الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

عن عمِّه السيّد محمد باقر بن أحمد القزويني المتوفّى (١٢٤٦) ، عن خاله السيّد محمد المهدي بحر العلوم المتوفّى (١٢١٢) ، عن الأستاذ الأكبر البهبهاني المتوفّى (١٢٠٨) ، عن والده الأكمل البهبهاني ، عن جمال الدين الخوانساري المتوفّى (١١٢٥) ، عن العلاّمة التقيّ المجلسي المتوفّى (١٠٧٠) ، عن الشيخ جابر بن عبّاس النجفي ، عن المحقِّق الكركي الشهيد (٩٤٠) ، عن الشيخ زين الدين عليّ بن هلال الجزائري ، عن الشيخ أبي العبّاس أحمد بن فهد الحلّي المتوفّى (٨٤١) ، عن الشيخ شرف الدين أبي عبد الله الحلّي الأسدي المتوفّى (٨٢٦) ، عن شيخنا الشهيد الأوّل المستشهد (٧٨٦) ، عن رضي الدين أبي الحسن عليّ المزيدي الحلّي المتوفّى (٧٥٧) ، عن آية الله العلاّمة الحلّي المتوفّى (٧٢٦) ، عن الشيخ نجيب الدين يحيى بن أحمد الحلّي المتوفّى (٦٨٩) ، عن السيّد أبي محمد عبد الله بن جعفر الحسيني ، عن المؤلّف الخوارزمي.

وبطريق آخر للعلاّمة الحلّي ، عن برهان الدين أبي المكارم ناصر بن أبي المكارم ، عن أبي المؤيّد المؤلِّف الخوارزمي.

وهذا الكتاب ـ المناقب ـ نسبه إليه الذهبي في ميزان الاعتدال (١) (٣ / ٢٠) في ترجمة محمد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان ، وقال :

لقد ساق خطيب خوارزم من طريق هذا الدجّال ـ ابن شاذان ـ أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب السيّد عليّ رضى الله عنه (٢).

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٣ / ٤٦٦ رقم ٧١٩٠.

(٢) لقد اندفع الذهبي في قيله هذا إلى ما هو شنشنة كثير من قومه ـ وهو بمقربة منه ـ من تحرّي الوقيعة في الصالحين والسباب من غير سبب والتحكّم بالباطل لا عن موجب له ، فحسب ابن شاذان دجّالاً وهو ذلك العبد الصالح ، والعالم المتبحِّر ، والراوية النيقد ، وحسب أحاديثه أباطيل سمجة ركيكة ، على حين أنّه لم ينفرد بروايتها ، وإنّما خرّجها قبله محدّثو أهل السنّة في مسانيدهم ، وهي ممّا أطبق على روايته الفريقان. نعم ؛ التصقت بها الركّة والسماجة في مزعمة الذهبي لأنّها فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام. (المؤلف)

٥٤١

وذكره له الچلبي في كشف الظنون (١) (٢ / ٥٣٢) وقال : مناقب عليّ بن أبي طالب لأبي المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزمي.

وينقل عنه من عصره حتى اليوم جمعٌ من حملة الحديث ، منهم :

١ ـ الحافظ مفتي الحرمين صاحب كفاية الطالب ـ المطبوع في مصر والعراق وإيران ـ الكنجيّ الشافعي : المتوفّى (٦٥٨) ، ينقل عنه في الكتاب (٢) (١٢٠ ، ١٢٤ ، ١٤٨ ، ١٨٢ ، ١٩١ ، ١٥٢) طبعة النجف الأشرف ، ونصَّ بنسبة الكتاب إلى المترجم في غير واحد من تلكم المواضع.

٢ ـ سيّد الأصحاب رضيُّ الدين بن طاووس : المتوفّى (٦٦٤) ، ينقل عن الكتاب في تأليفه ـ اليقين في أنّ عليّا أمير المؤمنين ـ في غير واحد من أبوابه ، وقال في الباب السادس والعشرين (٣) : الخوارزمي صاحب المناقب من أعظم علماء الأربعة المذاهب ، وقد أثنوا عليه وذكروا ما كان عليه من المناقب.

وقال في موضع آخر (٤) : هو الذي أثنى عليه ومدحه محمد بن النجّار شيخ المحدِّثين ببغداد وزكّاه.

٣ ـ العلاّمة يوسف بن أبي حاتم الشامي ، ينقل عنه كثيراً في الدرِّ النظيم في الأئمّة اللهاميم ، مصرِّحاً بنسبة الكتاب إليه.

٤ ـ بهاء الدين عليّ بن عيسى الإربلي : المتوفّى (٦٩٢) ، نقل عنه كثيراً في كتابه كشف الغمّة (٥) ، مصرِّحاً بنسبة الكتاب إليه.

__________________

(١) كشف الظنون : ٢ / ١٨٤٤.

(٢) كفاية الطالب : ص ٢٢٥ ، ٢٢٧ ، ٢٣٤ ، ٢٤٥ ، ٢٤٧ ، ٢٨١ ، ٣٢٣.

(٣) اليقين : ص ١٦٦.

(٤) اليقين : ص ١٥٥ باب ٢٠.

(٥) كشف الغمّة : ١ / ٦٦ ، ٦٩ ، ٧٥ ، ٩٦.

٥٤٢

٥ ـ شيخ الإسلام أبو إسحاق الشيخ إبراهيم الحمّوئي : المتوفّى (٧٢٢) ، يروي عنه في كتابه فرائد السمطين (١) ، مصرِّحاً بنسبة الكتاب إليه.

