الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

وهو من أقوام جمع الله سبحانه لهم الدنيا والدين ، فحازوا شرف الدارين ، وحُبوا بالعلم الناجع والإمرة العادلة ، بينا هو فقيه بارع كما في خواصِّ العصر الفاطمي ، وأديب شاعر مجيد كما طفحت به المعاجم ، فإذا به ذلك الوزير العادل تزدهي القاهرة بحسن سيرته ، وتعيش الأمّة المصريّة بلطف شاكلته ، وتزدان الدولة الفاطميّة بأخذه بالتدابير اللازمة في إقامة الدولة ، وسياسة الرعيّة ، ونشر الأمن ، وإدامة السلام ، وكان كما قال الزركلي في الأعلام (١) : وزيراً عصاميّا يعدُّ من الملوك ، ولقّب بالملك الصالح ، وقد طابق هذا اللفظ معناه كما يُنبئك عنه تاريخه المجيد ، فلقد كان صالحاً بعلمه الغزير وأدبه الرائق ، صالحاً بعدله الشامل وورعه الموصوف ، صالحاً بسياسته المرضيّة وحسن مداراته مع الرعيّة ، صالحاً بسيبه الهامر ونداه الوافر ، صالحاً بكلّ فضائله وفواضله دينيّة ودنيويّة ، وقبل هذه كلّها تفانيه في ولاء أئمة الدين عليهم‌السلام ونشر مآثرهم ودفاعه عنهم بفمه وقلمه ونظمه ونثره ، وكان يجمع الفقهاء ويناظرهم في الإمامة والقدَر ، وكان في نصر التشيّع كالسكّة المحماة ، كما في الخطط (٢) والشذرات (٣).

وله كتاب الاعتماد (٤) في الردّ على أهل العناد ، يتضمّن إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام والكلام على الأحاديث الواردة فيها ، وديوانه مجلّدان فيه كلّ فنٍّ من الشعر ، وقد شرح سعيد بن مبارك النحوي الكبير المتوفّى سنة (٥٦٩) بيتاً من شعر المترجم في عشرين كرّاساً ، وكان الأدباء يزدلفون إلى دسته كلّ ليلة ويدوِّنون شعره ، والعلماء يَفدون إليه من كلّ فجٍّ فلا يخيب أمل آمل منهم ، وكان يحمل إلى العلويين في المشاهد المقدّسة كلّ سنة أموالاً جزيلةً ، وللأشراف من أهل الحرمين ما يحتاجون إليه من

__________________

(١) الأعلام : ٣ / ٢٢٨.

(٢) الخطط والآثار : ٢ / ٢٩٤.

(٣) شذرات الذهب : ٦ / ٢٩٦ حوادث سنة ٥٥٦ ه‍.

(٤) في شذرات الذهب : الاجتهاد. (المؤلف)

٤٦١

كسوة وغيرها حتى ألواح الصبيان التي يكتب فيها والأقلام وأدوات الكتابة. ووقف ناحية المقس (١) لأن يكون ثلثاها على الأشراف من بني الحسنين السبطين الإمامين عليهما‌السلام ، وتسعة قراريط (٢) منها على أشراف المدينة النبويّة المنوّرة ، وجعل قيراطاً على مسجد أمين الدولة ، وأوقف بلقس بالقليوبيّة وبركة الحبش (٣) ، وجدّد الجامع بالقرافة الكبرى ، وبنى الجامع الذي على باب زويلة بظاهر القاهرة ويسمّى بجامع الصالح ، ولم يترك غزو الإفرنج مدّة حياته في البرّ والبحر ، فكانت بُعوثه إليهم تترى في كلّ سنة (٤) ، ولم يزل له صدر الدست وذرى الفخر ونفوذ الأمر وعرش الملك حتى اختار الله تعالى له على ذلك كلّه الفوز بالشهادة ، وقُتل غيلةً في دهليز قصره سنة (٥٥٦) يوم الإثنين (١٩) شهر الصيام ، ودُفن في القاهرة بدار الوزارة ، ثمّ نقله ولده العادل إلى القرافة الكبرى.

كلمات حول المترجم :

١ ـ قال ابن الأثير في الجزء الحادي عشر من تاريخه الكامل (٥) (ص ١٠٣) : في هذه السنة ـ يعني سنة (٥٥٦) ـ في شهر رمضان قُتل الملك الصالح وزير العاضد العلوي صاحب مصر ، وكان سبب قتله أنّه تحكّم في الدولة التحكّم العظيم ، واستبدَّ بالأمر والنهي وجباية الأموال إليه لصغر العاضد ، ولأنّه هو الذي ولاّه ووتر الناس ، فإنّه أخرج كثيراً من أعيانهم وفرّقهم في البلاد ليأمن وثوبهم عليه ، ثم إنّه زوّج ابنته

__________________

(١) بفتح الميم ثمّ السكون ، كان قبل الإسلام يسمّى أم دنين. (المؤلف)

(٢) في الخطط والآثار : ٢ / ٢٩٤ : سبعة قراريط.

(٣) قال الحموي : هي أرض في وهدة من الأرض واسعة طولها نحو ميل مشرفة على نيل مصر خلف القرافة ، وقف على الأشراف [معجم البلدان : ١ / ٤٠١]. (المؤلف)

(٤) الخطط : ٤ / ٨١ ، ٣٢٤ [٢ / ٢٩٤ ، ٤٤٧] ، تحفة الأحباب للسخاوي : ص ١٧٦ [ص ١٥٥ ، ١٥٩]. (المؤلف)

(٥) الكامل في التاريخ : ٧ / ١٥٧ حوادث سنة ٥٥٦ ه‍.

