثدي لم يكونا كذلك وكما قال لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

ويحور يرجع وإنما معناه هاهنا يصير رمادا كذلك (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) إنهم يصيرون إلى حال الظهار الذي كان يكون مثله منهم في الجاهلية والوجه الآخر أنه معلوم أن حكم الله في الظهار إيجاب تحريم الوطء موقتا بالكفارة فإذا كان الظهار مخصوصا بتحريم الوطء دون غيره ولا تأثير له في رفع النكاح وجب أن يكون العود هو العود إلى استباحة ما حرمه بالظهار فيكون معناه يعودون للمقول فيه كقوله عليه‌السلام العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه وإنما هو عائد في الموهوب وكقولنا اللهم أنت رجاؤنا أى من رجونا وقال تعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) يعنى الموقن به وقال الشاعر :

أخبر من لاقيت إن قد وفيتم

ولو شئت قال المنبئون أساؤا

وإنى لراجيكم على بطء سعيكم

كما في بطون الحاملات رجاء

يعنى مرجوا وكذلك قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) معناه لما حرموا فيستبيحونه فعليهم الكفارة قبل الاستباحة ويبطل قول من اعتبر البقاء على النكاح من وجهين أحدهما أن الظهار لا يوجب تحريم العقد والإمساك فيكون العود إمساكها على النكاح لأن العود لا محالة قد اقتضى عودا إلى حكم معنى قد تقدم إيجابه فلا يجوز أن يكون للإمساك على النكاح فيه تأثير والثاني إنه قال (ثُمَّ يَعُودُونَ) وثم يقتضى التراخي ومن جعل العود البقاء على النكاح فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخ وذلك خلاف مقتضى الآية وأما من جعل العود العزيمة على الوطء فلا معنى لقوله أيضا لأن موجب القول هو تحريم الوطء لا تحريم العزيمة والعزيمة على المحظور وإن كانت محظورة فإنما تعلق حكمها بالوطء فالعزيمة على الانفراد لا حكم لها وأيضا لا حظ للعزيمة في سائر الأصول ولا

٣٠٤

تتعلق بها الأحكام ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة فلا اعتبار بها وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله عفا لأمتى عما حدثت أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به فإن قيل هلا كان العود إعادة القول مرتين لأن اللفظ يصلح أن يكون عبارة عنه كما قال الله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) ومعناه لفعلوا مثل ما نهوا عنه قيل له هذا خطأ من وجهين أحدهما أن إجماع السلف والخلف جميعا قد انعقد بأن هذا ليس بمراد فقائله خارج عن نطاق الإجماع والثاني أنه يجعل قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) تكرارا للقول واللفظ ولا يجوز أن يكون عبارة عنه وإن حملته على أنه عائد لمثل القول ففيه إضمار لمثل ذلك القول وذلك لا يجوز إلا بدلالة فالقائل بذلك خارج عن الإجماع ومخالف لحكم الآية ومقتضاها فإن قيل وأنت إذا حملته على تحريم الوطء وأن تقديم الكفارة لاستباحة الوطء فقد زلت عن الظاهر قيل له إذا كان الظهار قد أوجب تحريم الوطء فالذي يستبيحه منه هو الذي حرمه بالقول فجاز أن يكون ذلك عودا لما قال إذ هو مستبيح لذلك الوطء الذي حرمه بعينه وكان عودا لما قال من إيجاب التحريم ومن جهة أخرى أن الوطء إذا كان مستحقا بعقد النكاح وحكم الوطء الثاني كالأول في أنه مستحق بسبب واحد ثم حرمه بالظهار جاز أن يكون الإقدام على استباحته عودا لما حرم فكان هذا المعنى مطابقا للفظ فإن قيل إن كانت الاستباحة هي الموجبة للكفارة فليس يخلو ذلك من أن يكون العزيمة على الاستباحة وعلى الإقدام على الوطء أو إيقاع الوطء فإن كان المراد الأول فهذا يلزمك إيجاب الكفارة بنفس العزيمة قبل الوطء كما قال مالك والحسن ابن صالح وإن كان المراد إيقاع الوطء فواجب أن لا تلزمه الكفارة إلا بعد الوطء وهذا خلاف الآية وليس هو قولك أيضا قيل له المعنى في ذلك هو ما قد بينا من الإقدام على استباحة الوطء فقيل له إذا أردت الوطء وعدت لاستباحة ما حرمته فلا تطأ حتى تكفر لا أن الكفارة واجبة ولكنها شرط في رفع التحريم كقوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) يعنى فقدم الاستعاذة قبل القراءة وقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) والمعنى إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فقدموا الغسل وكقوله (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) وكقوله (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)

«٢٠ ـ أحكام مس»

