أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب من الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ـ حتى بلغ ـ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه فقال اكفف عليك هذا قلت يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال تلا قتادة (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) قال قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وروى أبو إسحاق عن أبى عبيدة عن عبد الله قال للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم تلا (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) وروى عن مجاهد وعطاء (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) قالا العشاء الآخرة وقال الحسن (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء وقال الضحاك في قوله (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) إنهم يذكرون الله بالدعاء والتعظيم وقال قتادة خوفا من عذاب الله وطمعا في رحمة الله مما رزقناهم ينفقون في طاعة الله آخر سورة السجدة.

سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) روى عن ابن عباس رواية إنه كان رجل من قريش يدعى ذا القلبين من دهائه وعن مجاهد وقتادة مثله وعن ابن عباس أيضا كان المنافقون يقولون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلبان فأكذبهم الله تعالى وقال الحسن كان رجل يقول لي نفس تأمرنى ونفس تنهاني فأنزل الله فيه هذا وروى عن مجاهد أيضا أن رجلا من بنى فهر قال في جوفي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد فكذبه الله عز وجل وذكر أبو جعفر الطحاوي أنه لم يرو في تفسيرها غير ما ذكرنا قال وحكى

٢٢١

الشافعى عن بعض أهل التفسير ممن لم يسمه في احتجاجه على محمد في نفى أن يكون الولد من رجلين أنه أريد بها ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام قال أبو بكر اللفظ غير محتمل لما ذكر لأن القلب لا يعبر به عن الأب لا مجازا ولا حقيقة ولا ذلك اسم له في الشريعة فتأويل الآية على هذا المعنى خطأ من وجوه وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى جارية مجحا فقال لمن هذه الجارية فقالوا لفلان فقال أيطؤها قالوا نعم قال لقد هممت أن ألعنه لعنة رجل يدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له أم كيف يسترقه وقد غذاه في سمعه وبصره فقوله قد غذاه في سمعه وبصره يدل على أن الولد يكون من ماء رجلين وقد روى عن على وعمر إثبات نسب الولد من رجلين ولا يعرف عن غيرهما من الصحابة خلافه وقوله تعالى (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) قال أبو بكر كانوا يظاهرون من نسائهم فيقولون أنت على كظهر أمى فأخبر الله تعالى أنها لا تصير بمنزلة أمه في التحريم وجعل هذا القول منكرا من القول وزورا بقوله تعالى (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) وألزمه بذلك تحريما ترفعه الكفارة وأبطل ما أوجبه المظاهر من جعله إياها كالأم لأن تحريمها تحريما مؤبدا وقوله تعالى (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) قيل إنه نزل في زيد بن حارثة وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبناه فكان يقال له زيد بن محمد وروى ذلك عن مجاهد وقتادة وغيرهما قال أبو بكر هذا يوجب نسخ السنة بالقرآن لأن الحكم الأول كان ثابتا بغير القرآن ونسخه بالقرآن وقوله تعالى (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) يعنى أنه لا حكم له وإنما هو قول لا معنى له ولا حقيقة وقوله تعالى (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) فيه إباحة إطلاق اسم الأخوة وحظر إطلاق اسم الأبوة من غير جهة النسب ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لعبده هو أخى لم يعتق إذا قال لم أرد به الأخوة من النسب لأن ذلك يطلق في الدين ولو قال هو ابني عتق لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم إنه غير أبيه فالجنة عليه حرام وقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) روى ابن أبى نجيح عن مجاهد وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به قال قيل هذا النهى في هذا أو في غيره ولكن ما تعمدت قلوبكم والعمد ما آثرته بعد البيان في النهى في هذا أو في غيره وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق

٢٢٢

قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) قال قتادة لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه ليس عليك بأس وسمع عمر بن الخطاب رجلا وهو يقول اللهم اغفر لي خطاياي فقال استغفر الله في العمد فأما الخطأ فقد تجوز عنك قال يقول ما أخاف عليكم الخطأ ولكني أخاف عليكم العمد وما أخاف عليكم المقاتلة ولكني أخاف عليكم التكاثر وما أخاف عليكم. أن تزدروا أعمالكم ولكني أخاف عليكم أن تستكثروها وقوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قال أخبرنى أبو سلمة عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى وإن ترك مالا فهو لورثته وقيل في معنى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أنه أحق بأن يختار ما دعا إليه من غيره ومما تدعوه إليه أنفسهم وقيل إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق أن يحكم في الإنسان بما لا يحكم به في نفسه لوجوب طاعته لأنها مقرونة بطاعة الله تعالى قال أبو بكر الخبر الذي قدمنا لا ينافي ما عقبناه به من المعنى ولا يوجب الاقتصار بمعناه على قضاء الدين المذكور فيه وذلك لأنه جائز أن يكون مراده إنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم في أن يختاروا ما أدعوهم إليه دون ما تدعوهم أنفسهم إليه وأولى بهم في الحكم عليهم ولزومهم اتباعه وطاعته ثم أخبر بعد ذلك بقضاء ديونهم وقوله تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) قيل فيه وجهان أحدهما أنهم كأمهاتهم في وجوب الإجلال والتعظيم والثاني تحريم نكاحهن وليس المراد أنهم كالأمهات في كل شيء لأنه لو كان كذلك لما جاز لأحد من الناس أن يتزوج بناتهن لأنهن يكن أخوات للناس وقد زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناته ولو كن أمهات في الحقيقة ورثن المؤمنين وقد روى في حرف عبد الله وهو أب لهم ولو صح ذلك كان معناه أنه كالأب لهم في الإشفاق عليهم وتحرى مصالحهم كما قال تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) روى عن محمد بن الحنفية أنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني وعن الحسن أن تصلوا أرحامكم وقال عطاء هو المؤمن والكافر بينهما قرابة إعطاؤه له

