أحكام القرآن - ج ٥

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٤

الشافعى إذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم إمكانا بينا فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه كالشفعة وقال في القديم إن لم ينفه في يوم أو يومين لم يكن له أن ينفيه قال أبو بكر ليس في كتاب الله عز وجل ذكر نفى الولد إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفى الولد باللعان إذا قذفها بنفي الولد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن على قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء هلال بن أمية من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا وذكر الحديث إلى آخر ذكر اللعان قال ففرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب قال أبو بكر وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا نفى ولدها أنه يلاعن ويلزم الولد أمه وينتفى نسبه من أبيه إلا أنهم اختلفوا في وقت نفى الولد على ما ذكرنا وفي خبر ابن عمر الذي ذكرنا في أن رجلا انتفى من ولدها فلاعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وألحق الولد بالأم دليل على أن نفى ولد زوجته من قذف لها لولا ذلك لما لاعن بينهما إذ كان اللعان لا يجب إلا بالقذف وأما توقيت نفى الولد فإن طريقه الاجتهاد وغالب الظن فإذا مضت مدة قد كان يمكنه فيها نفى الولد وكان منه قبول للتهنئة أو ظهر منه ما يدل على أنه غير ناف له لم يكن له بعد ذلك أن ينفيه عند أبى حنيفة وتحديد الوقت ليس عليه دلالة فلم يثبت واعتبر ما ذكرنا من ظهور الرضا بالولد ونحوه فإن قيل لما لم يكن سكوته في سائر الحقوق رضا بإسقاطها كان كذلك نفى الولد قيل له قد اتفق الجميع على أن السكوت في ذلك إذا مضت مدة من الزمان بمنزلة الرضا بالقول إلا أنهم اختلفوا فيها وأكثر من وقت فيها أربعين يوما وذلك لا دليل عليه وليس اعتبار هذه المدة بأولى من اعتبار ما هو أقل منها وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الأربعين هي مدة أكثر النفاس وحال النفاس هي حال الولادة فما دامت على حال الولادة قبل نفيه وهذا ليس بشيء لأن نفى الولد لا تعلق له بالنفاس وأما قول مالك أنه إذا رآها حاملا فلم ينتف منه ثم نفاه بعد الولادة فإنه يجلد الحد فإنه قول واه لا وجه له من وجوه أحدها أن الحمل غير متيقن فيعتبر نفيه والثاني أنه ليس بآكد ممن ولدت امرأته ولم يعلم بالحمل فعلم به وسكت زمانا يلزمه الولد وإن نفاه بعد ذلك

١٤١

لاعن ولم ينتف نسب الولد منه إذ لم تكن صحة اللعان متعلقة بنفي الولد ولم يكن منه إكذاب لنفسه بعد النفي فكيف يجوز أن يجلد وأيضا قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) الآية فأوجب اللعان بعموم الآية على سائر الأزواج فلا يخص منه شيء إلا بدليل ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه من ذلك على وجوب الحد وسقوط اللعان.

باب الرجل يطلق امرأته طلاقا بائنا ثم يقذفها

قال أصحابنا فيمن طلق امرأته ثلاثا ثم قذفها فعليه الحد وكذلك إن ولدت ولدا قبل انقضاء عدتها فنفى ولدها فعليه الحد والولد ولده وقال ابن وهب عن مالك إذا بانت منه ثم أنكر حملها لا عنها إن كان حملها يشبه أن يكون منه وإن قذفها بعد الطلاق الثلاث وهي حامل مقر بحملها ثم زعم أنه رآها تزنى قبل أن يقاذفها حد ولم يلاعن وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثا لا عنها وقال الليث إذا أنكر حملها بعد البينونة لا عن ولو قذفها بالزنا بعد أن بانت منه وذكر أنه رأى عليها رجلا قبل فراقه إياها جلد الحد ولم يلاعن وقال ابن شبرمة إذا ادعت المرأة حملا في عدتها وأنكر الذي يعتد منه لا عنها وإن كانت في غير عدة جلد وألحق به الولد وقال الشافعى وإن كانت امرأة مغلوبة على عقلها فنفى زوجها ولدها التعن ووقعت الفرقة وانتفى الولد وإن ماتت المرأة قبل اللعان فطالب أبوها وأمها زوجها كان عليه أن يلتعن وإن ماتت ثم قذفها حد ولا لعان إلا أن ينفى به ولدا أو حملا فيلتعن وروى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال يحد وقال ابن عمر يلاعن وروى الشيباني عن الشعبي قال إن طلقها طلاقا بائنا فادعت حملا فانتفى منه يلاعنها إنما فر من اللعان وروى أشعث عن الحسن مثله ولم يذكر الفرار وإن لم تكن حاملا جلد وقال إبراهيم النخعي وعطاء والزهري إذا قذفها بعد ما بانت منه جلد الحد قال عطاء والولد ولده قال أبو بكر قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) وكان ذلك حكما عاما في قاذف الزوجات والأجنبيات على ما بينا فيما سلف ثم نسخ منه قاذف الزوجات بقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) والبائنة ليست بزوجة فعلى الذي كان زوجها الحد إذا قذفها بظاهر قوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) ومن أوجب اللعان بعد البينونة وارتفاع الزوجية فقد نسخ من هذه الآية ما لم يرد توقيف بنسخه وغير جائز نسخ