٣٠٥

والمعنى إذا أردتم ذلك قال أبو بكر قد ثبت بما قدمنا أن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء ولا يرتفع إلا بالكفارة فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط موقتا بأداء الكفارة وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه فإن وطئ سقط الظهار والكفارة وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط فإنه متى فات الوقت وعدم الشرط لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له استغفر الله ولا تعد حتى تكفر فصار التحريم الذي بعد الوطء واجبا بالسنة وقد اختلف السلف فيمن وطأ ما الذي يجب عليه من الكفارة بعده فقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وابن المسيب ليس عليه إلا كفارة واحدة وكذلك قول مجاهد وطاوس وابن سيرين في آخرين وقد روى عن عمرو بن العاص وقبيصة بن ذؤيب والزهري وقتادة عليه كفارتان قال وروى عن ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله ظاهرت من امرأتى فجامعتها قبل أن أكفر فقال استغفر الله ولا تعد حتى تكفر فلم يوجب عليه كفارتين بعد الوطء واختلف الفقهاء في توقيت الظهار فقال أصحابنا والثوري والشافعى إذا قال أنت على كظهر أمى اليوم بطل الظهار بمضى اليوم وقال ابن أبى ليلى ومالك والحسن بن صالح هو مظاهر أبدا قال أبو بكر تحريم الظهار لا يقع إلا موقتا بأداء الكفارة فإذا وقته المظاهر وجب توقيته لأنه لو كان مما لا يتوقت لما انحل ذلك التحريم بالتكفير كالطلاق فأشبه الظهار اليمين التي يحلها الحنث فوجب توقيته كما يتوقت اليمين وليس كالطلاق لأنه لا يحله شيء فإن قيل تحريم الطلاق الثلاث يقع مؤقتا بالزوج الثاني ولا يتوقت بتوقيت الزوج إذا قال أنت طالق اليوم قيل له إن الطلاق لا يتوقت بالزوج الثاني وإنما يستفيد الزوج الأول بالزوج الثاني إذا تزوجها بعد ثلاث تطليقات مستقبلات والثلاث الأول واقعة على ما كانت وإنما استفاد طلاقا غيرها فليس في الطلاق توقيت بحال والظهار موقت لا محالة بالتكفير فجاز توقيته بالشرط واختلفوا في الظهار هل يدخل

٣٠٦

عليه إيلاء فقال أصحابنا والحسن بن صالح والثوري في إحدى الروايتين والأوزاعى لا يدخل الإيلاء على المظاهر وإن طال تركه إياها وروى ابن وهب عن مالك لا يدخل على حر إيلاء في ظهار إلا أن يكون مضارا لا يريد أن يفيء من ظهاره وأما العبد فلا يدخل على ظهاره إيلاء وقال ابن القاسم عنه يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا ومما يعلم به ضراره أن يقدر على الكفارة فلا يكفر فإنه إذا علم ذلك وقف مثل المولى فإما كفر وإما طلقت عليه امرأته وروى عن الثوري أن الإيلاء يدخل على الظهار قال أبو بكر ليس الظهار كناية عن الطلاق ولا صريحا فلا يجوز إثبات الطلاق به إلا بتوقيف وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أدخل على أمرنا ما ليس منه فهو رد ومن أدخل الإيلاء على المظاهر فقد أدخل عليه ما ليس منه وأيضا نص الله على حكم المولى بالفيء أو عزيمة الطلاق ونص على حكم المظاهر بإيجاب كفارة قبل المسيس فحكم كل واحد منهما منصوص عليه فغير جائز حمل أحدهما على الآخر إذ من حكم المنصوصات أن لا يقاس بعضها على بعض وإن كل واحد منها مجرى على بابه ومحمول على معناه دون غيره وأيضا فإن معنى الإيلاء وقوع الحنث ووجوب الكفارة بالوطء في المدة ولا تتعلق كفارة الظهار بالوطء فليس هو إذا في معنى الإيلاء ولا في حكمه وأيضا فإن المولى سواء قصد الضرار أو لم يقصد لا يختلف حكمه وقد اتفقنا أنه متى لم يقصد الضرار بالظهار لم يلزمه حكم الإيلاء بمضى المدة فوجب أن لا يلزمه وإن قصد الضرار فإن قيل لم يعتبر ذلك في الإيلاء لأن نفس الإيلاء ينبئ عن قصد الضرار إذ هو حلف على الامتناع من الوطء في المدة قيل له الظهار قصد إلى الضرار من حيث حرم وطؤها إلا بكفارة يقدمها عليه فلا فرق بينهما فيما يقتضيانه من المضارة واختلف السلف ومن بعدهم فقهاء الأمصار في الظهار من الأمة فروى عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عباس قال من شاء باهلته أنه ليس من أمة ظهار وهذا قول إبراهيم والشعبي وابن المسيب وهو قول أصحابنا والشافعى وروى عن ابن جبير والنخعي وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار قالوا هو ظهار وهو قول مالك والثوري والأوزاعى والليث والحسن بن صالح وقالوا يكون مظاهرا من أمته كما هو من زوجته وقال الحسن إن كان يطأها فهو مظاهر وإن كان لا يطأها فليس بظهار قال أبو بكر قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) وهذا اللفظ ينصرف من الظهار إلى الحرائر دون الإماء والدليل

٣٠٧

عليه قوله تعالى (أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) فكان المفهوم من قوله (أَوْ نِسائِهِنَ) الحرائر لولا ذلك لما صح عطف قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) عليه لأن الشيء لا يعطف على نفسه وقال تعالى (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) فكان على الزوجات دون ملك اليمين فلما كان حكم الظهار مأخوذا من الآية وكان مقتضاها مقصورا على الزوجات دون ملك اليمين لم يجز إيجابه في ملك اليمين إذ لا مدخل للقياس في إثبات ظهار في غير ما ورد فيه ووجه آخر ما بينا فيما سلف أنهم قد كانوا يطلقون بلفظ الظهار فأبدل الله تعالى به تحريما ترفعه الكفارة فلما لم يصح طلاق الأمة لم يصح الظهار منها ووجه آخر وهو أن الظهار يوجب تحريما من جهة القول يوجب الكفارة والأمة لا يصح تحريمها من جهة القول فأشبه سائر المملوكات من الطعام والشراب متى حرمها بالقول لم تحرم ألا ترى أنه لو حرم على نفسه طعاما أو شرابا لم يحرم ذلك عليه وإنما يلزمه إذا أكل أو شرب كفارة يمين فكذلك ملك اليمين وجب أن لا يصح الظهار منها إذ لا يصح تحريمها من جهة القول.