٢٢٣

أيام حياته ووصيته له وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) قال إلا أن يكون لك ذو قرابة ليس على دينك فتوصى له بشيء هو وليك في النسب وليس وليك في الدين وقوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) من الناس من يحتج به في وجوب أفعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولزوم التأسى به فيها ومخالفو هذه الفرقة يحتجون به أيضا في نفى إيجاب أفعاله فأما الأولون فإنهم ذهبوا إلى أن التأسى به هو الاقتداء به وذلك عموم في القول والفعل جميعا فلما قال تعالى (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) دل على أنه واجب إذ جعله شرطا للإيمان كقوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ونحوه من الألفاظ المقرونة إلى الإيمان فيدل على الوجوب واحتج الآخرون بأن قوله (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) يقتضى ظاهره الندب دون الإيجاب لقوله تعالى (لَكُمْ) مثل قول القائل لك أن تصلى ولك أن تتصدق لا دلالة فيه على الوجوب بل يدل ظاهره على أن له فعله وتركه وإنما كان يدل على الإيجاب لو قال عليكم التأسى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر والصحيح أنه لا دلالة فيه على الوجوب بل دلالته على الندب أظهر منها على الإيجاب لما ذكرنا ومع ذلك ورد بصيغة الأمر لما دل على الوجوب في أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن التأسى به هو أن نفعل مثل ما فعل ومتى خالفناه في اعتقاد الفعل أو في معناه لم يكن ذلك تأسيا به ألا ترى أنه إذا فعله على الندب وفعلناه على الوجوب كنا غير متأسين به وإذا فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلا لم يجز لنا أن نفعله على اعتقاد الوجوب فيه حتى نعلم أنه فعله على ذلك فإذا علمنا أنه فعله على الوجوب لزمنا فعله على ذلك الوجه لا من جهة هذه الآية إذ ليس فيها دلالة على الوجوب لكن من جهة ما أمرنا الله تعالى باتباعه في غير هذه الآية وقوله تعالى (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) قيل إنه وعدهم أنهم إذا لقوا المشركين ظفروا بهم واستعلوا عليهم كقوله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وقال قتادة الذي وعدهم في قوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية وقوله تعالى (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) أخبار عن صفتهم في حال المحنة وأنهم ازدادوا عندها يقينا وبصيرة وذلك صفة أهل البصائر في الإيمان بالله وقوله تعالى (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) قيل إن النحب النذر أى قضى نذره

٢٢٤

الذي نذره فيما عاهد الله عليه وقال الحسن قضى نحبه مات على ما عاهد عليه ويقال إن النحب الموت والنحب المد في السير يوما وليلة وقال مجاهد قضى نحبه عهده قال أبو بكر لما كان النحب قد يجوز أن يكون المراد به العهد والنذر وقد مدحهم الله على الوفاء به بعينه دل ذلك على أن من نذر قربة فعليه الوفاء به بعينه دون كفارة اليمين وقوله تعالى (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) قيل في الصياصي أنها الحصون التي كانوا يمتنعون بها وأصل الصيصة قرن البقرة وبها تمتنع وتسمى بها شوكة الديك لأنه بها يمتنع فسميت الحصون صياصي على هذا المعنى وروى أن المراد بها بنو قريظة كانوا نقضوا العهد وعاونوا الأحزاب وقال الحسن هم بنو النضير وسائر الرواة على أنهم بنو قريظة وظاهر الآية يدل عليه لأنه قال تعالى (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) ولم يقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى النضير ولا أسرهم وإنما أجلاهم عن بلادهم وقوله تعالى (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) يعنى به أرض بنى قريظة وعلى تأويل من تأوله على بنى النضير فالمراد أرض بنى النضير وقوله تعالى (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) قال الحسن أرض فارس والروم وقال قتادة مكة وقال يزيد بن رومان خيبر قال أبو بكر من الناس من يحتج به في أن الأرضين العنوية التي يظهر عليها الإمام يملكها الغانمون ولا يجوز للإمام أن يقر أهلها عليها على أنها ملك لهم لقوله (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) وظاهره يقتضى إيجاب الملك لهم ولا دلالة فيه على ما ذكروا لأن ظاهره قوله (وَأَوْرَثَكُمْ) لا يختص بإيجاب الملك دون الظهور والغلبة وثبوت اليد ومتى وجد أحد هذه الأشياء فقد صح معنى اللفظ قال الله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ولم يرد بذلك الملك وأيضا فلو صح أن المراد الملك كان ذلك في أرض بنى قريظة في قوله (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) وأما قوله (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) فإنه يقتضى أرضا واحدة لا جميع الأرضين فإن كان المراد خيبر فقد ملكها المسلمون وإن كان المراد أرض فارس والروم لقد ملك المسلمون بعض أرض فارس والروم فقد وجد مقتضى الآية ولا دلالة فيه على أن سبيلهم أن يملكوا جميعها إذ كان قوله (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) لم يتناول إلا أرضا واحدة فلا دلالة فيه على قول المخالف وقوله تعالى

«١٥ ـ احكام مس»

