الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

وقد قلتُ في تقديمِهِ وولائِهِ

عليكم بما شاهدتمُ وسمعتمُ

عليٌّ غدا منّي محلاّ وقربةً

كهارونَ من موسى فلِمْ عنه حُلتمُ

شقيتم به شقوى ثمودٍ بصالحٍ

وكلُّ امرئٍ يبقى له ما يُقدِّمُ

وملتم إلى الدنيا فضلّت عقولُكمْ

ألا كلُّ مغرورٍ بدنياه يندمُ

لحى الله قوماً أجلبوا وتعاونوا

على حيدرٍ فيما أساؤوا وأجرموا

زووا عن أميرِ النحلِ بالظلمِ حقَّهُ

عناداً له والطهرُ يُغضي ويكظِمُ

وقد نصّها يومَ الغديرِ محمدٌ

وقال ألا يا أيّها الناسُ فاعلموا

لقد جاءني في النصِّ بلِّغ رسالتي

وها أنا في تبليغها المتكلمُ

عليٌّ وصيّي فاتبعوه فإنّه

إمامكمُ بعدي إذا غبتُ عنكمُ

فقالوا رضيناه إماماً وحاكماً

علينا ومولىً وهو فينا المحكَّمُ

رأوا رشدَهمْ في ذلك اليومِ وحدَهُ

ولكنّهم عن رشدِهمْ في غدٍ عموا

فلمّا توفّي المصطفى قال بعضُهمْ

أيحكم فينا لا وباللاّتِ نقسمُ

ونازعه فيها رجالٌ ولم يكن

لهم قدمٌ فيها ولا متقدّمُ

وظلّوا عليها عاكفين كأنّهم

على غرّةٍ كلٌّ لها يتوسّمُ

يقيمُ حدودَ اللهِ في غيرِ حقِّها

ويفتي إذا استفتي بما ليس يعلمُ

يُكفِّر هذا رأيَ هذا بقولِهِ

وينقضُ هذا ما له ذاك يبرمُ

وقالوا اختلافُ الناسِ في الفقهِ رحمةٌ

فلم يكُ من هذا يحلُّ ويحرمُ

أربّانِ للإنسانِ أم كان دينُهمْ

على النقصِ من دون الكمالِ فتمّموا

أم اللهُ لا يرضى بشرع نبيّه

فعادوا وهم في ذاك بالشرعِ أقومُ

أم المصطفى قد كان في وحي ربِّهِ

ينقِّص في تبليغه ويُجمجمُ

أم القومُ كانوا أنبياءً صوامتاً

فلمّا مضى المبعوث عنهم تكلّموا

أم الشرعُ فيهِ كان زيغ عن الهدى

فسوّوه من بعدِ النبيِّ وقوّموا

أم الدينُ لم يكملْ على عهد أحمدٍ

فعادوا عليه بالكمالِ وأحكموا

٥٠١

أما قال إنّي اليوم أكملتُ دينكمْ

وأتممتُ بالنعماءِ منّي عليكمُ

وقال أطيعوا الله ثمّ رسولَه

تفوزوا ولا تعصوا أُولي الأمر منكمُ

فلِمْ حرّموا ما كان حِلاّ وحلّلوا

بفتواهمُ ما جازَ وهو محرّمُ

ترى اللهَ فيما قال قد زلَّ أم هَذى

نبيُّ الهدى أم كان جبريلُ يوهمُ

لقد أبدعوا ممّا نووا من خلافِهمْ

وقال اقبلوا ممّا يقولُ وسلّموا

وإلاّ تركتمْ إنْ أبيتم رماحَنا

وأسيافَنا فيكم تسدّى وتلحمُ

وما ماتَ حتى أكملَ اللهُ دينَهُ

ولم يبقَ أمرٌ بعد ذلك مبهمُ

ولكنْ حقودٌ أُظهِرتْ وضغائنٌ

وبغيٌ وجورٌ بيّنُ الظلم منهمُ

يُقرَّب مفضولٌ ويُبعَدُ فاضلٌ

ويَسكتُ منطيقٌ وينطقُ أبكمُ

وما أخّروا فيها عليّا لموجبٍ

ولكن تعدٍّ منهمُ وتظلّمُ

وكم شرعوا في نقضِ ما شاد أحمدٌ

ولكنّ دينَ اللهِ لا يتهدّمُ

وحاشا لدينٍ شيّدَ الحقُّ ركنَهُ

بسيفِ عليٍّ يعتريه التهدُّمُ

فحسبهمُ في ظلمِ آلِ محمدٍ

من اللهِ في العقبى عقابٌ ومأثمُ

فإن غصبوهمْ أمرَ دنياً دنيّةٍ

فما لهمُ في الحشر أبقى وأدوَمُ

فهل عظُمتْ في الدهر قطُّ مصيبةٌ

على الناسِ إلاّ وهي في الدينِ أعظمُ

تولّى بإجماعٍ على الناس أوّلٌ

ونصَّ على الثاني بها وهو مُغرمُ

وقال أقيلوني فلستُ بخيرِكمْ

فلِمْ نصّها لو صحَّ ما كان يزعمُ

وأثبتها في جوره بعد موته

صهاكيّةً خشناءَ للخصمِ تكلمُ

ولو أدرك الثاني لمولى حذيفةٍ

لولاّه دون الغير والأنفُ يُرغمُ

وقد نالها شورى من القومِ ثالثٌ

وجُرِّد سيفٌ للوصيّ ولهذمُ

أشورى وإجماعٌ ونصٌّ خلافةٌ

تعالوا على الإسلام نبكي ونلطمُ

وصاحبُها المنصوصُ عنها بمعزلٍ

يُديمُ تلاواتِ الكتابِ ويختمُ

ولو أنّه كان المولّى عليهمُ

إذن لهداهمُ فهو بالأمرِ أعلمُ

٥٠٢

هو العالمُ الحَبرُ الذي ليس مثلُهُ

هو البطلُ القرمُ الهزبرُ الغشمشمُ

وما زال في بدرٍ وأُحدٍ وخيبرٍ

يفلُّ جيوشَ المشركين ويحطمُ

يكرُّ ويعلوهم بقائمِ سيفِهِ

إلى أن أطاعوا مكرهين وأسلموا