١٤٢

القرآن إلا بتوقيف يوجب العلم ومن جهة أخرى أنه لا مدخل للقياس في إثبات اللعان إذ كان اللعان حدا على ما روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لم يختلفوا أنه لو قذفها بغير ولد أن عليه الحد ولا لعان فثبت أنه غير داخل في الآية ولا مراد إذ ليس في الآية نفى الولد وإنما فيها ذكر القذف ونفى الولد مأخوذ من السنة ولم ترد السنة بإيجاب اللعان لنفى الولد البينونة فإن قيل إنما يلاعن بينهما لنفى الولد لأن ذلك حق للزوج ولا ينتفى منه إلا باللعان قياسا على حال بقاء الزوجية قيل له هذا استعمال القياس في نسخ حكم الآية وهو قوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) فلا يجوز نسخ الآية بالقياس وأيضا لو جاز إيجاب اللعان لنفى الولد مع ارتفاع الزوجية لجاز إيجابه لزوال الحد عن الزوج بعد ارتفاع الزوجية فلما كان لو قذفها بغير ولد حد ولم يجب اللعان ليزول الحد لعدم الزوجية كذلك لا يجب اللعان لنفى الولد مع ارتفاع الزوجية فإن قيل قال الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وقال (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) فحكم تعالى بطلاق النساء ولم يمنع ذلك عندك من طلاقها بعد البينونة مادامت في العدة فما أنكرت مثله في اللعان قيل له هذا سؤال ساقط من وجوه أحدها أن الله تعالى حين حكم بوقوع الطلاق على نساء المطلق لم ينف بذلك وقوعه على من ليست من نسائه بل ما عدا نسائه فحكمه موقوف على الدليل في وقوع طلاقه أو نفيه وقد قامت الدلالة على وقوعه في العدة وأما اللعان فإنه مخصوص بالزوجات ولأن من عدا الزوجات فالواجب فيهن الحد بقوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) فكان موجب هذه الآية نافيا للعان ومن أوجبه وأسقط حكم الآية فقد نسخها بغير توقيف وذلك باطل ولذلك نفيناه إلا مع بقاء الزوجية وأيضا فإن الله تعالى من حيث حكم بطلاق النساء فقد حكم بطلاقهن بعد البينونة بقوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ثم عطف عليه قوله (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فحكم بوقوع الطلاق بعد الفدية لأن الفاء للتعقيب وليس معك آية ولا سنة في إيجاب اللعان بعد البينونة وأيضا فجائز إثبات الطلاق من طريق المقاييس بعد البينونة ولا يجوز إثبات اللعان بعد البينونة من طريق القياس لأنه حد لا مدخل للقياس في إثباته وأيضا فإن اللعان يوجب البينونة ولا يصح إثباتها بعد وقوع البينونة فلا معنى لإيجاب لعان

١٤٣

لا يتعلق به بينونة إذ كان موضوع اللعان لقطع الفراش وإيجاب البينونة فإذا لم يتعلق به ذلك فلا حكم له فجرى اللعان عندنا في هذا الوجه مجرى الكنايات الموضوعة للبينونة فلا يقع بها طلاق بعد ارتفاع الزوجية مثل قوله أنت خلية وبائن وبتة ونحوها فلما لم يجز أن يلحقها حكم هذه الكنايات بعد البينونة وجب أن يكون ذلك حكم اللعان في انتفاء حكمه بعد وقوع الفرقة وارتفاع الزوجية وليس كذلك حكم صريح الطلاق إذ ليس شرطه ارتفاع البينونة ألا ترى أن الطلاق تثبت معه الرجعة في العدة ولو طلق الثانية بعد الأولى في العدة لم يكن في الثانية تأثير في بينونة ولا تحريم وإنما أوجب نقصان العدد فلذلك جاز أن يلحقها الطلاق في العدة بعد البينونة لنقصان العدد لا لإيجاب تحريم ولا لبينونة وأيضا فليس يجوز أن يكون وقوع الطلاق أصلا لوجوب اللعان لأن الصغيرة والمجنونة يلحقهما الطلاق ولا لعان بينهما وبين أزواجهما واختلف أهل العلم فيمن قذف امرأته ثم طلقها ثلاثا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا أبانت منه بعد القذف بطلاق أو غيره فلا حد عليه ولا لعان وهو قول الثوري وقال الأوزاعى والليث والشافعى يلاعن وقال الحسن بن صالح إذا قذفها وهي حامل ثم ولدت ولدا قبل أن يلاعنها فماتت لزمه الولد وضرب الحد وإن لا عن الزوج ولم تلتعن المرأة حتى تموت ضرب الحد وتوارثا وإن طلقها وهي حامل وقد قذفها فوضعت حملها قبل أن يلاعنها لم يلاعن وضرب الحد قال أبو بكر قد بينا امتناع وجوب اللعان بعد البينونة ثم لا يخلو إذا لم يجب اللعان من أن لا يجب الحد على ما قال أصحابنا أو أن يجب الحد على ما قال الحسن بن صالح وغير جائز إيجاب الحد إذا لم يكن من الزوج إكذاب لنفسه وأينا سقط اللعان عنه من طريق الحكم وصار بمنزلتها لو صدقته على القذف لما سقط اللعان من جهة الحكم لا بإكذاب من الزوج لنفسه لم يجب الحد فإن قيل لو قذفها وهي أجنبية ثم تزوجها لم تنتقل إلى اللعان كذلك إذا قذفها وهي زوجته ثم بانت لم يبطل اللعان قيل له حال النكاح قد يجب فيها اللعان وقد يجب فيه الحد ألا ترى أنه لو أكذب نفسه وجب الحد في حال النكاح وغير حال النكاح لا يجب فيه اللعان بحال واختلف أهل العلم في الرجل ينفى حمل امرأته فقال أبو حنيفة إذا قال ليس هذا الحمل منى لم يكن قاذفا لها فإن ولدت بعد يوم لم يلاعن حتى ينفيه بعد الولادة وهو قول زفر وقال أبو يوسف ومحمد إن جاءت به بعد هذا

١٤٤

القول لأقل من ستة أشهر لا عن وقد روى عن أبى يوسف أن يلاعنها قبل الولادة وقال مالك والشافعى يلاعن بالحمل وذكر عنه الربيع أنه يلاعن حتى تلد وإنما يوجبه أبو حنيفة اللعان بنفي الحمل لأن الحمل غير متيقن وجائز أن يكون ريحا أو داء وإذا كان كذلك لم يجز أن نجعله قذفا لأن القذف لا يثبت بالاحتمال ألا نرى أن التعريض المحتمل للقذف ولغيره لا يجوز إيجاب اللعان ولا الحد به فلما كان محتملا أن يكون ما نفاه ولدا واحتمل غيره لم يجز أن يوجب اللعان به قبل الوضع ثم إذا وضعت لأقل من ستة أشهر تيقنا أنه كان حملا في وقت النفي لم يجب اللعان أيضا لأنه يوجب أن يكون القذف معلقا على شرط والقذف لا يجوز أن يعلق على شرط ألا ترى أنه لو قال لها إذا ولدت فأنت زانية لم يكن قاذفا لها بالولادة واحتج من لاعن بالحمل بما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاعن بالحمل وإنما أصل هذا الحديث ما رواه عيسى بن يونس وجرير جميعا عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن رجلا قال أرأيتم إن وجد رجلا مع امرأته رجلا فإن هو قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت عن غيظ فأنزلت آية اللعان فابتلى به فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلاعن امرأته فلم يذكر في هذا الحديث الحمل ولا أنه لاعن بالحمل وروى ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس أن رجلا جاء وقال وجدت مع امرأتى رجلا ثم لاعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وقال إن جاءت به كذا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبى عدى قال أنبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البينة أو حد في ظهرك وذكر الحديث إلى قوله أبصروها فإن جاءت به كذا فهو لشريك بن سحماء وكذلك رواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس فذكر في هذه الأخبار أنه قذفها وأبو حنيفة يوجب اللعان بالقذف وإن كانت حاملا وإنما لا يوجبه إذا نفى الحمل من غير قذف فإن قيل قال الله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وقد ترد الجارية بعيب الحمل إذا قال النساء هي حبلى وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دية شبه العمد منها أربعون خلفة في بطونها أولادها قيل له أما نفقة الحامل فلا تجب لأجل الحمل وإنما وجبت للعدة فما لم تنقض عدتها فنفقتها واجبة ألا ترى أن غير الحامل نفقتها واجبة وإنما ذكر الحمل