٤٦٢

من العاضد فعاداه أيضاً الحرم من القصر ، فأرسلت عمّة العاضد الأموال إلى الأمراء المصريّين ودعتهم إلى قتله ، وكان أشدَّهم عليه في ذلك إنسانٌ يُقال له ابن الراعي ، فوقفوا له في دهليز القصر ، فلمّا دخل ضربوه بالسكاكين على دهش فجرحوه جراحات مهلكة ، إلاّ أنّه حُمل إلى داره وفيه حياةٌ ، فأرسل إلى العاضد يُعاتبه على الرضا بقتله مع أثره في خلافته ، فأقسم العاضد أنّه لا يعلم بذلك ولم يرضَ به. فقال : إن كنت بريئاً فسلِّم عمّتك إليَّ حتى أنتقم منها ، فأمر بأخذها فأرسل إليها فأخذها قهراً وأُحضرت عنده فقتلها ووصّى بالوزارة لابنه رزّيك ولقّب العادل ، فانتقل الأمر إليه بعد وفاة أبيه. وللصالح أشعارٌ حسنةٌ بليغةٌ تدلُّ على فضل غزير ، فمنها في الافتخار :

أبى اللهُ إلاّ أن يدومَ لنا الدهرُ

ويخدمُنا في ملكنا العزُّ والنصرُ

علمنا بأنّ المالَ تفنى ألوفُه

ويبقى لنا من بعدِه الأجرُ والذكرُ

خلطنا الندى بالبأسِ حتى كأنّنا

سحابٌ لديه البرقُ والرعدُ والقطرُ

قِرانا إذا رحنا إلى الحربِ مرّةً

قِرانا ومن أضيافِنا الذئبُ والنسرُ

كما أنّنا في السلمِ نبذلُ جودَنا

ويرتعُ في إنعامنا العبدُ والحرُّ

وكان الصالح كريماً فيه أدب وله شعر جيّد ، وكان لأهل العلم عنده اتِّفاق ويرسل إليهم العطاء الكثير ، بلغه أنّ الشيخ أبا محمد بن الدهّان النحوي البغدادي المقيم بالموصل قد شرح بيتاً من شعره ، وهو هذا :

تجنّبَ سمعي ما يقولُ العواذلُ

وأصبح لي شغلٌ من الغزوِ شاغلُ

فجهّز إليه هديّة سنيّة ليرسلها إليه فقُتل قبل إرسالها ، وبلغه أيضاً أنّ إنساناً من أعيان الموصل قد أثنى عليه بمكّة فأرسل إليه كتاباً يشكره ومعه هديّة ، وكان الصالح إماميّا لم يكن على مذهب العلويّين المصريّين ، ولمّا ولي العاضد الخلافة وركب

٤٦٣

سمع الصالح ضجّة عظيمة ، فقال : ما الخبر؟ فقيل : إنّهم يفرحون. فقال : كأنّي بهؤلاء الجهلة وهم يقولون : ما مات الأوّل حتى استخلف هذا. وما علموا أنّني كنت من ساعة استعرضهم استعراض الغنم. قال عمارة (١) : دخلت على الصالح قبل قتله بثلاثة أيّام فناولني قرطاساً فيه بيتان من شعر وهما :

نحن في غفلةٍ ونومٍ وللمو

ت عيونٌ يقظانةٌ لا تنامُ

قد رحلنا إلى الحِمام سنِيناً

ليت شعري متى يكون الحِمامُ

فكان آخر عهدي به.

وقال عمارة أيضاً : ومن عجيب الاتِّفاق أنَّني أنشدت ابنه قصيدة أقول فيها :

أبوك الذي تسطو الليالي بحدِّهِ

وأنت يمينٌ إن سطا وشمالُ

لرتبتِهِ العظمى وإن طال عمرُه

إليك مصيرٌ واجبٌ ومنالُ

تخالصُك اللحظُ المصونُ ودونها

حجابٌ شريفُ لا انقضى وحجالُ

فانتقل الأمر إليه بعد ثلاثة أيّام.

٢ ـ وقال ابن خلّكان في تاريخه (٢) (١ / ٢٥٩) : دخل الصالح إلى القاهرة وتولّى الوزارة في أيّام الفائز ، واستقلَّ بالأمور وتدبير أحوال الدولة ، وكان فاضلاً محبّا لأهل الفضائل ، سمحاً في العطاء ، سهلاً في اللقاء ، جيّد الشعر ، ومن شعره :

كم ذا يُرينا الدهرُ من أحداثِهِ

عِبَراً وفينا الصدُّ والإعراضُ

ننسى المماتَ وليس يجري ذكرُهُ

فينا فَتُذكِرُنا به الأمراضُ

ومنه أيضاً :

ومهفهفٍ ثملِ القوامِ سرت إلى

أعطافه النشواتُ من عينيهِ

__________________

(١) أحد شعراء الغدير في القرن السادس ، يأتي شعره وترجمته في هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) وفيات الأعيان : ٢ / ٥٢٦ رقم ٣١١.

٤٦٤

ماضي اللحاظِ كأنّما سلّت يدي

سيفي غداةَ الروعِ من جفنيهِ

قد قلتُ إذ خطَّ العذارُ بمسكِه

في خدِّه ألفيه لا لاميهِ

ما الشعر دبَّ بعارضيه وإنّما

أصداغُه نفضت على خدّيهِ

الناسُ طوعُ يدي وأمري نافذٌ

فيهم وقلبي الآنَ طوعُ يديهِ

فاعجب بسلطانٍ يعمُّ بعدلِهِ

ويجورُ سلطانُ الغرامِ عليهِ

والله لو لا اسمُ الفرارِ وإنّه

مستقبحٌ لفررتُ منه إليهِ

وأنشده لنفسه بمصر :

مشيبُكَ قد نضا صبغَ الشبابِ

وحلَّ البازُ في وكرِ الغرابِ

تنامُ ومقلةُ الحدثان يقظى

وما نابُ النوائبِ عنك نابِ

وكيف بقاءُ عمرِكَ وهو كنزٌ

وقد انفقتَ منه بلا حسابِ

وكان المهذّب عبد الله بن أسعد الموصلي نزيل حمص قد قصده من الموصل ومدحه بقصيدته الكافيّة التي أوّلها :

أما كفاكَ تلاقي في تلاقيكا

ولستَ تنقمُ إلاّ فرطَ حبّيكا

وفيم تغضبُ أن قال الوشاةُ سلا

وأنتَ تعلمُ أنّي لست أسلوكا

لا نلتُ وصْلَكَ إن كان الذي زعموا

ولا شفى ظمئي جودُ ابن رزّيكا

وهي من نخب القصائد.