وما دخلوا الإسلام ديناً وإنّما

منافقةً كي يُرفعَ السيفُ عنهمُ

وقالوا عليٌّ كان في الحكمِ ظالماً

ليكثر بالدعوى عليه التظلّمُ

وقالوا دماءُ المسلمين أراقَها

وقد كان في القتلى بريءٌ ومجرمُ

فقلتُ لهم مهلاً عدمتمْ صوابَكمْ

وصيُّ النبيّ المصطفى كيف يظلِمُ

أراقَ دماءَ المسلمين فوالذي

هدانا به ما كان في القومِ مسلمُ

ولكنّه للناكثين بعهدِه

وممّن تعدّى منهم كان ينقمُ

أما قال أقضاكم عليٌّ محمدٌ

كذا قد رواه الناقدُ المتقدّمُ

فإن جار ظلماً في القضايا بزعمِكمْ

عليٌّ فمن زكّاهُ لا شكّ أظلمُ

فيا ليتني قد كنت بالأمسِ حاضراً

فأُشرِكهُ في قتلِهمْ وأُصمّمُ

وألقى إلهي دونهمْ بدمائِهمْ

فننظرُ عند اللهِ من يتندّمُ

فمن كعليٍّ عند كلّ ملمّةٍ

إذا ما التقى الجمعانِ والنقعُ مفعمُ

ومَن ذا يُساميه بعلمٍ ولم يَزَلْ

يقول سلوني ما يحلُّ ويحرمُ

سلوني ففي جنبيَّ علمٌ ورثتُهُ

عن المصطفى ما فاه منّي به الفمُ

سلونيَ عن طرقِ السموات إنّني

بها من سلوكِ الأرضِ والطرقِ أعلمُ

ولو كشفَ اللهُ الغطا لم أزِدْ به

يقيناً على ما كنت أدري وأعلمُ

وكأين له من آيةٍ وفضيلةٍ

ومن مكرماتٍ ما تعمُّ وتكتمُ

فمن ختمتْ أعمالُهُ عند موتِهِ

بخيرٍ فأعمالي بحبِّيه تُختَمُ

فيا ربّ بالأشباحِ آلِ محمدٍ

نجومِ الهدى للناسِ والأفق مظلمُ

وبالقائمِ المهديِّ من آل أحمدٍ

وآبائِه الهادين والحقُّ معصمُ

تفضّل على العوديّ منك برحمةٍ

فأنت إذا استُرحمتَ تعفو وترحمُ

٥٠٣

تجاوز بحسنِ العفوِ عن سيّئاتِهِ

إذا ما تلظّت في المعادِ جهنّمُ

ومنّ عليه من لدنكَ برأفةٍ

فإنّك أنتَ المنعمُ المتكرِّمُ

فإن كان لي ذنبٌ عظيمٌ جنيتُهُ

فعفوُكَ والغفرانُ لي منه أعظمُ

وإن كنتُ بالتشبيب في الشعر ابتدي

فإنّي بمدحِ الصفوةِ الزهرِ أختِمُ

وله قصيدة أخرى يذكر فيها حديث الغدير ويراه نصّا على الإمامة والخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعد النبيّ الأعظم ـ صلوات الله عليه وآله ـ أوّلها :

بفنا الغريّ وفي عراصِ العلقمِ

تُمحى الذنوب عن المسيءِ المجرمِ

قبران قبرٌ للوصيّ وآخرٌ

فيه الحسين فعُجْ عليه وسلّمِ

هذا قتيلٌ بالطفوفِ على ظماً

وأبوه في كوفانَ ضُرِّجَ بالدمِ

وإذا دعا داعي الحجيجِ بمكّةٍ

فإليهما قصدُ التقيِّ المسلمِ

فاقصدْهما وقلِ السلامُ عليكما

وعلى الأئمّةِ والنبيِّ الأكرمِ

أنتمْ بنو طه وقافٍ والضحى

وبنو تباركَ والكتابِ المحكَمِ

وبنو الأباطحِ والمسلخِ والصفا

والركنِ والبيتِ العتيقِ وزمزمِ

بكمُ النجاةُ من الجحيم وأنتمُ

خيرُ البريّة من سلالةِ آدمِ

أنتم مصابيحُ الدجى لمن اهتدى

والعروةُ الوثقى التي لم تُفصمِ

وإليكمُ قصدُ الوليِّ وأنتمُ

أنصارُهُ في كلِّ خطبٍ مولمِ

وبكم يفوزُ غداً إذا ما أُضرِمتْ

في الحشرِ للعاصين نارُ جهنّمِ

مَن مثلُكُم في العالمينَ وعندكمْ

علمُ الكتابِ وعلمُ ما لم يُعلَمِ

جبريلُ خادمُكمْ وخادمُ جدِّكمْ

ولغيرِكمْ في ما مضى لم يخدمِ

أبني رسولِ اللهِ إنّ أباكمُ

من دوحةٍ فيها النبوّةُ ينتمي

آخاه من دونِ البريّةِ أحمدٌ

واختصّه بالأمرِ لو لم يُظلَمِ

نصَّ الولايةَ والخلافةَ بعدَهُ

يومَ الغديرِ له برغمِ اللوّمِ

٥٠٤

ودعا له الهادي وقال ملبّياً

يا ربِّ قد بلّغتُ فاشهد واعلمِ

حتى إذا قُبِضَ النبيُّ وأصبحوا

مثلَ الذباب تلوحُ حول المطعمِ

نكثتْ ببيعته رجالٌ أسلمتْ

أفواهُهمْ وقلوبُهم لم تُسلمِ

وتداولوها بينهم فكأنّها

كأسٌ تدور على عطاشٍ حُوّمِ

القصيدة (٥٧) بيتاً

الشاعر

الربيب أبو المعالي سالم بن عليّ بن سلمان بن عليّ المعروف بابن العودي ـ العودي (١) ـ التغلبي النيلي ، نسبة إلى بلدة النيل على نهر النيل المستمدّ من الفرات الممتدّ نحو الشرق الجنوبي ، وكانت ولادته بها سنة (٤٧٨).

