أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) يعنى والله أعلم إذا علمن بعد الإرجاء أن لك أن تؤوي وترد إلى القسم وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان مخيرا في القسم لمن شاء منهن وترك من شاء منهن قوله تعالى (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) روى ليث عن مجاهد قال يعنى من بعد ما سمى لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وعن مجاهد أيضا في قوله (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) قال لا بأس أن تتسرى اليهودية والنصرانية وروى سعيد عن قتادة (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) قال لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وهو قول الحسن وروى غير ذلك وهو ما روى إسرائيل عن السدى عن عبد الله بن شداد لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج قال ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل قال وكان ينكح ما شاء بعد ما نزلت هذه الآية قال فنزلت هذه الآية وعنده تسع نسوة ثم تزوج أم حبيبة بنت أبى سفيان وجويرية بنت الحارث قال أبو بكر ظاهر الآية يفيد تحريم سائر النساء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى من كن تحته وقت نزولها وقد روى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حل له النساء قال أبو بكر وهذا يوجب أن تكون الآية منسوخة وليس في القرآن ما يوجب نسخها فهي إذا منسوخة بالسنة ويحتج به في جواز نسخ القرآن بالسنة فإن قيل قوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) خبر والخبر لا يجوز النسخ في مخبره قيل له إنه وإن كان في صورة الخبر فهو نهى يجوز ورود النسخ عليه وهو بمنزلة ما لو قال لا تتزوج بعدهن النساء فيجوز نسخه قوله تعالى (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) يدل على جواز النظر إلى وجه المرأة الأجنبية إذ لا يعجبه حسنها إلا وقد نظر إليها.

باب ذكر حجاب النساء

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أبى عثمان واسمه الجعد بن دينار عن أنس قال لما تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب أهدت إليه أم سليم حيسا في تور من حجارة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اذهب فادع من

«١٦ ـ أحكام مس»

٢٤١

لقيت من المسلمين فدعوت له من لقيت فجعلوا يدخلون فيأكلون ويخرجون فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على الطعام فدعا فيه وقال فيه ما شاء الله أن يقول ولم أدع أحدا لقيته إلا دعوته فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ـ إلى قوله ـ وَقُلُوبِهِنَ) وروى بشر بن المفضل عن حميد الطويل عن أنس ذكر حديث بناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب ووليمته فلما طعم القوم وكان مما يفعل إذا أصبح ليلة بنائه دنا من حجر أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلمن عليه ودعا لهن ودعون له فلما انصرف وأنا معه إلى بيته بصر برجلين قد جرى بينهما الحديث من ناحية البيت فانصرف عن بيته فلما رأى الرجلان انصراف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيته وثبا خارجين فأخبر أنهما قد خرجا فرجع حتى دخل بيته فأرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب وروى حماد بن زيد عن أسلم العلوي عن أنس قال لما نزلت آية الحجاب جئت لأدخل كما كنت أدخل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراءك يا أنس قال أبو بكر فانتظمت الآية أحكاما منها النهى عن دخول بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بإذن وإنهم إذا أذن لهم لا يقعدون انتظارا لبلوغ الطعام ونضجه وإذا أكلوا لا يقعدون للحديث وروى عن مجاهد غير ناظرين إناه قال متحينين حين نضجه ولا مستأنسين لحديث بعد أن يأكلوا وقال الضحاك غير ناظرين إناه قال نضجه قوله تعالى (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) قد تضمن حظر رؤية أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب قوله تعالى (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) يعنى بما بين في هذه الآية من إيجاب الاستئذان وترك الإطالة للحديث عنده والحجاب بينهم وبين نسائه وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواجه فالمعنى عام فيه وفي غيره إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته وقد روى معمر عن قتادة أن رجلا قال لو قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتزوجت عائشة فأنزل الله تعالى (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) قال أبو بكر ما ذكره قتادة هو أحد ما انتظمته الآية وروى عيسى بن يونس عن أبى إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة أنه قال لامرأته إن سرك ان تكوني زوجتي في الجنة إن جمع الله بيننا فيها فلا تزوجي بعدي فإن

٢٤٢

المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم الله على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتزوجن بعده وروى حميد الطويل عن أنس قال سألت أم حبيبة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرأة منا يكون لها زوجان فتموت فتدخل الجنة هي وزوجها لأيهما تكون قال يا أم حبيبة لأحسنهما خلقا كان معها في الدنيا فتكون زوجته في الجنة يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة قوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَ) الآية قال قتادة رخص لهؤلاء أن لا يجتنبن منهم قال أبو بكر ذكر ذوى المحارم منهن وذكر نساءهن والمعنى والله أعلم الحرائر ولا ما ملكت أيمانهن يعنى الإماء لأن العبد والحر لا يختلفان فيما يباح لهم من النظر إلى النساء قوله تعالى (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدعاء وقد تقدم ذكره وروى عن أبى العالية إن الله وملائكته يصلون على النبي قال صلاة الله عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة عليه بالدعاء قال أبو بكر يعنى والله أعلم إخبار الله الملائكة برحمته لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمام نعمه عليه فهو معنى قوله صلاته عند الملائكة وروى عن الحسن هو الذي يصلى عليكم وملائكته إن بنى إسرائيل سألوا موسى عليه‌السلام هل يصلى ربك فكان ذلك كبر في صدره فأوحى الله إليه أن أخبرهم أنى أصلى وإن صلاتي إن رحمتي سبقت غضبى وقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) قد تضمن الأمر بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظاهره يقتضى الوجوب وهو فرض عندنا فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدى فرضه وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه وزعم الشافعى أن الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرض في الصلاة وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم فيما نعلمه وهو خلاف الآثار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفرضها في الصلاة منها حديث ابن مسعود حين علمه التشهد فقال إذا فعلت هذا أو قلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وقوله ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت وحديث ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع الرجل رأسه من آخر سجدة وقعد فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته وحديث معاوية بن الحكم السلمى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن ولم يذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح مختصر الطحاوي