٦ ـ آية الله العلاّمة الحلّي : المتوفّى (٧٢٦) ، ينقل عنه في كتابه كشف اليقين (٢).

٧ ـ نور الدين ابن الصبّاغ المكّي المالكيّ : المتوفّى (٨٥٥) ، قد أكثر النقل عنه قائلاً : بأنّ الخوارزمي روى في المناقب.

٨ ـ الشيخ عليّ بن يونس العاملي النباطي البياضي : المتوفّى (٨٧٧) ، ينقل عنه في كتابه الصراط المستقيم (٣).

٩ ـ ابن حجر العسقلاني : المتوفّى (٩٧٣) ، روى عن الخوارزمي حديث زفاف الزهراء ـ سلام الله عليها ـ والحديث موجودٌ في المناقب (٤).

١٠ ـ السيّد هاشم بن سليمان التوبلي البحراني : المتوفّى (١١٠٧) ، ينقل عنه في غاية المرام (٥) وغيره.

١١ ـ شيخنا أبو الحسن الشريف : المتوفّى (١١٣٨) ، ينقل عنه كثيراً في كتابه ضياء العالمين في الإمامة الموجود عندنا ، قائلاً في بعض مواضعه : رواه الخطيب الخوارزمي المشهور الموثوق به عندهم بنصِّ جماعة منهم في كتاب مناقبه.

١٢ ـ السيّد الشبلنجي الشافعي ، نصَّ في كتابه نور الأبصار (٦) على نسبة

__________________

(١) فرائد السمطين : ١ / ٣٨٣ ح ٣١٥ باب ٧٠.

(٢) كشف اليقين : ص ٦ ـ ١٢ وفي مواضع أخرى من الكتاب.

(٣) الصراط المستقيم : ١ / ٢٠٧.

(٤) المناقب : ص ٣٣٥ ـ ٣٥٤ ح ٣٥٦ ـ ٣٦٤.

(٥) غاية المرام : ص ٨٤ ، ٨٧ وغيرها.

(٦) نور الأبصار : ص ٢١٧.

٥٤٣

الكتاب إلى الخوارزمي ، وينقل عنه.

١٣ ـ القاضي القندوزيّ الشافعي ، ينقل عنه في كتابه ينابيع المودّة (١) معبِّراً عن الكتاب بفضائل أهل البيت.

١٤ ـ السيّد أبو بكر بن شهاب الدين الحضرمي الشافعي ، ينقل عنه في رشفة الصادي (٢) معبِّراً عنه بكتاب المناقب.

شعره وخطبه ، ولادته ووفاته :

قال الصفدي كما في بغية الوعاة (٣) : إنّ للمترجَم خُطَباً وشعراً. ولم نقف على شيءٍ من خطبه وكلمه وشعره غير ما في كتابيه : المناقب ومقتل الإمام السبط إلاّ القليل ، مع أنّ له ديوان شعر كما ذكره الچلبي (٤) ، ويوجد شطر من شعره في المناقب لابن شهرآشوب (٥) ، والصراط المستقيم للبياضي (٦) ، ومعجم الأدباء للحموي (٧) (٣ / ٤١) في ترجمة أبي العلاء الهمداني المتوفّى (٥٦٧).

وُلد المترجَم في حدود سنة (٤٨٤) كما في (٨) بغية الوعاة ، وطبقات الحنفيّة لمحيي الدين الحنفي ، وديباجة كتابه مناقب أبي حنيفة عن القفطي ، والوافي بالوفيات للصفدي ، وفي الفوائد البهيّة أنّ مولده سنة (٤٨٤).

__________________

(١) ينابيع المودّة : ١ / ٣.

(٢) رشفة الصادي : ص ٤٣.

(٣) بغية الوعاة : ٢ / ٣٠٨ رقم ٢٠٤٦.

(٤) كشف الظنون : ١ / ٨١٥.

(٥) مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٣٩ ، ٧٨ ، ١٩٥ ، ٢٢٠ و ٣ / ٨٣ ، ٨٥ ، ١٠٧.

(٦) الصراط المستقيم : ٢ / ٦٦.

(٧) معجم الأدباء : ٨ / ٣٩ ، ٤٤.

(٨) بغية الوعاة : ٢ / ٣٠٨ رقم ٢٠٤٦ ، الجواهر المضيّة : ٣ / ٥٢٣ رقم ١٧١٨ ، الفوائد البهية : ص ٤١.

٥٤٤

وتوفي سنة (٥٦٨) كما في (١) بغية الوعاة عن القفطي ، وفي الفوائد البهيّة عن الصفدي ، والتقيّ الفاسيّ مؤلّف العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين عن الذهبي في تاريخ الإسلام ، وهكذا أرّخها الچلبي في كشف الظنون ، والخوانساري في روضات الجنّات ، فما في الفوائد البهيّة عن القفطي : أنّه توفّي سنة (٥٩٦) تصحيف واضح ، وقد نقله عنه صحيحاً السيوطي وغيره ، كما أنّ ما في الفوائد من (٥٦٩) ، وما في تاريخ آداب اللغة من أنّه توفي سنة (٥٦٧) بعيدان عن الصواب ، والله العالم.