لم أقف على ترجمة أبي المعالي أبسط مما نشرته مجلّة الغري النجفيّة الغرّاء في العدد ال (٢٢ و ٢٣) من السنة السابعة بقلم الدكتور مصطفى جواد البغدادي ، ذلك البحّاثة المنقِّب ، وإليك نصّه ، قال :

كان أبو المعالي من الشعراء الذين اشتهر شعرهم وقلّت أخبارسيرهم ، فهو كوكب من كواكب الأدب ، ومشاهد نوره مجهولة حقيقته أو حقائق أوصافه ، وكان في الأيّام التي جمع فيها عماد الدين الأصفهاني أخبار الشعراء ؛ ولذلك قال في نعته : شابٌّ شبّت له نار الذكاء ، وشاب لنظمه صرف الصهباء بصافي الماء ، ودرّ من فيه شؤبوب الفصاحة ، يسقي من ينشده شعره راح الراحة ، وردتُ واسطاً سنة خمسين ـ يعني خمسين وخمسمائة ـ فذكر لي أنّه كان بها للاسترفاد ، وقام في بعض الأيّام ينشد خادم الخليفة ـ فاتناً (٢) ـ فسبقه غيره إلى الإنشاد ، فقعد ولم يعد إليه وسلّم على رفده

__________________

(١) كما في شعره. (المؤلف)

(٢) هو شمس الدين أبو الفضائل من أكابر مماليك بني العبّاس ، كان ناظر واسط يومئذٍ. (المؤلف)

٥٠٥

وعليه ، وصمّم عزم الرحيل إلى وطنه بالنيل ، ولقيته بعد ذلك في سنة أربع وخمسين بالهماميّة. انتهى.

وإشارة العماد إلى أنّه كان شابّا من فلتات الشباب.

ويلوح لنا من أثناء هذا الخبر أنّ ابن العودي كان ـ مع تحريره إنشاده لاسترفاده ـ أبيّ النفس ، معتدّا بشعره ، والشاعر الأبيُّ المسترفد لا يورثه إباؤه إلاّ الحرمان وإساءة الزمان.

ومن شعره الذي نقله قطب الدين أبو يعلى محمد بن عليّ بن حمزة العلوي الأقساسي ، تغزّله بامرأة نصف ـ أي متوسطة العمر ـ :

أبى القلب إلاّ أمَّ فضلٍ وإن غدتْ

تُعَدُّ من النصف الأخيرِ لداتُها

لقد زادها عندي المشيبُ ملاحةً

وإن زعم الواشي وساءَ عداتُها

فإن غيّرت منها الليالي ففي الحشا

لها حُرَقٌ ما تنطفي زفراتُها

فما نال منها الدهرُ حتى تكاملت

كمالاً وأعيى الواصفين صفاتُها

سبتني بفرعٍ فاحمٍ وبمقلةٍ

لها لحظاتٌ ما تُفَكُّ عناتُها

وثغرٌ زهتْ فيه ثنايا كأنّها

حصى بَرَدٍ تشفي الصدارَ (١) شفاتُها

ولمّا التقينا بعد بُعدٍ من النوى

وقد حان نحوي بالسلام التفاتُها

رأيتُ عليها للجمال بقيّةً

فعاد لنفسي في الهوى نشواتُها

وأنشد القاضي عبد المنعم بن مقبل الواسطي له :

همأقعدوني في الهوى وأقاموا

وأبلوا جفوني بالسهادِ وناموا

وهمْ تركوني للعتاب دريئةً

أؤنَّب في حبّيهمُ وأُلامُ

__________________

(١) وفي نسخة قاضي القضاة الشافعية بالديار المصرية عبد العزيز بن جماعة : تسقى الصدار سفاتها. قال الأميني : ما في المتن والهامش فيه تصحيف والصحيح : تشفي الصدى رشفاتها. (المؤلف)

٥٠٦

ولو انصفوا في الحبّ قسمة بيننا (١)