«١٠ ـ احكام مس»

١٤٥

لأن وضعه تنقضي به العدة وتنقطع به النفقة وأما الرد بالعيب فإنه جائز كونه مع الشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة والحد لا يجوز إثباته بالشبهة فلذلك اختلفا وكذلك من يوجب في الدية أربعين خلقة في بطونها أولادها فإنه يوجبها على غالب الظن ومثله لا يجوز إيجاب الحد به وهذا كما يحكم بظاهر وجود الدم أنه حيضة ولا يجوز القطع به حتى يتم ثلاثة أيام وكذلك من كان ظاهر أمرها الحبل لا تكون رؤيتها الدم حيضا فإن تبين بعد أنها لم تكن حاملا كان ذلك الدم حيضا وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة هلال بن أمية إن جاءت به على صفة كيت وكيت فهو لشريك بن سحماء فإنه فيما أضافه إلى هلال محمول على حقيقة إثبات النسب منه وهذا يدل على أنه لم ينف الولد منه بلعانه إياها في حال حملها وقوله فهو لشريك بن سحماء لا يجوز أن يكون مراده إلحاق النسب به وإنما أراد أنه من مائه في غالب الرأى لأن الزاني لا يلحق به النسب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر فإن قيل في حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في امرأة هلال بن أمية حين لاعن بينهما أن لا يدعى ولدها لأب قيل له هذا إنما ذكره عباد بن منصور عن عكرمة وهو ضعيف واه لا يشك أهل العلم بالحديث أن في حديث عباد بن منصور هذا أشياء ليست من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدرجة فيه ولم يذكر ذلك غير عباد بن منصور ويدل على أنه غير جائز نفى النسب ولا إثبات للقذف بالشبهة حديث أبى هريرة قال إن أعرابيا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن امرأتى ولدت غلاما أسود وإنى أنكرته فقال له هل لك من إبل قال نعم قال ما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال نعم قال فأنى ترى ذلك جاءها قال عرق نزعها قال فلعل هذا عرق نزعه فلم يرخص له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفيه عنه لبعد شبهه منه ويدل أيضا على أنه لا يجوز نفى النسب بالشبهة.

(فصل) وقال أصحابنا إذا نفى نسب ولد زوجته فعليه اللعان وقال الشافعى لا يجب اللعان حتى يقول إنها جاءت به من الزنا قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لا عن امرأته في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة فأخبر أنه لاعن بينهما لنفيه الولد فثبت أن نفى ولدها قذف يوجب اللعان.

١٤٦

أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها

قال أصحابنا شهادتهم جائزة ويقام الحد على المرأة وقال مالك والشافعى يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروى نحو قولهما عن الحسن والشعبي وروى عن ابن عباس إن الزوج يلاعن ويحد الثلاثة قال أبو بكر قال الله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا جميعا أجنبيين وقال (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) فإذا قذف الأجنبى امرأة وجاء بأربعة أحدهم الزوج اقتضى الظاهر جواز شهادتهم وسقوط الحد عن القاذف وإيجابه عليها وأيضا لا خلاف أن شهادة الزوج جائزة على امرأته في سائر الحقوق وفي القصاص وفي سائر الحدود من السرقة والقذف والشرب فكذلك يجب أن تكون في الزنا فإن قيل الزوج يجب عليه اللعان إذا قذف امرأته فلا يجوز أن يكون شاهدا قيل له إذا جاء مجيء الشهود مع ثلاثة غيره فليس بقذف ولا لعان عليه وإنما يجب اللعان عليه إذا قذفها ثم لم يأت بأربعة شهداء كالأجنبى إذا قذف وجب عليه الحد إلا أن يأتى بأربعة غيره يشهدون بالزنا ولو جاء مع ثلاثة فشهدوا بالزنا لم يكن قاذفا وكان شاهدا فكذلك الزوج.

في إباء أحد الزوجين اللعان

قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد أيهما نكل عن اللعان حبس حتى يلاعن وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعى أيهما نكل حد إن نكل الرجل حد للقذف وإن نكلت هي حدت للزنا وروى معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن في الرجل يلاعن وتأبى المرأة قال تحبس وعن مكحول والضحاك والشعبي إذا لاعن وأبت أن تلاعن رجمت قال أبو بكر قال الله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وقال (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ائتني بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك ورد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماعزا والغامدية كل واحد منهما حتى أقر أربع مرات بالزنا ثم رجمهما فثبت أنه لا يجوز إيجاب الحد عليها بترك اللعان لأنه ليس ببينة ولا إقرار وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل دم امرى مسلم إلا بإحدى