__________________

(١) بغية الوعاة : ٢ / ٣٠٨ رقم ٢٠٤٦ ، الفوائد البهية : ص ٤١ ، العقد الثمين ٧ / ٣١٠ ، كشف الظنون : ١ / ٨١٥ ، روضات الجنّات : ٨ / ١٢٤ ، مؤلّفات جرجي زيدان الكاملة ـ تاريخ آداب اللغة العربية ـ : مج ١٤ / ٣١١.

٥٤٥
٥٤٦

ـ ٥٢ ـ

الفقيه عُمارة

ولد (٥١٣)

قتل (٥٦٩)

ولاؤك مفروضٌ على كلِّ مسلمِ

وحبُّكَ مفروطٌ وأفضلُ مغنمِ

إذا المرءُ لم يُكرم بحبِّك نفسَه

غدا وهو عند اللهِ غير مُكرّمِ

ورثت الهدى عن نصّ عيسى بن حيدرٍ

وفاطمةٍ لا نصِّ عيسى بن مريمِ

وقال أطيعوا لابن عمّي فإنّه

أميني على سرِّ الإله المكتّمِ

كذلك وصّى المصطفى وابن عمّه

إلى منجدٍ يومَ الغديرِ ومتهمِ

على مستوىً فيه قديمٌ وحادثٌ

وإن كان فضلُ السبقِ للمتقدِّمِ

ملكتَ قلوبَ المسلمين ببيعةٍ

أمدّتْ بعقدٍ من ولائِكِ مبرَمِ

وأوتيت ميراثَ البسيطة عن أبٍ

وجدٍّ مضى عنها ولم يتقسّمِ

لك الحقّ فيها دون كلِّ مُنازعٍ

ولو أنّه نال السماكَ بسُلّمِ

ولو حفظوا فيك الوصيّةَ لم يكن

لغيرِك في أقطارها دون درهمِ (١)

وله قصيدة ـ تأتي ـ يرثي بها أهل القصر ، قوله :

والأرض تهتزُّ في يومِ الغديرِ كما

يهتزُّ ما بين قصريكم من الأَسَلِ

__________________

(١) يمدح بها الخليفة الفائز بن الظافر. (المؤلف)

٥٤٧

الشاعر

الفقيه نجم الدين أبو محمد عمارة بن أبي الحسن عليّ بن زيدان بن أحمد الحكميّ اليمني ، من فقهاء الشيعة الإماميّة ومدرّسيهم ومؤلّفيهم ومن شهداء أعلامهم على التشيّع ، وقد زان علمه الكامل وفضله الباهر أدبه الناصع المتقارب من شعره المتألّق ، وإنّك لا تدري إذا نظم شعراً هل هو ينضد درّا؟ أو يفرغ في بوتقة القريض تبراً؟ فقد ضمَّ شعره إلى الجزالة قوّةً ، وإلى السلاسة رونقاً ، وفوق كلِّ ذلك مودّته المتواصلة لعترة الوحي ، وقوله بإمامتهم عليهم‌السلام حتى لفظ نفَسَه الأخير ضحيّة ذلك المذهب الفاضل ، وقد أبقت تآليفه القيّمة وآثاره العلميّة والأدبيّة له ذكراً خالداً مع الأبد ، منها : النكت العصريّة في أخبار الوزراء المصريّة ، وتاريخ اليمن ، وكتاب في الفرائض ، وديوان شعره ، وقصيدة كتبها إلى صلاح الدين سمّاها : شكاية المتظلّم ونكاية المتألّم.

قال في كتابه النكت العصريّة (١) (ص ٧) عند ذكر نسبه : فأمّا جرثومة النسب فقحطان ثمّ الحكم بن سعد العشيرة المذحجي ، وأمّا الوطن فمن تهامة باليمن مدينة مرطان من وادي وساع ، وبُعدها من مكّة في مهبّ الجنوب أحد عشر يوماً ، وبها المولد والمربى وأهلها بقيّة العرب في تهامة ، وكانت رئاستهم وسياستهم تنتهي إلى المشيب بن سليمان وهو جدّي من جهة الوالدة وإلى زيدان بن أحمد وهو جدّي لأبي ، وهما ابنا عمّ ، وكان زيدان يقول : أنا أعدّ أسلافي أحد عشر جدّا ، ما منهم إلاّ عالم مصنّف في عدّة علوم ، ولقد أدركت عمّي عليّ بن زيدان ، وخالي محمد بن المشيب ، ورئاسة حكم بن سعد العشيرة تقف عليهما وتنتهي إليهما. إلى أن قال : قلتُ لأخي

__________________

(١) طبع مع مختار ديوانه في (٣٩٩) صحيفة في (شالون) على نهر (سون) بمطبع مرسو ، سنة (١٨٩٧) المسيحية. (المؤلف)

٥٤٨

يحيى يوماً : من القائل في جدّيك المشيب بن سليمان وزيدان بن أحمد :

إذا طرقتْكَ أحداثُ الليالي

ولم يوجدْ لعلّتها طبيبُ

وأعوز من يجيرُكَ من سطاها

فزيدانٌ يجيرك والمشيبُ

هما ردّا عليَّ شتيتَ ملكي

ووجهُ الدهرِ من رغمٍ قَطوبُ

وقاما عنه خذلاني بنصري

قياماً تستكين به الخطوبُ

فقال : هو السلطان عليّ بن حبابة الفرودي ، كان قومه قد أخرجوه من ملكه وأفقروه من ملكه وولّوا عليهم أخاه سلامة ، فنزل بهما فسارا معه في جموع من قومهما حتى عزلا سلامة وولّيا عليّا وأصلحا له قومه ، وكان الذي وصل إليه من برِّهما وأنفقاه على الجيش في نصرته ، وحملا إليه من خيل ومن إبل ما ينيف على خمسين ألفاً من الذهب. قال يحيى : وفي أبي وخالي يقول مدبّر الشاعر الحكمي من قصيدة طويلة :