لهاموا كما بي صبوةٌ وهيامُ

ولكنّهم لمّا استدرّ لنا الهوى

كرمْتُ بحفظي للوداد ولاموا

ولمّا تنادوا للرحيلِ وقُوِّضتْ

لِبَيْنِهمُ بالأبرقين خيامُ

رميتُ بطرفي نحوهمْ متأمِّلاً

وفي القلبِ منّي لوعةٌ وضرامُ

وعدتُ وبي ممّا أجنّ صبابةٌ

لها بين أثناءِ الضلوعِ كِلامُ

إذا هاج بي وجدٌ وشوقٌ كأنّما

تضمّر أعشارَ الفؤادِ سهامُ

ولائمةٍ في الحبِّ قلت لها اقصري

فمثليَ لا يُسلي هواه ملامُ

أأسلو الهوى بعد المشيبِ ولم يزلْ

يصاحبُني مذ كنتُ وهو غلامُ

ولمّا جزعنا الرملَ رملَ عنيزةٍ

وناحتْ بأعلى الدوحتينِ حَمامُ

صبوت اشتياقاً ثمَّ قلتُ لصاحبي

ألا إنّما نَوحُ الحَمام حِمامُ

تجهّز لبينٍ أو تسلَّ عن الهوى

فما لك من ليلي الغداةَ لمامُ

وكيف يُرجّى النولُ عند بخيلةٍ

ترومُ الثريّا وهي ليس تُرامُ

مهفهفةُ الأعطافِ أمّا جبينُها

فصبحٌ وأمّا فرعُها فظلامُ

فيا ليت لي منها بلوغاً إلى المنى

حلالاً فإن لم يُقضَ لي فحرامُ

وهذه المعاني التي أودعها ابن العودي قصيدة مألوفة متعالمة بين الشعراء ، إلاّ أنّ نسج شعره عربيٌّ بحتٌ يضفي على تلك المعاني ما لا يستطيعه النسج السابري ؛ وقد نقل الصفدي أبياتاً من هذه القصيدة (٢) ومن غيرها من شعر ابن العودي وذكر : أنّ شعره متوسّط. ولا نرى في هذا الحكم حنقاً فإنّه متوسطٌ حقّا من حيث المعاني ، ولكنّه في حبكه وتأليفه من الطبقة الأولى ؛ فإنّ العرب تنظر إلى المباني قبل المعاني ، بحكم ما في لغتها من موسيقى وجرس ورنين ، وهذا لا يعني أنّها تقرّ من النظم ما لا

__________________

(١) وفي نسخة صلاح الدين الصفدي [الوافي بالوفيات : ١٥ / ٨٨ رقم ١١٦] : ولو أنصفوني قسمة الحبّ بيننا. (المؤلف)

(٢) الوافي بالوفيات : ١٥ / ٨٧ رقم ١١٦.

٥٠٧

معنى له ؛ لأنّ شرط صحّة المباني احتواؤها على صحّة المعاني كائنةً ما كانت.

وقد نظم ابن العودي في الشعر المذهبيّ الذي أكثر منه : السيّد الحميري ، وابن حمّاد ، والعوني ، والناشئ الأصغر ، وابن عَلّويه الأصفهاني (١) ، والورّاق القمّي. ولما دخل ابن شهرآشوب العراق في أواسط القرن السادس ألفى شعر ابن العودي في المذهب تستهديه الآذان أفواه الشداة والمنشدين ، فضمّن كتابه مناقب آل أبي طالب شيئاً منه (٢) وكثيراً من شعر الناظمين في المذهب. وبعد ترك ابن شهرآشوب العراق إلى الشام حدثت ببغداد فتن مذهبيّه ووثب الحنابلة كعادتهم بأعدائهم في المذهب ، فأحرقوا كتبهم وفيها دواوين شعرائهم واضطهدوهم اضطهاداً فظيعاً ، فضاع كلُّ ذلك الأدب غثّه وسمينه وصار طعمةً للنار ، والظاهر أنّ ذلك الضرب من النظم في شعر ابن العودي هو الذي حمل محبّ الدين محمداً المعروف بابن النجّار البغدادي على أن يقول في ترجمة ابن العودي : كان رافضيّا خبيثاً يهجو الصحابة.

ومن شعر ابن العودي في إقامته مدّة بواسط :

يؤرّقني في واسطٍ كلَّ ليلةٍ

وساوسُ همٍّ من نوىً وفراقِ

فيا للهوى هل راحمٌ لمتيّمٍ

يعلُّ بكأسٍ للفراقِ دهاقِ

خليليَّ هل ما فاتَ يُرجى وهل لنا

على النأيِ من بعد الفراقِ تلاقي

فإن كنت أُبدي سلوةً عن هواكمُ

فإنّ صباباتي بكم لبواقي

ألا يا حماماتٍ على نهرِ سالمٍ

سلمتِ ووقّاكِ التفرُّقَ واقي

تعالينَ نُبدِ النوحَ كلٌّ بشجوِهِ

فإنّ اكتتامَ الوجدِ غيرُ مطاقِ

على أنّ وجدي غيرُ وجدِكَ في الهوى

فدمعيَ مهراقٌ ودمعُك راقي

__________________

(١) مرّت تراجم هؤلاء الشعراء الخمسة في الجزء الثاني والثالث والرابع من كتابنا هذا ، وكلّهم من شعراء الغدير. (المؤلف)

(٢) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣١١ ، ٣٣٠ و ٢ / ٤٧ و ٣ / ٤٢٣ ، ٤٥٠ و ٤ / ٣٦٠.

٥٠٨

وما كنت أدري بعد ما كان بينَنا

من الوصلِ أنّي للفراقِ مُلاقي

فها أنتِ قد هيّجتِ لي حُرَقَ الجوى

وأبديتِ مكنونَ الهوى لوفاقي

وأسهرتِني بالنوحِ حتى كأنّما

سقاكِ بكاساتِ التفرُّق ساقي

فلا تحسبي أنّي نزعتُ عن الهوى

وكيف نزوعي عنه بعد وفاقي

ولكنّني أخفيتُ ما بي من الجوى

لكي لا يرى الواشون ما أنا لاقِ

قال الشريف قطب الدين أبو يعلى محمد بن عليّ بن حمزة : أنشدني الربيب أبو المعالي سالم بن العودي في منزلي مستهلّ صفر سنة خمسين وخمسمائة :

ما حبستُ الكتابَ عنك لهجرٍ

لا ولا كان ذاكمُ عن تجافي

غير أنّ الزمانَ يُحدِث للمر

ء أموراً تنسيه كلّ مصافي

شِيَمٌ مرّت الليالي عليها

والليالي قليلةُ الإنصافِ

وهذه أبيات حكميّة كريمة منتزعة معانيها من صميم الحقيقة الحيويّة.