١٤٧

ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس فنفى وجوب القتل إلا بما ذكر والنكول عن اللعان خارج عن ذلك فلا يجب رجمها وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن لأن أحدا لم يفرق بينهما فإن قيل امرئ مسلم إنما يتناول الرجل دون المرأة قيل له ليس كذلك لأنه لا خلاف أن المرأة مرادة بذلك وإن هذا الحكم عام فيهما جميعا وأيضا فإن ذلك للجنس كقوله (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) وقوله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) وأيضا لا خلاف أن الدم لا يستحق بالنكول في سائر الدعاوى وكذلك سائر الحدود فكان في اللعان أولى أن لا يستحق فإن قيل لما قال تعالى (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهو يعنى حد الزنا ثم قال (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) فعرفه بالألف واللام علمنا أن المراد هو العذاب المذكور في قوله (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قيل له ليست هذه قصة واحدة ولا حكما واحدا حتى يلزمه فيه ما قلت لأن أول السورة إنما هي في بيان حكم الزانيين ثم حكم القاذف وقد كان ذلك حكما ثابتا في قاذف الزوجات والأجنبيات جاريا على عمومه إلى أن نسخ عن قاذف الزوجات باللعان وليس في ذكره العذاب وهو يريد به حد الزنا في موضع ثم ذكر العذاب بالألف واللام في غيره ما يوجبه أن العذاب المذكور في لعان الزوجين هو المذكور في الزانيين إذ ليس يختص العذاب بالحد دون غيره وقد قال الله تعالى (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ولم يرد به الحد وقال (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) ولم يرد الحد وقال (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) ولم يرد به الحد وقال عبيد بن الأبرص :

والمرء ما عاش في تكذيب

طول الحياة له تعذيب

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السفر قطعة من العذاب فإذا كان اسم العذاب لا يختص بنوع من الإيلام دون غيره ومعلوم أنه لم يرد به جميع سائر ضروب العذاب عليه لم يخل اللفظ من أحد معنيين إما أن يريد به الجنس فيكون على أدنى ما يسمى عذابا أى ضرب منه كان أو مجملا مفتقرا إلى البيان إذ غير جائز أن يكون المراد معهودا لأن المعهود هو ما تقدم ذكره في الخطاب فيرجع الكلام إليه إذ كان معناه متقررا عند المخاطبين وأن المراد عوده إليه فلما لم يكن في ذكر قذف الزوج وإيجاب اللعان ما يوجب استحقاق الحد على المرأة لم يجز أن يكون هو المراد بالعذاب وإذا كان ذلك كذلك وكانت الأيمان قد تكون حقا للمدعى

١٤٨

حتى يحبس من أجل النكول عنها وهي القسامة متى نكلوا عن الأيمان فيها حبسوا كذلك حبس الناكل عن اللعان أولى من إيجاب الحد عليه لأنه ليس في الأصول إيجاب الحد بالنكول وفيها إيجاب الحبس به وأيضا فإن النكول ينقسم إلى أحد معنيين إما بدل لما استحلف عليه وإما قائم مقام الإقرار وبدل الحدود لا يصح وما قام مقام الغير لا يجوز إيجاب الحد به كالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي وشهادة النساء مع الرجال وأيضا فإن النكول لما لم يكن صريح الإقرار لم يجز إثبات الحد به كالتعريض وكاللفظ المحتمل للزنا ولغيره فلا يجب به الحد على المقر ولا على القاذف فإن قيل في حديث ابن عباس وغيره في قصة هلال بن أمية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لاعن بينهما وعظ المرأة وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكذلك الرجل ومعلوم أنه أراد بعذاب الدنيا حد الزنا أو القذف قيل له هذا غلط لأنه لا يخلو من أن يكون مراده بعذاب الدنيا الحبس أو الحد إذا أقر فإن كان المراد الحبس فهو عند النكول وإن أراد الحد فهو عند إقرارها بما يوجب الحد وإكذاب الزوج لنفسه فلا دلالة له فيه على أن النكول يوجب الحد دون الحبس فإن قيل إنما يجب عليها الحد بالنكول وأيمان الزوج وكذلك يجب عليه بنكوله وأيمان المرأة قيل له النكول والأيمان لا يجوز أن يستحق به الحد ألا ترى أن من ادعى على رجل قذفا أنه لا يستحلف ولا يستحق المدعى الحد بنكول المدعى عليه ولا بيمينه وكذلك سائر الحدود ولا يستحلف فيها ولا يحكم فيها بالنكول ولا يرد اليمين.

باب تصادق الزوجين أن الولد ليس منه

قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعى لا ينفى الولد منه إلا باللعان وقال أصحابنا تصديقها إياه بأن ولدها من الزنا يبطل اللعان فلا ينتفى النسب منه أبدا وقال مالك والليث إذا تصادق الزوجان على أنها ولدته وأنه ليس منه لم يلزمه الولد وتحد المرأة وذكر ابن القاسم عن مالك قال لو شهد أربعة على امرأة أنها زنت منذ أربعة أشهر وهي حامل وقد غاب زوجها منذ أربعة أشهر فأخرها الإمام حتى وضعت ثم رجمها فقدم زوجها بعد ما رجمت فانتفى من ولده وقال قد كنت استبرأتها فإنه يلتعن وينتفى به الولد عن نفسه ولا ينفيه هاهنا إلا اللعان قال أبو بكر قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر وظاهره يقتضى أن لا ينتفى أبدا عن صاحب الفراش غير أنه لما وردت السنة في إلحاق

١٤٩

الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان واستعمل ذلك فقهاء الأمصار سلمنا بذلك وما عدا ذلك مما لم ترد به سنة فهو لازم للزوج بظاهر قوله الولد للفراش وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا مهدى بن ميمون أبو يحيى قال حدثنا محمد بن عبد الله بن أبى يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن على بن أبى طالب عن رباح قال زوجني أهلى أمة لهم رومية فوقعت عليها فولدت لي غلاما أسود مثلي فسميته عبد الله ثم طبن لها غلام من أهلى رومي يقال له يوحنه فراطنها بلسانه فولدت غلاما كأنه وزغة من الوزغات فقلت لها ما هذا فقالت هذا ليوحنه فرفعنا إلى عثمان قال فسألهما فاعترفا فقال لهما أترضيان أن أقضى بينكما بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى إن الولد للفراش فجلدها وجلده وكانا مملوكين.