٢٢٥

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) الآية حدثنا عبد الله ابن محمد المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت لما نزلت (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) دخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبدأ بي فقال يا عائشة إنى ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك قالت قد علم الله تعالى إن أبوى لم يكونا يأمر اننى بفراقه قالت فقرأ على (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية فقلت أفي هذا أستأمر أبوى فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة وروى غير الجرجانى عن عبد الرزاق قال معمر فأخبرنى أيوب أن عائشة قالت يا رسول الله لا تخبر أزواجك أنى أختارك قال إنما بعثت معلما ولم أبعث متعنتا قال أبو بكر اختلف الناس في معنى تخيير الآية فقال قائلون وهم الحسن وقتادة إنما خيرهن بين الدنيا والآخرة لأنه قال (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ـ إلى قوله ـ (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) وقال آخرون بل كان تخييرا للطلاق على شريطة أنهن إذا اخترن الدنيا وزينتها كن مختارات للطلاق لأنه تعالى قال (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) فجعل اختيارهن للدنيا اختيارا للطلاق ويستدلون عليه أيضا بما روى مسروق عن عائشة أنها سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت قد خيرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفكان طلاقا وفي بعض الأخبار فاخترناه فلم يعده طلاقا قالوا ولم يثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرهن إلا الخيار المأمور به في الآية ويدل عليه ما قدمناه من حديث عروة عن عائشة أنها لما نزلت الآية قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك قالت قد علم الله أن أبوى لم يكونا يأمراننى بفراقه ثم تلا عليها الآية قالت إنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة فقالوا هذا الخبر أيضا قد حوى الدلالة من وجوه على أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة وبين اختيارهن الطلاق أو البقاء على النكاح لأنه قال لها لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمرى أبويك ومعلوم أن الاستئمار لا يقع في اختيار الدنيا على الآخرة فثبت أن الاستئمار إنما أريد به في الفرقة أو الطلاق أو النكاح وقولها إن أبوى لم يكونا يأمراننى بفراقه وقولها إنى أريد الله ورسوله فهذه الوجوه كلها تدل على أن الآية قد اقتضت التخيير بين الطلاق والنكاح واحتج من قال لم يكن تخيير طلاق بقوله تعالى

٢٢٦

(تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) فإنما أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلقهن إذا اخترن الدنيا ولم يوجب ذلك وقوع طلاق باختيارهن كما يقول القائل لامرأته إن اخترت كذا طلقتك يريد به استئناف إيقاع بعد اختيارها لما ذكره قال أبو بكر قد اقتضت الآية لا محالة تخييرهن بين الفراق وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن قوله (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) قد دل على إضمار اختيارهن فراق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) إذ كان النسق الآخر من الاختيار هو اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدار الآخرة فثبت أن الاختيار الآخر إنما هو اختيار فراقه ويدل عليه قوله (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) والمتعة إنما هي بعد اختيارهن للطلاق وقوله (وَأُسَرِّحْكُنَ) إنما المراد إخراجهن من بيوتهن بعد الطلاق كما قال تعالى (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ ـ إلى قوله ـ سَراحاً جَمِيلاً) فذكر المتعة بعد الطلاق وأراد بالتسريح إخراجها من بيته وقد اختلف السلف فيمن خيرا امرأته فقال على رضى الله عنه إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وذلك في رواية زادان عنه وروى أبو جعفر عن على أنها إذا اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وقال عمر وعبد الله رضى الله عنهما في الخيار وأمرك بيدك إن اختارت نفسها فواحدة رجعية وإن اختارت زوجها فلا شيء وقال زيد بن ثابت في الخيار ان اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فثلاث وقال في أمرك بيدك إن اختارت نفسها فواحدة رجعية واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة إذا أراد الزوج الطلاق ولا يكون ثلاثا وإن نوى وقالوا في أمرك بيدك مثل ذلك إلا أن ينوى ثلاثا فيكون ثلاثا وقال ابن أبى ليلى والشورى والأوزاعى في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة يملك بها الرجعة وقال مالك في الخيار إنه ثلاث إذا اختارت نفسها وإن طلقت نفسها واحدة لم يقع شيء وقال في أمرك بيدك إذا قالت أردت واحدة فهي واحدة يملك الرجعة ولا يصدق في الخيار أنه أراد واحدة ولو قال اختاري تطليقة فطلقت نفسها فهي واحدة رجعية وقال الليث في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فهي بائنة وقال الشافعى في اختاري وأمرك بيدك ليس بطلاق إلا أن

٢٢٧

يريد الزوج ولو أراد طلاقها فقالت قد اخترت نفسي فإن أرادت طلاقا فهو طلاق وإن لم ترده فليس بطلاق* قال أبو بكر التخيير في نفسه ليس بطلاق لا صريح ولا كناية ولذلك قال أصحابنا إنه لا يكون ثلاثا وإن أرادهن ويدل عليه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير نساءه فاخترنه فلم يكن ذلك طلاقا ولأن الخيار لا يختص بالطلاق دون غيره فلا دلالة فيه عليه وليس هو عندكم كقوله اعتدى أن يكون طلاقا إذا نوى لأن العدة من موجب الطلاق فالطلاق مدلول عليه باللفظ وإنما جعلوا الخيار طلاقا إذا اختارت نفسها بالاتفاق وبأنه معلوم أن تخيير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه لما كان بين الفراق والبقاء على النكاح إنهن لو اخترن أنفسهن لوقعت الفرقة لو لا ذلك لم يكن للتخيير معنى وتشبيها له أيضا بسائر الخيارات التي تحدث في النكاح كخيار امرأة العنين والمجبوب فيقع به الطلاق إذا اختارت الفرقة ومن أجل ذلك لم يجعلوه ثلاثا لأن الخيارات الحادثة في الأصول لا تقع بها ثلاث.

(فصل) قال أبو بكر ومن الناس من يحتج بهذه الآية في إيجاب الخيار وفي التفريق لامرأة العاجز عن النفقة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خير بين الدنيا والآخرة فاختار الفقر والآخرة أمر الله بتخير نسائه فقال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) الآية قال أبو بكر لا دلالة فيها على ما ذكروا وذلك لأن الله علق اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفراقهن بإرادتهن الحياة الدنيا وزينتها ومعلوم أن من أراد من نسائنا الحياة الدنيا وزينتها لم يوجب ذلك تفريقا بينها وبين زوجها فلما كان السبب الذي من أجله أوجب الله التخيير المذكور في الآية غير موجب للتخيير في نساء غيره فلا دلالة فيه على التفريق بين امرأة العاجز عن النفقة وبينه وأيضا فإن اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للآخرة دون الدنيا وإيثاره للفقر دون الغنى لم يوجب أن يكون عاجزا عن نفقة نسائه لأن الفقير قد يقدر على نفقة نسائه مع كونه فقيرا ولم يدع أحد من الناس ولا روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عاجزا عن نفقة نسائه بل كان يدخر لنسائه قوت سنة فالمستدل بهذه الآية على ما ذكر مغفل لحكمها قوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) قيل في تضعيف عذابهن وجهان أحدهما أنه لما كانت نعم الله عليهن أكثر منها على غيرهن بكونهن أزواجا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزول الوحى في بيوتهن وتشريفهن بذلك كان