وقال الحسن بن هبة الله التغلبي المعروف بابن مصري الدمشقي : أنشدني أبو المعالي سالم بن عليّ العودي لنفسه :

دعِ الدنيا لمن أمسى بخيلا

وقاطعْ من تراه لها وَصولا

ولا تركنْ إلى الأيّام واعلم

بأنّ الدهرَ لا يُبقي جليلا

فكم قد غرّتِ الدنيا أُناساً

وكم قد أقنتِ الدنيا قبيلا

وما هذي الحياةُ وإن تراخت

بممتعةٍ بها إلاّ قليلا

فويلٌ لابن آدمَ من مقامٍ

يكون به العزيزُ غداً ذليلا

قال : وأنشدني أبو المعالي لنفسه :

أأُخيَّ إنّك ميّتٌ

فدعِ التعلّلَ بالتمادي

لا تركننّ إلى الحيا

ة فإنّ عزّك في نفادِ

٥٠٩

أزف الرحيلُ فلا تكن

ممّن يسيرُ بغير زادِ

يا غافلاً والموت يق

ـدحُ في سنيه بلا زنادِ

لا بدّ يوماً للنبا

تِ إذا تكاملَ من حصادِ

وأنشدني لنفسه :

لا أقتضيكَ على السماحِ فإنّه

لك عادةٌ لكنّني أنا مذكرُ

إنّ السحابَ إذا تمسّكَ بالندى

رغبوا إليه بالدعاءِ فيُمطرُ

وأنشدني لنفسه :

سيّدي عُدْ إلى الوصا

ل فقد شفّني الضنا

وترفّق بعاشقٍ

ما له عنك من غنى

إن تكن تطلب الصوا

بَ بوصلٍ فها أنا

أو ترد بالنوى دنوّ حِمامي فقد دنا وأنشد :

يا عاتبين على عانٍ يحبّكمُ

لا تجمعوا بين عتب في الهوى وعنا

إن كان صدُّكمُ عنّي حدوثَ غنى

فما لنا عنكمُ حتى الممات غنى

ومن شعره قوله :

يقولون لو داويتَ قلبَكَ لارعوى

بسلوانِهِ عن حبِّ ليلى وعن جُمْلِ

وهيهاتَ يبرأُ بالتمائمِ والرُّقى

سليمُ الثنايا الغرِّ والحَدَقِ النُّجْلِ

ولم أقف على سنة وفاة ابن العودي ، إلاّ أنّ سنة ولادته ـ أعني سنة (٤٧٨) ـ ورؤية عماد الدين الأصفهاني له سنة (٥٥٤) بالهماميّة قرب واسط ، لا تتركان للظنّ أن يُغالى في بقائه طويلاً بعد سنة (٥٥٤) المذكورة ، بل لا أراه قد جاوز سنة (٥٥٨) فإنّها تجعل عمره ثمانين سنة ، وذلك من نوادر الأعمار في هذه الديار. انتهى.

٥١٠

ـ ٤٩ ـ

القاضي الجليس

المتوفّى (٥٦١)

ـ ١ ـ

دعاهُ لوشْكِ البينِ داعٍ فأسمعا

وأودع جسمي سقمَهُ حين ودّعا

ولم يُبقِ في قلبي لصبريَ موضعاً

وقد سار طوعَ النأيِ والبعدِ موضعا

أُجَنُّ إذا ما الليل جَنَّ كآبةً

وأُبدي إذا ما الصبحُ أزمعَ أدمعا

وما انقدتُ طوعاً للهوى قبل هذه

وقد كنتُ ألوى عنه ليناً وأخدعا

إلى أن يقول :

تصاممتُ عن داعي الصبابة والصبا

ولبّيتُ داعي آلِ أحمدَ إذ دعا

عشوتُ بأفكاري إلى ضوء علمِهمْ

فصادفتُ منه منهجَ الحقِّ مَهْيَعا

علِقتُ بهم فَلْيَلَحَ في ذاك من لحا

تولّيتهم فلينعَ ذلك من نعى

تسرّعت في مدحي لهمْ متبرِّعا

وأقلعتُ عن تركي له متورّعا

هم الصائمونَ القائمونَ لربِّهمْ

هم الخائفوهُ خشيةً وتخشّعا

هم القاطعو الليلِ البهيمِ تهجّداً

هم العامروه سُجّداً فيه ركّعا

هم الطُّيَّبُ الأخيارُ والخيرُ في الورى

يروقون مرأىً أو يشوقون مسمعا

بهم تُقبَلُ الأعمالُ من كلِّ عاملٍ

بهم تُرفَعُ الطاعاتُ ممّن تطوّعا

٥١١

بأسمائِهمْ يُسقَى الأنامُ ويهطلُ ال

ـغمامُ وكم كربٍ بهم قد تقشّعا

هم القائلون الفاعلون تبرّعاً

هم العالمون العاملون تورّعا

أبوهم وصيُّ المصطفى حاز علمَهُ

وأودعَهُ من قبلُ ما كان أُودِعا

أقام عمودَ الشرعِ بعد اعوجاجِهِ

وساندَ ركنَ الدينِ أن يتصدّعا

وواساه بالنفسِ النفيسةِ دونَهمْ

ولم يخشَ أن يلقى عداه فيجزعا

وسمّاهُ مولاهمْ وقد قام معلناً

ليتلوَه في كلِّ فضل ويشفعا

فمن كشفَ الغمّاء عن وجهِ أحمدٍ

وقد كربت أقرانُه أن يقطّعا

ومن هزَّ بابَ الحصنِ في يومِ خيبرْ

فزلزلَ أرضَ المشركين وزعزعا

وفي يومِ بدرٍ من أحنَّ قليبَهاْ

جسوماً بها تدمي وهاماً مقطّعا

وكم حاسدٍ أغراهُ بالحقدِ فضلُهُ

وذلك فضلٌ مثلُه ليس يُدّعى

لوى غدره يومَ الغديرِ بحقِّهْ

وأعقبه يومَ البعيرِ وأتبعا

وحاربه القرآنُ عنه فما ارعوى

وعاتبه الإسلامُ فيه فما وعى

إذا رام أن يخفي مناقبَهُ جلتْ

وإن رامَ أن يُطفي سناه تشعشعا

متى همَّ أن يطوي شذى المسكِ كاتمٌ

أبى عَرْفُهُ المعروفُ إلاّ تضوّعا

ومنها :

