أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

السرور ببيان الله براءة عائشة وطهارتها ولما عرفوا من الحكم في القاذف وقوله تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) يعنى والله أعلم عقاب ما اكتسب من الإثم على قدر ما اكتسبه وقوله تعالى (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) روى أنه عبد الله بن أبى بن سلول وكان منافقا وكبره هو عظمه وإن عظم ما كان فيه لأنهم كانوا يجتمعون عنده وبرأيه وأمره كانوا يشيعون ذلك ويظهرونه وكان هو يقصد بذلك أذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذى أبى بكر والطعن عليهما قوله تعالى (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) هو أمر المؤمنين بأن يظنوا خيرا بمن كان ظاهره العدالة وبراءة الساحة وأن لا يقضوا عليهم بالظن وذلك لأن الذين قذفوا عائشة لم يخبروا عن معاينة وإنما قذفوها تظننا وحسبانا لما رأوها متخلفة عن الجيش قد ركبت جمل صفوان ابن المعطل يقوده وهذا يدل على أن الواجب لمن كان ظاهره العدالة أن يظن به خيرا ولا يقوم مستبشرا وهو يوجب أن يكون أمور المسلمين في عقودهم وأفعالهم وسائر تصرفهم محمولة على الصحة والجواز وأنه غير جائز حملها على الفساد وعلى ما لا يجوز فعله بالظن والحسبان ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد مع امرأة أجنبية رجلا فاعترفا بالتزويج أنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما وزعم مالك بن أنس أنه يحدهما إن لم يقيما بينة على النكاح ومن ذلك أيضا ما قال أصحابنا فيمن باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين أنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بحسن الظن بالمؤمنين وحمل أمورهم على ما يجوز فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما كذلك إذا باعه سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم إنا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف فنحمل أمرهما على أنهما تعاقدا عقدا جائزا ولا نحمله على الفساد وما لا يجوز وهذا يدل أيضا على صحة قول أبى حنيفة في أن المسلمين عدول ما لم تظهر منهم ريبة لأنا إذا كنا مأمورين بحسن الظن بالمسلمين وتكذيب من قذفهم على جهة الظن والتخمين بما يسقط العدالة فقد أمرنا بموالاتهم والحكم لهم بالعدالة بظاهر حالهم وذلك يوجب التزكية وقبول الشهادة ما لم تظهر منهم ريبة توجب التوقف عنها أوردها وقال تعالى (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله [ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهن خيرا] فإنه يحتمل معنيين أحدهما أن يظن بعضهم ببعض خيرا كقوله (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) والمعنى

«١١ ـ احكام مس»

١٦١

فليسلم بعضكم على بعض وكقوله (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعنى لا يقتل بعضكم بعضا والثاني أنه جعل المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجرى عليها من الأمور فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه قد جرى على جميعهم كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبد الله أحمد بن دوست قال حدثنا جعفر بن حميد قال حدثنا الوليد بن أبى ثور قال حدثنا عبد الملك بن عمير عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم كمثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسهر والحمى وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه قال حدثنا عبد الله بن ناصح قال حدثنا أبو مسلم عبد الله بن سعيد عن مالك بن مغول عن أبى بردة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنون للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضا قوله تعالى (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) قد أبانت هذه الآية عن معنيين أحدهما أن الحد واجب على القاذف ما لم يأت بأربعة شهداء والثاني أنه لا يقبل في إثبات الزنا أقل من أربعة شهداء وقوله (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) قال أبو بكر قد حوى ذلك معنيين أحدهما أنهم متى لم يقيموا أربعة من الشهداء فهم محكومون بكذبهم عند الله في إيجاب الحد عليهم فيكون معناه فأولئك في حكم الله هم الكاذبون فيقتضى ذلك الأمر بالحكم بكذبهم فإن كان جائزا أن يكونوا صادقين في المغيب عند الله وذلك جائز سائغ كما قد تعبدنا بأن نحكم لمن ظهر منه عمل الخيرات وتجنب السيئات بالعدالة وإن كان جائزا أن يكون فاسقا في المغيب عند الله تعالى والوجه الثاني أن الآية نزلت في شأن عائشة رضى الله تعالى عنها وفي قذفتها فأخبر بقوله (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) بمغيب خبرهم وأنه كذب في الحقيقة لم يرجعوا فيه إلى صحة فمن جوز صدق هؤلاء فهو راد لخبر الله قوله تعالى (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) قرئ تلقونه بالتشديد قال مجاهد يرويه بعضهم عن بعض ليشيعه وعن عائشة تلقونه من ولق الكذب وهو الاستمرار عليه ومنه ولق فلان في السير إذا استمر عليه فذمهم تعالى على الإقدام على القول بما لا علم لهم به وذلك قوله (تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهو نحو قوله (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فأخبر أن ذلك