أبواكما ردّا على ابن حبابةٍ

ملكاً تبدّد شملهُ تبديدا

كفل المشيبُ على الحسامِ بعَوْدِهِ

مُذْ صال زيدانٌ به فأُعيدا

وبنيتما ما شيّدا من سؤددٍ

قدماً فأشبه والدٌ مولودا

وحدّثني أبي قال : مرض عمّك عليّ مرضاً أشرف فيه على الموت ثمّ أبلَّ منه ، فأنشدته لرجل من بني الحارث يُدعى سلم بن شافع كان قد وفد عليه يستعينه في دية قتيل لزمته ، فلمّا شغلنا بمرض صاحبنا ارتحل الحارثي إلى قومه وأرسل إليَّ بقصيدة منها :

إذا أودى ابنُ زيدانٍ عليٌ

فلا طلعتْ نجومُكِ يا سماءُ

ولا اشتملَ النساءُ على جنينٍ

ولا روّى الثرى للسحبِ ماءُ

على الدنيا وساكنها جميعاً

إذا أودى أبو الحسنِ العفاءُ

٥٤٩

قال فبكى عمّك وأمرني باحضار الحارثي ودفع له ألف دينار وساق عنه الدية بعد ستة أشهر ، وكان إذا رآه أكرمه ورفع مجلسه. وبسط القول في جود عمِّه عليّ بن زيدان وسعة ثروته وعظم شجاعته. ثمّ قال ما ملخّصه : أدركتُ الحلم سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، وفي سنة إحدى وثلاثين بعثني والدي إلى زبيد مع الوزير مسلم ابن سخت ، فنزلت فيها ولازمت الطلب فأقمت أربع سنين لا أخرج عن المدرسة إلاّ لصلاة يوم الجمعة ، وفي السنة الخامسة زرت الوالدين وأقمت في زبيد ثلاث سنين وجماعة من الطلبة يقرؤون عندي مذهب الشافعي والفرائض في المواريث ، ولي في الفرائض مصنّف يُقرأ في اليمن ، وفي سنة تسع وثلاثين زارني والدي وخمسة من أخوتي إلى زبيد ، وأنشدت والدي شيئاً من شعري فاستحسنه ، ثمّ قال :

تعلم والله أنّ الأدب نعمةٌ من نعم الله عليك فلا تكفرها بذمِّ الناس ، واستحلفني أن لا أهجو مسلماً قطُّ ببيت شعر فحلفت له على ذلك ، وحججت مع الملكة الحرّة أُمّ فاتك ملك زبيد ، وخرجت مرّة أخرى إلى مكّة سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، وفي موسم هذه السنة مات أمير الحرمين هاشم بن فليتة وولّى الحرمين ولده قاسم بن هاشم ، فألزمني السفارة عنه والرسالة المصريّة ، فقدمتها في شهر ربيع الأوّل سنة خمسين وخمسمائة والخليفة بها يومئذٍ الإمام الفائز بن الظافر ، والوزير له الملك الصالح طلائع بن رُزّيك ، فلمّا أُحضرت للسلام عليهما ـ في قاعة الذهب في قصر الخليفة ـ أنشدتهما قصيدة أوّلها :