٣ ـ قال المقريزي في الخطط (١) (٤ / ٨١ ـ ٨٣) : زار الملك الصالح مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه في جماعة من الفقراء ، وإمام مشهد عليٍّ رضى الله عنه يومئذٍ السيّد ابن معصوم (٢) ، فزار طلائع وأصحابه وباتوا هنالك ، فرأى السيّد في منامه

__________________

(١) الخطط والآثار : ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٢) قال السيّد ابن شدقم في تحفة الأزهار : كان أبو الحسن بن معصوم بن أبي الطيّب أحمد

٤٦٥

الإمام ـ صلوات الله عليه ـ يقول له : قد ورد عليك الليلة أربعون فقيراً من جملتهم رجلٌ يقال له : طلائع بن رزّيك من أكبر محبّينا ، فقل له : اذهب فإنّا قد ولّيناك مصر. فلمّا أصبح أمر من ينادي : مَن فيكم اسمه طلائع بن رزّيك؟ فليقم إلى السيّد ابن معصوم.

فجاء طلائع إلى السيّد وسلّم عليه فقصَّ عليه رؤياه ، فرحل إلى مصر وأخذ أمره في الرقيّ ، فلمّا قتل نصر بن عبّاس الخليفة الظافر إسماعيل استثارت نساء القصر لأخذ ثاراته بكتاب في طيّه شعورهنّ ، فحشد طلائع الناس يريد النكبة بالوزير القاتل ، فلمّا قرب من القاهرة فرَّ الرجل ودخل طلائع المدينة بطمأنينة وسلام ، فخلعت عليه خلائع الوزارة ، ولُقّب بالملك الصالح ، فارس المسلمين ، نصير الدين ، فنشر الأمن وأحسن السيرة. ثمّ ذكر حديث قتله (١) ، وقال : كان شجاعاً كريماً جواداً فاضلاً محبّا لأهل الأدب جيّد الشعر رجل وقته فضلاً وعقلاً وسياسةً وتدبيراً ، وكان مهاباً في شكله ، عظيماً في سطوته ، وجمع أموالاً عظيمة ، وكان محافظاً على الصلوات فرائضها ونوافلها ، شديد المغالاة في التشيّع ، صنّف كتاباً سمّاه الاعتماد في الردّ على أهل العناد ، جمع له الفقهاء وناظرهم عليه وهو يتضمّن إمامة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وله شعر كثير يشتمل على مجلّدين في كلّ فنّ ، فمنه في اعتقاده :

يا أمّةً سلكت ضلالاً بيّناً

حتى استوى إقرارها وجحودُها

قلتم ألا إنّ المعاصي لم تكن

إلاّ بتقدير الإله وجودُها

لو صحَّ ذا كان الإلهُ بزعمِكمْ

منَع الشريعةَ أن تُقامَ حدودُها

حاشا وكلاّ أن يكون إلهنا

ينهى عن الفحشاء ثمّ يريدُها

__________________

سيّداً شريفاً جليلاً عظيم الشأن رفيع المنزلة ، كان في المشهد الغروي كبيراً عظيماً ذا جاه وحشمة ورفعة وعزّ واحترام ، عليه سكينة ووقار. انتهى. وهو جدّ الأسرة الكريمة النجفية المعروفة اليوم ببيت خرسان. (المؤلف)

(١) راجع كتابنا شهداء الفضيلة : ص ٥٨. (المؤلف)

٤٦٦

وله قصيدة سمّاها الجوهريّة في الردّ على القدريّة.

ثمّ قال : ويُروى أنّه لمّا كانت الليلة التي قُتل في صبيحتها قال : هذه الليلة ضرب في مثلها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمر بقراءة مقتله ، واغتسل وصلّى مائة وعشرين ركعة أحيا بها ليله ، وخرج ليركب فعثر وسقطت عمامته ، واضطرب لذلك وجلس في دهليز دار الوزارة ، فأحضر ابن الصيف ، وكان يلفُّ عمائم الخلفاء والوزراء وله على ذلك الجاري الثقيل ، ليصلح عمامته ، وعند ذلك قال له رجلٌ : إنّ هذا الذي جرى يُتطيّر منه ، فإن رأى مولانا أن يُؤخِّر الركوب فعل.

فقال : الطيرة من الشيطان وليس إلى التأخير سبيل. ثمّ ركب فكان من أمره ما كان.

وقال (١) في (٢ / ٢٨٤) : قال ابن عبد الظاهر : مشهد الإمام الحسين ـ صلوات الله عليه ـ قد ذكرنا أنّ طلائع بن رزّيك ـ المنعوت بالصالح ـ كان قد قصد نقل الرأس الشريف من عسق لان (٢) لما خاف عليها من الفرنج ، وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به ويفوز بهذا الفخار ، فغلبه أهل القصر على ذلك وقالوا : لا يكون ذلك إلاّ عندنا فعمدوا إلى هذا المكان وبنوه له ونقلوا الرخام إليه ، وذلك في خلافة الفائز على يد طلائع في سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

وسمعت من يحكي حكاية يُستدَلُّ بها على بعض شرف هذا الرأس الكريم المبارك ، وهي أنّ السلطان الملك الناصر رحمه‌الله لمّا أخذ هذا القصر ، وشي إليه بخادم له قدَر في الدولة المصريّة وكان بيده زمام القصر وقيل له : إنّه يعرف الأموال التي بالقصر والدفائن ، فأُخذ وسُئل فلم يجب بشيء وتجاهل ، فأمر صلاح الدين نوّابه

__________________

(١) الخطط والآثار : ١ / ٤٢٧.