١٦٢

وإن كان يقينا في ظنهم وحسبانهم فهو عظيم الإثم عنده ليرتدعوا عن مثله عند علمهم بموقع المأثم فيه ثم قال (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) تعليما لنا بما نقوله عند سماع مثله فيمن كان ظاهر حاله العدالة وبراءة الساحة قوله تعالى (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أى تنزيها لك من أن نغضبك بسماع مثل هذا القول في تصديق قائله وهو كذب وبهتان في ظاهر الحكم وقوله تعالى (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) فإنه تعالى يعظنا ويزجرنا بهذه الزواجر وعقاب الدنيا بالحد مع ما نستحق من عقاب الآخرة لئلا نعود إلى مثل هذا الفعل أبدا إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين لرسوله قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أبان الله بهذه الآية وجوب حسن الإعتقاد في المؤمنين ومحبة الخير والصلاح لهم فأخبر فيها بوعيد من أحب إظهار الفاحشة والقذف والقول القبيح للمؤمنين وجعل ذلك من الكبائر التي يستحق عليها العقاب وذلك يدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف الجوارح والقول عما يضربهم وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المؤمن من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وقال ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال حدثنا سهل بن عثمان قال حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويحب أن يأتى إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا هدبة قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير قوله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) روى عن ابن عباس وعائشة أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه ويتيمين كانا في حجره ينفق عليهما أحدهما مسطح بن أثاثة وكان ممن خاض في أمر عائشة فلما نزلت براءتها حلف أبو بكر أن لا ينفعهما بنفع أبدا فلما نزلت هذه الآية عادله وقال بلى والله إنى لأحب أن يغفر الله لي والله لا أنزعها عنهما أبدا وكان مسطح ابن خالة أبى بكر مسكينا ومهاجرا من مكة إلى المدينة من البدريين وفي هذا دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إنه ينبغي

١٦٣

له أن يأتى الذي هو خير وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ومن الناس من يقول إنه يأتى الذي هو خير وذلك كفارته وقد روى أيضا في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتج من يقول ذلك بظاهر هذه الآية وإن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة وليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة لأن الله قد بين إيجاب الكفارة في قوله (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ) وقوله (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وذلك عموم فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره وقال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) وقد علمنا أن الحنث كان خيرا من تركه وأمره الله تعالى بضرب لا يبلغ منها ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة وأما ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من حلف على يمين فرآى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته فإن معناه تكفير الذنب لا الكفارة المذكورة في الكتاب وذلك لأنه منهى عن أن يحلف على ترك طاعة الله فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحنث والتوبة وأخبر أن ذلك يكفر ذنبه الذي اقترفه بالحلف قوله تعالى (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) روى عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك قالوا الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال وروى عن ابن عباس أيضا أنه قال الخبيثات من السيئات للخبيثين من الرجال وهو قريب من الأول وهو نحو قوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) وقيل الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال على نحو قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وأن ذلك منسوخ بما ثبت في موضعه.

باب الاستئذان

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) روى عن ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم وقتادة قالوا الاستيناس الاستئذان فيكون معناه حتى تستأنسوا بالإذن وروى شعبة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذا الحرف حتى تستأذنوا وقال غلط الكاتب وروى القاسم بن نافع عن مجاهد حتى تستأنسوا قال هو التنحنح والتنخع وفي نسق التلاوة ما دل

١٦٤

على إنه أراد الاستئذان وهو قوله (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الاستيناس قد يكون للحديث كقوله تعالى (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) وكما روى عن عمر في حديثه الذي ذكر فيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انفرد في مشربة له حين هجر نساءه فاستأذنت عليه فقال الإذن قد سمع كلامك ثم أذن له فذكر أشياء وفيه قال فقلت استأنس يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال نعم وإنما أراد به الاستيناس للحديث وذلك كان بعد الدخول والاستيناس المذكور في قوله (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) لا يجوز أن يكون المراد به الحديث لأنه لا يصل إلى الحديث إلا بعد الإذن وإنما المراد الاستئذان للدخول وإنما سمى الاستئذان استيناسا لأنهم إذا استأذنوا أو سلموا أنس أهل البيوت بذلك ولو دخلوا عليهم بغير إذن لا ستوحشوا وشق عليهم وأمر مع الاستئذان بالسلام إذ هو من سنة المسلمين التي أمروا بها ولأن السلام أمان منه لهم وهو تحية أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغنة حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا يوسف بن يعقوب قال حدثنا محمد بن ابى بكر قال حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبى رباب عن سعيد بن أبى سعيد عن أبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما خلق الله آدم فنفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله بإذن الله فقال له ربه رحمك ربك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة وملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم فقال سلام عليكم ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا على بن إسحاق بن راطية قال حدثنا إبراهيم بن سعيد قال حدثنا يحيى بن نصر بن حاجب قال حدثنا هلال بن حماد عن ذادان عن على قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق المسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه وينصح له بالغيب ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي قال حدثنا أبو غسان النهدي قال حدثنا زهير قال حدثنا الأعمش عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا محمد بن معلى قال حدثنا زياد بن خيثمة عن أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال

١٦٥

إن سركم أن يخرج الغل من صدور كم فافشوا السلام بينكم

. باب في عدد الاستئذان وكيفيته

روى دهيم بن قران عن يحيى بن أبى كشير عن عمر وبن عثمان عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستئذان ثلاث فالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون وروى يونس بن عبيد عن الوليد بن مسلم عن جندب قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا ابو داود قال حدثنا أحمد بن عبدة قال أخبرنا سفيان عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبى سعيد الخدري قال كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعا فقلنا له ما أفزعك قال أمرنى عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال ما منعك أن تأتينى قلت قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قال لتأتين على هذا بالبينة قال فقال أبو سعيد لا يقوم معك إلا أصغر القوم قال فقام أبو سعيد معه فشهد له وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبى موسى إنى لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد وفي بعضها ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر إنما لم يقبل عمر خبره حتى استفاض عنده لأن أمر الاستئذان مما بالناس إليه حاجة عامة فاستنكر أن تكون سنة الاستئذان ثلاثا مع عموم الحاجة إليها ثم لا ينقلها إلا الأفراد وهذا أصل في أن ما بالناس إليه حاجة عامة لا يقبل فيه إلا خبر الاستفاضة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا أبو داود الحفرى عن سفيان عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد قال وقف رجل على باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأذن فقام مستقبل الباب فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هكذا عنك أو هكذا فإنما جعل الاستئذان من النظر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن بشار قال حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرنى عمر وبن أبى سفيان أن عمرو بن عبد الله بن صفوان أخبره عن كلدة أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعلى مكة فدخلت ولم أسلم فقال ارجع فقل السلام عليكم وذاك بعد ما أسلم صفوان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو بكر

١٦٦

ابن أبى شيبة قال حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال حدثنا رجل من بنى عامر استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بيت فقال ألج فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقال له قل السلام عليكم أأدخل فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل ابن فضل الحراني في آخرين قالوا حدثنا بقية قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله ابن بسر قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى باب قوم لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم وذلك أن الدور لم تكن يومئذ عليها ستور قال أبو بكر ظاهر قوله (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) يقتضى جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن ولذلك قال مجاهد الاستئناس التنحنح والتنخع فكأنه إنما أراد أن يعلمهم بدخوله وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول بغير إذن إلا أنه معلوم أنه قد أريد به الإذن في الدخول فحذفه لعلم المخاطبين بالمراد وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن حبيب وهشام عن محمد عن أبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رسول الرجل إلى الرجل إذنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا ابو داود قال حدثنا حسين بن معاذ قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أبى رافع عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا دعى أحدكم مع الطعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن فدل هذا الخبر على معنيين أحدهما أن الإذن محذوف من قوله (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) وهو مراد به والثاني أن الدعاء إذن إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذان ثان وهو يدل أيضا على أن من قد جرت العادة بإباحة الدخول أنه غير محتاج إلى الاستئذان فإن قيل قد روى أبو نعيم عن عمر بن زرعة مجاهد أن أبا هريرة كان يقول والله إنى كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع إنى كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعنى فمر ولم يفعل فمر بي عمر ففعلت مثل ذلك فمر ولم يفعل فمر بي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي ثم قال يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله قال الحق بي ومضى واتبعته فدخل واستأذنت فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال من أين هذا قالوا أهدى

١٦٧

لك فلان أو فلانة قال يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله قال الحق أهل الصفة فادعهم لي قال وأهل الصفة أضياف أهل الإسلام لا يلوون على أهل ولا مال إذا أتته صدقة بعث بها إليهم لم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أرجو أن أصيب من هذا شربة أتقوى بها فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاءوا فأمرنى فكنت أنا أعطيهم فما عسى أن يبلغ منى هذا اللبن فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا حتى استأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت فقال يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله قال خذ فأعطهم فأخذت القدح فجعلت أعطى الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح فأعطيه آخر فيشرب حتى يروى ثم برد على القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روى القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلى فتبسم وقال يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله قال بقيت أنا وأنت قلت صدقت يا رسول الله قال فاقعد واشرب فشربت فما زال يقول اشرب فأشرب حتى قلت والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال فأرنى فأعطيته القدح فحمد الله وشرب الفضل قال فقد استأذن أهل الصفة وقد جاءوا مع الرسول ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا مخالف لحديث أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الرجل إلى الرجل إذنه قيل له ليسا مختلفين لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إباحة للدخول مع الرسول وليس فيه كراهية الاستئذان بل هو مخير حينئذ وإذا لم يكن مع الرسول وجب حينئذ الاستئذان والذي يدل على أن الإذن مشروط في قوله (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) قوله في نسق التلاوة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) فحظر الدخول إلا بالإذن فدل على أن الإذن مشروط في إباحة الدخول في الآية الأولى وأيضا فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأخبار التي قدمناها إنما جعل الاستئذان من أجل النظر فدل على أنه لا يجوز النظر في دار أحد إلا بإذنه وقد روى في ذلك ضروب من التغليظ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا حماد عن عبيد الله بن أبى بكر عن أنس بن مالك أن رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشقص أو بمشاقص قال فكأنى أنظر إلى رسول الله يختله ليطعنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن قال حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير عن الوليد عن أبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا دخل البصر