الحمد للعيس بعد العزمِ والهممِ

حمداً يقوم بما أولتْ من النعمِ

لا أجحد الحقَّ عندي للركاب يدٌ

تمنّت اللجْمُ فيها رتبةَ الخطمِ

قرّبنَ بُعدَ مزارِ العزِّ من نظري

حتى رأيتُ إمام العصر من أممِ

ورُحن من كعبةِ البطحاءِ والحرمِ

وفداً إلى كعبةِ المعروفِ والكرمِ

فهل درى البيتُ أنّي بعد فرقتِهِ

ما سرتُ من حرمٍ إلاّ إلى حرمِ

٥٥٠

حيث الخلافةُ مضروبٌ سُرادقُها

بين النقيضينِ من عفوٍ ومن نقمِ

وللإمامةِ أنوارٌ مقدّسةٌ

تجلو البغيضينِ من ظلمٍ ومن ظُلَمِ

وللنبوّةِ أبياتٌ ينصُّ لنا

على الخَفيّين من حُكمٍ ومن حِكَمِ

وللمكارمِ أعلامٌ تُعلّمنا

مدحَ الجزيلينِ من بأسٍ ومن كرمِ

وللعُلى ألسنٌ تثني محامدُها

على الحميدينِ من فعلٍ ومن شيمِ

ورايةُ الشرفِ البذّاخِ ترفُعها

يدُ الرفيعينِ من مجدٍ ومن هِممِ

أقسمت بالفائزِ المعصومِ معتقداً

فوزَ النجاةِ وأجرَ البرّ في القسمِ

لقد حمى الدينَ والدنيا وأهلَهما

وزيرُه الصالحُ الفرّاج للغُمَمِ

اللابسُ الفخرَ لم تنسجْ غلائلَهُ

إلاّ يدٌ لصنيع السيف والقلمِ

وجودُه أوجدَ الأيّام ما اقترحتْ

وجودهُ أعدمَ الشاكين للعدمِ

قد ملّكتهُ العوالي رقَّ مملكةٍ

تعيرُ أنفَ الثريّا عزّةَ الشممِ

أرى مقاماً عظيمَ الشأن أوهمني

في يقظتي أنّها من جملةِ الحُلُمِ

يومٌ من العمرِ لم يخطرْ على أملي

ولا ترقّت إليه رغبةُ الهممِ

ليت الكواكبَ تدنو لي فأنظمَها

عقودَ مدحٍ فما أرضى لكم كلمي

ترى الوزارةَ فيه وهي باذلةٌ

عند الخلافةِ نصحاً غيرَ متّهمِ

عواطفٌ علّمتنا أنّ بينهما

قرابةً من جميلِ الرأيِ لا الرحمِ

خليفةٌ ووزيرٌ مدَّ عدلُهما

ظلاّ على مفرق الإسلام والأممِ

زيادة النيل نقصٌ عند فيضهما

فما عسى يتعاطى مُنّة الديَمِ

وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مراراً ، والأستاذون وأعيان الأُمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كلّ مذهب ، ثمّ أُفيضت عليَّ خلع من ثياب الخلافة المذهّبة ، ودفع لي الصالح خمسمائة دينار ، وإذا بعض الأُستاذين قد أخرج لي من عند السيّدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار أخرى ، وحمل المال معي إلى منزلي ، وأُطلقت لي من دار الضيافة رسومٌ لم تطلق لأحد من قبلي ، وتهادتني

٥٥١

أُمراء الدولة إلى منازلهم للولائم ، واستحضرني الصالح للمجالسة ، ونظمني في سلك أهل المؤانسة ، وانثالت عليَّ صِلاته وغمرني برُّه ، ووجدت بحضرته من أعيان أهل الأدب : الشيخ الجليس أبا المعالي بن الحبّاب (١) ، والموفّق ابن الخلاّل صاحب ديوان الإنشاء ، وأبا الفتح محمود بن قادوس (٢) ، والمهذّب أبا محمد الحسن بن الزبير ، وما من هذه الحلبة أحدٌ إلاّ ويضرب في الفضائل النفسانيّة والرئاسة الإنسانيّة بأوفر نصيب ، ويرمي شاكلة الأشكال فيصيب.

وقال في (ص ٦٩) : لمّا جلس شاور في دار الذهب ، قام الشعراء والخطباء ولفيفٌ من الناس إلاّ الأقلّ ينالون من بني رُزّيك وضرغام نائب الباب ويحيى بن الخيّاط اسفهسلاّر (٣) العساكر ، وكانت بيني وبين شاور أنسة تامّة مستحكمة ، فأنشدته في اليوم الثاني من جلوسه والجمع حافلٌ قصيدة أوّلها :

صحّت بدولتِكَ الأيّامُ من سقمِ

وزال ما يشتكيه الدهرُ من ألمِ

زالت ليالي بني رُزّيك وانصرمتْ

والحمدُ والذمُّ فيها غيرُ مُنصرمِ

كأنّ صالحَهم يوماً وعادلَهم

في صدرِ ذا الدستِ لم يقعدْ ولم يقمِ

هم حرّكوها عليهم وهي ساكنةٌ

والسلمُ قد تنبتُ الأوراقَ في السلمِ

كنّا نظنُّ وبعضُ الظنِّ مأثمةٌ

بأنّ ذلك جمعٌ غيرُ منهزمِ

فمذ وقعتَ وقوع النسر خانهمُ

من كان مجتمعاً من ذلك الرخمِ

وكان ضرغام ينقم عليَّ هذا البيت ، ويقول : أنا عندك من الرخم!

ولم يكونوا عدوّا زلَّ جانبُهُ

وإنّما غرقوا في سَيلِكَ العرمِ

وما قصدت بتعظيمي سواك سوى

تعظيمِ شأنِكَ فاعذرني ولا تلُمِ

__________________

(١) أحد شعراء الغدير قد مرّت ترجمته في هذا الجزء : ص ٣٨٧. (المؤلف (

(٢) أحد شعراء الغدير أسلفنا ترجمته في هذا الجزء : ص ٣٣٨. (المؤلف)

(٣) معرّب سبهسالار : قائد الجيش. (المؤلف)

٥٥٢

ولو شكرتُ لياليهمْ محافظةً

لعهدِها لم يكن بالعهدِ من قدمِ

ولو فتحتُ فمي يوماً بذمِّهمُ

لم يرضَ فضلُك إلاّ أن يسدَّ فمي

والله يأمرُ بالإحسانِ عارفةً

منه وينهى عن الفحشاءِ في الكلمِ

فشكرني شاور وابناه في الوفاء لبني رُزّيك. انتهى.