باب الفرقة باللعان

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم وقال مالك وزفر بن الهذيل والليث إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق بينهما الحاكم وعن الثوري والأوزاعى لا تقع الفرقة بلعان الزوج وحده وقال عثمان البتى لا أرى ملاعنة الزوج امرأته تنقص شيئا وأحب إلى أن يطلق وقال الشافعى إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا التعنت أو لم تلتعن قال أبو بكر أما قول عثمان البتى في أنه لا يفرق بينهما فإنه قول تفرد به ولا نعلم أحدا قال به غيره وكذلك قول الشافعى في إيقاعه الفرقة بلعان الزوج خارج عن أقاويل سائر الفقهاء وليس له فيه سلف والدليل على أن فرقة اللعان لا تقع إلا بتفريق الحاكم ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما فرغنا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين وفي هذا الخبر دلالة على أن اللعان لم يوجب الفرقة لقوله كذبت عليها إن أمسكتها وذلك لأن

١٥٠

فيه إخبارا منه بأنه ممسك لها بعد اللعان على ما كان عليه من النكاح إذ لو كانت الفرقة قد وقعت قبل ذلك لاستحال قوله كذبت عليها إن أمسكتها وهو غير ممسك لها فلما أخبر بعد اللعان بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ممسك لها ولم ينكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دل ذلك على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان إذ غير جائز أن يقار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا على الكذب ولا على استباحة نكاح قد بطل فثبت أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان ويدل عليه أيضا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان قال حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا الليث عن يزيد ابن أبى حبيب أن ابن شهاب كتب يذكر عن سهل بن سعد أنه أخبره أن عويمرا قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت عند أهلى رجلا أأقتله قال ائت بامرأتك فإنه قد نزل فيكما فجاء بها فلاعنها ثم قال إنى قد افتريت عليها إن لم أفارقها فأخبر في هذا الحديث إنه لم يكن فارقها باللعان وأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما طلقها ثلاثا بعد اللعان ولم ينكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم دل ذلك على أن الطلاق قد وقع موقعه وعلى قول الشافعى إنها قد بانت منه بلعان الزوج ولا يلحقها طلاقه بعد البينونة فقد خالف الخبر من هذا الوجه أيضا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمر وبن السرح قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر أعنى قصة عويمر قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنفذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ما صنع عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سهل حضرت هذا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا فأخبر في هذا الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنفذ طلاق العجلاني بعد اللعان ويدل عليه أيضا قول ابن شهاب فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولو كانت الفرقة واقعة باللعان لاستحال التفريق بعدها ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد ووهب بن بيان وغيرهما قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد قال مسدد قال شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة ففرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما حين تلاعنا فقال الرجل كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فأخبر في هذا الحديث أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق بينهما بعد اللعان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عمر رجل قذف امرأته قال فرق رسول

١٥١

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى أخوى بنى العجلان فقال والله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب يرددها ثلاث مرات فأبيا ففرق بينهما فنص في هذا الحديث أيضا على أنه فرق بينهما بعد اللعان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة وهذا أيضا فيه نص على أن التفريق كان بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيضا لو كانت الفرقة واقعة بلعان الزوج لبينها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وقع بها من التحريم وتعلق بها من الأحكام فلما لم يخبر عليه‌السلام بوقوع الفرقة بلعان الزوج ثبت أنها لم تقع وأيضا قول الشافعى خلاف الآية لأن الله تعالى قال (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) ثم قال (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) ثم قال (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) وهو يعنى الزوجة فلو وقعت الفرقة بلعان الزوج للاعنت وهي أجنبية وذلك خلاف ظاهر الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين وأيضا لا خلاف أن الزوج إذا قذف امرأته بغير ولد بعد البينونة أو قذفها ثم أبانها أنه لا يلاعن فلما لم يجز أن يلاعن وهو أجنبى كذلك لا يجوز أن يلاعن وهي أجنبية لأن اللعان في هذه الحال إنما هو لقطع الفراش ولا فراش بعد البينونة فامتنع لعانها وهي غير زوجة فإن قيل في الأخبار التي فيها ذكر تفريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المتلاعنين إنما معناه إن الفرقة وقعت باللعان فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها لا تحل له بقوله لا سبيل عليها قيل له هذا صرف الكلام عن حقيقته ومعناه لأن قوله لا تحل لك لا سبيل لك عليها إن لم تقع به فرقة فليس بتفريق من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وإنما هو إخبار بالحكم والمخبر بالحكم لا يكون مفرقا بينهما فإن قيل روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا وذلك إخبار منه بوقوع الفرقة لأن النكاح لو كان باقيا إلى أن يفرق لكانا مجتمعين قيل له هذا لا يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما روى عن عمر وعلى قال يفرق بينهما ولا يجتمعان فإنما مراده أنهما إذا فرق بينهما لا يجتمعان ماداما على حال التلاعن فينبغي أن تثبت الفرقة حتى يحكم بأنهما لا يجتمعان ولو صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معناه ما وصفنا وأيضا يضم إليه ما قدمنا من الأخبار الدالة على بقاء النكاح بعد اللعان وأن الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم فإذا جمعنا بينهما وبين الخبر تضمن أن يكون معناه المتلاعنان لا يجتمعان بعد التفريق ويدل على ما ذكرنا أن اللعان شهادة لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم فأشبه

١٥٢

الشهادة التي لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم فواجب على هذا أن لا تقع موجبة للفرقة إلا بحكم الحاكم فإن قيل الأيمان على الدعاوى لا يثبت بها حكم إلا عند الحاكم ومتى استحلف الحاكم رجلا برىء من الخصومة ولا يحتاج إلى استئناف حكم آخر في برائته منها وهذا يوجب انتقاض اعتلالك بما ذكرت قيل له هذا لا يلزم على ما ذكرنا وذلك لأنا قلنا اللعان شهادة تتعلق صحتها بالحاكم كالشهادات على الحقوق وليست الأيمان على الحقوق شهادات بذلك على هذا أن اللعان لا يصح إلا بلفظ الشهادات كالشهادات على الحقوق وليس كذلك الاستحلاف على الدعاوى وأيضا فإن اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعى ببينته فلما لم يجز أن يستحق المدعى ما ادعاه إلا بحكم الحاكم وجب حكمه في استحقاق المرأة نفسها باللعان وأما الاستحلاف على الحقوق فإنه لا يستحق به شيء وإنما تقطع الخصومة في الحال ويبقى المدعى عليه على ما كان عليه من براءة الذمة فكانت فرقة اللعان بالشهادات على الحقوق أشبه منها بالاستحلاف عليها وأيضا لما كان اللعان سببا للفرقة متعلقا بحكم الحاكم أشبه تأجيل العنين في كونه سببا للفرقة في تعلقه بحكم الحاكم فلما لم تقع الفرقة بعد التأجيل بمضى المدة دون تفريق الحاكم وجب مثله في فرقة اللعان لما وصفنا وأيضا لما لم يكن اللعان كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها وجب أن لا تقع به الفرقة كسائر الألفاظ التي ليست كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها فإن قيل الإيلاء ليس بكناية عن الطلاق ولا صريح وقد أوقعت به الفرقة عند مضى المدة قيل له إن الإيلاء يصح أن يكون كناية عن الطلاق إلا أنه أضعف من سائر الكنايات فلا تقع الفرقة فيه بنفس الإيلاء إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو ترك الجماع في المدة ألا ترى أن قوله والله لا أقربك قد يدل على التحريم إذ كان التحريم يمنع القرب وأما اللعان فليس يصح أن يكون دالا على التحريم بحال لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه فلا يوجب ذلك تحريما ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها بالزنا لم يوجب ذلك تحريما وإن كان كاذبا والمرأة صادقة فذلك أبعد فثبت بذلك أنه لا دلالة فيه على التحريم قال فلذلك لم يجز وقوع الفرقة دون إحداث تفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم وأيضا أنه لما لم يصح ابتداء اللعان إلا بحكم الحاكم كان كذلك ما تعلق به من الفرقة ولما صح ابتداء الإيلاء من غير حاكم لم يحتج في وقوع الفرقة إلى حكم الحاكم فإن قيل لما اتفقنا على أنهما لو تراضيا