(٢) مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر يقال لها : عروس الشام [معجم البلدان ٤ / ١٢٢]. (المؤلف)

٤٦٧

بتعذيبه ، فأخذه متولّي العقوبة وجعل على رأسه خنافس وشدَّ عليها قرمزية ، وقيل : إنّ هذه أشدُّ العقوبات ، وإنّ الإنسان لا يطيق الصبر عليها ساعة إلاّ تنقب دماغه وتقتله ، ففعل ذلك به مراراً وهو لا يتأوّه وتوجد الخنافس ميّتة ، فعجب من ذلك وأحضره وقال له : هذا سرٌّ فيك ولا بدّ أن تعرِّفني به. فقال : والله ما سبب هذا إلاّ أنّي لمّا وصلت رأس الإمام الحسين حملتها. قال : وأيّ سرٍّ أعظم من هذا. وراجع في شأنه فعفا عنه. انتهى.

٤ ـ وقال الشعراني في مختصر تذكرة القرطبي (١) (ص ١٢١) : قد ثبت أنّ طلائع بن رزّيك الذي بنى المشهد بالقاهرة ، نقل الرأس إلى هذا المشهد بعد أن بذل في نقلها نحو أربعين ألف دينار ، وخرج هو وعسكره فتلقّاها من خارج مصر حافياً مكشوف الرأس هو وعسكره ، وهو في برنس حرير أخضر في القبر الذي هو في المشهد ، موضوعة على كرسيٍّ من خشب الآبنوس ، ومفروش هناك نحو نصف أردب من الطيب كما أخبرني بذلك خادم المشهد ، إلى أن قال في (ص ١٢٢) : فزر يا أخي هذا المشهد بالنيّة الصالحة إن لم يكن عندك كشف ، فقول الإمام القرطبي : إنّ دفن الرأس في مصر باطل. صحيحٌ في أيّام القرطبي فإنّ الرأس إنّما نقلها طلائع بن رزّيك بعد موت القرطبي.

قال الأميني : هذا التصحيح لقول القرطبي يكشف عن جهل الشعراني بترجمة القرطبي وطلائع ، وقد خفي عليه أنّ القرطبي توفّي سنة (٦٧١) بعد وفاة طلائع الملك الصالح بمائة وخمس عشرة سنة ، فإنّه توفّي سنة (٥٥٦) ونطفة القرطبي لم تنعقد بعدُ.

ثمّ مشهد رأس الحسين الذي بناه طلائع احترق سنة (٧٤٠) فأُعيد بناؤه مراراً ، وأخيراً أُقيم في جواره جامع ، حتى إذا كانت أيّام الأمير عبد الرحمن كخيا ـ أحد أُمراء المماليك ـ فأُعيد بناء المشهد الحسيني في أواخر القرن الماضي للميلاد ، وبعد

__________________

(١) مختصر تذكرة القرطبي : ص ١٩١.

٤٦٨

ذلك أُعيد بناؤه برمّته في أيّام الخديوي السابق ، ولم يبق من البناء القديم إلاّ القبّة المغطّية لمقام الإمام ، فأصبح على ما نشاهده الآن ، وهو الجامع المعروف بجامع سيّدنا الحسين (١).

ولادته ووفاته ، مدائحه ومراثيه :

ولد الملك الصالح سنة خمس وتسعين وأربعمائة ، ومدحه الفقيه عمارة اليمني الآتي ذكره بقصائد توجد في كتابه النكت العصريّة (٢) منها :

دعوا كلّ برق شمتمُ غير بارق

يلوحُ على الفسطاط صادقُ بشرهِ

وزوروا المقامَ الصالحيَّ فكلُّ من

على الأرضِ يُنسى ذكرُه عند ذكرهِ

ولا تجعلوا مقصودَكم طلبَ الغنى

فتجنوا على مجدِ المقامِ وفخرهِ

ولكن سلوا منه العُلى تظفروا بها

فكلُّ امرئٍ يُرجى على قدرِ قدرهِ

ومدحه في شعبان سنة (٥٠٥) بقصيدة منها :

قصدتك من أرضِ الحطيمِ قصائدي

حادي شراها سنّةٌ وكتابُ

إن تسألا عمّا لقيت فإنّني

لا مخفقٌ أملي ولا كذّابُ

لم أنتجعْ ثَمَدَ النطافِ ولم أقفْ

بمذانبٍ وقفتْ بها الأذنابُ

وقال يمدحه :

أعندك أنّ وجدي واكتئابي

تراجعَ مذ رجعتُ إلى اجتنابي

وأنّ الهجرَ أحدثَ لي سلوّا

يسكّن بردُهُ حرَّ التهابي

وأنّ الأربعينَ إذا تولّت

بريعانِ الصبا قَبُحَ التصابي

__________________

(١) تاريخ مصر الحديث : ١ / ٢٩٨ [مؤلّفات جرجي زيدان الكاملة : مج ٩ / ٣١٠]. (المؤلف)

(٢) النكت العصرية : ص ٣٥.

٤٦٩

ولو لم ينهني شيبٌ نهاني

صباحُ الشيبِ في ليلِ الشبابِ

وأيّامٌ لها في كلِّ وقتٍ

جناياتٌ تجلّ عن العتابِ

أُقضّيها وتُحَسبُ من حياتي

وقد انفقتهنَّ بلا حسابِ

وقد حالت بنو رزّيك بيني

وبين الدهرِ بالِمنن الرغابِ

ومنها :

ولولا الصالحُ انتاش القوافي

لكان الفضلُ مجتنبَ الجنابِ

وكنتُ وقد تخيّرَهُ رجائي

كمن هجرَ السرابَ إلى الشرابِ

ولم يخفقْ بحمدِ اللهِ سعيي

إلى مصرٍ ولا خاب انتخابي

ولكن زرت أبلجَ يقتضيه

نداهُ عمارة الأملِ الخرابِ

ومنها :