كان يحمي الذمار بالذمارة ، ويوفي بعهد من صاحبه ونادمه ، ويدافع عنه بصراحة اللهجة ، وله مواقف مشكورة تنمُّ عن أنّه ذو حفاظ وذو محافظة ، حضر يوماً هو والرضي أبو سالم يحيى الأحدب بن أبي حصيبة الشاعر في قصر اللؤلؤ بعد موت الخليفة العا ضد عند نجم الدين أيّوب بن شادي ، فأنشد ابن أبي حصيبة نجم الدين أيوب ، فقال :

يا مالكَ الأرضِ لا أرضى له طرفا

منها وما كان منها لم يكن طرفا

قد عجّلَ اللهُ هذي الدارَ تسكنُها

وقد أعدَّ لك الجنّاتِ والغرفا

تشرّفتْ بك عمّن كان يسكنُها

فالبس بها العزّ ولتلبس بك الشرفا

كانوا بها صَدفاً والدارُ لؤلؤةٌ

وأنت لؤلؤةٌ صارت لها صدفا

فقال الفقيه عمارة يردُّ عليه :

أثِمتَ يا من هجا الساداتِ والخُلَفا

وقلت ما قلتَهُ في ثلبِهمْ سخفا

جعلتَهمْ صدفاً حَلُّوا بلؤلؤةٍ

والعرفُ ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفا

وإنّما هي دارٌ حلَّ جوهرُهمْ

فيها وشفَّ فأسناها الذي وصفا

فقال لؤلؤة عجباً ببهجتها

وكونها حَوَتِ الأشراف والشرفا

فهم بسكناهم الآياتِ إذ سكنوا

فيها ومن قبلها قد أُسكِنوا الصحفا

والجوهرُ الفردُ نورٌ ليس يعرفُه

من البريّة إلاّ كلُّ من عرفا

لو لا تجسّمُهمْ فيه لكان على

ضعف البصائرِ للأبصارِ مختطفا

٥٥٣

فالكلبُ يا كلبُ أسنى منك مكرمةً (١)

لأنّ فيه حفاظاً دائماً ووفا

قال المقريزي (٢) : فلله درُّ عمارة لقد قام بحقِّ الوفاء ووفى بحسن الحفاظ كما هي عادته ، لا جرم أنّه قُتل في واجب من يهوى كما هي سنّة المحبّين ، فالله يرحمه ويتجاوز عنه.

وله قصائد يرثي بها أهل القصر من الملوك الفاطميّين بعد انقراض دولتهم وفاءً بعهدهم ، منها قصيدة أوّلها :

لا تندبنْ ليلى ولا أطلالَها

يوماً وإن ظعنتْ بها أجمالها

واندبْ هُدِيتَ قصورَ ساداتٍ عفتْ

قد نالهمْ ريبُ الزمانِ ونالها

درستْ معالمُهمْ لدرسِ ملوكِهمْ

وتغيّرتْ من بعدِهمْ أحوالها

ومنها :

رميتَ يا دهرُ كفَّ المجدِ بالشللِ

وجيدَهُ بعد حسنِ الحَلي بالعطلِ

سعيتَ في منهجِ الرأيِ العثورِ فإن

قدرتَ من عثراتِ الدهرِ فاستقلِ

جدعتَ مارِنَكَ الأقنى فأنفُكَ لا

ينفكُّ ما بين قرع السنِّ والخجلِ (٣)

هدمتَ قاعدةَ المعروفِ عن عجلٍ

سعيتَ مهلاً أما تمشي على مهلِ

لهفي ولهف بني الآمالِ قاطبةً

على فجيعتِها في أكرمِ الدولِ

قدمتُ مصرَ فأولتني خلائفُها

من المكارمِ ما أربى على الأملِ

قومٌ عرفتُ بهم كسبَ الألوف ومن

كمالِها أنّها جاءتْ ولم أسلِ

وكنتُ من وزراءِ الدستِ حين سما

رأسُ الحصانِ يُهاديه على الكفلِ

ونلتُ من عظماءِ الجيشِ مكرمةً

وخلّةً حرستْ من عارضِ الخللِ

__________________

(١) في منتخب ديوانه ص ٢٩٢ : معرفة. (المؤلف)

(٢) الخطط والآثار : ١ / ٤٦٩.

(٣) المارن : طرف الأنف.