٢٢٨

كفرانها منهن أعظم وأجدر بعظم العقاب لأن النعمة كلما عظمت كان كفرانها أعظم فيما يستحق به من العقاب إذ كان استحقاق العقاب على حسب كفران النعمة ألا ترى أن من لطم أباه استحق من العقوبة أكثر مما يستحقه من لطم أجنبيا لعظم نعمة أبيه عليه وكفرانه لها بلطمته ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في نسق التلاوة (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) فدل على أن تضعيف العذاب عليهن بالمعصية لأجل عظم النعمة عليهن بتلاوة آيات الله في بيوتهن ومن أجل ذلك عظمت طاعاتهن أيضا بقوله (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) لأن الطاعة في استحقاق الثواب بها بإزاء المعصية في استحقاق العقاب بها والوجه الآخر أن في إتيانهن المعاصي أذى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما يلحق من العار والغم ومعلوم أن من آذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أعظم جرما ممن آذى غيره وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ثم قال (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ولما عظم الله تعالى طاعات أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوجب بها الأجر مرتين دل بذلك على أن أجر العامل العالم أفضل وثوابه أعظم من العامل غير العالم وقوله تعالى (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) قد دل على ذلك قوله تعالى (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) قيل فيه أن لا تلين القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن من أهل الريبة وفيه الدلالة على أن ذلك حكم سائر النساء في نهيهن عن إلانة القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن ويستدل به على رغبتهن فيهم والدلالة على أن الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث يسمعها الرجال وفيه الدلالة على أن المرأة منهية عن الأذان وكذلك قال أصحابنا وقال الله تعالى في آية أخرى (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) فإذا كانت منهية عن إسماع صوت خلخالها فكلامها إذا كانت شابة تخشى من قبلها الفتنة أولى بالنهى عنه وقوله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) روى هشام عن محمد بن سيرين قال قيل لسودة بنت زمعة ألا تخرجين كما تخرج إخوتك قالت والله لقد حججت واعتمرت ثم أمرنى الله أن أقر في بيتي فو الله لا أخرج فما خرجت حتى أخرجوا جنازتها وقيل إن معنى وقرن في بيوتكن كن أهل وقار وهدوء وسكينة يقال وقرفلان في منزله يقر وقورا إذا هدأ فيه واطمأن به وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم

٢٢٩

البيوت منهيات عن الخروج وقوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) روى ابن أبى نجيح عن مجاهد ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى قال كانت المرأة تتمشى بين أيدى القوم فذلك تبرج الجاهلية وقال سعيد عن قتادة ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى يعنى إذا خرجتن من بيوتكن قال كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهاهن الله عن ذلك وقيل هو إظهار المحاسن للرجال وقيل في الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام والجاهلية الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أولئك فهذه الأمور كلها مما أدب الله تعالى به نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صيانة لهن وسائر نساء المؤمنين مرادات بها وقوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) روى عن أبى سعيد الخدري أنها نزلت في على وفاطمة والحسن والحسين وقال عكرمة في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ومن قال بذلك

يحتج بأن ابتداء الآية ونسقها في ذكر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا ترى إلى قوله (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) وقال بعضهم في أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أزواجه لاحتمال اللفظ للجميع وقوله تعالى (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فيه الدلالة على أن أوامر الله وأوامر رسوله على الوجوب لأنه قد نفى بالآية أن تكون لنا الخيرة في ترك أوامر الله وأوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو لم يكن على الوجوب لكنا مخيرين بين الترك والفعل وقد نفت الآية التخيير وقوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في نسق ذكر الأوامر يدل على ذلك أيضا وأن تارك الأمر عاص لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد انتظمت الآية الدلالة على وجوب أوامر الله وأوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجهين أحدهما أنها نفت التخيير معهما والثاني أن تارك الأمر عاص الله ورسوله وقوله تعالى (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) الآية روى سفيان بن عيينة عن على بن زيد قال قال لي على بن الحسين ما كان الحسين يقول في قوله تعالى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) قال قلت كان يقول إنها كانت تعجبه وأنه قال لزيد اتق الله وأمسك عليك زوجك قال لا ولكن الله أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه فلما جاءه زيد يشكو منها قال له اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وقيل إن زيدا قد كان يخاصم امرأته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودام الشر بينهما حتى ظن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها فأضمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إن طلقها زيد تزوجها وهي زينب بنت جحش وكانت بنت عمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٣٠

فأراد أن يضمها إليه صلة لرحمها وإشفاقا عليها فعاتبه الله على إضمار ذلك وإخفائه وقوله لزيد اتق الله أمسك عليك زوجك وأراد أن يكون باطنه وظاهره عند الناس سواء كما قال في قصة عبد الله بن سعد حين قيل له هلا اومأت إلينا بقتله فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين وأيضا فإن ذلك لم يكن مما يجب إخفاءه لأنه مباح جائز والله تعالى عالم به وهو أحق بأن يخشى من الناس وقد أباحه الله تعالى فالناس أولى بأن لا يخشوا في إظهاره وإعلانه وهذه القصة نزلت في زيد بن حارثة وكان ممن أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه بالعتق ولذلك قيل للمعتق مولى نعمه وقوله تعالى (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) الآية قد حوت هذه الآية أحكاما أحدها الإبانة عن علة الحكم في إباحة ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن ذلك قد اقتضى إباحته للمؤمنين فدل على إثبات القياس في الأحكام واعتبار المعاني في إيجابها والثاني أن النبوة من جهة التبني لا تمنع جواز النكاح والثالث أن الأمة مساوية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحكم إلا ما خصه الله تعالى به لأنه أخبر أنه أحل ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون المؤمنون مساوين له قوله عز وجل (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) فإن الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدعاء قال الأعشى :