أيا أمّةً لم ترعَ للدينِ حرمةً

ولم تُبقِ في قوسِ الضلالةِ منزعا

بأيّ كتابٍ أم بأيّةِ حجّةٍ

نقضتمْ بها ما سنّه اللهُ أجمعا

غصبتمْ وليَّ الحقِّ مهجةَ نفسِهِ

وكان لكم غصبُ الإمامةِ مُقنعا

وألجمتمُ آلَ النبيِّ سيوفَكمْ

تفري من الساداتِ سُوقاً وأذرعا

وحلّلتمُ في كربلاءَ دماءَهمْ

فأضحت بها هِيمُ الأسنّة شُرَّعا

وحرّمتمُ ماءَ الفراتِ عليهمُ

فأصبح محظوراً لديهمْ ممنّعا

القصيدة (٥٦) بيتاً

٥١٢

ـ ٢ ـ

وله في رثاء السبط الإمام الشهيد عليه‌السلام قوله :

إن خانَها الدمعُ الغزيرُ

فمن الدماءِ لها نصيرُ

دعها تسحُّ ولا تشحَ

فرزؤها رزءٌ كبيرُ

ما غصبُ فاطمةٍ تراثَ

محمدٍ خطبٌ يسيرُ

كلاّ ولا ظلم الوصيِّ و

حقُّه الحقُّ الشهيرُ

نطقَ النبيُّ بفضلِهِ

وهو المبشِّر والنذيرُ

جحدوه عقدَ ولايةٍ

قد غرَّ جاحدَهُ الغرورُ

غدروا به حسداً له

وبنصِّه شهدَ الغديرُ

حظروا عليهِ ما حبا

ه بفخره وهمُ حضورُ

يا أمّةً رعتِ السُّها

وإمامُها القمرُ المنيرُ

إن ضلَّ بالعجلِ اليهو

دُ فقد أضلَّكمُ البعيرُ

لهفي لقتلى الطفِّ إذ

خذلَ المصاحبُ والعشيرُ

وافاهمُ في كربلا

يومٌ عبوسٌ قمطريرُ

دلفتْ لهم عُصَبُ الضلا

لِ كأنّما دُعيَ النفيرُ

عجباً لهم لم يلقَهمْ

من دونِهم قدرٌ مبيرُ

أيُمارُ فوقَ الأرضِ في

ـضُ دمِ الحسينِ ولا تمورُ

أترى الجبالَ درتْ ولم

تقذفهمُ منها صخورُ

أم كيف إذ منعوه وِر

دَ الماءِ لم تَغرِ البحورُ

حُرِمَ الزلالُ عليه

لمّا حُلّلت لهم الخمورُ

القصيدة (٣٦) بيتاً

٥١٣

ـ ٣ ـ

وله من قصيدة تناهز (٢٩) بيتاً مطلعها :

كم قد عصيتُ مقالَ الناصحِ الناهي

ولذتُ منكمْ بحبلٍ واهنٍ واهِ

ويقول فيها :

حبِّي لآلِ رسولِ اللهِ يعصمُني

من كلِّ إثمٍ وهم ذخري وهم جاهي

يا شيعةَ الحقِّ قولي بالوفاءِ لهم

وفاخري بهمُ من شئتِ أو باهي

إذا علقتِ بحبلٍ من أبي حسنٍ

فقد علقتِ بحبلٍ في يد اللهِ

حمى الإلهُ به الإسلامَ فهو به

يزهي على كلِّ دين قبله زاهِ

بعلُ البتول وما كنّا لتهديَنا

أئمّةٌ من نبيِّ اللهِ لو لا هي

نصَّ النبيُّ عليه في الغديرِ فما

زواه إلاّ ظنينٌ دينُهُ واهِ

الشاعر

أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحبّاب (١) الأغلبي السعدي الصقلي المعروف بالقاضي الجليس ، من مقدّمي شعراء مصر وكتّابهم ، ومن ندماء الملك الصالح طلائع بن رزّيك الذي مرّت ترجمته (ص ٣٤٤) ، وأحسب أنّ تلقيبه بالجليس كان لمجالسته إيّاه متواصلاً ، وهو ممّن أغرق نزعاً في موالاة العترة الطاهرة كما ينمُّ عنه شعره ، ولمعاصره الفقيه عمارة اليمني ـ الآتي ذكره ـ شعر يمدحه ، منه قصيدة في كتابه النكت العصرية (ص ١٥٨) قالها سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ، أوّلها :

هي سلوةٌ حلّت عقود وفائِها

مذ شفَّ ثوبُ الصبرِ عن برحائِها

__________________

(١) في معجم الأدباء : ٣ / ١٥٧ : الخباب [٩ / ٤٨ وفيه : الحبّاب]. (المؤلف)

٥١٤

ومنها :

لم أسألِ الركبانَ عن أسمائِها

كفلاً بها لو لا هوى أسمائِها

وسألت أيّامي صديقاً صادقاً

فوجدتُ ما أرجوه جُلَّ رجائِها

ومنها :

ولقد هجرتُ إلى الجليسِ مهاجراً

عصباً يضيمُ الدهرُ جارَ فنائِها

مستنجداً لأبي المعالي همّةً

تغدو المعالي وهي بعضُ عطائِها

لمّا مدحتُ علاهُ أيقنتِ العدى

أنّ الزمانَ أجارَ من عدوائِها

واغدَّ سعديُّ الأوامرِ أبلجٌ

يلقى سقيماتِ المنى بشفائِها

ومنها :