١٦٨

فلا إذن وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه قال حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه قال أبو بكر والفقهاء على خلاف ظاهره لأنهم يقولون إنه ضامن إذا فعل ذلك وهذا من أحاديث أبى هريرة التي ترد لمخالفتها الأصول مثل ما روى أن ولد الزنا شر الثلاثة وأن ولد الزنا لا يدخل الجنة ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ومن غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ هذه كلها أخبار شاذة قد اتفق الفقهاء على خلاف ظواهرها وزعم الشافعى أن من اطلع في دار غيره ففقأ عينه وهو هدر وذهب إلى ظاهر هذا الخبر ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامنا وكان عليه القصاص إن كان عامدا والأرش إن كان مخطئا ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الإطلاع الدخول وظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق فإن صح الحديث فمعناه عندنا فيمن اطلع في دار قوم ناظرا إلى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت عنه في حال الممانعة فهذا هدر وكذلك من دخل دار قوم أو أراد دخولها فمانعوه فذهبت عينه أو شيء من أعضائه فهو هدر ولا يختلف فيه حكم الداخل والمطلع فيها من غير دخول فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم تقع فيه ممانعة ولا نهى ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته بظاهر قوله تعالى (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ـ إلى قوله ـ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) قد تضمن ذلك معنيين أحدهما أنه لا ندخل بيوتا غيرنا إلا بإذنه والثاني إنه إذا أذن لنا جاز لنا الدخول واقتضى ذلك جواز قبول الإذن ممن أذن صبيا كان أو امرأة أو عبدا أو ذميا إذ لم تفرق الآية بين شيء من ذلك وهذا أصل في قبول أخبار المعاملات من هؤلاء وأنه لا تعتبر فيها العدالة ولا تستوفى فيها صفات الشهادة ولذلك قبلوا أخبار هؤلاء في الهدايا والوكالات ونحوهما.

باب في الاستئذان على المحارم

روى شعبة عن أبى إسحاق عن مسلم بن يزيد قال سأل رجل حذيفة أستأذن على أختى قال إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوءك وروى عن ابن عيينة عن عمرو عن عطاء قال سألت ابن عباس أأستأذن على أختى قال نعم قال قلت إنها معى في البيت وأنا أنفق عليها

١٦٩

قال استأذن عليها وروى سفيان عن مخارق عن طارق قال قال رجل لابن مسعود أأستأذن على أمى قال نعم وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أأستأذن على أمى قال نعم أتحب أن تراها عريانة وقال عمر وعن عطاء سألت ابن عباس أأستأذن على أختى وأنا أنفق عليها قال نعم أتحب أن تراها عريانة إن الله يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فلم يؤمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث ثم قال (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ولم يفرق بين من كان منهم أجنبيا أو ذا رحم محرم إلا أن أمر ذوى المحارم أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوهما من الأعضاء وقوله تعالى (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) بعد قوله (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) يدل على أن للرجل أن ينهى من لا يجوز له دخول داره عن الوقوف على باب داره أو القعود عليه لقوله تعالى (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) ويمتنع أن يكون المراد بذلك حظر الدخول إلا بعد الإذن لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرحا به في الآية فواجب أن يكون لقوله (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) فائدة مجددة وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره فواجب عليه التنحي عنه لئلا يتأذى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجهم وفيما ينصرف عليه أموره في داره مما لا يجب أن يطلع عليه غيره قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) قال محمد بن الحنفية هي بيوت الخانات التي تكون في الطرق وبيوت الأسواق وعن الضحاك وقال الحسن وإبراهيم النخعي كانوا يأتون حوانيت السوق لا يستأذنون وقال مجاهد كانت بيوتا يضعون فيها أمتعتهم فأمروا أن يدخلوها بغير إذن وروى عنه أيضا أنه قال هي البيوت التي تنزلها السفر وروى عن أبى عبيد المحاربي قال رأيت عليا رضى الله عنه اصابته السماء وهو في السوق فاستظل بخيمة فأرسى فجعل الفارسي يدفعه عن خيمته وعلى يقول إنما استظل من المطر فجعل الفارسي يدفعه ثم أخبر الفارسي أنه على فضرب بصدره وقال عكرمة بيوتا غير مسكونة هي البيوت الخربة لكم فيها حاجة وقال ابن جريج عن عطاء فيها متاع لكم الخلاء والبول وجائز أن يكون المراد جميع ذلك إذ كان الاستئذان في البيوت المسكونة لئلا يهجم على ما لا يجب من العورة ولأن العادة قد جرت في مثله

١٧٠

بإطلاق الدخول فصار المعتاد المعارف كالمنطوق به والدليل على أن معنى إطلاق ذلك لجريان العادة في الإذن أن أصحابها لو منعوا الناس من دخول هذه البيوت كان لهم ذلك ولم يكن لأحد أن يدخلها بغير إذن ونظير ذلك فيما جرت العادة بإباحته وقام ذلك مقام الإذن فيه ما يطرحه الناس من النوى وقمامات البيوت والخرق في الطرق أن لكل أحد أن يأخذ ذلك وينتفع به وهو أيضا يدل على صحة اعتبار أصحابنا هذا المعنى في سائر ما يكون في معناه مما قد جرت العادة به وتعارفوه أنه بمنزلة النطق كنحو قولهم فيما يلحقونه برأس المال من طعام الرقيق وكسوتهم وفي حمولة المتاع أنه يلحقه برأس المال ويبيعه مرابحة فيقول قام على بكذا وما لم تجر العادة به لا يلحقه برأس المال فقامت العادة في ذلك مقام النطق وفي نحوه قول محمد فيمن أسلم إلى خياط أو قصار ثوبا ليخيطه ويقصره ولم يشرط له أجرا أن الأجر قد وجب له إذا كان قد نصب نفسه لذلك وقامت العادة في مثله مقام النطق في أنه فعله على وجه الإجارة وقد روى سفيان عن عبد الله بن دينار قال كان ابن عمر يستأذن في حوانيت السوق فذكر ذلك لعكرمة فقال ومن يطيق ما كان ابن عمر يطيق وليس في فعله ذلك دلالة على أنه رأى دخولها بغير إذن محظورا ولكنه احتاط لنفسه وذلك مباح لكل أحد.