أقمتَ الناصر (١) المحيي فأحيى

رسوماً كنَّ كالرسم اليبابِ

وبثَّ العدلَ في الدنيا فأضحى

قطيعُ الشاءِ يأنسُ بالذئابِ

وأنت شهابُ حقٍّ وهو منه

بمنزلة الضياء من الشهابِ

سعى مسعاك في كرمٍ وبأسٍ

وشبَّ على خلائقك العذابِ

فأصبحَ معلمَ الطرفينِ لمّا

حوى شرفَ انتسابٍ واكتسابِ

وصنتَ المُلْكَ من عزماتِ بدرٍ

بميمونِ النقيبةِ والركابِ

بأورع لم يزلْ في كلّ ثغرٍ

زعيمَ القبِّ مضروبَ القبابِ

مخوفَ البأسِ في حربٍ وسلمٍ

وحدُّ السيف يُخشى في القرابِ

وقال يمدحه بقصيدة أوّلها :

إذا قدرتَ على العلياء بالغلبِ

فلا تعرّج على سعيٍ ولا طلبِ

واخطبْ بألسنةِ الأغمادِ ما عجزتْ

عن نيلِهِ ألسنُ الأشعارِ والخطبِ

__________________

(١) هو الملك الناصر العادل بن الصالح بن رزّيك. (المؤلف)

٤٧٠

ويقول فيها :

ألقى الكفيلُ أبو الغاراتِ كلكلَهُ

على الزمان وضاعتْ حيلةُ النوَبِ

وداخلت أنفسَ الأيامِ هيبتُهُ

حتى استرابت نفوسُ الشكِّ والريبِ

بثَّ الندى والردى زجراً وتكرمةً

فكلُّ قلبٍ رهينُ الرعبِ في الرعبِ

فما لحاملِ سيفٍ أو مثقّفةٍ

سوى التحمّلِ بين الناسِ من إربِ

لمّا تمرّد بهرامٌ وأسرته

جهلاً وراموا قراعَ النبعِ بالغَربِ

صدعت بالناصر المحيي زجاجتهم

وللزجاجة صدعٌ غيرُ منشعبِ

أسرى إليهم ولو أسرى إلى الفلك ال

أعلى لخافت قلوب الأنجم الشهبِ

في ليلةٍ قدحتْ زرقُ النصالِ بها

ناراً تشبُّ بأطرافِ القنا الأشبِ

ظنّوا الشجاعةَ تُنجيهم فقارعَهم

أبو شجاعٍ قريعُ المجدِ والحسبِ

سقُوا بأسكر سكراً لا انقضاءَ له

من قهوةِ الموتِ لا من قهوةِ العنبِ

ومنها :

للهِ عزمةُ محيي الدين كم تركتْ

بتربة الحيِّ من خدِّ امرئٍ تربِ

سما إليهم سموَّ البدرِ تصحبُهُ

كواكبُ من سحابِ النقعِ في حجبِ

في فتيةٍ من بني رزّيك تحسبهُمْ

عن جانبيه رحىً دارتْ على قطبِ

وقال يمدحه بقصيدة منها :

هل القلبُ إلاّ بَضعةٌ يتقلّبُ

له خاطرٌ يرضى مراراً ويغضبُ

أم النفسُ إلاّ وهدةٌ مطمئنّةٌ

تفيضُ شعابُ الهمِّ منها وتنضبُ

فلا تُلزِمنَّ الناسَ غيرَ طباعِهمْ

فتتعبَ من طول التعابِ ويتعبوا

فإنّك إن كشّفتَهمْ ربما انجلى

رمادُهمُ من جمرةٍ تتلهّبُ

فتاركْهمُ ما تاركوك فإنّهم

إلى الشرِّ مذ كانوا من الخيرِ أقربُ

٤٧١

ولا تغترر منهمْ بحسنِ بشاشةٍ

فأكثرُ إيماضِ البوارقِ خُلّبُ

وأصغِ إلى ما قلتُهُ تنتفعْ به

ولا تطّرحْ نصحي فإنّي مجرِّبُ

فما تنكُر الأيّامُ معرفتي بها

ولا إنّني أدرى بهنّ وأدربُ

وإنّي لأقوامٍ جذيلٌ محكّكٌ

وإنّي لأقوامٍ عُذيقٌ مرجّبُ

عليمٌ بما ترضى المروءةُ والتقى

خبيرٌ بما آتي وما أتجنّبُ

حلبتُ أفاويقَ الزمانِ براحةٍ

تدرُّ بها أخلافُه حين تحلبُ

وصاحبت هذا الدهَر حتى لقد غدتْ

عجائبُه من خبرتي تتعجّبُ

ودوّختُ أقطارَ البلادِ كأنّني

إلى الريح أُعزى أو إلى الخضر أُنسبُ

وعاشرتُ أقواماً يزيدون كثرةً

على الألف أو عدّ الحصى حين يحسبُ

فما راقني في روضهم قطُّ مرتعٌ

ولا شاقني في وِردِهم قطُّ مشربُ

تراني وإيّاهمْ فريقين كلّنا

بما عنده من عزّة النفسِ معجبُ

فعندهمُ دنيا وعندي فضيلةٌ

ولا شكَّ أنّ الفضل أعلى وأغلبُ

على أنّ ما عندي يدومُ بقاؤه

عليَّ ويفنى المالُ عنهمْ ويذهبُ

أُناسٌ مضى صدرٌ من العمرِ عندَهمْ

أُصعّدُ ظنّي فيهمُ وأُصوِّبُ

رجوتُ بهم نيلَ الغنى فوجدتُهُ

كما قيلَ في الأمثالِ عنقاء مغربُ

وكسّل عزمَ المدحِ بعد نشاطِهِ

ندى ذمِّه عندي من المدحِ أوجبُ

كأنّ القوافي حين تُدعى لشكرِهمْ

على الجمرِ تمشي أو على الشوكِ تُسحبُ

أفوه بحقٍّ كلّما رمتُ ذمَّهمْ

وما غيرُ قولِ الحقِّ لي قطُّ مذهبُ

وأصدق إلاّ أن اريد مديحَهُمْ

فإنّي على حكمِ الضرورةِ أكذبُ

ولو علموا صدقَ المدائحِ فيهمُ

لكانتْ مساعيهمْ تهشُّ وتطربُ

ولكن دروا أنّ الذي جاء مادحاً

بغيرِ الذي فيهم يسبّ ويثلبُ

وما زال هذا الأمرُ دأبي ودأبَهم

أغالب لومي فيهمُ وهو أغلبُ

إلى أن أذلّتني الليالي وأعتبتْ

وما خلتُها بعد الإساءةِ تعتبُ

فهاجرتُ نحو الصالحِ الملكِ هجرةً

غدتْ سبباً للأمن وهو المسبّبُ

٤٧٢

وقال يمدحه من قصيدة :