نذرتْ مصافحةَ الغمامِ أناملي

فوفت غمائمُ كفِّه بوفائِها

وقال ، كما في نكته العصريّة (ص ٢٥٢) ، وقد حدث للقاضي الجليس مرضٌ أخّره عن حضور مجلس الملك الصالح طلائع بن رُزّيك :

وحقِّ المعالي يا أباها وصنوها

يمينَ امرئٍ عاداتُه القسمُ البرُّ

لقد قَصُرَتْ عمّا بلغتَ من العلى

وأحرزتَهُ أبناءُ دهرِك والدهرُ

متى كنتَ يا صدرَ الزمانِ بموضعٍ

فرتبتُكَ العليا وموضعُكَ الصدرُ

ولمّا حضرنا مجلس الأُنس لم يكن

على وجهه إذ غبتَ أُنسٌ ولا بِشرُ

فقدناك فقدانَ النفوسِ حياتَها

ولم يكُ فقدُ الأرضِ أعوزَها القطرُ

واظلمَّ جوُّ الفضلِ إذ غابَ بدرُهُ

وفي الليلةِ الظلماءِ يُفتقَدُ البدرُ

ترجمه العماد في الخريدة وأثنى عليه بالفضل المشهور ، وابن كثير في تاريخه (١)

__________________

(١) البداية والنهاية : ١٢ / ٣١٣ حوادث سنة ٥٦١ ه‍.

٥١٥

(١٢ / ٢٥١) ، وابن شاكر في فوات الوفيات (١) (١ / ٢٧٨) فقال : تولّى ديوان الإنشاء للفائز مع الموفّق بن الخلاّل ، ومن شعره :

ومن عجبي أنّ الصوارمَ والقنا

تحيضُ بأيدي القوم وهي ذكورُ

وأعجبُ من ذا أنّها في أكفِّهمْ

تأجّجُ ناراً والأكفُّ بحورُ

وله في طبيب :

وأصلُ بليّتي من قد غزاني

من السقمِ الملحِّ بعسكرينِ

طبيبٌ طبُّهُ كغرابِ بينٍ

يفرِّقُ بين عافيتي وبيني

أتى الحمّى وقد شاختْ وباختْ

فعاد لها الشبابُ بنسختينِ

ودبّرها بتدبيرٍ لطيفٍ

حكاهُ عن سنانٍ أو حنينِ

وكانت نوبةً في كلِّ يومٍ

فصيّرها بحذقٍ نوبتينِ

وله في طبيب أيضاً :

يا وارثاً عن أبٍ وجدِّ

فضيلة الطبِّ والسدادِ

وحاملاً ردَّ كلِّ نفسٍ

همت عن الجسمِ بالبعادِ

أُقسمُ لو قد طبّبتَ دهراً

لعاد كوناً بلا فسادِ

وله :

حيّا بتفاحةٍ مخضّبةٍ

مَن شفّني حبُّه وتيّمني

فقلت ما إن رأيت مشبهها

فاحمرَّ من خجلةٍ فكذّبني

وله :

رُبّ بيضٍ سلَلْنَ باللحظِ بيضاً

مرهفاتٍ جفونُهنّ جفونُ

__________________

(١) فوات الوفيات : ٢ / ٣٣٢ رقم ٢٨٥.

٥١٦

وخدودٍ للدمعِ فيها خدودٌ

وعيونٍ قد فاض فيها عيونُ

وقال أيضاً :

ألمّتْ بنا والليلُ يزهي بلمّةٍ

دجوجيّةٍ لم يكتهل بعدُ فوداها

فأشرقَ ضوءُ الصبحِ وهو جبينُها

وفاحتْ أزاهيرُ الربى وهي ريّاها

إذا ما اجتنت من وجهها العينُ روضةً

أسالتْ خلالَ الروضِ بالدمعِ أمواها

وإنّي لأستسقي السحابَ لرَبعِها

وإن لم تكن إلاّ ضلوعيَ مأواها

إذا استعرتْ نارُ الأسى بين أضلعي

نضحتُ على حرِّ الحشا بردَ ذكراها

وما بيَ أن يصلى الفؤادُ بحرِّها

ويضرم لو لا أنّ في القلب سكناها

كان القاضي الجليس كبير الأنف ، وكان الخطيب أبو القاسم هبة الله بن البدر المعروف بابن الصيّاد مولعاً بأنفه وهجائه ، وذكر أنفه في أكثر من ألف مقطوع ، فانتصر له أبو الفتح ابن قادوس ـ المترجم في هذا الجزء (ص ٣٣٨) ـ فقال :

يا مَن يعيبُ أُنوفَنا

الشمَّ التي ليست تُعابُ

الأنفُ خلقةُ ربِّنا

وقرونُكَ الشمُّ اكتسابُ

وله شعر في رثاء والده وقد غرق في البحر بريح عاصفٍ. انتهى.

والمترجم هو الذي قرّظ أبا محمد بن الزبير الحسن بن عليّ المصري المتوفّى سنة (٥٦١) عند الملك الصالح حتى قدّمه ، فلمّا مات شَمَتَ به ابن الزبير ولبس في جنازته ثياباً مذهّبة ، فَنُقِّصَ عند الناس بهذا السبب واستقبحوا فعله ، ولم يَعِشْ بعد الجليس إلاّ شهراً واحداً (١).

كان الملك الصالح طلائع لا يزال يحضر ، في ليالي الجمع ، جلساؤه وبعض أمرائه لسماع قراءة صحيح مسلم والبخاري وأمثالهما من كتب الحديث ، وكان الذي

__________________

(١) معجم الأدباء : ٣ / ١٥٧ [٩ / ٤٨]. (المؤلف)

٥١٧

يقرأ رجلاً أبخر ، فلعهدي وقد حضر المجلس مع الأمير عليّ بن الزبير والقاضي الجليس أبي محمد ، وقد أمال وجهه إلى القاضي ابن الزبير وقال له :

وأبخر قلت لا تجلس بجنبي

فقال ابن الزبير :

إذا قابلت بالليل البخاري

فقال القاضي الجليس :

فقلت وقد سألتُ بلا احتشامٍ

لأنّك دائماً مِن فيكَ خاري

أنشد بعض جلساء الملك الصالح بمجلسه بيتاً من الأوزان التي يسمّيها المصريّون ـ الزكالش ـ ويسمّيها العراقيّون ـ كان وكان.