باب ما يجب من غض البصر عن المحرمات

قال الله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) قال أبو بكر معقول من ظاهره أنه أمر بغض البصر عما حرم علينا النظر إليه فحذف ذكر ذلك اكتفاء بعلم المخاطبين بالمراد وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن أبى الطفيل عن على قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا على إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو وفر منها فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن آدم لك أول نظرة وإياك والثانية وروى أبو زرعة عن جرير أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرنى أن أصرف بصرى قال أبو بكر إنما أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله لك النظرة الأولى إذا لم تكن عن قصد فأما إذا كانت عن قصد فهي والثانية سواء وهو على ما سأل عنه جرير من نظرة الفجاءة وهو مثل قوله (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) وقوله (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ

١٧١

يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) هو على معنى ما نهى الرجال عنه من النظر إلى ما حرم عليه النظر إليه وقوله تعالى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) وقوله (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) فإنه روى عن أبى العالية أنه قال كل آية في القرآن يحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن من الزنا إلا التي في النور (يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) أن لا ينظر إليها أحد قال أبو بكر هذا تخصيص بلا دلالة والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم عليه من الزنا واللمس والنظر وكذلك سائر الآي المذكورة في هذا الموضع في حفظ الفروج هي على جميع ذلك ما لم تقم الدلالة على أن المراد بعض ذلك دون بعض وعسى أن يكون أبو العالية ذهب في إيجاب التخصيص في النظر لما تقدم من الأمر بغض البصر وما ذكره لا يوجب ذلك لأنه لا يمتنع أن يكون مأمورا بغض البصر وحفظ الفرج من النظر ومن الزنا وغيره من الأمور المحظورة وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فلا محالة إن اللمس والوطء مرادان بالآية إذ هما أغلظ من النظر فلو نص الله على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء واللمس كما أن قوله (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) قد اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) روى عن ابن عباس ومجاهد وعطاء في قوله (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) قال ما كان في الوجه والكف الخضاب والكحل وعن ابن عمر مثله وكذلك عن أنس وروى عن ابن عباس أيضا أنها الكف والوجه والخاتم وقالت عائشة الزينة الظاهرة القلب والفتخة وقال أبو عبيدة الفتخة الخاتم وقال الحسن وجهها وما ظهر من ثيابها وقال سعيد بن المسيب وجهها مما ظهر منها وروى أبو الأحوص عن عبد الله قال الزينة زينتان زينة باطنة لا يراها إلا الزوج الإكليل والسوار والخاتم وأما الظاهرة فالثياب وقال إبراهيم الزينة الظاهرة الثياب قال أبو بكر قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) إنما أراد به الأجنبيين دون الزوج وذوى المحارم لأنه قد بين في نسق التلاوة حكم ذوى المحارم في ذلك وقال أصحابنا المراد الوجه والكفان لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف فإذ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين ويدل على أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة أيضا أنها تصلى مكشوفة الوجه واليدين فلو كانا عورة لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة وإذا كان

١٧٢

ذلك جاز للأجنبى أن ينظر من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة فإن كان يشتهيها إذا نظر إليها جاز ان ينظر لعذر مثل أن يريد تزويجها أو الشهادة عليها أو حاكم يريد أن يسمع إقرارها ويدل على أنه لا يجوز له النظر إلى الوجه لشهوة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلى لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة وسأل جرير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نظرة الفجاءة فقال اصرف بصرك ولم يفرق بين الوجه وغيره فدل على أنه أراد النظرة بشهوة وإنما قال لك الأولى لأنها ضرورة وليس لك الآخرة لأنها اختيار وإنما أباحوا النظر إلى الوجه والكفين وإن خاف أن يشتهى لما ذكرنا من الأعذار للآثار الواردة في ذلك منها ما روى أبو هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا يعنى الصغر وروى جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب أحدكم فقدر على أن يرى منها ما يعجبه ويدعوه إليها فليفعل وروى موسى بن عبد الله ابن يزيد عن أبى حميد وقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه ان ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وروى سليمان بن أبى حثمة عن محمد بن سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله وروى عاصم الأحول عن بكير بن عبد الله عن المغيرة بن شعبة قال خطبنا امرأة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظرت إليها فقلت لا فقال انظر فإنه لأجدر أن يؤدم بينكما فهذا كله يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفيها بشهوة إذا أراد أن يتزوجها ويدل عليه أيضا قوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن ويدل على أن النظر إلى وجهها بشهوة محظور قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه وقول ابن مسعود في أن ما ظهر منها هو الثياب لا معنى له لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لا بستها فعلمنا أن المراد موضع الزينة كما قال في نسق التلاوة بعد هذا (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) والمراد موضع الزينة فتأويلها على الثياب لا معنى له إذ كان ما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لا بستها* قوله تعالى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) روت صفية بنت شيبة عن عائشة أنها قالت نعم النساء نساء الأنصار لم يكن