عليك مثل الذي صليت فاغتمضى

نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

وروى معمر عن الحسن في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) قال إن بنى إسرائيل سألوا موسى عليه‌السلام هل يصلى ربك فكان ذلك كبر في صدره فسأله فأوحى الله إليه أن أخبرهم أنى أصلى وإن صلاتي رحمتي سبقت غضبى فإن قيل من أصلكم إنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان وقد جاء في القرآن اشتمال لفظ الصلاة على معنى الرحمة والدعاء جميعا قيل له هذا يجوز عندنا في الألفاظ المجملة والصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان فلا يمتنع إرادة المعاني المختلفة فيما كان هذا سبيله قال قتادة في قوله (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) صلاة الضحى وصلاة العصر وقوله تعالى (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سراجا منيرا تشبيها له بالسراج الذي به يستنار الأشياء في الظلمة لأنه بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد طبقت على الأرض ظلمة الشرك فكان كالسراج الذي يظهر في الظلمة وكما سمى القرآن نورا وهدى وروحا وسمى جبريل عليه‌السلام روحا لأن

٢٣١

الروح بها يحيى الحيوان وذلك كله مجاز واستعارة وتشبيه وقوله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) قال قتادة تحية أهل الجنة السلام قال أبو بكر هو مثل قوله (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ).

باب الطلاق قبل النكاح

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) قال أبو بكر قد تنازع أهل العلم في دلالة هذه الآية في صحة إيقاع طلاق المرأة بشرط التزويج وهو أن يقول إن تزوجت امرأة فهي طالق فقال قائلون قد اقتضت الآية إلغاء هذا القول وإسقاط حكمه إذ كانت موجبة لصحة الطلاق بعد النكاح وهذا القائل مطلق قبل النكاح وقال آخرون دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح ومن قال لأجنبية إذا تزوجتك فأنت طالق فهو مطلق بعد النكاح فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه وهذا القول هو الصحيح وذلك لأنه لا يخلو العاقد لهذا القول من أن يكون مطلقا في حال العقد أو في حال الإضافة ووجود الشرط فلما اتفق الجميع على أن من قال لامرأته إذا بنت منى وصرت أجنبية فأنت طالق أنه موقع للطلاق في حال الإضافة لا في حال القول وأنه بمنزلة من أبان امرأته ثم قال لها أنت طالق فسقط حكم لفظه ولم يعتبر حال العقد مع وجود النكاح فيها صح أن الاعتبار بحال الإضافة دون حال العقد فإن القائل للأجنبية إذا تزوجتك فأنت طالق موقع للطلاق بعد الملك وقد اقتضت الآية إيقاع الطلاق لمن طلق بعد الملك وقد اختلف الفقهاء في ذلك على ضروب من الأقاويل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو قال كل مملوك أملكه فهو حر إن من تزوج تطلق ومن ملك من المماليك يعتق ولم يفرقوا بين من عم أو خص وقال ابن أبى ليلى إذا عم لم يقع وإن سمى شيئا بعينه أو جماعة إلى أجل وقع وكذلك قول مالك وذكر عن مالك أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجلا يعلم أنه لا يبلغه فقال إن تزوجت امرأة إلى كذا وكذا سنة لم يلزمه شيء ثم قال مالك ولو قال كل عبد أشتريه فهو حر فلا شيء عليه وقال الثوري إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لزمه ما قال وهو

٢٣٢

قول عثمان البتى وقال الأوزاعى فيمن قال لامرأته كل جارية أتسرى بها عليك فهي حرة فتسرى عليها جارية فإنها تعتق وقال الحسن بن صالح إذا قال كل مملوك أملكه فهو حر فليس بشيء ولو قال أشتريه أو أرثه أو نحو ذلك عتق إذا ملك بذلك الوجه لأنه خص ولو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فليس بشيء ولو قال من بنى فلان أو من أهل الكوفة أو آل كذا لزمه قال الحسن لا نعلم أحدا منذ وضعت الكوفة أفتى بغير هذا وقال الليث فيما خص أنه يلزمه في الطلاق والعتق وقال الشافعى لا يلزمه من ذلك شيء لا إذا خص ولا إذا عم وقد اختلف السلف أيضا في ذلك روى عن ياسين الزيات عن عطاء الخراساني عن أبى سلمة بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب قال في رجل قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال هو كما قال وروى مالك عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأته قبل أن يتزوجها فقال القاسم إن رجلا خطب امرأة فقال هي على كظهر أمى إن تزوجتها فأمره عمر بن الخطاب أن يتزوجها ولا يقربها حتى يكفر كفارة الظهار وروى الثوري عن محمد بن قيس عن إبراهيم عن الأسود أنه قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها ناسيا فأتى ابن مسعود فذكر ذلك له فألزمه الطلاق وهو قول النخعي والشعبي ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وقال الشعبي إذا سمى امرأة بعينها أو قال إن تزوجت من بنى فلان فهو كما قال وإذا قال كل امرأة أتزوجها فليس بشيء وقال سعيد بن المسيب إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فليس بشيء وقال القاسم بن سالم وعمر بن عبد العزيز هو جائز عليه وروى عن ابن عباس في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق إنه ليس بشيء وروى عن عائشة وجابر في آخرين من التابعين قالوا لا طلاق قبل نكاح ولا دلالة في هذا اللفظ على مخالفة قول أصحابنا لأن عندنا أن من قال إن تزوجت امرأة فهي طالق أنه مطلق بعد النكاح وما قدمنا من دلالة الآية على صحة قولنا كاف في الاحتجاج على المخالف وتصحيح المقالة ويدل عليه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) اقتضى ظاهره إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه فلما كان هذا القائل عاقدا على نفسه إيقاع طلاق بعد النكاح وجب أن يلزمه حكمه ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمون عند شروطهم أوجب ذلك ان كل من شرط على نفسه شرطا ألزم حكمه عند وجود شرطه ويدله عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على أن النذر لا يصح إلا في ملك وإن من قال إن رزقني الله ألف درهم فلله على