النار بين ضلوعي

وأنا غريقٌ في دموعي

كنّي فتيلة قنديل

أموت غريق وحريق

وكان عنده القاضي الجليس والقاضي ابن الزبير فنظما معناه بديهاً ، فقال الجليس :

هل عاذرٌ إن رمتُ خلعَ عذاري

في شمِّ سالفةٍ ولثمِ عذارِ

تتألّفُ الأضدادُ فيه ولم تزلْ

في سالفِ الأيّامِ ذاتَ نفارِ

وله من الزفراتِ لفحُ صواعقٍ

وله من العبراتِ لجُّ بحارِ

كذبالةِ القنديلِ قُدِّرَ هُلكُها

ما بين ماءٍ في الزجاج ونارِ

وقال ابن الزبير :

كأنّي وقد سالتْ سيولُ مدامعي

فأذكتْ حريقاً في الحشا والترائبِ

٥١٨

ذبالةُ قنديلٍ تقومُ بمائها

وتشعل فيها النارُ من كلِّ جانبِ (١)

كتب أبو المعالي إلى القاضي الرشيد المصري (٢) قوله :

ثروةُ المكرماتِ بعدَكَ فقرُ

ومحلّ العُلى ببُعدِك قَفْرُ

بك تُجْلى إذا حَلَلتَ الدياجي

وتمرُّ الأيّامُ حَيثُ تَمُرُّ

أَذنبَ الدهرُ في مَسِيرِك ذنباً

ليس منه سوى إيابِكَ عُذْرُ (٣)

حُكي أنّه استأذن هو والقاضي الرشيد ذات يوم على أحد الوزراء فلم يأذن لهما واعتذر عن المواجهة ، ووجدا عنده غلظة من الحجّاب ، ثمّ عاوداه مرّة أخرى وأستأذنا عليه ، فقيل لهما : إنّه نائمٌ. فخرجا من عنده فقال القاضي الرشيد :

توقّع لأيّامِ اللئامِ زوالَها

فعمّا قليلٍ سوف تنكرُ حالَها

فلو كنتَ تدعو الله في كلِّ حالةٍ

لتبقى عليهم ما أمِنتَ انتقالَها

وقال القاضي الجليس :

لئن أنكرتمُ منّا ازدحاما

لَيَجْتَنِبَنْكمُ هذا الزحامُ

وإن نمتمْ عن الحاجاتِ عمداً

فعينُ الدهر عنكمْ لا تنامُ

فلم يكن بعد أيّام حتى نُكب الوزير نكبة عظيمة. مرآة الجنان (٣ / ٣٠٢).

قال الصفدي في نكت الهميان (٤) : كان الموفّق بن الخلاّل خال القاضي الجليس ، فحصل لابن الخلاّل نكبة وحصل للقاضي بسبب خاله ابن الخلاّل صداعٌ ، فكتب القاضي إلى القاضي الرشيد :

__________________

(١) بدائع البدائه : ١ / ١٧٦ ، ٢٣٧. (المؤلف).

(٢) أبو الحسين أحمد بن عليّ الغسّاني ، المقتول (٥٦٣). (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن خلكان : ١ / ٥٤ [وفيات الأعيان : ١ / ١٦٣ رقم ٦٥]. (المؤلف)

(٤) نكت الهميان : ص ٢١٦.

٥١٩

تسمّع مقاليَ يا ابن الزّبيرِ

فأنت خليقٌ بأن تَسْمَعَه

نُكِبْنا بذي نسبٍ شابكٍ

قليلِ الجَدى في زمانِ الدّعَهْ

إذا ناله الخيرُ لم نرجُهُ

وإن صفعوه صُفِعنا معه

توفّي القاضي الجليس سنة (٥٦١) وقد أناف على السبعين ، كما في فوات الوفيات (١).

ذكر سيّدنا العلاّمة السيّد أحمد العطّار البغدادي في الجزء الأوّل من كتابه : الرائق ، جملة من شعر شاعرنا الجليس ، منها قصيدةٌ يرثي بها أهل البيت الطاهرين ، ويمدح الملك الصالح بن رزّيك ويذكر مواقفه المشكورة في خدمة آل الله ، أوّلها :

لو لا مجانبةُ الملوكِ الشاني

ما تمَّ شاني في الغرامِ بشاني

(٥٠) بيتاً

وقصيدة في رثاء العترة الطاهرة تناهز (٦٦) بيتاً ، مطلعها :

أرأيتَ جرأةَ طيفِ هذا الزائرِ

ما هاب عاديةَ الغيورِ الزائرِ

وافى وشملتُهُ الظلامُ ولم يكن

ليزورَ إلاّ في ظلامٍ ساترِ

فكأنّه إنسانُ عينٍ لم يَلُحْ

مذ قطّ إلاّ في سوادِ الناظرِ

ما حكمُ أجفاني كحكم جفونها

شتّانَ بين سواهرٍ وسواحرِ

وقصيدة يمدح بها الإمام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ويذكر الملك الصالح ويثني عليه ، تبلغ (٧٢) بيتاً ، مستهلّها :

على كلّ خيرٍ من وصالِك مانعُ

وفي كلّ لحظٍ من جمالِك شافعُ

وقصيدةٌ (٦٢) بيتاً يدعم بها إمرة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد

__________________

(١) فوات الوفيات : ٢ / ٣٣٢ رقم ٢٨٥.

٥٢٠