١٥٣

على البقاء على النكاح لم يخليا وذلك وفرق بينهما دل ذلك على أن اللعان قد أوجب الفرقة فواجب أن تقع الفرقة فيه بنفس اللعان دون سبب آخر غيره قيل له هذا منتقض على أصل الشافعى لأنه يزعم أن ارتداد المرأة لا يوجب الفرقة إلا بحدوث سبب آخر وهو مضى ثلاث حيض فإذا مضت ثلاثة حيض وقعت الفرقة ولو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا وذلك ولم توجب الردة بنفسها الفرقة دون حدوث معنى آخر وعندنا لو تزوجت امرأة زوجا غير كفء وطالب الأولياء بالفرقة لم يعمل تراضى الزوجين في تبقية النكاح ولم يوجب ذلك وقوع الفرقة بخصومة الأولياء حتى يفرق الحاكم فهذا الاستدلال فاسد على أصل الجميع وأيضا فإنك لم ترده إلى أصل وإنما حصلت على دعوى عارية من البرهان وأيضا جائز عندنا البقاء على النكاح بعد اللعان لأنه لو أكذب نفسه قبل الفرقة لجلد الحد ولم يفرق بينهما فإن قيل هو مثل الطلاق الثلاث والرضاع ونحوهما من الأسباب الموجبة للفرقة بأنفسها لا يحتاج في صحة وقوعها إلى حكم الحاكم واللعان ليس بسبب موجب للفرقة بنفسه لأنه لو كان كذلك وجب أن تقع به الفرقة إذا تلاعنا عند غير الحاكم وأيضا ليس كل سبب يتعلق به فسخ يوجبه بنفسه من الأسباب ما يوجب ذلك بنفسه ومنها ما لا يوجبه إلا بحدوث معنى آخر ألا ترى أن بيع نصيب من الدار يوجب الشفعة للشريك ولا ينتقل إليه بنفس الطلب والخصومة دون أن يحكم بها الحاكم وكذلك الرد بالعيب بعد القبض وخيار الصغير إذا بلغ ونحو ذلك هذه كلها أسباب يتعلق بها فسخ العقود ثم لا يقع الفسخ بوجودها حسب دون حكم الحاكم به فهو على من يوجب الفرقة باللعان دون تفريق الحاكم وأما عثمان البتى فإنه ذهب في قوله إن اللعان لا يوجب الفرقة بحال لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ولو تلاعنا في بيتهما لم يوجب فرقة فكذلك عند الحاكم ولأن اللعان في الأزواج قائم مقام الحد على قاذف الأجنبيات ولو حد الزوج في قذفه إياها بأن أكذب نفسه أو كان عبدا لم يوجب ذلك فرقة وكذلك إذا لاعن وذهب في تفريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المتلاعنين أن ذلك إنما كان في قصة العجلاني وكان طلقها ثلاثا بعد اللعان فلذلك فرق بينهما وروى ابن شهاب أن سهل بن سعد قال فطلقها العجلاني ثلاث تطليقات بعد فراغهما من اللعان فأنفذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحديث ابن عمر أيضا إنما هو في قصة العجلاني قال أبو بكر في

١٥٤

حديث سهل بن سعد أنه قال فحضرت هذا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعنى قصة العجلاني فمضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا فأخبر سهل وهو راوي هذه القصة أن السنة مضت بالتفريق وإن لم يطلق الزوج وفي حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق بينهما قال أبو بكر وهلال لم يطلق امرأته فثبت أن التفريق بينهما بعد اللعان واجب وأيضا في حديث ابن عمر وغيره في قصة العجلاني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق بينهما وجائز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق بينهما ثم طلقها هو ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه أنه قال لا سبيل لك عليها

. باب نكاح الملاعن للملاعنة

قال أبو حنيفة ومحمد إذا أكذب الملاعن نفسه وجلد الحد أو جلد حد القذف في غير ذلك وصارت المرأة بحال لا يجب بينهما وبين زوجها إذا قذفها لعان فله أن يتزوجها وروى نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي وسعيد بن جبير وقال أبو يوسف والشافعى لا يجتمعان أبدا وروى عن على وعمر وابن مسعود مثل ذلك وهذا محمول عندنا على أنهما لا يجتمعان ماداما على حال التلاعن وروى عن سعيد بن جبير أن فرقة اللعان لا تبينها منه وأنه إذا أكذب نفسه في العدة ردت إليه امرأته وهو قول شاذ لم يقل به أحد غيره وقد مضت السنة ببطلانه حين فرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المتلاعنين والفرقة لا تكون إلا مع البينونة ويحتج للقول الأول بعموم الآي المبيحة لعقود المناكحات نحو قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وقوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) ومن جهة النظر أنا قد بينا أن هذه الفرقة متعلقة بحكم الحاكم وكل فرقة تعلقت بحكم الحاكم فإنها لا توجب تحريما مؤبدا والدليل على ذلك أن سائر الفرق التي تتعلق بحكم الحاكم لا يوجب تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين وخيار الصغيرين وفرقة الإيلاء عند مخالفنا وكذلك سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم في الأصول هذه سبيلها فإن قيل سائر الفرق التي ذكرت لا يمنع التزويج في الحال وإن تعلقت بحكم الحاكم وهذه الفرقة تحظر تزويجها في الحال عند الجميع فكما جاز أن يفارق سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم من هذا الوجه جاز أن يخالفها في إيجابها التحريم مؤبدا قيل له من الفرق المتعلقة بحكم الحاكم ما يمنع التزويج في الحال ولا توجب مع ذلك تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين

١٥٥

إذا لم تكن نفى من طلاقها إلا واحدة قد أوجبت تحريما حاظرا لعقد النكاح في الحال ولم توجب مع ذلك تحريما مؤبدا وكذلك الزوج الذمي إذا أبى الإسلام وقد أسلمت امرأته ففرق الحاكم بينهما منع ذلك من نكاحها بعد الفرقة ولا توجب تحريما مؤبدا فلم يجب من حيث حظرنا تزويجها بعد الفرقة أن توجب به تحريما مؤبدا وأيضا لو كان اللعان يوجب تحريما مؤبدا لوجب أن يوجبه إذا تلاعنا عند غير الحاكم لأنا وجدنا سائر الأسباب الموجبة للتحريم المؤبد فإنها توجبه بوجودها غير مفتقرة فيه إلى حاكم مثل عقد النكاح الموجب لتحريم الأم والوطء الموجب للتحريم والرضاع والنسب كل هذه الأسباب لما تعلق بها تحريم مؤبد لم تفتقر إلى كونها عند الحاكم فلما لم يتعلق تحريم اللعان إلا بحكم الحاكم وهو أن يتلاعنا بأمره بحضرته ثبت أنه لا يوجب تحريما مؤبدا وأيضا لو أكذب نفسه قبل الفرقة بعد اللعان لجلد الحد ولم يفرق بينهما وأبو يوسف لا يخالفنا في ذلك لزوال حال التلاعن وبطلان حكمه بالحد الواقع به وجب مثله بعد الفرقة لزوال المعنى الذي من أجله وجبت الفرقة وهو حكم اللعان فإن قيل لو كان كذلك لوجب أنه إذا أكذب نفسه بعد الفرقة وجلد الحد أن يعود النكاح وتبطل الفرقة لزوال المعنى الموجب لها كما لا يفرق بينهما إذا أكذب نفسه بعد اللعان قبل الفرقة قيل له لا يجب ذلك لأنا إنما جعلنا زوال حكم اللعان علة لارتفاع التحريم الذي تعلق به لا لبقاء النكاح ولا لعود النكاح فعلى أى وجه بطل لم يعد إلا بعقد مستقبل إلا أن الفرقة قد تعلق بها تحريم غير البينونة وذلك التحريم إنما يرتفع بارتفاع حكم اللعان كما أن الطلاق الثلاث توجب البينونة وتوجب أيضا مع ذلك تحريما لا يزول إلا بزوج ثان يدخل بها فإذا دخل بها الزوج الثاني ارتفع التحريم الذي أوجبه الطلاق الثلاث ولم يعد نكاح الزوج الأول إلا بعد فراق الزوج الثاني وانقضاء العدة وإيقاع عقد مستقبل ودليل آخر وهو أن التحريم الواقع بالفرقة لما كان متعلقا بحكم اللعان وجب أن يرتفع بزوال حكمه والدليل على ارتفاع حكم اللعان إذا أكذب نفسه وجلد الحد أنه معلوم أن اللعان حد على ما بينا فيما سلف بمنزلة الجلد في قاذف الأجنبيات وممتنع أن يجتمع عليه حدان في قذف واحد فإيقاع الجلد لذلك القذف مخرج للعان من أن يكون حدا ومزيل لحكمه في إيجاب التحريم لزوال السبب الموجب له فإن قيل فهذا الذي ذكرت يبطل حكم اللعان لامتناع

١٥٦

اجتماع الحدين عليه بقذف واحد فواجب إذا جلد الزوج حدا في قذفه لغيرها أن لا يبطل حكم اللعان فيما بينهما فلا يتزوج بها قيل له إذا صار محدودا في قذفه فقد خرج من أن يكون من أهل اللعان ألا ترى أنه لو قذف امرأة له أخرى لم يلاعن وكان عليه الحد عندنا فالعلة التي ذكرنا في إكذابه نفسه فيما لاعن عليه امرأته وإن كانت غير موجودة في هذه فجائز قياسها عليها بمعنى آخر وهو خروجه من أن يكون من أهل اللعان فإن احتجوا بما روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين قال الزهري فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وبما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمر وبن السرح قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذه القصة قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنفذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ما صنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سهل حضرت هذا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وبحديث ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا سبيل لك عليها فإنها لو كانت تحل له بحال لبين كما بين الله تعالى حكم المطلقة ثلاثا في إباحتها بعد زوج غيره قيل له أما حديث الزهري الأول فإنه قول الزهري وقوله مضت السنة ليس فيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنها ولا أنه حكم بها وأما قول سهل بن سعد فمضت السنة من بعد في المتلاعنين أنهما لا يجتمعان أبدا ليس فيه أيضا أن سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضت بذلك والسنة قد تكون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تكون من غيره فلا حجة في هذا وأيضا فإنه قال في المتلاعنين وهذا يصفه حكم يتعلق به وهو بقاؤهما على حكم التلاعن وكونهما من أهل اللعان فمتى زالت الصفة بخروجهما من أن يكونا من أهل اللعان زال الحكم كقوله تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) وقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ونحو ذلك من الأحكام المعلقة بالصفات ومتى زالت الصفة زال الحكم فإن قيل قد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا قيل له ما نعلم أحدا روى ذلك بهذا اللفظ وإنما روى ما ذكرنا في حديث سهل بن سعد وهو أصل الحديث فإن صح هذا اللفظ فإنما أخذه الراوي من حديث سهل وظن أن هذه العبارة مبينة عما في حديث سهل ولو صح ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفد نفى النكاح بعد زوال حكم اللعان على النحو الذي بينا وأما قوله لا سبيل لك عليها فإنه يفيد تحريم النكاح وإنما هو إخبار بوقوع

١٥٧

الفرقة لأنه لا يصح إطلاق القول بأنه لا سبيل لأحد على الأجنبيات ولا يفيد ذلك تحريم العقد فإن قيل قوله لا سبيل لك عليها ينفى جواز العقد إذ كان جوازه يوجب أن يكون له عليها سبيل قيل له ليس كذلك لأنا قد نقول لا سبيل لك على الأجنبية ولا نريد به أنه لا يجوز له تزويجها فيصير لك عليها سبيل بالتزويج وإنما نريد أنه لا يملك بضعها في الحال فإذا تزوجها فإنما صار له عليها سبيل برضاها وعقدها ألا ترى أن قوله (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) لم يمنع أن يصير عليهم سبيل في العقود المقتضية لإثبات الحقوق والسبيل عليه برضاه فكذلك قوله لا سبيل لك عليها إنما أفاد أنه لا سبيل لك عليها إلا برضاها.