١٧٣

يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين وأن يسئلن عنه لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز مناطقهن فشققنه فاختمرن به قال أبو بكر قد قيل إنه أراد جيب الدروع لأن النساء كن يلبسن الدروع ولها جيب مثل جيب الدراعة فتكون المرأة مكشوفة الصدر والنحر إذا لبستها فأمرهن الله بستر ذلك الموضع بقوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة لا يجوز للأجنبى النظر إليهما منها قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) الآية قال أبو بكر ظاهره يقتضى إباحة إبداء الزينة للزوج ولمن ذكر معه من الآباء وغيرهم ومعلوم أن المراد موضع الزينة وهو الوجه واليد والذراع لأن فيها السوار والقلب والعضد وهو موضع الدملج والنحر والصدر موضع القلادة والساق موضع الخلخال فاقتضى ذلك إباحة النظر للمذكورين في الآية إلى هذه المواضع وهي مواضع الزينة الباطنة لأنه خص في أول الآية إباحة الزينة الظاهرة للأجنبيين وأباح للزوج وذوى المحارم النظر إلى الزينة الباطنة وروى عن ابن مسعود والزبير القرط والقلادة والسوار والخلخال وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) قال ينظر إلى ما فوق الذراع من الأذن والرأس قل ابو بكر لا معنى لتخصيص الأذن والراس بذلك إذ لم يخصص الله شيئا من مواضع الزينة دون شيء وقد سوى في ذلك بين الزوج وبين من ذكر معه فاقتضى عمومه إباحة النظر إلى مواضع الزينة لهؤلاء المذكورين كما اقتضى إباحتها للزوج ولما ذكر الله تعالى مع الآباء ذوى المحارم الذين يحرم عليهم نكاحهن تحريما مؤبدا دل ذلك على أن من كان في التحريم بمثابتهم فحكمه حكمهم مثل زواج الإبنة وأم المرأة والمحرمات من الرضاع ونحوهن* وروى عن سعيد بن جبير أنه سئل عن الرجل ينظر إلى شعر أجنبية فكرهه وقال ليس في الآية قال أبو بكر أنه وإن لم يكن في الآية فهو في معنى ما ذكر فيها من الوجه الذي ذكرنا وهذا الذي ذكر من تحريم النظر في هذه الآية إلا ما خص منه إنما هو مقصور على الحرائر دون الإماء وذلك لأن الإماء لسائر الأجنبيين بمنزلة الحرائر لذوي محارمهن فيما يحل النظر إليه فيجوز للأجنبى النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثديها كما يجوز لذوي المحرم النظر إلى ذات محرمه لأنه لا خلاف أن للأجنبى النظر إلى شعر الأمة وروى أن عمر كان يضرب الإماء ويقول اكشفن رؤسكن ولا تتشبهن بالحرائر

١٧٤

فدل على أنهن بمنزلة ذوات المحارم ولا خلاف أيضا أنه يجوز للأمة أن تسافر بغير محرم فكان سائر الناس لها كذوى المحارم للحرائر حين جاز لهم السفر بهن ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج فلما جاز للأمة أن تسافر بغير محرم علمنا أنها بمنزلة الحرة لذوي محرمها فيما يستباح النظر إليه منها وقوله لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج دال على اختصاص ذي المحرم باستباحة النظر منها إلى كل ما لا يحل للأجنبى وهو ما وصفنا بديا وروى منذر الثوري أن محمد ابن الحنفية كان يمشط أمه وروى أبو البختري أن الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمشط وعن ابن الزبير مثله في ذات محرم منه وروى عن إبراهيم أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وأخته وخالته وعمته وكره الساقين* قال أبو بكر لا فرق بينهما في مقتضى الآية وروى هشام عن الحسن في المرأة تضع خمارها عند أخيها قال والله ما لها ذلك وروى سفيان عن ليث عن طاوس أنه كره أن ينظر إلى شعر ابنته وأخته وروى جرير عن مغيرة عن الشعبي أنه كره أن يسدد الرجل النظر إلى شعر ابنته وأخته قال أبو بكر وهذا عندنا محمول على الحال التي يخاف فيها ان تشتهي لأنه لو حمل على الحال التي يأمن فيها الشهوة لكان خلاف الآية والسنة ولكان ذو محرمها والأجنبيون سواء والآية أيضا مخصوصة في نظر الرجال دون النساء لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر من الرجل وهو السرة فما فوقها وما تحت الركبة والمحظور عليهن من بعضهن لبعض ما تحت السرة إلى الركبة وقوله تعالى (أَوْ نِسائِهِنَ) روى أنه أراد نساء المؤمنات وقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) تأوله ابن عباس وأم سلمة وعائشة أن للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته قالت عائشة وإلى شعر غير مولاته روى أنها كانت تمتشط والعبد ينظر إليها وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب أن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو مذهب أصحابنا إلا أن يكون ذا محرم وتأولوا قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) على الإماء لأن العبد والحر في التحريم سواء فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها فإن ذلك تحريم عارض كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعر أختها وكمن عنده أربع