٢٤٣

وقوله (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) يحتج به أصحاب الشافعى في إيجاب فرض السلام في آخر الصلاة ولا دلالة فيه على ما ذكروا لأنه لم يذكر الصلاة فهو على نحو ما ذكرنا في الصلاة عليه ويحتجون به أيضا في فرض التشهد لأن فيه السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا دلالة فيه على ما ذهبوا إليه إذ لم يذكر السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتمل أن يريد به تأكيد الفرض في الصلاة عليه بتسليمهم لأمر الله إياهم بها كقوله (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قال أبو بكر قد ذكر الله تعالى في كتابه اسمه وذكر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأفرد نفسه بالذكر ولم يجمع الاسمين تحت كناية واحدة نحو قوله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ولم يقل ترضوهما لأن اسم الله واسم غيره لا يجتمعان في كناية وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطب بين يديه رجل فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قم فبئس خطيب القوم أنت لقوله ومن يعصهما فإن قيل فقد قال الله تعالى (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) فجمع اسمه واسم ملائكته في الضمير قيل له إنما أنكرنا جمعهما في كناية يكون اسما لهما نحو الهاء التي هي كناية عن الاسم فأما الفعل الذي ليس باسم ولا كناية عنه وإنما فيه الضمير فلا يمتنع ذلك فيه وقد قيل أيضا في هذا الموضع أن قوله (يُصَلُّونَ) ضمير الملائكة دون اسم الله تعالى وصلاة الله على النبي مفهومة من الآية من جهة المعنى كقوله (انْفَضُّوا إِلَيْها) رد الكناية إلى التجارة دون اللهو لأنه مفهوم من جهة المعنى وكذلك قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) المذكور في ضمير النفقة هو الفضة والذهب مفهوم من جهة المعنى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعنى يؤذون أولياء الله ورسوله وذلك لأن الله لا يجوز أن يلحقه الأذى فأطلق ذلك مجازا لأن المعنى مفهوم عند المخاطبين كما قال (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) والمعنى أهل القرية وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) قد قيل إنه أراد من أضمر ذكره في الآية الأولى من أولياء الله فأظهر ذكرهم بعد الضمير وبين أنهم المرادون بالضمير وأخبر عن احتمالهم البهتان والاسم اللذين بهما يستحقون ما ذكر في الآية الأولى من اللعن والعذاب قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) روى عن عبد الله قال الجلباب الرداء وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد يتجلببن ليعلم أنهن حرائر ولا يعرض لهن فاسق وروى محمد بن سيرين عن عبيدة يدنين

٢٤٤

عليهن من جلابيبهن قال تقنع عبيدة وأخرج إحدى عينيه وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن قال كن إماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا يخرجن فيتعرض بهن السفهاء فيؤذونهن وكانت المرأة الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة فيتعرضون لها فيؤذونها فأمر الله المؤمنات أن يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين وقال ابن عباس ومجاهد تغطى الحرة إذا خرجت جبينها ورأسها خلاف حال الإماء وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أبى خيثم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء من الأنصار كان على رؤسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجها عن الأجنبيين وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها لأن قوله تعالى (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) ظاهره أنه أراد الحرائر وكذا روى في التفسير لئلا يكن مثل الإماء اللاتي هن غير مأمورات بستر الرأس والوجه فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء وقد روى عن عمر أنه كان يضرب الإماء ويقول اكشفن رؤسكن ولا تشبهن بالحرائر قوله تعالى (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) الآية حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن ناسا من المنافقين أرادوا أن يظهر وانفاقهم فنزلت (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أى لنحرشنك وقال ابن عباس لنغربنك بهم لنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا بالنفي عنها قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على أن الإرجاف بالمؤمنين والإشاعة بما يغمهم ويؤذيهم يستحق به التعزير والنفي إذا أصر عليه ولم ينته عنه وكان قوم من المنافقين وآخرون ممن لا بصيرة لهم في الدين وهم الذين في قلوبهم مرض وهو ضعف اليقين يرجفون باجتماع الكفار والمشركين وتعاضدهم ومسيرهم إلى المؤمنين فيعظمون شأن الكفار بذلك عندهم ويخوفونهم فأنزل الله تعالى ذلك فيهم وأخبر تعالى باستحقاقهم النفي والقتل إذا لم ينتهوا عن ذلك فأخبر تعالى أن ذلك سنة الله وهو الطريقة المأمور بلزومها واتباعها وقوله تعالى (وَلَنْ

٢٤٥

تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) يعنى والله أعلم أن أحدا لا يقدر على تغيير سنة الله وإبطالها آخر سورة الأحزاب.

سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) روى عن عطاء بن يسار قال تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ثم قال ثلاث ومن أوتيهن فقد أوتى مثل ما أوتى آل داود العدل في الغضب والرضا والقصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية قوله تعالى (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) يدل على أن عمل التصاوير كان مباحا وهو محظور في شريعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما روى عنه أنه قال لا يدخل الملائكة بيتا فيه صورة وقال من صور صورة كلف يوم القيامة أن يحييها وإلا فالنار وقال لعن الله المصورين وقد قيل فيه إن المراد من شبه الله تعالى بخلقه آخر سورة سبأ.

سورة فاطر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

روى عكرمة قال ذكر عند ابن عباس بقطع الصلاة الكلب والحمار فقرأ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فما الذي يقطع هذا وروى سالم عن سعيد بن جبير الكلم الطيب يرفعه العمل الصالح قوله تعالى (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) الحلية هاهنا اللؤلؤ وما يتحلى به مما يخرج من البحر واختلف الفقهاء في المرأة تحلف أن لا تلبس حليا فقال أبو حنيفة اللؤلؤ وحده ليس بحلي إلا أن يكون معه ذهب لقوله تعالى (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) وهذا في الذهب دون اللؤلؤ إذ لا توقد عليه وقوله (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) إنما سماه حلية في حال اللبس وهو لا يلبس وحده في العادة إنما يلبس مع الذهب ومع ذلك فإن إطلاق لفظ الحلية عليه في القرآن لا يوجب حمل اليمين عليه والدليل عليه قوله (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) وأراد به السمك ولو حلف أن لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث وكذلك قوله (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) ومن حلف لا يقعد في سراج وقعد في الشمس لا يحنث قوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فيه الإبانة عن فضيلة العلم وأن به يتوصل إلى خشية الله وتقواه لأن من

٢٤٦

عرف توحيد الله وعدله بدلائله أو صله ذلك إلى خشية الله وتقواه إذ كان من لا يعرف الله ولا يعرف عدله وما قصد له بخلقه لا يخشى عقابه ولا يتقيه وقوله في آية أخرى (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ـ إلى قوله ـ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) خبر إن خير البرية من خشي ربه وأخبر في الآية أن العلماء بالله هم الذين يخشونه فحصل بمجموع الآيتين أن أهل العلم بالله هم خير البرية وإن كانوا على طبقات في ذلك ثم وصف أهل العلم بالله الموصوفين بالخشية منه فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) فكان ذلك في صفة الخاشعين لله العاملين بعلمهم وقد ذكر في آية أخرى المعرض عن موجب علمه فقال (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) إلى آخر القصة فهذه صفة العالم غير العامل والأول صفة العالم المتقى لله وأخبر عن الأولين بأنهم واثقون بوعد الله وثوابه على أعمالهم بقوله تعالى (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) روى بعض السلف قال من شأن المؤمن الحزن في الدنيا ألا تراهم حين يدخلون الجنة يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الدنيا سجن المؤمن قيل لبعض النساك ما بال أكثر النساك محتاجين إلى ما في يد غيرهم قال لأن الدنيا سجن المؤمن وهل يأكل المسجون إلا من يد المطلق قوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) روى عن الحسن والضحاك قالا ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر وقال الشعبي لا ينقص من عمره لا ينقضي ما ينقص منه وقتا بعد وقت وساعة بعد ساعة والعمر هو مدة الأجل التي كتبها الله لخلقه فهو عالم بما ينقص منها بمضى الأوقات والأزمان قوله تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) روى عن ابن عباس ومسروق أن العمر الذي ذكر الله به أربعون سنة وعن ابن عباس رواية وعن على ستون سنة وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال أخبرنى رجل من غفار عن سعيد المقبري عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لقد أعذر الله عبدا أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة لقد أعذر

٢٤٧

الله إليه حدثنا عبد الله قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أبى خيثم عن مجاهد عن ابن عباس قال العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة وبإسناده عن مجاهد مثله من قوله تعالى (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) روى عن بعض أهل التفسير أن النذير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى أنه الشيب قال أبو بكر ويجوز أن يكون المراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر ما أقام الله من الدلائل على توحيده وتصديق رسله ووعده ووعيده وما يحدث في الإنسان من حين بلوغه إلى آخر عمره من التغير والانتقال من حال إلى حال من غير صنع له فيه ولا اختيار منه له فيكون حدثا شابا ثم كهلا ثم شيخا وما ينقلب فيه فيما بين ذلك من مرض وصحة وفقر وغناء وفرح وحزن ثم ما يراه في غيره وفي سائر الأشياء من حوادث الدهر التي لا صنع للمخلوقين فيها وكل ذلك داع له إلى الله ونذير له إليه كما قال تعالى (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) فأخبر أن في جميع ما خلق دلالة عليه ورادا للعباد إليه آخر سورة فاطر.

سورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن ابن أبى الربيع قال أخبرنا معمر عن أبى إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله ابن عمر في قوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال الشمس تطلع فيراها بنو آدم حتى إذا كان يوم غربت فتحبس ما شاء الله ثم يقال اطلعي من حيث غربت فهو يوم لا ينفع نفسا إيمانها الآية قال معمر وبلغني عن أبى موسى الأشعرى أنه قال إذا كانت الليلة التي تطلع فيها الشمس من حيث تغرب قام المتهجدون لصلاتهم فصلوا حتى يملوا ثم يعودون إلى مضاجعهم يفعلون ذلك ثلاث مرات والليل كما هو والنجوم واقفة لا تسرى حتى يخرج الرجل إلى أخيه ويخرج الناس بعضهم إلى بعض قال أبو بكر فكان معنى قوله (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) على هذا التأويل وقوفها عن السير في تلك الليلة إلى أن تطلع من مغربها قال معمر وبلغني أن بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر قيل له وما الآيات قال زعم قتادة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض وخويصة أحدكم وأمر العامة قيل له هل بلغك أى الآيات أول قال

٢٤٨

طلوع الشمس من مغربها وقد بلغني أن رجالا يقولون الدجال وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله وروى قتادة لمستقر لها قال لوقت واحد لها لا تعدوه قال أبو بكر يعنى أنها استقرت على سير واحد وعلى مقدار واحد لا تختلف وقيل لمستقر لها لا بعد منازلها في الغروب قوله تعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) قال ذاك ليلة الهلال قال أبو بكر يعنى والله أعلم أنها لا تدركه فتستره بشعاعها حتى تمنع من رؤيته لأنهما مسخران مقسوران على ما رتبهما الله عليه لا يمكن واحدا منهما أن يتغير عن ذلك وقال أبو صالح لا يدرك أحدهما ضوء الآخر وقيل (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانها وقيل لا تدركه في سرعة السير وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال وبلغني أن عكرمة قال لكل واحد منهما سلطان للقمر سلطان الليل وللشمس النهار فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل ولا الليل سابق النهار يقول لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون نهارا فإن قيل هذا يدل على أن ابتداء الشهر نهار لا ليل لأنه قال (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) فإذا لم يسبق الليل النهار واستحال اجتماعهما معا وجب أن يكون النهار سابقا لليل فيكون ابتداء الشهور من النهار لا من الليل قيل له ليس تأويل الآية ما ذهبت إليه وإنما معناها أحد الوجوه التي تقدم ذكرها عن السلف ولم يقل أحد منهم أن معناها أن ابتداء الشهور من النهار فهذا تأويل ساقط بالإجماع وأيضا فلما كانت الشهور التي تتعلق بها أحكام الشرع هي شهور الأهلة والهلال أول ما يظهر فإنما يظهر ليلا ولا يظهر ابتداء النهار وجب أن يكون ابتداؤها من الليل ولا خلاف بين أهل العلم أن أول ليلة من شهر رمضان هي من رمضان وأن أول ليلة من شوال هي من شوال فثبت بذلك أن ابتداء الشهور من الليل ألا ترى أنهم يبتدئون بصلاة تراويح في أول ليلة منه وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت فيه الشياطين وجميع ذلك يدل على أن ابتداء الشهور من أول الليل وقد قال أصحابنا

٢٤٩

فيمن قال لله على اعتكاف شهر أنه يبتدئ به من الليل لأن ابتداء الشهور من الليل قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) روى عن الضحاك وقتادة أنه أراد سفينة نوح قال أبو بكر فنسب الذرية إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم كأنه قال ذرية الناس وقوله تعالى (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) قال ابن عباس السفن بعد سفينة نوح وروى عن ابن عباس رواية أخرى وعن مجاهد أن الإبل سفن البر قوله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) قال قتادة نصيره إلى حال الهرم التي تشبه حال الصبى في غروب العلم وضعف القوى وقال غيره نصيره بعد القوة إلى الضعف وبعد زيادة الجسم إلى النقصان وبعد الجدة والطراوة إلى البلى قال أبو بكر ومثله قوله تعالى (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وسماه أرذل العمر لأنه لا يرجى له بعده عود من النقصان إلى الزيادة ومن الجهل إلى العلم كما يرجى مصير الصبى من الضعف إلى القوة ومن الجهل إلى العلم ونظيره قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) قوله تعالى (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) قال بلغني أن عائشة سئلت هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمثل بشيء من الشعر فقالت لا إلا ببيت أخى بنى قيس ابن طرفة :

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا* ويأتيك بالأخبار من لم تزود قال فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر ليس هكذا يا رسول الله قال إنى لست بشاعر ولا ينبغي لي قال أبو بكر لم يعط الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلم بإنشاء الشعر لم يكن قد علمه الشعر لأنه الذي يعطى فطنة ذلك من يشاء من عباده وإنما لم يعط ذلك لئلا تدخل به الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن أنه قوى على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر وإذا كان التأويل أنه لم يعطه الفطنة لقول الشعر لم يمتنع على ذلك أن ينشد شعرا لغيره إلا أنه لم يثبت من وجه صحيح أنه تمثل بشعر لغيره وإن كان قد روى أنه قال : هل أنت إلا إصبع دميت* وفي سبيل الله ما لقيت وقد روى أن القائل لذلك بعض الصحابة وأيضا فإن من أنشد شعرا لغيره أو قال بيتا أو بيتين لم يسم شاعرا ولا يطلق عليه أنه قد علم الشعر أو قد تعلمه ألا ترى أن من

٢٥٠

لا يحسن الرمي قد يصيب في بعض الأوقات برميته ولا يستحق بذلك أن يسمى راميا ولا أنه تعلم الرمي فكذلك من أنشد شعرا لغيره وأنشأ بيتا ونحوه لم يسم شاعرا قوله تعالى (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) فيه من أوضح الدليل على أن من قدر على الابتداء كان أقدر على الإعادة إذ كان ظاهر الأمر أن إعادة الشيء أيسر من ابتدائه فمن قدر على الإنشاء ابتداء فهو على الإعادة أقدر فيما يجوز عليه البقاء وفيه الدلالة على وجوب القياس والاعتبار لأنه ألزمهم قياس النشأة الثانية على الأولى وربما احتج بعضهم بقوله تعالى (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) على أن العظم فيه حياة فيجعله حكم الموت بموت الأصل ويكون ميتة وليس كذلك لأنه إنما سماه حيا مجازا إذ كان عضوا (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ومعلوم أنه لا حياة فيها آخر سورة يس.