في الظهار بغير الأم

واختلفوا فيمن قال لامرأته أنت على كظهر أختى أو ذات محرم منه فقال أصحابنا هو مظاهر وإن قال كظهر فلانة وليست بمحرم منه لم يكن مظاهرا وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعى وقال مالك وعثمان البتى يصح الظهار بالمحرم والأجنبية وللشافعي قولان أحدهما أن الظهار لا يصح إلا بالأم والآخر أنه يصح بذوات المحارم قال أبو بكر لما صح الظهار بالأم وكانت ذوات المحارم كالأم في التحريم وجب أن يصح الظهار بهن إذ لا فرق بينهن في جهة التحريم ألا ترى أن الظهار بالأم من الرضاعة صحيح مع عدم النسب لوجود التحريم فكذلك سائر ذوات المحارم وروى نحو قول أصحابنا عن جابر بن زيد والحسن وإبراهيم وعطاء وقال الشعبي إن الله تعالى لم ينس أن يذكر البنات والأخوات والعمات إنما الظهار من الأم وأيضا لما قال تعالى (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) اقتضى ظاهره الظهار بكل ذات محرم إذ لم يخصص الأم دون غيرها ومن قصرها على الأم فقد خص بلا دليل فإن قيل لما قال تعالى (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) دل على أنه أراد الظهار بالأم قيل له إنما ذكر الأمهات لأنهن مما اشتمل عليهن حده الآية وذلك لا ينفى أن يكون قوله (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ)

٣٠٨

عموما في سائر من أوقع التشبيه بظهرها من سائر ذوات المحارم وأيضا فإن ذلك يدل على صحة الظهار من سائر ذوات المحارم لأنه قد نبه على المعنى الذي من أجله ألزمه حكم الظهار وهو قوله (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) فأخبر أنه ألزمهم هذا الحكم لأنهن لسن بأمهاتهم وإن قولهم هذا منكر من القول وزور فاقتضى ذلك إيجاب هذا الحكم في الظهار بسائر ذوات المحارم لأنه إذا ظاهر بأجنبية فليست هي أخته ولا ذات محرم منه وهذا القول منكر من القول وزورا لأنه يملك بضع امرأته وهي مباحة له وذوات المحارم محرمات عليه تحريما مؤبدا فإن قيل يلزمك على هذا إيجاب الظهار بالأجنبية لعموم الآية ولدلالة فحواها على جواز الظهار بسائر ذوات المحارم إذ لم تفرق الآية بين شيء منهن ولأن تشبيهها بالأجنبية منكر من القول وزور قيل له لا يجب ذلك لأن الأجنبية لما كانت قد تحل له بحال لم يكن قوله أنت على كظهر الأجنبية مفيدا للتحريم في سائر الأوقات لجواز أن يملك بضع الأجنبية فتكون مثلها وفي حكمها وأيضا لا خلاف أن التحريم بالأمتعة وسائر الأموال لا يصح بأن يقول أنت على كمتاع فلان أو ولا كمال فلان لأن ذلك قد يملكه بحال فيستبيحه واختلفوا في الظهار بغير الظهر فقال أصحابنا إذا قال أنت على كيد أمى أو كرأسها أو ذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا وإن قال كبطنها أو كفخذها ونحو ذلك كان مظاهرا لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر وقال ابن القاسم قياس قول مالك أن يكون مظاهرا بكل شيء من الأم وقال الثوري والشافعى إذا قال أنت على كرأس أمى أو كيدها فهو مظاهر لأن التلذذ بذلك منها محرم قال أبو بكر نص الله تعالى على حكم الظهار وهو أن يقول أنت على كظهر أمى والظهر مما لا يستبيح النظر إليه فوجب أن يكون سائر ما لا يستبيح النظر إليه في حكمه وما يجوز له أن يستبيح النظر إليه فليس فيه دلالة على تحريم الزوجة بتشبيهها به إذ ليس تحريمها من الأم مطلقا فوجب أن لا يصح الظهار به إذ كان الظهار يوجب تحريما وأيضا لما جاز له استباحة النظر إلى هذه الأعضاء أشبه سائر الأشياء التي يجوز أن يستبيح النظر إليها مثل الأموال والأملاك واختلفوا فيما يحرمه الظهار فقال الحسن للمظاهر أن يجامع فيما دون الفرج وقال عطاء يجوز أن يقبل أو يباشر لأنه قال (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وقال الزهري وقتادة