(فصل) قال أبو بكر واتفق أهل العلم أن الولد قد ينفى من الزوج باللعان وقد ذكرنا حديث ابن عمر وابن عباس في إلحاق الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان نصاعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكى عن بعض من شذ أنه للزوج ولا ينتفى نسبه باللعان واحتج بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الولد للفراش والذي قال الولد للفراش هو الذي حكم بقطع النسب من الزوج باللعان وليست الأخبار المروية في ذلك بدون ما روى في أن الولد للفراش فثبت أن معنى قوله الولد للفراش أنه لم ينتف باللعان وأيضا فلما بطل ما كان أهل الجاهلية عليه من استلحاق النسب بالزنا كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة بن خالد قال حدثني يونس بن يزيد قال قال محمد بن مسلم بن شهاب أخبرنى عروة ابن الزبير أن عائشة رضى الله عنها زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلى إلى فلان فاستبضعى منه ويعتز لها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها وجها إن أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع الرجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمى من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها ونكاح

١٥٨

رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتقطه ودعاه ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم فمعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الولد للفراش أن الأنساب قد كانت تلحق بالنطف في الجاهلية بغير فراش فألحقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفراش وكذلك ما روى في قصة زمعة حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر فلم يلحقه بالزاني وقال هو للفراش إخبارا منه أنه لا ولد للزاني ورده إلى عبد إذ كان ابن أمة أبيه ثم قال لسودة احتجبى منه إذ كان سببها بالمدعى له لأنه في ظاهره من ماء أخى سعد وهذا يدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ولو كان قضى بالنسب لما أمرها بالاحتجاب بل كان أمرها بصلته ونهاها عن الاحتجاب عنه كما نهى عائشة عن الاحتجاب عن عمها من الرضاعة وهو أفلح أخو أبى القعيس ويدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ما رواه سفيان الثوري وجرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال كانت لزمعة جارية تبطنها وكانت تظن برجل آخر فمات زمعة وهي حبلى فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي يظن بها فذكرته سودة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أما الميراث له وأما أنت فاحتجبى منه فإنه ليس لك بأخ فصرح في هذا الخبر بنفي نسبه من زمعة وإعطاء الميراث بإقرار عبد أنه أخوه وقد روى هذا الحديث على غير هذا الوجه وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن منصور ومسدد بن مسرهد قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابن أمة زمعة فقال سعد أوصانى أخى عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه وقال عبد بن زمعة أخى ابن أمة أبى ولد على فراش أبى فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبها بينا بعتبة فقال الولد للفراش واحتجبى منه يا سودة زاد مسدد فقال هو أخوك يا عبد قال أبو بكر الصحيح ما رواه سعيد بن منصور والزيادة التي زادها مسدد ما نعلم أحدا وافقه عليها وقد روى في بعض الألفاظ أنه قال هو لك يا عبد ولا يدل ذلك على أنه أثبت النسب لأنه جائز أن يريد به إثبات اليد له إذ كان من يستحق يدا في شيء جاز أن يضاف إليه فيقال هو له وقد قال عبد الله بن رواحة

١٥٩

لليهود حين خرص عليهم تمر خيبر إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي ولم يرد به الملك ومعلوم أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرد بقوله هو لك يا عبد إثبات الملك فادعى خصمنا أنه أراد إثبات النسب وذلك لا يوجب إضافته إليه في الحقيقة على هذا الوجه لأن قوله هو لك إضافة الملك والأخ ليس بملك فإذ لم يرد به الحقيقة فليس حمله على إثبات النسب بأولى من حمله على إثبات اليد ويحتمل لو صحت الرواية أنه قال هو أخوك أن يريد به أخوة الدين وأنه ليس بعبد لإقراره بأنه حر ويحتمل أن يكون أصل الحديث ما ذكر بعض الرواة أنه قال هو لك وظن الراوي أن معناه أنه أخوه في النسب فحمله على المعنى عنده في خبر سفيان وجرير الذي يرويه عبد الله بن الزبير أنه قال ليس لك بأخ وهذا لا احتمال فيه فوجب حمل خبر الزهري الذي روينا على الوجوه التي ذكرنا قال أبو بكر وقوله الولد للفراش قد اقتضى معنيين أحدهما إثبات النسب لصاحب الفراش والثاني أن من لا فراش له فلا نسب له لأن قوله الولد اسم للجنس وكذلك قوله الفراش للجنس لدخول الألف واللام عليه فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر فكأنه قال لا ولد إلا للفراش وفيما حكم الله تعالى به من آية اللعان دلالة على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما لأنهما لو كانا كفرا لوجب أن يكون أحد الزوجين مرتدا لأنه إن كان الزوج كاذبا في قذفها فواجب أن يكون كافرا وإن كان صادقا فواجب أن تكون المرأة كافرة بزناها وكان يجب أن تبين منه امرأته قبل اللعان فلما حكم الله تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونتها منه قبل اللعان ثبت أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودل على بطلان مذهب الخوارج في قولهم إن ذلك كفر وتدل الآية أيضا على أن القاذف مستحق للعن من الله تعالى إذا كان في قذفه كاذبا وأن الزنا يستحق به الغضب من الله لو لا ذلك لما جاز أن يأمر هما الله بذلك إذ غير جائز أن يأمرا بأن يدعوا على أنفسهما بما لا يستحقانه ألا ترى أنه لا يجوز أن يدعو على نفسه بأن يظلمه الله ويعاقبه بما لا يستحقه وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) نزلت في الذين قذفوا عائشة رضى الله عنها فأخبر الله أن ذلك كذب والإفك هو الكذب ونال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وجماعة من المسلمين غم شديد وأذى وحزن فصبروا على ذلك فكان ذلك خيرا لهم ولم يكن صبرهم واغتمامهم بذلك شرا لهم بل كان خيرا لهم لما نالوا به من الثواب ولما لحقهم أيضا من

١٦٠