٢٣٣

أن أتصدق بمائة منها أنه ناذر في ملكه من حيث أضافه إليه وإن لم يكن مالكا في الحال فكذلك الطلاق والعتق إذا أضافهما إلى الملك كان مطلقا ومعتقا في الملك ويدل عليه أن من قال لجاريته إن ولدت ولدا فهو حر فحملت بعد ذلك وولدت أنه يعتق وإن لم يكن مالكا في حال القول لأن الولد مضاف إلى الأم التي هو مالكها كذلك إذا أضاف العتق إلى الملك فهو معتق في الملك وإن لم يكن له ملك موجود في الحال وأيضا قد اتفق الجميع على أنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها مع بقاء النكاح أنها تطلق ويكون بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال أنت طالق ولو أبانها ثم دخلها كان بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال أنت طالق فلا تطلق فدل ذلك على أن الحالف يصير كالمتكلم بالجواب في ذلك الوقت فوجب أن يكون القائل كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج بمنزلة من تزوج ثم قال لها أنت طالق فإن قيل لو كان هذا صحيحا لوجب أنه لو حلف ثم جن فوجد شرط اليمين أن لا يحنث لأنه بمنزلة المتكلم بالجواب في ذلك الوقت قيل له لا يجب ذلك لأن المجنون لا قول له وقوله وسكوته بمنزلة فلما لم يصح قوله لم يصح إيقاعه ابتداء ولما كان قوله قبل الجنون صحيحا لزمه حكمه في حال الجنون ومع ذلك فإن المجنون قد يصح طلاق امرأته وعتق عبده لأنه لو كان مجنون أو عنينا لفرق بينه وبينها وكان طلاقا ولو ورث أباه عتق عليه كالنائم لا يصح منه ابتداء الإيقاع ويلزمه حكمه بسبب يوجبه مثل أن يكون قد وكل بعتق عبده أو طلاق امرأته فطلق وهو نائم فإن قيل قد روى عن على ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا طلاق قبل نكاح قيل له أسانيدها مضطربة لا يصح من جهة النقل ولو صح من جهة النقل لم يدل على موضع الخلاف لأن من ذكرنا مطلق بعد النكاح وأيضا فإنه نفى بذلك إيقاع طلاق قبل النكاح ولم ينف العقد فلما كان قوله لا طلاق قبل نكاح حقيقته نفى الإيقاع والعقد على الطلاق ليس بطلاق لم يتناوله اللفظ من وجهين أحدهما أن إطلاق ذلك في العقد مجاز لا حقيقة لأن من عقد يمينا على طلاق لإيقاع أنه قد طلق ما لم يقع وحكم اللفظ حمله على الحقيقة حتى تقوم دلالة المجاز والثاني أنهم لم يختلفوا أنه مستعمل في الحقيقة فغير جائز أن يراد به المجاز لأن لفظا واحدا لا يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز وقد روى عن الزهري في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا طلاق قبل نكاح إنما هو أن يذكر للرجل المرأة فيقال له تزوجها فيقول هي طالق البتة فهذا ليس

٢٣٤

بشيء فأما من قال إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة فإنما طلقها حين تزوجها وكذلك في الحرية وقد قيل فيه إنه إن أراد العقد فهو الرجل يقول لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق ثم يتزوجها فتدخل الدار فلا تطلق وإن كان الدخول في حال النكاح* قال أبو بكر لا فرق بين من خص أو عم لأنه إن كان إذا خص فهو مطلق في الملك وكذلك حكمه إذا عم وإن كان إذا عم غير مطلق في ملك فكذلك في حال الخصوص فإن قيل إذا عم فقد حرم جميع النساء على نفسه كالمظاهر لما حرم امرأته تحريما مبهما لم يثبت حكمه قيل له هذا غلط من وجوه أحدها إن المظاهر إنما قصد تحريم امرأة بعينها ومن أصل المخالف أنه إذا عين وخص وقع طلاقه وإنما لا يوقعه إذا عم فواجب على أصله أن لا يقع طلاقه وإن خص كما لم تحرم المظاهر منها تحريما مبهما وأيضا فإن الله تعالى لم يبطل حكم ظهاره وتحريمه بل حرمها عليه بهذا القول وأثبت عليه حكم ظهاره وأيضا إن الحالف بطلاق من يتزوج من النساء غير محرم للنساء على نفسه لأنه لم يوجب بذلك تحريم النكاح وإنما أوجب طلاقا بعد صحة النكاح ووقوع استباحة البضع وأيضا فإنه إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق متى ألزمناه ما عقد عليه من الطلاق لم يكن تحريم المرأة مبهما بل إنما تطلق واحدة ويجوز له أن يتزوجها ثانيا ولا يقع شيء فهذه الوجوه كلها تنبئ عن إغفال هذا السائل في سؤاله ذلك وأنه لا تعلق له بالمسألة قال أبو بكر ومن الناس من يقول إذا قال إن تزوجتها فهي طالق وإن اشتريته فهو حر أنه لا يقع إلا أن يقول إذا صح نكاحي لك فأنت طالق بعد ذلك وإذا ملكتك بالشرى فأنت حر وذهب إلى أنه إذا جعل النكاح والشرى شرطا للطلاق والعتاق فسبيل ذلك البضع وملك الرقبة أن يقعا بعد العقد وهذه هي حال إيقاع الطلاق والعتق فيرد الملك والطلاق والعتاق معا فلا يقعان لأن الطلاق والعتاق لا يقعان إلا في ملك مستقر قبل ذلك قال أبو بكر وهذا لا معنى له لأن القائل إذا تزوجتك فأنت طالق وإذا اشتريتك فأنت حر معلوم من فحوى كلامه أنه أراد به إيقاع الطلاق بعد صحة النكاح وإيقاع العتاق بعد صحة الملك فيكون بمنزلة القائل إذا ملكتك بالنكاح أو ملكتك بالشرى فلما كان الملك بالنكاح والشرى في مضمون اللفظ صار ذلك كالنطق به فإن قيل لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون القائل إن اشتريت عبدا فامرأتى طالق فاشترى عبدا لغيره أن لا تطلق امرأته لأن في مضمون لفظه الملك كأنه قال إن ملكت بالشرى قيل له لا يجب ذلك لأن اللفظ