٥٥٤

يا عاذلي في هوى أبناءِ فاطمةٍ

لك الملامةُ إن قصّرتَ في عذلي

بالله دُر ساحة القصرين وابك معي

عليهما لا على صفّينَ والجملِ

وقل لأهليهما والله ما التحمتْ

فيكم جراحي ولا قرحي بمندملِ

وما ذا عسى كانت الإفرنجُ فاعلةً

في نسلِ آلِ أميرِ المؤمنين علي

هل كان في الأمرِ شيءٌ غير قسمةِ ما

ملكتمُ بين حكمِ السبي والنقلِ

وقد حصلتمْ عليها واسمُ جدّكمُ

محمدٌ وأبوكم غيرُ منتقلِ

مررتُ بالقصرِ والأركانُ خاليةٌ

من الوفودِ وكانت قبلةَ القبلِ

فملتُ عنها بوجهي خوفَ منتقدٍ

من الأعادي ووجه الودِّ لم يملِ

أسلتُ من أسفي دمعي غداةَ خلتْ

رحابُكمْ وغدتْ مهجورةَ السبلِ

أبكي على ما تراءتْ من مكارمِكمْ

حالَ الزمانُ عليها وهي لم تحلِ

دارُ الضيافةِ كانت أُنسَ وافدِكمْ

واليومَ أوحشُ من رسمٍ ومن طللِ

وفطرةُ الصومِ إذ أضحتْ مكارمُكمْ

تشكو من الدهرِ حيفاً غيرَ محتملِ

وكسوةُ الناسِ في الفصلين قد درستْ

ورثَّ منها جديدٌ عندهم وبلِي

وموسمٌ كان في يومِ الخليجِ لكم

يأتي تجمّلُكمْ فيه على الجملِ

وأوّلُ العامِ والعيدين كم لكمُ

فيهنّ من وَبلِ جودٍ ليس بالوشلِ

والأرض تهتزُّ في يومِ الغديرِ كما

يهتزُّ ما بين قصريكم من الأسلِ

والخيلُ تُعرَضُ في وشيٍ وفي شيةٍ

مثلَ العرائسِ في حُليٍ وفي حللِ

ولا حملتم قِرى الأضيافِ من سعةٍ ال

أطباقِ إلاّ على الأكتاف والعجلِ

وما خصصتمْ ببرٍّ أهل ملّتِكمْ

حتى عممتمْ به الأقصى من المللِ

كانت رواتبُكمْ للذمّتين ولل

ـضيفِ المقيمِ وللطاري من الرسلِ

ثمّ الطراز بتنّيس الذي عظمتْ

منه الصلاتُ لأهلِ الأرضِ والدولِ

وللجوامعِ من إحسانِكمْ نعمٌ

لمن تصدّر في علمٍ وفي عملِ

وربّما عادت الدنيا فمعقلُها

منكم وأضحتْ بكم محلولةَ العَقَلِ

٥٥٥

والله لا فازَ يومَ الحشر مبغِضُكم

ولا نجا من عذابِ الله غيرُ ولي

ولا سُقي الماءَ من حرٍّ ومن ظمأ

من كفِّ خيرِ البرايا خاتمِ الرسلِ

ولا رأى جنّةَ اللهِ التي خُلقت

من خانَ عهدَ الإمامِ العاضدِ بنِ علي

أئمّتي وهُداتي والذخيرةُ لي

إذا ارتُهِنتُ بما قدّمتُ من عملي

تالله لم أُوفِهمْ في المدحِ حقَّهمُ

لأنّ فضلَهمُ كالوابلِ الهطلِ

ولو تضاعفتِ الأقوالُ واتّسعتْ

ما كنتُ فيهمْ بحمدِ اللهِ بالخَجِلِ

بابُ النجاةِ همُ دنياً وآخرةً

وحبُّهمْ فهو أصلُ الدينِ والعملِ

نورُ الهدى ومصابيحُ الدجى ومح

ـلُّ الغيث إن ربتِ الأنواءُ في المحلِ

أئمّةٌ خُلقوا نوراًفنورُهمُ

من محضِ خالصِ نورِ اللهِ لم يفلِ

واللهِ ما زلتُ عن حبّي لهم أبداً

ما أخّر اللهُ لي في مدّةِ الأجلِ

قُتل المترجَم بسبب هذه القصيدة مع جمع نسب إليهم التدبير على صلاح الدين ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم إليه حتى يجلسوا ولداً للعاضد ، وكانوا أدخلوا معهم رجلاً من الأجناد ليس من أهل مصر ، فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكراً ، فأمر بصلبهم وصلبوا يوم السبت في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالقاهرة ، وقد قبض عليهم يوم الأحد الثالث والعشرين من شعبان ، وصلب مع الفقيه عمارة قاضي القضاة أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن الكامل ، وابن عبد القوي داعي الدعاة ، كان يعلمُ بدفائنِ القصر فعوقب ليدلَّ عليها فامتنع من ذلك فمات واندرست ، والعويرس ناظر الديوان ، وشبريا كاتب السرّ ، وعبد الصمد الكاتب أحد أمراء مصر ، ونجاح الحمامي ، ومنجِّم نصرانيّ كان قد بشّرهم بأنّ هذا الأمر يتمُّ لهم.

قال الصفدي في الغيث المُسجم (١) : إنّه لا يبعد أن يكون القاضي الفاضل سعى

__________________

(١) الغيث المُسجم : ٢ / ٣٠٧ مع اختلاف يسير في الألفاظ.

٥٥٦

في هلاكه وحرّض عليه ؛ لأنّ صلاح الدين لمّا استشاره في أمره قال : يُنفى. قال : يُرجى رجوعه. قال : يؤدّب. قال : الكلب يسكت ثمّ ينبح. قال : يُقتل. قال : الملوك إذا أرادوا فعلوا. وقام من فوره ، فأمر بصلبه مع القاضي العويرس وجماعة معه من شيعتهم ، ولمّا أُخذ ليشنق قال : مرّوا بي على باب القاضي الفاضل ؛ لحسن ظنِّه فيه ، فلمّا رآه قام وأغلق بابه فقال عمارة :

عبدُ العزيزِ قد احتجبْ

إنّ الخلاص من العجبْ

وذكر عماد الدين الكاتب في الخريدة لتاج الدين الكندي أبي اليمن بعد صلب المترجَم :

عُمارة في الإسلامِ أبدى خيانةً

وبايع فيها بِيعةً وصليبا

وأمسى شريكَ الشركِ في بغضِ أحمدٍ

وأصبحَ في حبِّ الصليبِ صليبا

وكان خبيثَ الملتقى إن عجمتَهُ

تجدْ منه عوداً في النفاقِ صليبا

سيلقى غداً ما كان يسعى لنفسِهِ

ويُسقى صديداً في لظىً وصليبا

كان للمترجَم مكانة عالية عند بني رزّيك ، وله فيهم شعر كثير يوجد في ديوانه وكتابه النكت العصريّة ، وفي الثاني (١) : إنّ الملك الصالح طلائع بعث إليه بثلاثة آلاف دينار في ثلاثة أكياس ، وكتب فيها بخطِّه :

قل للفقيه عمارةٍ يا خير من

قد حازَ فهماً ثاقباً وخطابا

اقبلْ نصيحةَ من دعاك إلى الهدى

قل حطّة وادخل إلينا البابا

تجدِ الأئمّةَ شافعين ولا تجدْ

إلاّ لدينا سنّةً وكتابا

وعليَّ أنْ أُعلي محلَّكَ في الورى

وإذا شفعت إليَّ كنت مجابا

وتعجّلِ الآلافَ وهي ثلاثةٌ

ذهباً وقلَّ لك النضارُ مذابا

__________________

(١) النكت العصرية : ص ٤٥.