هي البدرُ من سنّة البدرِ أملحُ

وغرّتُها من غرّةِ الصبحِ أصبحُ

منعّمةٌ تسبي العقولَ بصورةٍ

إلى مثلها لبُّ الجوانحِ يجنحُ

كأنّ الظباءَ العفرَ يحكين جيدَها

ومقلتَها في حين ترنو وتسنحُ

كأنّ اهترازَ الغصن من فوق ردفِها

هضيمٌ بأعلى رملةٍ يترنّحُ

تعلّمتُ من حبّي لها عزّةَ الهوى

وقد كنتُ فيه قبلَها أتسمّحُ

وهيّج نارَ الوجدِ والشوقِ قولُها

أحتى إلى الجوزاءِ طرفُكَ يطمحُ

فلا جفنَ إلاّ ماؤه ثَمَّ يسفحُ

ولا نارَ إلاّ زندُها ثَمَّ يقدحُ

وما علمتْ أنّي إذا شفّني الهوى

إليها بدعوى الصبر لا أتبجّحُ

وإنّ اعترافي بالتأخّر حيث لا

يقدِّمني فضلٌ أجلُّ وأرجحُ

ألم ترَ فضل الصالح الملكِ لم يدعْ

على الأرضِ من يثني عليه ويمدحُ

كأنّ مساعي جملةِ الخلقِ جملةً

غدت بمساعيه الحميدةِ تشرحُ

تجمّعَ فيهِ ما تفرّقَ في الورى

على أنّه أسنى وأسمى وأسمحُ

يُرجّى الندى منه فيغني ويسمح

ويخشى الردى منه فيعفو ويصفحُ

له كلَّ يومٍ منّةٌ مستجدّةٌ

يضوع جميلُ الذكرِ منها وينفحُ

وقال يمدحه من قصيدة :

من كان لا يعشق الأجيادَ والحدقا

ثمّ ادّعى لذّة الدنيا فما صدقا

في العشق معنىً لطيفٌ ليس يعرفه

من البريّةِ إلاّ كلُّ من عشقا

لا خفّف اللهُ عن قلبي صبابتَهُ

للغانياتِ ولا عن طرفيَ الأرقا

ويقول فيها :

لو كنتُ أملكُ روحي وارتضيتُ بها

بذلتُها لكِ لا زوراً ولا ملقا

٤٧٣

وإنّما الصالح الهادي تملّكَها

بفيضِ جودٍ رعى آماله وسقى

واقتادها الحظُّ حتى جاورتْ ملكاً

تمسي ملوكُ الليالي عندهُ سُوَقا

وقال يمدحه وولده وأخاه فارس المسلمين :

أَبيضٌ مجرّدةٌ أم عيونْ

تسلّ وأجفانهنّ الجفونْ

عجبت لها قضباً باتره

تصول بها المُقَلُ الفاتره

فتغدو لأرواحنا واتره

ظباءٌ فتكن بأسد العرينْ

وغائرةٌ خرجت من كمينْ

إذا ما هززن رماحَ القدودْ

حمين النفوس لذيذ الورود

حياض اللمى ورياض الخدود

فلا تطمعنّك تلك الغصونْ

فإنّ كثيب نقاها مصونْ

وفيهنّ فتّانةٌ لم تزلْ

أوامر مقلتها تُمتثلْ

ومن أجل سلطانها في المقلْ

تقول لها أعين الناظرينْ

إذا ما رنت ما الذي تأمرينْ

منعّمةٌ ردفها مخصبُ

وما اهتزَّ من خصرها مجدبُ

مقسّمة كلّها يعجبُ

فجسمٌ جرى فيه ماءٌ معينْ

وقلبٌ غدا صخرةً لا تلينْ

أما وعلى الصالح الأوحدِ

ردى المعتدي وندى المجتدي

وجعد العقوبة سَبط اليدِ

٤٧٤

ومن نصر العترةَ الطاهرينْ

ونعم النصيرُ لهم والمعينْ

لقد شرفتْ مصرُ والقاهرة

بأيّام دولتِهِ القاهرة

وأصبح للدولةِ الطاهرة

بعزم ابن رزّيك فتحٌ مبينْ

وعزمُ ابنه ناصرِ الناصرينْ

إذا ما بدا المَلِك الناصرُ

بدت شيمٌ مالها حاصرُ

يطول بها الأمل القاصرُ

كريم السجيّةِ طلقُ الجبينْ

برى اللهُ كلتا يديه يمينْ

فتىً شأو همّته لا ينالْ

فما ذا عسى في علاهُ يُقالْ

وقد حاز أنهى صفاتِ الكمالْ

وخوّله اللهُ دنياً ودينْ

وأصخى له كلُّ خلقٍ يدينْ

فلا زال ظلُّ أبيه مديدْ

مدى الدهر في دولةٍ لا تميدْ

وبلّغ في نفسه ما يريدْ

وإخوته السادة الأكرمينْ

وفي عمِّهم فارسُ المسلمينْ

وقال يمدح الصالح ويرثي أهل البيت عليهم‌السلام :

شأنُ الغرامِ أجلُّ أن يلحاني

فيه وإن كنت الشفيقَ الحاني

أنا ذلك الصبُّ الذي قطعتْ به

صلةُ الغرامِ مطامعُ السلوانِ

ملئت زجاجةُ صدرِهِ بضميرِهِ

فبدت خفيّةُ شأنِهِ للشاني

غدرت بموثِقها الدموعٌ فغادرتَ

سرّي أسيراً في يدِ الإعلانِ

عنّفتُ أجفاني فقامَ بعذرِها

وجدٌ يبيحُ ودائعَ الأجفانِ

٤٧٥

ومنها :