٢٣٥

إنما الملك يتضمن فيما يوقع طلاقه أو عتقه فأما في غيرهما فهو محمول على حكم اللفظ من غير تضمين له بوقوع ملك ولا غيره وقوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) قد بينا في سورة البقرة أن الخلوة مرادة بالمسيس وإن نفى العدة متعلق بنفي الخلوة والجماع جميعا وفيما قدمنا ما يغنى عن الإعادة وقوله تعالى (فَمَتِّعُوهُنَ) إن كان من لم يسم لها مهرا فهو على الوجوب كقوله تعالى (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَ) وإن كان المراد المدخول بها فهو ندب غير واجب وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) الآية قال التي نكحت ولم يبين لها ولم يفرض لها فليس لها صداق وليس عدة وقال قتادة عن سعيد هي منسوخة بقوله في البقرة (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) وقوله تعالى (وَسَرِّحُوهُنَ) بعد ذكر الطلاق قبل الدخول يشبه أن يكون المراد به إخراجها من بيته أو من حباله لأنه مذكور بعد الطلاق فالأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق ولكنه بيان أنه لا سبيل له عليها وأن عليه تخليتها من يده وحباله وبالله التوفيق.

باب ما أحل الله تعالى لرسوله من النساء

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) الآية قال أبو بكر قد انتظمت الآية ضروب النكاح الذي أباحه الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنها قوله (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) يعنى من تزوج منهن بمهر مسمى وأعطاهن ومنها ما ملكت اليمين بقوله (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) مثل ريحانة وصفية وجويرية ثم أعتقهما وتزوجهما وذلك مما أفاء الله عليه من الغنيمة وذكر تعالى بعد ذلك ما أحل له من أقاربه فقال (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) ثم ذكر ما أحل له من النساء بغير مهر فقال (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) وأخبر أنه مخصوص بذلك دون أمته وأنه وأمته سواء فيمن تقدم ذكرهن وقوله تعالى (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قال أبو يوسف لا دلالة فيه على أن اللاتي لم يهاجرن كن محرمات عليه وهذا يدل على أنه لم يكن يرى أن المخصوص بالذكر يدل على أن ما عداه بخلافه وروى داود بن أبى هند عن محمد بن أبى موسى عن زياد عن أبى بن كعب قال قلت له أرأيت لو هلك نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكان له أن ينكح قال وما

٢٣٦

يمنعه أحل الله له ضروبا من النساء فكان يتزوج منهن ما شاء ثم تلا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) الآية وهذا يدل على أن تخصيص الله تعالى للمذكورات بالإباحة لم يوجب عليه حظر من سواهن عند أبى بن كعب لأنه أخبر أنهن لو هلكن لكان له أن يتزوج غيرهن وقد روى عن أم هانئ خلاف ذلك روى إسرائيل عن السدى عن أبى صالح عن أم هانئ قالت خطبنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذرت إليه بعذر فأنزل الله (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ـ إلى قوله ـ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قالت فلم أكن أحل له لأنى لم أهاجر معه كنت مع الطلقاء فإن صح هذا الحديث فإن مذهب أم هانئ أن تخصيصه للمهاجرات منهن قد أوجب حظر من لم تهاجر ويحتمل أن تكون قد علمت حظرهن بغير دلالة الآية وإن الآية إنما فيها إباحة من هاجرت منهن ولم تعرض لمن لم تهاجر بحظر ولا إباحة إلا أنها قد علمت من جهة أخرى حظرهن قوله تعالى (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) الآية فيها نص على إباحة عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلف أهل العلم في عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح يصح النكاح بلفظ الهبة ولها ما سمى لها وإن لم يسم شيئا فلها مهر مثلها وذكر ابن القاسم عن مالك قال الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح وإنما وهبها له ليحصنها أو ليكفيها فلا أرى بذلك بأسا وقال الشافعى لا يصح النكاح بلفظ الهبة وقد تنازع أهل العلم حكم هذه الآية فقال قائلون كان عقد النكاح بلفظ الهبة مخصوصا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى في نسق التلاوة (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وقال آخرون بل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته في عقد النكاح بلفظ الهبة سواء وإنما خصوصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت في جواز استباحة البضع بغير بدل وقد روى نحو ذلك عن مجاهد وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبى رباح وهذا هو الصحيح لدلالة الآية والأصول عليه فأما دلالة الآية على ذلك فمن وجوه أحدها قوله (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فلما أخبر في هذه الآية إن ذلك كان خالصا له دون المؤمنين مع إضافة لفظ الهبة إلى المرأة دل ذلك على أن ما خص به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك إنما هو استباحة البضع بغير بدل لأنه لو كان المرأة اللفظ لما شاركه فيه غيره لأن ما كان مخصوصا به وخالصا له فغير جائز أن تقع بينه وبين