سورة والصافات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ـ إلى قوله ـ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال أبو بكر ظاهره يدل على أنه كان مأمورا بذبحه فجائز أن يكون الأمر إنما تضمن معالجة الذبح لا ذبحا يوجب الموت وجائز أن يكون الأمر حصل على شريطة التخلية والتمكن منه وعلى أن لا يفديه بشيء وأنه إن فدى منه بشيء كان قائما مقامه* والدليل على أن ظاهره قد اقتضى الأمر قوله (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) وقوله (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) فلو لم يكن ظاهره قد اقتضى الأمر بالذبح لما قال افعل ما تأمر ولم يكن الذبح فداء عن ذبح متوقع وروى أن إبراهيم عليه‌السلام كان نذر إن رزقه الله ولدا ذكرا أن يجعله ذبيحا لله فأمر بالوفاء به وروى أن الله تعالى ابتدأ بالأمر بالذبح على نحو ما قدمنا وجائز أن يكون الأمر ورد بذبح ابنه وذبحه فوصل الله أوداجه قبل خروج الروح وكانت الفدية لبقاء حياته قال أبو بكر وعلى أى وجه تصرف تأويل الآية قد تضمن الأمر بذبح الولد إيجاب شاة في العاقبة فلما صار موجب هذا اللفظ إيجاب شاة في المتعقب في شريعة إبراهيم عليه‌السلام وقد أمر الله باتباعه بقوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وقال (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وجب على من نذر ذبح ولده شاة وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في ذلك

٢٥١

فروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يقول هو ينحر ابنه قال كبش كما فدى إبراهيم إسحاق وروى سفيان عن منصور عن الحكم عن على في رجل نذر أن ينحر ابنه قال يهدى بدنة أو ديته شك الراوي وعن مسروق مثل قول ابن عباس وروى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال يحج ويهدى بدنة وروى داود بن أبى هند عن عامر في رجل حلف أن ينحر ابنه قال قال بعضهم مائة من الإبل وقال بعضهم كبش كما فدى إسحاق قال أبو بكر قال أبو حنيفة ومحمد عليه ذبح شاة وقال أبو يوسف لا شيء عليه وقال أبو حنيفة لو نذر ذبح عبده لم يكن عليه شيء وقال محمد عليه ذبح شاة وظاهر الآية يدل على قول أبى حنيفة في ذبح الولد لأن هذا اللفظ قد صار عبارة عن إيجاب شاة في شريعة إبراهيم عليه‌السلام فوجب بقاء حكمه ما لم يثبت نسخه وذهب أبو يوسف إلى حديث أبى قلابة عن أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم وروى الحسن عن عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين قال أبو بكر لا يلزم القائلين بالقول الأول وذلك لأن قوله على ذبح ولدي لما صار عبارة عن إيجاب ذبح شاة صار بمنزلة ما لو قال على ذبح شاة ولم يكن ذلك معصية وإنما لم يوجب أبو حنيفة على الناذر ذبح عبده شيئا لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة فكان نذر معصية وقد قالوا جميعا فيمن قال لله على أن أقتل ولدي أنه لا شيء عليه لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة وقد روى يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال كنت عند ابن عباس فجاءته امرأة فقالت إنى نذرت أن أنحر ابني قال لا تنحرى ابنك وكفرى عن يمينك فقال رجل عند ابن عباس إنه لا وفاء لنذر في معصية فقال ابن عباس مه قال الله تعالى في الظهار ما سمعت وأوجب فيه ما ذكره قال أبو بكر وليس ذلك بمخالف لما قدمنا من قول ابن عباس في إيجابه كبشا لأنه جائز أن يكون من مذهبه إيجابهما جميعا إذا أراد بالنذر اليمين كما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال لله على أن أصوم غدا فلم يفعل وأراد اليمين أن عليه كفارة اليمين والقضاء جميعا وقد اختلف في الذبيح من ولدي إبراهيم عليهم‌السلام فروى عن على وابن مسعود وكعب والحسن وقتادة أنه إسحاق وعن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي أنه إسماعيل وروى عن النبي

٢٥٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم القولان جميعا ومن قال هو إسماعيل يحتج بقوله عقيب ذكر الذبح (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) فلما كانت البشارة بعد الذبح دل على أنه إسماعيل * واحتج الآخرون بأنه ليس ببشارة بولادته وإنما هي بشارة بنبوته لأنه قال (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) قوله تعالى (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) احتج به بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض وذلك إغفال منه وذلك لأنه عليه‌السلام ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت عليه وفي أخذ ماله فدل على أنه خاص فيه عليه‌السلام دون غيره قوله تعالى (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال ابن عباس بل يزيدون قيل إن معنى أو هاهنا الإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين وقيل هو على شك المخاطبين إذ كان الله تعالى لا يجوز عليه الشك آخر سورة والصافات.