٣٠٩

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) الوقاع نفسه وقال أصحابنا لا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها لشهوة حتى يكفر وقال مالك مثل ذلك وقال لا ينظر إلى شعرها ولا صدرها حتى يكفر لأن ذلك لا يدعوه إلى خير وقال الثوري يأتيها فيما دون الفرج وإنما نهى عن الجماع وقال الأوزاعى يحل له فوق الإزار كالحائض وقال الشافعى يمنع القبلة والتلذذ احتياطا قال أبو بكر لما قال تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) كان ذلك عموما في حظر جميع ضروب المسيس من لمس بيد أو غيرها وأيضا لما قال (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) فألزمه حكم التحريم لتشبيهه بظهرها وجب أن يكون ذلك التحريم عاما في المباشرة والجماع كما أن مباشرة ظهر الأم ومسه محرم عليه وأيضا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره قال فاعتزلها حتى تكفر ورواه معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه وقال لا تقربها حتى تكفر وذلك يمنع المسيس والقبلة

. في ظهار المرأة من زوجها

قال أصحابنا لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو قول مالك والثوري والليث والشافعى وذكر الطحاوي عن ابن أبى عمران عن على بن صالح عن الحسن بن زياد أنها إذا قالت لزوجها أنت على كظهر أمى أو كظهر أخى كانت مظاهرة من زوجها قال على فسئلت محمد ابن الحسن فقال ليس عليها شيء فأتيت أبا يوسف فذكرت له قوليهما فقال هذان شيخا الفقه أخطأ هو تحريم عليها كفارة يمين كقولها أنت على حرام وقال الأوزاعى هي يمين تكفرها وقال الحسن بن صالح تعتق رقبة وتكفر بكفارة الظهار فإن لم تفعل وكفرت يمينا رجونا أن يجزيها وروى مغيرة عن إبراهيم قال خطب مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة فقالت هو عليها كظهر أبيها إن تزوجته فلما ولى الإمارة أرسل إليها فأرسلت تسئل والفقهاء يومئذ بالمدينة كثير فأفتوها أن تعتق رقبة وتتزوجه وقال إبراهيم لو كانت عنده يعنى عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عتق رقبة ولكنها كانت تملك نفسها حين قالت ما قالت وروى عن الأوزاعى أنها إذا قالت إن تزوجته فهو على كظهر أبى كانت مظاهرة ولو قالت وهي تحت زوج كان عليها كفارة يمين قال أبو بكر لا يجوز أن

٣١٠

تكون عليها كفارة يمين لأن الرجل لا تلزمه بذلك كفارة يمين وهو الأصل فكيف يلزمها ذلك كما أن قول الرجل أنت طالق لا يكون غير طالق كذلك ظهارها لا يلزمها به شيء ولا يصح منها ظهار بهذا القول لأن الظهار يوجب تحريما بالقول وهي لا تملك ذلك كما لا تملك الطلاق إذ كان موضوعا لتحريم يقع بالقول واختلفوا فيمن قال أنت على كظهر أبى فقال أصحابنا والأوزاعى والشافعى ليس بشيء وقال مالك هو مظاهر قال أبو بكر إنما حكم الله تعالى بالظهار فيمن شبهها بظهر الأم ومن جرى مجراها من ذوات المحارم التي لا يجوز له أن يستبيح النظر إلى ظهرها بحال وهو يجوز له النظر إلى ظهر أبيه والأب والأجنبى في ذلك سواء ولو قال أنت على كظهر الأجنبى لم يكن شيئا فكذلك ظهر الأب واختلفوا فيمن ظاهر مرارا فقال أصحابنا والشافعى عليه لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار فتكون عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة وإن ظاهر ثم كفر ثم ظاهر فعليه الكفارة أيضا وقال الأوزاعى عليه كفارة واحدة وإن كان في مقاعد شتى قال أبو بكر الأصل أن الظهار لما كان سببا لتحريم ترفعه الكفارة إن تجب بكل ظهار كفارة إلا أنهم قالوا إذا أراد التكرار في مجلس واحد فعليه كفارة واحدة لاحتمال اللفظ لما أراد من التكرار فإن قيل قوله (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يقتضى إيجاب كفارة واحدة وإن ظاهر مرارا لأن اللفظ لا يختص بالمرة الواحدة دون المرار الكثير قيل له لما كانت الكفارة في رفع التحريم متعلقة بحرمة اللفظ أشبه اليمين فمتى حلف مرارا لزمته لكل يمين كفارة إذا حنث ولم يكن قوله (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) موجبا للاقتصار بالأيمان الكثيرة على كفارة واحدة واختلفوا في المظاهر هل يجبر على التكفير فقال أصحابنا لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر وذكر الطحاوي عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين قال سألت الحسن وابن سيرين عن رجل ظاهر من امرأته فلم يكفر تهاونا قال تستعدي عليه قال وسألت أبا حنيفة فقال تستعدي عليه وقال مالك عليها أن تمنعه نفسها ويحول الإمام بينه وبينها وقول الشافعى يدل على أنه يحكم عليه بالتكفير قال أبو بكر قال أصحابنا يجبر على جماع المرأة فإن أبى ضربته رواه هشام وهذا يدل على أنه يجبر على التكفير ليوفيها حقها من الجماع واختلفوا في الرقبة الكافرة عن الظهار فقال