١٧٥

نسوة سائر النساء محرمات عليه في الحال ولا يجوز له أن يستبيح النظر إلى شعورهن فلما لم يكن تحريمها على عبدها في الحال تحريما مؤبدا كان العبد بمنزلة سائر الأجنبيين وأيضا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم والعبد ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن تسافر بها وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبى فإن قيل هذا يؤدى إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع قيل له ليس كذلك لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله (أَوْ نِسائِهِنَ) وأراد بهن الحرائر المسلمات فجاز أن يظن ظان أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى ما يجوز للحرة النظر إليه منها فأبان تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء وإنما خص نساءهن بالذكر في هذا الموضع لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال بقوله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) إلى أخر ما ذكر فكان جائزا أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوى محارم فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كن ذوات محارم أو غير ذوات محارم ثم عطف على ذلك الإماء بقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله (أَوْ نِسائِهِنَ) يقتضى الحرائر دون الإماء كما كان قوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) على الحرائر دون المماليك وقوله (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الأحرار لإضافتهم إلينا كذلك قوله (أَوْ نِسائِهِنَ) على الحرائر ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر* وقوله تعالى (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) روى عن ابن عباس وقتادة ومجاهد قالوا الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء وقال عكرمة هو العنين وقال مجاهد وطاوس وعطاء والحسن هو الأبله وقال بعضهم هو الأحمق الذي لا أرب له في النساء وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان يدخل على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولى الإربة قالت فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم وهو ينعت امرأة فقال لا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكن فحجبوه وروى هشام ابن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخى أم سلمة فقال يا عبد الله لو فتح الله لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان

١٧٦

فقال لا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخل عليكم فأباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولى الإربة فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولى الإربة فحجبه وقوله تعالى (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) قال مجاهدهم الذين لا يدرون ما هن من الصغر وقال قتادة الذين لم يبلغوا الحلم منكم قال أبو بكر قول مجاهد أظهر لأن معنى أنهم لم يظهروا على عورات النساء إنهم لا يميزون بين عورات النساء والرجال لصغرهم وقلة معرفتهم بذلك وقد أمر الله تعالى الطفل الذي قد عرف عورات النساء بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وأراد به الذي عرف ذلك واطلع على عورات النساء والذي لا يؤمر بالاستئذان أصغر من ذلك وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع فلم يأمر بالتفرقة قبل العشر وأمر بها في العشر لأنه قد عرف ذلك في الأكثر الأعم ولا يعرفه قبل ذلك في الأغلب وقوله تعالى (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) روى أبو الأحوص عن عبد الله قال هو الخلخال وكذلك قال مجاهد إنما نهيت أن تضرب برجلها ليسمع صوت الخلخال وذلك قوله (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) قال أبو بكر قد عقل من معنى اللفظ النهى عن إبداء الزينة وإظهارها لورود النص في النهى عن سماع صوتها إذ كان إظهار الزينة أولى بالنهى مما يعلم به الزينة فإذا لم يجز بأخفى الوجهين لم يجز بأظهر هما وهذا يدل على صحة القول بالقياس على المعاني التي قد علق الأحكام بها وقد تكون تلك المعاني تارة جلية بدلالة فحوى الخطاب عليها وتارة خفية يحتاج إلى الاستدلال عليها بأصول أخر سواها وفيه دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك وهو يدل أيضا على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذ كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة.

باب الترغيب في النكاح

قال الله عز وجل (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) الآية قال

«١٢ ـ أحكام مس»

١٧٧

أبو بكر ظاهره يقتضى الإيجاب إلا أنه قد قامت الدلالة من إجماع السلف وفقهاء الأمصار على أنه لم يرد بها الإيجاب وإنما هو استحباب ولو كان ذلك واجبا لورد النقل بفعله من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة إليه فلما وجدنا عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأعصار بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء فلم ينكروا ترك تزويجهم ثبت أنه لم يرد الإيجاب ويدل على أنه لم يرد الإيجاب أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه ولا تزويجها بغير أمرها وأيضا مما يدل على أنه على الندب اتفاق الجميع على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى فدل على أنه مندوب في الجميع ولكن دلالة الآية واضحة في وقوع العقد الموقوف إذ لم يخصص بذلك الأولياء دون غيرهم وكل أحد من الناس مندوب إلى تزويج الأيامى المحتاجين إلى النكاح فإن تقدم من المعقود عليهم أمر فهو نافذ وكذلك إن كانوا ممن يجوز عقدهم عليهم مثل المجنون والصغير فهو نافذ أيضا وإن لم يكن لهم ولاية ولا أمر فعقدهم موقوف على إجازة من يملك ذلك العقد فقد اقتضت الآية جواز النكاح على إجازة من يملكها فإن قيل هذا يدل على أن عقد النكاح إنما يليه الأولياء دون النساء وإن عقودهن على أنفسهن غير جائزة قيل له كذلك لأن الآية لم تخص الأولياء بهذا الأمر دون غيرهم وعمومه يقتضى ترغيب سائر الناس في العقد على الأيامى ألا ترى أن اسم الأيامى ينتظم الرجال والنساء وهو في الرجال لم يرد به الأولياء دون غيرهم كذلك في النساء وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار كثيرة في الترغيب في النكاح منها ما رواه ابن عجلان عن المقبري عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف وروى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وقال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وعن شداد بن أوس أنه قال لأهله زوجوني فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصانى أن لا ألقى الله أعزب وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خلاد عن سفيان عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر قال حدثنا