سورة ص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) روى عن معمر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) وروى القاسم عن زيد بن أرقم قال خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى وروى شريك عن زيد بن أبى زياد عن مجاهد عن أبى هريرة قال أوصانى خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث أوصانى بصلاة الضحى والوتر قبل النوم وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ونهاني عن نقر كنقر الديك والتفات كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب وروى عطية عن أبى سعيد الخدري قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها وروى عن عائشة وأم هاني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الضحى وعن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلها وقال ابن عمر هي من أحب ما أحدث الناس إلى وروى ابن أبى مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى فقال إنها لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) قوله تعالى (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) قيل إنه سخرها معه فكانت تسير معه وجعل ذلك تسبيحا

٢٥٣

منها لله تعالى لأن التسبيح لله هو تنزيهه عما لا يليق به فلما كان سيرها دلالة على تنزيه الله جعل ذلك تسبيحا منها له قوله تعالى (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن عمر وبن عبيد عن الحسن في قوله (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) قال جزأ داود الدهر أربعة أيام يوما لنسائه ويوما لقضائه ويوما يخلو فيه لعبادة ربه ويوما لبنى إسرائيل يسئلونه وذكر الحديث قال أبو بكر وهذا يدل على أن القاضي لا يلزمه الجلوس للقضاء في كل يوم وأنه جائز له الاقتصار على يوم من أربعة أيام ويدل على أنه لا يجب على الزوج الكون عند امرأته في كل يوم وأنه جائز له أن يقسم لها يوما من أربعة أيام وقال أبو عبيدة المحراب صدر المجلس ومنه محراب المسجد وقيل إن المحراب الغرفة وقوله تعالى (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) يدل على ذلك والخصم اسم يقع على الواحد وعلى الجماعة وإنما فزع منهم داود لأنهم دخلوا عليه في موضع صلاته على صورة الآدميين بغير إذن فقالوا (لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) ومعناه أرأيت إن جاءك خصمان فقالا بغى بعضنا على بعض وإنما كان فيه هذا الضمير لأنه معلوم أنهما كانا من الملائكة ولم يكن من بعضهم بغى على بعض والملائكة لا يجوز عليهم الكذب فعلمنا أنهما كلماه بالمعاريض التي تخرجهما من الكذب مع تقريب المعنى بالمثل الذي ضرباه وقولهما (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) هو على معنى ما قدمنا من ضمير أرأيت إن كان له تسع وتسعون نعجة وأراد بالنعاج النساء وقد قيل إن داود كان له تسع وتسعون امرأة وأن أوريا بن حنان لم تكن له امرأة وقد خطب امرأة فخطبها داود مع علمه بأن أوريا خطبها وتزوجها وكان فيه شيئان مما سبيل الأنبياء التنزه عنه أحدهما خطبته على خطبة غيره والثاني إظهار الحرص على التزويج مع كثرة من عنده من النساء ولم يكن عنده أن ذلك معصية فعاتبه الله تعالى عليها وكانت صغيرة وفطن حين خاطبه الملكان بأن الأولى كان به أن لا يخطب المرأة التي خطبها غيره وقوله (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) يعنى خطبت امرأة واحدة قد كان التراضي منا وقع بتزويجها وما روى في أخيار القصاص من أنه نظر إلى المرأة فرآها متجردة فهويها وقدم زوجها للقتل فإنه وجه لا يجوز على الأنبياء لأن الأنبياء لا يأتون للعاصي مع العلم بأنها معاص إذ لا يدرون لعلها كبيرة تقطعهم عن ولاية الله

٢٥٤

تعالى ويدل على صحة التأويل الأول أنه قال (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) فدل ذلك على أن الكلام إنما كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزويج الآخر وقوله تعالى (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) يدل على أن للخصم أن يخاطب الحاكم بمثله وقوله تعالى (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) من غير أن يسئل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمثل على ما بينا وأن داود قد كان عرف ذلك من فحوى كلامه لو لا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسئله فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به وقوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وهو يعنى الشركاء يدل على أن العادة في أكثر الشركاء الظلم والبغي ويدل عليه أيضا قوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) قوله تعالى (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) يدل على أنه عليه‌السلام لم يقصد المعصية بديا وإن كلام الملكين أوقع له الظن بأنه قد أتى معصية وإن الله تعالى قد شدد عليه المحنة بها لأن الفتنة في هذا الموضع تشديد التعبد والمحنة فحينئذ علم أن ما أتاه كان معصية واستغفر منها وقوله تعالى (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في ص وليست من العزائم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في سجدة ص سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا وروى الزهري عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر سجد في ص وروى عثمان وابن عمر مثله وقال مجاهد قلت لابن عباس من أين أخذت سجدة ص قال فتلا على (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فكان داود سجد فيها فلذلك سجد فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى مسروق عن ابن مسعود أنه كان لا يسجد فيها ويقول هي توبة نبي وقول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلها اقتداء بداود لقوله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) يدل على أنه رأى فعلها واجبا لأن الأمر على الوجوب وهو خلاف رواية عكرمة عنه أنها ليست من عزائم السجود ولما سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها كما سجد في غيرها من مواضع السجود دل على أنه لا فرق بينها وبين سائر مواضع السجود وأما قول عبد الله أنها ليس بسجدة لأنها توبة نبي فإن كثيرا من مواضع السجود إنما هو حكايات عن قوم مدحوا بالسجود نحو قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) وهو موضع السجود للناس بالاتفاق وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى

٢٥٥

عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) ونحوها من الآي التي فيها حكاية سجود قوم فكانت مواضع السجود وقوله (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) يقتضى لزوم فعله عند سماع القرآن فلو خلينا والظاهر أوجبناه في سائر القرآن فمتى اختلفنا في موضع منه فإن الظاهر يقتضى وجوب فعله إلا أن تقوم الدلالة على غيره وأجاز أصحابنا الركوع عن سجود التلاوة وذكر محمد بن الحسن أنه قد روى في تأويل قوله تعالى (وَخَرَّ راكِعاً) أن معناه خر ساجدا فعبر بالركوع عن السجود فجاز أن ينوب عنه إذ صار عبارة عنه قوله تعالى (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) روى أشعث عن الحسن قال العلم بالقضاء وعن شريح قال الشهود والأيمان وعن أبى حصين عن أبى عبد الرحمن السلمى قال فصل الخطاب قال الخصوم قال أبو بكر الفصل بين الخصوم بالحق وهذا يدل على أن فصل القضاء واجب على الحاكم إذا خوصم إليه وأنه غير جائز له إهمال الحكم وهو يبطل قول من يقول إن الناكل عن اليمين يحبس حتى يقرأ ويحلف لأن فيه إهمال الحكم وترك الفصل وروى الشعبي عن زياد أن فصل الخطاب (أما بعد) وليس زياد ممن يعتد به في الأقاويل ولكنه قد روى وعسى أن يكون ذهب إلى أنه فصل بين الدعاء في صدر الكتاب وبين الخطاب المقصود به الكتاب قوله تعالى (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحارث بن أبى أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن حماد بن سلمة عن حميد بن سلمة عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) الآية وقرأ (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ـ إلى قوله ـ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) وروى سليمان بن حرب عن حماد بن أبى سلمة عن حميد قال لما استقضى إياس بن معاوية أتاه الحسن فبكى إياس فقال له الحسن ما يبكيك يا أبا وائلة قال بلغني أن القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار ورجل مال به الهوى فهو في النار ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة قال الحسن إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) فأثنى على سليمان ولم يذم دواد ثم قال

٢٥٦

الحسن إن الله أخذ على الحكام ثلاثا وذكر نحو الحديث الأول قال أبو بكر قد بين في حديث أبى بريدة معنى ما ذكر في الحديث الذي رواه إياس بن معاوية أن القاضي إذا أخطأ فهو في النار وهو ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود السجستاني قال حدثنا محمد بن حسان السمنى قال حدثنا خلف بن خليفة عن أبى هاشم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار فأخبر أن الذي في النار من المخطئين هو الذي تقدم على القضاء بجهل قوله تعالى (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ـ إلى قوله ـ بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) قال مجاهد صفوان الفرس رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر وذاك من عادة الخيل والجياد السراع من الخيل يقال فرس جواد إذا جاء بالركض قوله تعالى (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يحتمل وجهين أحد هما إنى أحببت حب الخير الذي ينال بهذا الخيل فشغلت به عن ذكر ربي وهو الصلاة التي كان يفعلها في ذلك الوقت ويحتمل إنى أحببت حب الخير وهو يريد به الخيل نفسها فسماها خيرا لما ينال بها من الخير بالجهاد في سبيل الله وقتال أعدائه ويكون قوله (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) معناه أن ذلك من ذكرى لربي وقيامي بحقه في اتخاذ هذا الخيل قوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) روى عن ابن مسعود حتى توارت الشمس بالحجاب قال أبو بكر وهو كقول لبيد :

حتى إذا لقيت يدا في كافر

وأجن عورات الثغور ظلامها

وكقول حاتم :

أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فأضمر النفس في قوله حشرجت وقال غير ابن مسعود حتى توارت الخيل بالحجاب وقوله تعالى (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) روى عن ابن عباس أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبالها وهذا كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني قال أخبرنا محمد بن المهاجر قال حدثني عقيل بن شبيب عن أبى وهب الجشمي وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأعجازها أو قال أكفالها وقلدوها ولا

«١٧ ـ احكام مس»