٣١١

عطاء ومجاهد وإبراهيم وإحدى الروايتين عن الحسن يجزى الكافر وهو قول أصحابنا والثوري والحسن بن صالح وروى عن الحسن أنه لا يجزى في شيء من الكفارات إلا الرقبة المؤمنة وهو قول مالك والشافعى قال أبو بكر ظاهر قوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يقتضى جواز الكافرة وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمظاهر أعتق رقبة ولم يشترط الإيمان ولا يجوز قياسها على كفارة القتل لامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعض ولأن فيه إيجاب زيادة في النص وذلك عندنا يوجب النسخ واختلفوا في جواز الصوم مع وجود رقبة للخدمة فقال أصحابنا إذا كانت عنده رقبة للخدمة ولا شيء له غيرها أو كان عنده دراهم ثمن رقبة ليس له غيرها لم يجزه الصوم وهو قول مالك والثوري والأوزاعى وقال الليث والشافعى من له خادم لا يملك غيره فله أن يصوم قال الله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) فأوجب الرقبة بديا على واجدها ونقله إلى الصوم عند عدمها فلما كان هذا واجدا لها لم يجزه غيره فإن قيل هو بمنزلة من معه ماء يخاف على نفسه العطش فيجوز له التيمم قيل له لأنه مأمور في هذه الحال باستبقاء الماء وهو محظور عليه استعماله وليس بمحظور عليه عند الجميع عتق هذه الرقبة فعلمنا أنه واجد واختلفوا في عتق أم الولد والمدبر والمكاتب ونحوهم في الكفارة فقال أصحابنا لا يجوز عتق أم الولد والمدبر والمكاتب إذا كان قد أدى شيئا عن الكتابة ولا المدبر فإن لم يكن أدى شيئا أجزأه وإن اشترى أباه ينوى به عن كفارته جاز وكذلك كل ذي رحم محرم ولو قال كل عبد أشتريه فهو حر ثم اشترى عبدا ينويه عن كفارته لم يجزه وقال زفر لا يجزى المكاتب وإن لم يكن أدى شيئا وقال مالك لا يجزى المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد ولا معتق إلى سنين عن الكفارة ولا الولد والوالد وقال الأوزاعى لا يجزى المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد وقال عثمان البتى يجزى المدبر وأم الولد في كفارة الظهار واليمين وقال الليث يجزى أن يشترى أباه فيعتقه بالكفارة التي عليه وقال الشافعى لا يجزى من إذا اشتراه عتق عليه ويجزى المدبر ولا يجزى المكاتب وإن لم يؤدى شيئا ويجزى المعتق إلى سنين ولا تجزى أم الولد قال أبو بكر أما أم الولد والمدبر فإنهما لا يجزيان من قبل أنهما قد استحقا العتق من غير جهة الكفارة ألا ترى أن ما ثبت لهما من حق العتاق يمنع بيعهما ولا يصح فسخ ذلك عنهما فمتى أعتقهما فإنما عجل عتقا مستحقا وليس كذلك من قال له المولى أنت حر

٣١٢

بعد شهر أو سنة لأنه لم يثبت له حق بهذا القول يمنع بيعه ألا ترى أنه يجوز له أن يبيعه وأما المكاتب فإنه وإن لم يجز بيعه فإن الكتابة يلحقها الفسخ وإنما لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع الآبق والعبد المرهون والمستأجر فلا يمنع ذلك جواز عتقه عن الكفار فإذا أعتق المكاتب قبل أن يؤدى شيئا فقد أسقط المال فصار كمن أعتق عبدا غير مكاتب وإن كان قد أدى شيئا لم يجز من قبل أن الأداء لا ينفسخ بعتقه فقد حصل له عن عتقه بدل فلا يجزى عن الكفارة وأما إذا اشترى أباه فإنه يجزى إذا نوى لأن قبوله للشرى بمنزلة قوله أنت حر والدليل عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ومعلوم أن معناه يعتقه بشرائه إياه فجعل شراه بمنزلة قوله أنت حر فأجزأ بمنزلة من قال لعبده أنت حر واختلفوا في مقدار الطعام فقال أصحابنا والثوري لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر أو شعير وقال مالك مد بمد هشام وهو مدان إلا ثلثا بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك من الحنطة وأما الشعير فإن كان طعام أهل بلده فهو مثل الحنطة وكذلك التمر وإن لم يكونا طعام أهل البلد أطعمهم من كل واحد منهما وسطا من شبع الشعير والتمر وقال الشافعى لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات حنطة أو شعير أو أرز أو تمر أو أقط وذلك بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعتبر مد أحدث بعده حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان ابن أبى شيبة ومحمد بن سليمان الأنبارى قالا حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد ابن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال كنت امرأ أصيب من النساء وذكر قصة ظهاره من امرأته وإنه جامع امرأته وسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال حرر رقبة فقلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين وما لنا طعام قال فانطلق إلى صاحب صدقة بنى زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فإن قيل روى إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبى حرملة عن عطاء بن يسار أن خولة بنت مالك بن ثعلبة ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مريه فليذهب إلى فلان فإن عنده شطر وسق فليأخذه صدقة عليه ثم يتصدق به على ستين مسكينا وروى عبد الله ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن

٣١٣

سلام عن خولة أن زوجها ظاهر منها فذكرت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يتصدق بخمسة عشر صاعا على ستين مسكينا قيل له قد روينا حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وأنه أمره بأن يطعم وسقا من تمر ستين مسكينا وهذا أولى لأنه زائد على خبرك وأيضا فجائز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعانه بهذا القدر ولا دلالة فيه على أن ذلك جميع الكفارة وقد بين ذلك في حديث إسرائيل عن أبى إسحاق عن يزيد بن زيدان زوج خولة ظاهر منها وذكر الحديث فأعانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة عشر صاعا وهذا يدل على أنه أعانه ببعض الكفارة وقد روى ذلك أيضا في حديث يوسف بن عبد الله بن سلام رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعان زوجها حين ظاهر منها بعذق من تمر وأعانته هي بعذق آخر وذلك ستون صاعا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدق به واختلفوا في المظاهر هل يجامع قبل أن يطعم فقال أصحابنا ومالك والشافعى لا يجامع حتى يطعم إذا كان فرضه الطعام روى زيد بن أبى الزرقاء عن الثوري أنه إذا أراد أن يطأها قبل أن يطعم لم يكن آثما وروى المعافى والأشجعى عن الثوري أنه لا يقربها حتى يطعم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمظاهر بعد ما ذكر عجزه عن الصيام ثم لا يقربها حتى يكفر وأيضا لما اتفق الجميع على أن الجماع محظور عليه قبل عتق الرقبة وجب بقاء حظره إذا عجز إذ جائز أن يجد الرقبة قبل الإطعام فيكون الوطء واقعا قبل العتق.

باب كيف يحيى أهل الكتاب

قال الله تعالى (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) روى سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي فسلم عليهم فردوا عليه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تدرون ما قال قالوا سلم يا نبي الله قال قال اسم عليكم أى تسامون دينكم وقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليكم أى عليك ما قلت وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسين قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدؤهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه قال أبو بكر قد روى في حديث أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم يريدون بقولهم السام إنكم تسامون دينكم وروى أنهم

٣١٤

يريدون به الموت لأن السام اسم من أسماء الموت قال أبو بكر ذكر هشام عن محمد عن أبى حنيفة قال نرى أن نرد على المشرك السلام ولا نرى أن نبدأه وقال محمد وهو قول العامة من فقهائنا وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال صحبنا عبد الله في سفر ومعنا أناس من الدهاقين قال فأخذوا طريقا غير طريقنا فسلم عليهم فقلت لعبد الله أليس هذا تكره قال إنه حق الصحبة قال أبو بكر ظاهره يدل على أن عبد الله بدأهم بالسلام لأن الرد لا يكره عند أحد وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم قال أبو بكر وإنما كره الابتداء لأن السلام من تحية أهل الجنة فكره أن يبدأ به الكافر إذ ليس من أهلها ولا يكره الرد على وجه المكافأة قال الله تعالى (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحسن بن المثنى قال حدثنا عثمان قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا سليمان الأعمش قال قلت لإبراهيم اختلف إلى طبيب نصراني أسلم عليه قال نعم إذا كانت لك إليه حاجة فسلم عليه وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) قال قتادة كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل لهم تفسحوا وقال ابن عباس هو مجلس القتال قال قتادة وإذا قيل انشزوا قال إذا دعيتم إلى خير وقيل انشزوا أى ارتفعوا في المجلس ولهذا ذكر أهل العلم لأنهم أحق بالرفعة وهذا يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يرفع مجلس أهل العلم على غيرهم ليبين للناس فضلهم ومنزلتهم عنده وكذلك يجب أن يفعل بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال تعالى (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) وكذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فرتب أولى الأحلام والنهى في أعلى المراتب إذ جعلهم في المرتبة التي تلى النبوة وقوله تعالى (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) روى ليث عن مجاهد قال قال على إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان عندي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدقت بدرهم وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال إن المسلمين أكثروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما نزلت (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) كف كثير من المسلمين عن المسألة فأنزل الله (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ)

٣١٥

الآية فوسع لهم قال أبو بكر قد دلت الآية على أحكام ثلاثة أحدها تقديم الصدقة أمام مناجاتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن يجد والثاني الرخصة في المناجاة لمن لا يجد الصدقة بقوله (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهذا يدل على أن المسألة كانت مباحة لمن لم يجد الصدقة والثالث وجوب الصدقة أمام المسألة بقوله (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن مجاهد في قوله (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية قال على رضى الله عنه ما عمل بها أحد غيرى حتى نسخت وما كانت إلا ساعة وقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال أبو بكر المحادة أن يكون كل واحد منهما في حد وحيز غير حد صاحبه وحيزه فظاهره يقتضى أن يكون المراد أهل الحرب لأنهم في حد غير حدنا فهو يدل على كراهة مناكحة أهل الحرب وإن كانوا من أهل الكتاب لأن المناكحة توجب المودة قال الله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) آخر سورة المجادلة.

سورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال مجاهد وقتادة أول الحشر جلاء بنى النضير من اليهود فمنهم من خرج إلى خيبر ومنهم من خرج إلى الشام وقال الزهري قاتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة والحلقة السلاح قال أبو بكر قد انتظم ذلك معنيين أحدهما مصالحة أهل الحرب على الجلاء عن ديارهم من غير سبى ولا استرقاق ولا دخول في الذمة ولا أخذ جزية وهذا الحكم منسوخ عندنا إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم على الإسلام أو أداء الجزية وذلك لأن الله قد أمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية قال الله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ـ إلى قوله ـ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) وقال (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فغير جائز إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم وإدخالهم في الذمة أو الإسلام أن يجلوهم ولكنه لو عجز

٣١٦

المسلمون عن مقاومتهم في إدخالهم في الإسلام أو الذمة جاز لهم مصالحتهم على الجلاء عن بلادهم والمعنى الثاني جواز مصالحة أهل الحرب على مجهول من المال لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالحهم على أراضيهم وعلى الحلقة وترك لهم ما أقلت الإبل وذلك مجهول وقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فيه أمر بالاعتبار والقياس في أحكام الحوادث ضرب من الاعتبار فوجب استعماله بظاهر الآية وقوله تعالى (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال ابن عباس وقتادة كل نخلة لينة سوى العجوة وقال مجاهد وعمرو بن ميمون كل نخلة لينة وقيل اللينة كرام النخل وروى ابن جريج عن مجاهد ما قطعتم من لينة النخلة نهى بعض المهاجرين عن قطع النخل وقال إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى وبتحليل من قطعها من الإثم قال أبو بكر صوب الله الذين قطعوا والذين أبوا وكانوا فعلوا ذلك من طريق الاجتهاد وهذا يدل على أن كل مجتهد مصيب وقد روى عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال أمرنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أغر على ابني صباحا وحرق وروى قتادة عن أنس قال لما قاتل أبو بكر أهل الردة قتل وسبى وحرق وروى عبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم قال لما تحصن بنو النضير أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع نخلهم وتحريقه فقالوا يا أبا القاسم ما كنت ترضى بالفساد فأنزل الله (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) الآية وروى عثمان بن عطاء عن أبيه قال لما وجه أبو بكر الجيش إلى الشام كان فيما أوصاهم به ولا تقطع شجرة مثمرة قال أبو بكر تأوله محمد بن الحسن على أنهم قد علموا أن الله سيغنمهم إياها وتصير للمسلمين بوعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم بفتح الشام فأراد عليهم أن تبقى للمسلمين وأما جيش المسلمين إذا غزوا أرض الحرب وأرادوا الخروج فإن الأولى أن يحرقوا شجرهم وزروعهم وديارهم وكذلك قال أصحابنا في مواشيهم إذا لم يمكنهم إخراجها ذبحت ثم أحرقت وأما ما رجوا أن يصير فيأ للمسلمين فإنهم إن تركوه ليصير للمسلمين جاز وإن أحرقوه غيظا للمشركين جاز استدلالا بالآية وبما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أموال بنى النضير وقوله تعالى (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ) الآية الفيء الرجوع ومنه الفيء في الإيلاء في قوله (فَإِنْ فاؤُ) وأفاءه عليه إذا رده عليه والفيء في مثل هذا الموضع ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك فالغنيمة فيء والجزية فيء والخراج فيء لأن جميع ذلك مما ملكه الله المسلمين من أموال أهل الشرك والغنيمة وإن كانت فيأ فإنها تختص بمعنى لا يشاركها فيه

٣١٧

سائر وجوه الفيء لأنها ما أخذ من أموال أهل الحرب عنوة بالقتال فمنها ما يجرى فيه سهام الغانمين بعد إخراج الخمس لله عز وجل وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال كانت أموال بنى النضير فيئا مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله قال أبو بكر فهذا من الفيء الذي جعل الأمر فيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن لأحد فيه حق إلا من جعله له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق منها على أهله ويجعل الباقي في الكراع والسلاح وذلك لما بينه الله في كتابه وهو أن المسلمين لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ولم يأخذوه عنوة وإنما أخذوه صلحا وكذلك كان حكم فدك وقرى عرينة فيما ذكره الزهري وقد كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغنيمة الصفي وهو ما كان يصطفيه من جملة الغنيمة قبل أن يقسم المال وكان له أيضا سهم من الخمس فكان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفيء هذه الحقوق يصرفها في نفقة عياله والباقي في نوائب المسلمين ولم يكن لأحد فيها حق إلا من يختار هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطيه وفي هذه الآية دلالة على أن كل مال من أموال أهل الشرك لم يغلب عليه المسلمون عنوة وإنما أخذ صلحا أنه لا يوضع في بيت مال المسلمين ويصرف على الوجوه التي يصرف فيها الخراج والجزية لأنه بمنزلة ما صار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال بنى النضير حين لم يوجف المسلمون عليه وقوله تعالى (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية قال أبو بكر بين الله حكم ما لم يوجف عليه المسلمون من الفيء فجعله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قدمنا من بيانه ثم ذكر حكم الفيء الذي أوجف المسلمون عليه فجعله لهؤلاء الأصناف وهم الأصناف الخمس المذكورون في غيرها وظاهره يقتضى أن لا يكون للغانمين شيء منه إلا من كان منهم من هذه الأصناف وقال قتادة كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف ثم نسخ بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) قال أبو بكر لما فتح عمر رضى الله عنه العراق سأله قوم من الصحابة قسمته بين الغانمين منهم الزبير وبلال وغيرهما فقال إن قسمتها بينهم بقي آخر الناس لا شيء لهم واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها عليها ويضع عليها الخراج ففعل ذلك ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية وهذا