يا صاحبيَّ وفي مجانبةِ الهوى

رأيُ الرشادِ فما الذي تريانِ

بي ما يذود عن التسبّبِ أوّله

ويزيلُ أيسرُهُ جنونَ جناني

قبضت على كفِّ الصبابةِ سلوةً

تنهى النهى عن طاعةِ العصيان

أُمسي وقلبي بين صبرٍ خاذلٍ

وتجلّدٍ قاصٍ وهمٍّ دانِ

قد سهّلت حزنَ الكلامِ لِنادِبٍ

آلَ الرسولِ نواعبَ الأحزانِ

فابذل مشايعةَ اللسانِ ونصرَهُ

إن فاتَ نصرُ مهنّدٍ وسنانِ

واجعل حديثَ بني الوصيّ وظلمهم

تشبيبَ شكوى الدهرِ والخذلانِ

غصبتْ أميّةُ إرثَ آلِ محمدٍ

سفهاً وشنّت غارةَ الشنآنِ

وغدت تخالفُ في الخلافِة أهلَها

وتُقابلُ البرهانَ بالبهتانِ

لم تقتنع أحلامُها بركوبِها

ظهرَ النفاقِ وغاربَ العدوانِ

وقعودُهمْ في رتبةٍ نبويّةٍ

لم يبنِها لهمُ أبو سفيانِ

حتى أضافوا بعد ذلك أنّهم

أخذوا بثارِ الكفرِ في الإيمانِ

فأتى زيادٌ في القبيحِ زيادةً

تركتْ يزيدَ يزيدُ في النقصانِ

حربٌ بنو حربٍ أقاموا سوقَها

وتشبّهتْ بهمُ بنو مروانِ

لهفي على النفرِ الذين أكفُّهمْ

غيثُ الورى ومعونةُ اللهفانِ

أشلاؤهمْ مِزقٌ بكلِّ ثنيّةٍ

وجسومُهْم صرعى بكلّ مكانِ

مالت عليهم بالتمالئِ أمّةٌ

باعتْ جزيلَ الربحِ بالخسرانِ

دُفِعوا عن الحقِّ الذي شهدت لهمْ

بالنصِّ فيه شواهدُ القرآنِ

ما كان أولاهمْ به لو أُيِّدوا

بالصالحِ المختارِ من غسّانِ

نساهمُا لمختارَ صدقُ ولائه

كم أوّلٌ أربى عليه الثاني

وقضى شاعرنا الملك الصالح شهيداً يوم الإثنين تاسع عشر من شهر رمضان سنة ستّ وخمسين وخمسمائة ، ورثاه الفقيه عمارة اليمني بقصيدة أولها :

٤٧٦

أفي أهل ذا النادي عليمٌ أسائله

فإنّي لِما بي ذاهبُ اللبِّ ذاهلُه

سمعت حديثاً أحسد الصمّ عنده

ويُذهل واعيه ويخرس قاتلُه (١)

فهل من جوابٍ يستغيث به المنى

ويعلو على حقِّ المصيبةِ باطلُه

وقد رابني من شاهد الحال أنّني

أرى الدست منصوباً وما فيه كافلُه

فهل غابَ عنهُ واستناب سليلَهُ

أم اختار هجراً لا يُرجّى تواصلُه

فإنّي أرى فوقَ الوجوهِ كآبةً

تدلُّ على أنّ الوجوهَ (٢) ثواكلُه

ويقول فيها :

دعوني فما هذا أوانُ بكائِهِ

سيأتيكمُ طلُّ البكاء ووابلُه

ولا تنكروا حزني عليه فإنّني

تقشّعَ عنّي وابلٌ كنت آملُه

ولِم لا نبكّيه (٣) ونندبُ فقدَه

وأولادُنا أيتامه وأراملُه

فيا ليتَ شعري بعد حسنِ فعالِه

وقد غاب عنّا ما بنا اللهُ فاعلُه

أيكرمُ مثوى ضيفِكم وغريبكمْ

فيمكثُ أم تطوى ببينٍ مراحلُه

ومنها :

فيا أيّها الدستُ الذي غابَ صدرُه

فماجتْ بلاياه وهاجتْ بلابلُه

عهدتُ بكَ الطوَد الذي كان مَفزعاً

إذا نزلتْ بالملك يوماً نوازلُه

فمن زلزلَ الطوَد الذي ساخَ في الثرى

وفي كلِّ أرضٍ خوفُه وزلازلُه

ومن سدَّ باب الملك والأمرُ خارجٌ

إلى سائرِ الأقطارِ منه وداخلُه

ومن عوّقَ الغازي المجاهدَ بعد ما

أُعِدّت لغزو المشركين جحافلُه

__________________

(١) كذا في الديوان ، وفي نهاية الأرب : ٢٨ / ٣٢٧ ، وأعيان الشيعة : ٧ / ٤٠١ : قائلُه ، ولعله الصحيح بحسب المعنى.

(٢) في نهاية الأرب : ٢٨ / ٣٢٧ : النُّفوس بدل الوجوه.

(٣) تقول : بكيت الرجل وبكّيته إذا بكيت عليه.