١٧٨

سعيد بن منصور قال حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عبيد بن سعيد قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح قال إبراهيم بن ميسرة ولا أقول لك إلا ما قال عمر لأبى الزوائد ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور فإن قيل قوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) عمومه يقتضى تزويج الأب ابنته البكر الكبيرة ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج البنت الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها بغير رضاها لعموم الآية قيل له معلوم أن قوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) لا يختص بالنساء دون الرجال لأن الرجل يقال له أيم والمرأة يقال لها أيمة وهو اسم للمرأة التي لا زوج لها والرجل الذي لا امرأة له قال الشاعر :

فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى

وإن كنت أفتى منكم أتأيم

وقال آخر :

ذريني على أيم منكم وناكح وقال عمر بن الخطاب ما رأيت مثل من يجلس أيما بعد هذه الآية (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) التمسوا الغنا في الباه فلما كان هذا الاسم شاملا للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء أيضا وأيضا فقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستثمار البكر بقوله البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر وذلك على الوجوب فلا يجوز تزويجها إلا بإذنها وأيضا فإن حديث محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها وإنما أراد به البكر لأن البكر هي التي يكون سكوتها رضا وحديث ابن عباس في فتاة بكر زوجها أبوها بغير أمرها فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجيزى ما صنع أبوك وقد بينا هذه المسألة فيما سلف قوله تعالى (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) فيه دلالة على أن للمولى أن يزوج عبده وأمته بغير رضاهما وأيضا لا خلاف أنه غير جائز للعبد والأمة أن يتزوجا بغير إذن وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أيما عبد تزوج بغير أذن مواليه فهو عاهر فثبت أن العبد والأمة لا يملكان ذلك فوجب أن يملك المولى منهما ذلك كسائر العقود التي لا يملكانها ويملكها المولى عليهما وقوله تعالى (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) خبر والمخبر الله تعالى ولا محالة على ما يخبر به فلا يخلو ذلك من أحد وجهين إما أن يكون خاصا في بعض المذكورين دون بعض إذ قد وجدنا من

١٧٩

يتزوج ولا يستغنى بالمال وإما أن يكون المراد بالغنى العفاف فإن كان المراد خاصا فهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون أو يكون عاما فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والاستغناء به عن تعديه إلى المحظور فلا دلالة فيه إذا على أن العبد يملك وقد بينا مسألة ملك العبد في سورة النحل.

باب المكاتبة

قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) روى عن عطاء قال ما أراه إلا واجبا وهو قول عمر وبن دينار وروى عن عمر أنه أمر أنسا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى فرفع عليه الدرة وضربه وقال فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وحلف عليه ليكاتبنه وقال الضحاك إن كان للمملوك مال فعزيمة على مولاه أن يكاتبه وروى الحجاج عن عطاء قال إنشاء كاتب وإن شاء لم يكاتب إنما هو تعليم وكذلك قوله الشعبي قال أبو بكر هذا ترغيب عند عامة أهل العلم وليس بإيجاب وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وما روى عن عمر في قصة سيرين يدل على ذلك أيضا لأنها لو كانت واجبة لحكم بها عمر عليه ولم يكن يحتاج أن يحلف على أنس لمكاتبته ولم يكن أنس أيضا يمتنع من شيء واجب عليه فإن قيل لو لم يكن يراها واجبة لما رفع عليه الدرة ولم يضربه قيل لأن عمر رضى الله عنه كان كالوالد المشفق للرعية فكان يأمرهم بما لهم فيه الحظ في الدين وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة ويدل على أنها ليست على الوجوب أنه موكول إلى غالب ظن المولى أن فيهم خيرا فلما كان المرجع فيه للمولى لم يلزمه الإجبار عليه وقوله (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) روى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبى كثير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا إن علمتم لهم حرفة ولا تدعوهم كلا على الناس وذكر ابن جريح عن عطاء إن علمتم فيهم خيرا قال ما نراه إلا المال ثم تلا قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً) قال الخير المال فيما نرى قال وبلغني عن ابن عباس يعنى بالخير المال وروى ابن سيرين عن عبيدة إن علمتم فيهم خيرا قال إذا صلى وعن إبراهيم وفاء وصدقا وقال مجاهد مالا وقال الحسن صلاحا في الدين قال أبو بكر الأظهر أنه أراد الصلاح فينتظم ذلك الوفاء والصدق وأداء الأمانة لأن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في

١٨٠