٣١٨

يدل على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها مضمومة إلى آية الغنيمة في الأرضين المفتتحة فإن رأى قسمتها أصلح للمسلمين وأرد عليهم قسم وإن رأى إقرار أهلها عليها وأخذ الخراج منهم فيها فعل لأنه لو لم تكن هذه الآية ثابتة الحكم في جواز أخذ الخراج منها حتى يستوي الآخر والأول فيها لذكروه له وأخبروه بنسخها فلما لم يحاجوه بالنسخ دل على ثبوت حكمها عندهم وصحة دلالتها لديهم على ما استدل به عليه فيكون تقدير الآيتين بمجموعهما واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه في الأموال سوى الأرضين وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك وما أفاء الله على رسوله من الأرضين فلله وللرسول إن اختار تركها على ملك أهلها ويكون ذكر الرسول هاهنا لتفويض الأمر عليه في صرفه إلى من رأى فاستدل عمر رضى الله عنه من الآية بقوله (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) وقوله (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وقال لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء وقد جعل لهم فيها الحق بقوله (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) فلما استقر عنده حكم دلالة الآية وموافقة كل الصحابة على إقرار أهلها عليها ووضع الخراج بعث عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان فمسحا الأرضين ووضعا الخراج على الأوضاع المعلومة ووضعا الجزية على الرقاب وجعلاهم ثلاث طبقات اثنى عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين ثم لم يتعقب فعله هذا أحد ممن جاء بعده من الأئمة بالفسخ فصار ذلك اتفاقا واختلف أهل العلم في أحكام الأرضين المفتتحة عنوة فقال أصحابنا والئورى إذا افتتحها الإمام عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمها وأهلها وأموالهم بين الغانمين بعد إخراج الخمس وإن شاء أقر أهلها عليها وجعل عليها وعليهم الخراج ويكون ملكا لهم ويجوز بيعهم وشراؤهم لها وقال مالك ما باع أهل الصلح من أرضهم فهو جائز وما افتتح عنوة فإنه لا يشترى منهم أحد لأن أهل الصلح من أسلم منهم كان أحق بأرضه وماله وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم أحرز له إسلامه نفسه وأرضه للمسلمين لأن بلادهم قد صارت فيأ للمسلمين وقال الشافعى ما كان عنوة فخمسها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعلها وقفا عليهم ومن لم يطب نفسا فهو أحق بما له قال أبو بكر لا تخلوا الأرض المفتتحة عنوة من أن تكون للغانمين لا يجوز للإمام صرفها عنهم بحال إلا بطيبة من أنفسهم أو أن

٣١٩

يكون الإمام مخيرا بين إقرار أهلها على أملاكهم فيها ووضع الخراج عليها وعلى رقاب أهلها على ما فعله عمر رضى الله عنه في أرض السواد فلما اتفق الجميع من الصحابة على تصويب عمر فيما فعله في أرض السواد بعد خلاف من بعضهم عليه على إسقاط حق الغانمين عن رقابها دل ذلك على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين ولا رقاب أهلها إلا بأن يختار الإمام ذلك لهم لأن ذلك لو كان ملكا لهم لما عدل عنهم بها إلى غيرهم ولنازعوه في احتجاجه بالآية في قوله (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) وقوله (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) فلما سلم له الجميع رأيه عند احتجاجه بالآية دل على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين إلا باختيار الإمام ذلك لهم وأيضا لا يختلفون أن للإمام أن يقتل الأسرى من المشركين ولا يستبقيهم ولو كان ملك الغانمين قد ثبت فيهم لما كان له إتلافه عليهم كما لا يتلف عليهم سائر أموالهم فلما كان له أن يقتل الأسرى وله أن يستبقيهم فيقسمهم بينهم ثبت أن الملك لا يحصل للغانمين بإحراز الغنيمة في الرقاب والأرضين إلا أن يجعلها الإمام لهم ويدل على ذلك أيضا ما روى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبى حثمة قال قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما فلو كان الجميع ملكا للغانمين لما جعل نصفه لنوائبه وحاجته وقد فتحها عنوة ويدل عليه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح مكة عنوة ومن على أهلها فأقرهم على أملاكهم فقد حصل بدلالة الآية وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين أو تركها ملكا لأهلها ووضع الخراج عليها ويدل عليه حديث سهل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها ودينارها ومنعت مصر أردبها ودينارها وعدتم كما بدأتم شهد على ذلك لحم أبى هريرة ودمه فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن منع الناس لهذه الحقوق الواجبة لله تعالى في الأرضين وإنهم يعودون إلى حال أهل الجاهلية في منعها وذلك يدل على صحة قول عمر رضى الله عنه في السواد وإن ما وضعه هو من حقوق الله تعالى التي يجب أداؤها فإن قيل ليس فيما ذكرت من فعل عمر في السواد إجماع لأن حبيب بن أبى ثابت وغيره قد رووا عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال دخلنا على على رضى الله عنه بالرحبة فقال لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم قيل له الصحيح عن على رضى الله عنه أنه أشار على عمر

٣٢٠