٢٣٧

غيره فيه شركة حتى يساويه فيه إذ كانت مساواتهما في الشركة تزيل معنى الخلوص والتخصيص فلما أضاف لفظ الهبة إلى المرأة فقال (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) فأجاز العقد منها بلفظ الهبة علمنا أن التخصيص لم يقع في اللفظ وإنما كان في المهر فإن قيل قد شاركه في جواز تمليك البضع بغير بدل ولم يمنع ذلك خلوصها له فكذلك في لفظ العقد قيل له هذا غلط لأن الله أخبر أنها خالصة له وإنما جعل الخلوص فيما هو له وإسقاط المرأة المهر في العقد ليس هو لها ولكنه عليها فلم يخرجه ذلك من أن يكون ما جعل له خالصا لم تشركه فيه المرأة ولا غيره والوجه الثاني من دلالة الآية قوله تعالى (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) فسمى العقد بلفظ الهبة نكاحا فوجب أن يجوز لكل أحد لقوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وأيضا لما جاز هذا العقد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به وجب أن يجوز لنا فعل مثله إلا أن تقوم الدلالة على أنه كان مخصوصا باللفظ دون أمته وقد حصل له معنى الخلوص المذكور في الآية من جهة إسقاط المهر فوجب أن يكون ذلك مقصورا عليه وما عداه فغير محمول على حكمه إلا أن تقوم الدلالة على أنه مخصوص به ومما يدل على أن خصوصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت في الصداق ما حدثنا عن عبد الله ابن احمد بن حنبل قال حدثني أبى قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت ألا تستحي أن تعرض نفسها بغير صداق فأنزل الله تعالى (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ـ إلى قوله ـ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) قالت عائشة رضى الله عنها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى أرى ربك يسارع في هواك ويدل على جوازه بلفظ الهبة ما حدثنا عن محمد بن على ابن زيد الصائغ قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت يا رسول الله جئت لأهب نفسي لك فنظر إليها فصعد البصر وصوبه ثم طأطأ رأسه فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله إن لم تك لك بها حاجة فزوجنيها وذكر الحديث إلى قوله فقال معى سورة كذا وسورة كذا فقال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك والهبة من ألفاظ التمليك فوجب أن يجوز بها عقد النكاح ولأنه إذا ثبت بلفظ التمليك بالسنة ثبت بلفظ الهبة إذ لم

٢٣٨

يفرق أحد بينهما فإن قيل قد روى أنه قال قد زوجتك بما معك من القرآن قيل له يجوز أن يكون ذكر مرة التزويج ثم ذكر لفظ التمليك ليبين أنهما سواء في جواز عقد النكاح بهما وأيضا لما أشبه عقد النكاح عقود التمليكات في إطلاقه من غير ذكر الوقت وكان التوقيت يفسده وجب أن يجوز بلفظ التمليك والهبة كجواز سائر الأشياء المملوكة وهذا أصل في جواز سائر ألفاظ التمليك ولا يجوز بلفظ الإباحة لأن لذلك أصلا آخر يمنع جوازه وهو المتعة التي حرمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى المتعة إباحة التمتع بها فكل ما كان من ألفاظ الإباحة لم ينعقد به عقد النكاح قياسا على المتعة وكل ما كان من ألفاظ التمليك ينعقد به النكاح قياسا على سائر عقود التمليكات لشبهه بها من الوجوه التي ذكرنا وقد اختلف في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فروى عن ابن عباس رواية وعكرمة أنها ميمونة بنت الحارث وقال على بن الحسن هي أم شريك الدوسية وعن الشعبي أنها امرأة من الأنصار وقيل إنها زينب بنت خزيمة الأنصارية قوله تعالى (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) قال قتادة فرض أن لا ينكح امرأة إلا بولي وشاهدين وصداق ولا ينكح الرجل إلا أربعا وقال مجاهد وسعيد بن جبير أربع قال أبو بكر وقوله (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يعنى ما أباح لهم بملك اليمين كما أباحه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) يرجع والله أعلم إلى قوله (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) وما ذكر بعده فيما أباحه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يضيق عليه لأن الحرج الضيق فأخبر تعالى بتوسعته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أباحه له وعلى المؤمنين فيما أطلقه لهم قوله تعالى (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن أبى رزين في قوله (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) المرجات ميمونة وسودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وكانت عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب سواء في القسم وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يساوى بينهن وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن ابن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) قال كان ذلك حين أنزل الله أن يخيرهن قال الزهري وما علمنا رسول الله أرجى منهن أحدا ولقد آواهن كلهن حتى مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال معمر وقال قتادة جعله الله في حل أن يدع من شاء منهن ويؤوى إليه من شاء يعنى قسما وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم قال

٢٣٩

معمر وأخبرنا من سمع الحسن يقول كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يدعها ففي ذلك نزلت (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) قال أبو بكر وروى زكريا عن الشعبي (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) قال نساء كن وهبن أنفسهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرجى بعضهن ودخل ببعض منهن أم شريك لم تتزوج بعده وقال مجاهد ترجى من تشاء منهن قال ترجيهن من غير طلاق ولا تأتيهن وروى عاصم الأحول عن معاذة العدوية عن عائشة قالت كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأذننا في يوم إحدانا بعد ما أنزل (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) فقالت لها معاذة فما كنت تقولين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استأذن قالت كنت أقول إن كان ذلك إلى لم أوثر على نفسي أحدا قال أبو بكر وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقسم بين نسائه ولم يذكر فيه تخصيص واحدة منهن بإخراجها من القسم حدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن أيوب عن أبى قلابة عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم فيعدل ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك قال أبو داود يعنى القلب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا عبد الرحمن يعنى ابن أبى الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قالت عائشة ابن أختى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندها وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله يومى لعائشة فقبل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها قالت نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) وروى عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذن نساءه في مرضه أن يكون عند عائشة فإذن له وهذا يدل على أنه قد كان يقسم لجميعهن وهو أصح من حديث أبى رزين الذي ذكر فيه أنه أرجى جماعة من نسائه ثم لم يقسم لهن وظاهر الآية يقتضى تخير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إرجاء من شاء منهن وإيواء من شاء فليس يمتنع أن يختار إيواء الجميع إلا سودة فإنها رضيت بأن تجعل يومها لعائشة قوله تعالى (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) يعنى والله أعلم في إيواء من أرجى منهن أباح له بذلك أن يعتزل من شاء منهن ويؤوى من شاء وأن يؤوى منهن من شاء بعد الاعتزال وقوله تعالى

٢٤٠