٢٥٧

تقلدوها الأوتار فجائز أن يكون سليمان إنما مسح أعرافها وعراقيبها على نحو ما ندب إليه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روى عن الحسن أنه كشف عراقيبها وضرب أعناقها وقال لا تشغلينى عن عبادة ربي مرة أخرى والتأويل الأول أصح والثاني جائز ومن تأوله على الوجه الثاني يستدل به على إباحة لحوم الخيل إذ لم يكن ليتلفها بلا نفع وليس كذلك لأنه جائز أن يكون محرم الأكل وتعبد الله بإتلافه ويكون المنفعة في تنفيذ الأمر دون غيره ألا ترى أنه كان جائز أن يميته الله تعالى ويمنع الناس من الانتفاع بأكله فكان جائزا أن يتعبد بإتلافه ويحظر الانتفاع بأكله بعده وقوله تعالى (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) روى عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس إن شفيته تقولين لي أنت شفيته فأخبرت بذلك أيوب فقال إن شفاني الله ضربتك مائة سوط فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة قال عطاء وهي للناس عامة وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) فأخذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فضرب به امرأته وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر فقال لها قولي لزوجك يقول كذا وكذا فقالت له قل كذا وكذا فحلف حينئذ أن يضربها فضربها تحلة ليمينه وتخفيفا على امرأته قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن من حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه ضربة واحدة أنه يبر في يمينه إذا أصابه جميعها لقوله تعالى (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) والضغث هو ملء الكف من الخشب أو السياط أو الشماريخ ونحو ذلك فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك فقد بر في يمينه لقوله (وَلا تَحْنَثْ) وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا ضربه ضربة واحدة بعد أن يصيبه كل واحدة منه فقد بر في يمينه وقال مالك والليث لا يبر وهذا القول خلاف الكتاب لأن الله تعالى قد أخبر أن فاعل ذلك لا يحنث وقد روى عن مجاهد أنه قال هي لأيوب خاصة وقال عطاء للناس عامة قال أبو بكر دلالة الآية ظاهرة على صحة القول الأول من وجهين أحدهما أن فاعل ذلك يسمى ضاربا لما شرط من العدد وذلك يقتضى البر في يمينه والثاني أنه لا يحنث لقوله (وَلا تَحْنَثْ) وزعم بعض من يحتج لمذهب مالك أن ذلك لأيوب خاصة لأنه قال (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا

٢٥٨

تَحْنَثْ) فلما أسقط عنه الحنث كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة فأداها أو بمنزلة من لم يحلف على شيء وهذا حجاج ظاهر السقوط لا يحتج بمثله من يعقل ذلك لتناقضه واستحالته ومخالفته لظاهر الكتاب وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه إذا فعل ذلك لم يحنث واليمين تتضمن شيئين حنثا أو برا فإذا أخبر الله أنه لا يحنث فقد أخبر بوجود البر إذ ليس بينهما واسطة فتناقضه واستحالته من جهة أن قوله هذا يوجب أن كل من بر في يمينه بأن يفعل المحلوف عليه كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة على قضيته لسقوط الحنث ولو كان لأيوب خاصة وكان عبادة تعبد بها دون غيره كان الله أن يسقط عنه الحنث ولا يلزمه شيئا وإن لم يضربها بالضغث فلا معنى على قوله لضربها بالضغث إذ لم يحصل به بر في اليمين وزعم هذا القائل أن لله تعالى أن يتعبد بما شاء في الأوقات وفيما تعبدنا به ضرب الزاني قال ولو ضربه ضربة واحدة بشماريخ لم يكن حدا قال أبو بكر أما ضرب الزاني بشماريخ فلا يجوز إذا كان صحيحا سليما وقد يجوز إذا كان عليلا يخاف عليه لأنه لو أفرد كل ضربة لم يجز إذا كان صحيحا ولو جمع أسواطا فضربه بها وأصابه كل أحد منها وأعيد عليه ما وقع عليه من الأسواط وإن كانت مجتمعة فلا فرق بين حال الجمع والتفريق وأما في المرض فجائز أن يقتصر من الضرب على شماريخ أو درة أو نحو ذلك فيجوز أن يجمعه أيضا فيضربه به ضربة وقد روى في ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمدانى قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنى يونس عن ابن شهاب قال أخبرنى أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال استفتوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنى قد وقعت على جارية دخلت على فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا ما رأينا أحدا به من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذوا له شماريخ مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد وقال فيه فخذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ففعلوا وهو سعيد بن سعد بن عبادة وقد أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو أمامة بن سهل بن حنيف هذا ولد في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٥٩

(فصل) وفي هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا لولا ذلك لم يكن أيوب ليحلف عليه ويضربها ولما أمره الله تعالى بضربها بعد حلفه والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزا بقوله (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ ـ إلى قوله ـ وَاضْرِبُوهُنَ) وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديبا لغير نشوز وقوله تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) فما روى من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب لأنه روى أن رجلا لطم امرأته على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أهلها القصاص فأنزل الله (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) وفي الآية دليل على أن للرجل أن يحلف ولا يستثنى لأن أيوب حلف ولم يستثن ونظيره من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله في قصة الأشعريين حين استحملوه فقال والله لا أحملكم ولم يستثن ثم حملهم وقال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وفيها دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ثم فعل المحلوف عليه أن عليه الكفارة لأنه لو لم تجب كفارة لترك أيوب ما حلف عليه ولم يحتج إلى أن يضربها بالضغث وهو خلاف قول من قال لا كفارة عليه إذا فعل ما هو خير وقد روى فيه حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وذلك كفارته وفيها دليل على أن التعزير يجاوز به الحد لأن في الخبر أنه حلف أن يضربها مائة فأمره الله تعالى بالوفاء به إلا أنه روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين وفيها دليل على أن اليمين إذا كانت مطلقة فهي على المهلة وليست على الفور لأنه معلوم أن أيوب لم يضرب امرأته في فور صحته ويدل على أن من حلف على ضرب عبده أنه لا يبر إلا أن يضربه بيده لقوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) إلا أن أصحابنا قالوا فيمن لا يتولى الضرب بيده إن أمر غيره بضربه لا يحنث للعرف وفيها دليل على أن الاستثناء لا يصح إلا أن يكون متصلا باليمين لأنه لو صح الاستثناء متراخيا عنها لأمر بالاستثناء ولم يؤمر بالضرب وفيها دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر آخر سورة ص.

٢٦٠