٥٥٧

فراجعه عمارة بقوله :

حاشاك من هذا الخطابِ خطابا

يا خيرَ أملاكِ الزمانِ نصابا

لكنْ إذا ما أفسدتْ علماؤكم

معمورَ معتقدي وصارَ خرابا

ودعوتمُ فكري إلى أقوالِكمْ

من بعدِ ذاك أطاعَكم وأجابا

فاشدد يديكَ على صفاءِ محبّتي

وامنن عليَّ وسدَّ هذا البابا

توفّي للفقيه المترجَم في حياته ستّة أولاد ذكور ورثاهم ، ألا وهم : عبد الله ، ويحيى ، ومحمد ، وعطيّة ، وإسماعيل ، وحسين ، وتوفّي أوّلاً ولداه عبد الله ويحيى ثمّ بعدهما محمد في سنة (٥٥٦) ليلة الإثنين (٤) جمادى الأولى بمصر ، ورثاهم بقصيدة أوّلها :

أُصِبتُ في خيرِ أعضائي وأعضادي

وخيرِ أهلي إذا عدُّوا وأولادي

بأبلجِ الوجهِ من سعدِ العشيرةِ لم

يُعرَفْ بغيرِ الندى والبشرِ في النادي

وله في رثاء محمد قصيدة مطلعها :

سأبكي على ابني مدّتي وحياتي

ويبكيه عنّي الشعرُ بعد مماتي

ومنها :

أَتُبلي المنايا مهجة ابنٍ ذخرتُهُ

لدهري ويُبلوني بخمسِ بنات

وتوفّي بعدهم عطيّة ، ورثاه بقصيدة منها :

عطيّة إن صادفتَ روحَ محمدٍ

أخيك وصنويكَ العليّينِ من قبلِ

فسلّمْ عليهم لا شقيت وقل لهمْ

سقيتُ أباكم بعدكم جرعةَ الثكلِ

وقال في رثائه :

عطيّةُ إن ذقتَ طعمَ الحِمام

فإنّ فراقَكَ عندي أمرّ

٥٥٨

هوى كوكبٌ منك بعد الطلوعِ

ذوى غصنٌ منك بعد الثمرْ

ولو لم تكنْ قمراً زاهراً

لما متَّ عند خسوف القمرْ

وتوفّي بعدهم ولده إسماعيل سنة (٥٦١) في ربيع الآخر ، ورثاه بقصيدةٍ أوّلها :

ما كنتُ آلف منزلي إلاّ به

ولقد كرهتُ الدار بعد مصابه

وقال يرثيه :

أأرجو بقاءً أم صفاء حياةِ

وقد بدّدت شملي النوى بشتاتِ

يقول فيها :

أتُبلي الليالي لي بُنيّا ذخرتُهُ

وتُبقي ليَ الأيّام شرَّ بناتي

ومنها :

وما عشتَ إلاّ سبعةً من سني الورى

سقى عهدَهنَّ اللهُ من سنواتِ

وقال في رثائه :

حسبتُ الدهرَ في ولدي

يساعدني ويسعدني

ويقول فيها :

لإسماعيل أشواقي

تزيد على مدى الزمنِ

وإسماعيلُ لي شغلٌ

عن اللذّات يشغلني

وإسماعيلُ لا أسلو

ه حتى الموت يصرعني

سأبكيه وأندبُه

بنوحٍ زائدِ الشجنِ

كما قمريّةٌ ناحتْ

ببغدادٍ على غصنِ

وأبقى بعده أسفاً

مدى الأيّامِ والزمنِ

٥٥٩

وتوفِّي حسين سنة (٥٦٣) ورثاه بقوله :

أترى يكون لي الخلاص قريبُ (١)

فالموت بعدك يا بُنيَّ يطيبُ

علّلت فيك الحزنَ كلّ تعلّةٍ

لم تنفعنِّي شربةٌ وطبيبُ

ورثاه بقصيدة أوّلها :

داويتُ ما نفعَ العليلَ دوائي

بل زادَ سقماً في خلال ضنائي

يقول فيها :

ما عاش إلاّ سبعةً من عمرِهِ

ونأى إلى دارِ البلى لبلائي

وله في رثائه من قصيدة مستهلّها :

قل للمنيّة لا شوى

لم يُخطِ سهمُكِ إذ رمى

ومنها :

ما كان إلاّ سبعةً

وثلاثةً ثمّ انقضى

وقال في رثائه :

خطبتني الخطوبُ بالهمِّ لمّا

حدّثتني بألسنِ الحدَثانِ

ومنها :

يا لها نكبةً على نكبةٍ جا

ءت وجرحاً يبكي بجرحٍ ثانِ

ومصابٌ على مصابٍ وثكلٍ

بعد ثكلٍ أُصيب منه جناني

__________________

(١) كذا.

٥٦٠