٤٧٧

ومن أكرهَ الرمحَ الردينيَّ فالتوى

وأرهقه حتى تحطّم عاملُه

ومن كسرَ العضبَ المهنّدَ فاغتدى

وأجفانهُ مطروحةٌ وحمائلُه

ومن سلبَ الإسلامَ حليةَ جيدِهِ

إلى أن تشكّى وحشةَ الطرقِ عاطلُه

ومن أسكتَ الفضلَ الذي كان فضلُه

خطيباً إذا التفّت عليه محافلُه

وما هذه الضوضاءُ من بعد هيبةٍ

إذا خامرتْ جسماً تخلّتْ مفاصلُه

كأنّ أبا الغارات لم ينشِ غارةً

يريك سوادَ الليل فيها قساطلُه

ولا لمعتْ بين العجاجِ نصولُه

ولا طرّزتْ ثوبَ الفِجاج مناصلُه

ولا سار في عالي ركابَيْهِ موكبٌ

ينافسُ فيه فارسَ الخيلِ راجلُه

ولا مرحتْ فوق الدروعِ يراعُه

كما مرحتْ تحت السروجِ صواهلُه

ولا قُسّمتْ ألحاظُه بين مخلصٍ

جميلِ السجايا أو عدوٍّ يُجاملُه

ولا قابلَ المحرابَ والحربَ عاملاً

من البأسِ والإحسانِ ما اللهُ قابلُه

تعجّبتُ من فعلِ الزمانِ بنفسِهِ

ولا شكَّ إلاّ أنّه جُنَّ عاقلُه

بمن تفخرُ الأيّامُ بعد طلائعٍ

ولم يكُ في أبنائِها من يُماثلُه

أَتُنزِل بالهادي الكفيلِ صروفَها

وقد خيّمتْ فوق السماكِ منازلُه

وتسعى المنايا منه في مهجةِ امرئٍ

سعت هِممُ الأقدارِ فيما تحاولُه

ورثاه بقصيدة أخرى منها :

تنكّد بعد الصالحِ الدهرُ فاغتدتْ

مجالسُ أيّامي وهنّ غيوبُ

أيجدبُ خدّي من ربيعِ مدامعي

وربعيَ من نعمى يديهِ خصيبُ

وهل عنده أنّ الدخيلَ من الجوى

مقيمٌ بقلبي ما أقامَ عسيبُ

وإنْ برقتْ سنّي لذكرِ حكايةٍ

فإنّ فؤادي ما حييتُ كئيبُ

ورثاه بقصيدة أوّلها :

طمعُ المرءِ في الحياة غرورُ

وطويلُ الآمالِ فيها قصيرُ

٤٧٨

ولكم قدّر الفتى فأتتْهُ

نُوَبٌ لم يُحِطْ بها التقديرُ

ومنها :

فضَّ ختمَ الحياةِ عنك حِمامٌ

لا يراعي إذناً ولا يستشيرُ

ما تخطّى إلى جلالِك إلاّ

قَدَرٌ أمره علينا قديرُ

بذرتْ عمرَكَ الليالي سفاهاً

فسيعلمنْ ما جنى التبذيرُ

وقال :

ليتَ يومَ الإثنينِ لم يتبسّم

من محيّاه للّيالي ثُغورُ

طلعتْ شمسُهُ بيومٍ عبوسٍ

حيَّر الطيرَ شرُّه المستطيرُ

وتجلّى صباحُهُ عن جبينٍ

إثمدُ الليل فوقَه مذرورُ

صَبَحَ المجدَ في صبيحةِ ذاك ال

ـيومِ غبراءُ صيلمٌ عنقفيرُ (١)

بلغَ الدهرُ عندها ما تمنّى

وعليها كان الزمانُ يدورُ

حادثٌ ظلّت الحوادثُ ممّا

شاهدتْهُ من جورِهِ تستجيرُ

ترجفُ الأرضُ حين يذكر عنه

وتكاد السماءُ منه تمورُ

طبّق الأرضَ من مصابِ أبي الغا

راتِ خطبٌ له النجومُ تغورُ

ومنها :

لك رضوان زائرٌ ولقومٍ

هلكوا فيه منكرٌ ونكيرُ

حفظتْ عهدَكَ الخلافةُ حفظاً

أنت منها به خليقٌ جديرُ

أحسنتْ بعدكَ الصنيعةَ فينا

فاستوتْ منك غيبةٌ وحضورُ

وأبى اللهُ أن يتمَّ عليها

ما نوى حاسدٌ لها أو كفورٌ

__________________

(١) صبح القوم صبحاً : أتاهم صباحاً. صيلم : الأمر الشديد. يقال : وقعة صيلمة أي مستأصلة. عنقفير : أحسبه مصحّف خنشفير ، أي الداهية. (المؤلف)

٤٧٩

ضيّقوا حفرةَ المكيدةِ لكن

ضاقَ بالناكثينَ ذاك الحفيرُ

وتجرّوا على القصورِ بغدرٍ

وسراجُ الوفاء فيها ينيرُ

حَرَمٌ آمنٌ وشهرٌ حرامٌ

هتكتْ منهما عرىً وستورُ

لا صيامٌ نهاهمُ لا إمامٌ

طاهرٌ تُربُ أخمصيهِ طهورُ

أخفروا ذمّةَ الهدى بعد علمٍ

ويقينٍ أنّ الإمامَ خفيرُ

وإذا ما وفتْ خدورُ البوادي

بذمامٍ فما تقول القصورُ

غضِبَ العاضدُ الإمامُ فكادتْ

فَرَقاً منه أن تذوبَ الصخورُ

أدرك الثأرَ من عداهُ بعزمٍ

لم يكنْ في النشاطِ منه فتورُ

واستقامتْ بنصرِهِ وهداهُ

حجّةُ اللهِ واستمرَّ المريرُ

دُفِن الملك الصالح بالقاهرة ، ثمّ نقل ولده العادل سنة سبع وخمسين وخمسمائة في تاسع صفر تابوت أبيه من القاهرة إلى مشهد بُني له في القرافة (١) في وزارته ، وحفر سرداباً يوصل فيه من دار الوزارة إلى دار سعيد السعداء ، وعمل فيه الفقيه عمارة اليمني قصائد منها :

خربتْ ربوعُ المكرماتِ لراحلٍ

عمرتْ به الأجداثُ وهي قفارُ

نعشُ الجدودِ العاثراتِ مشيّعٌ

عميتْ برؤيةِ نعشهِ الأبصارُ

نعشٌ تودُّ بناتُ نعشٍ لو غدت

ونظامُها أسفاً عليه نثارُ

شخصَ الأنامُ إليه تحتَ جنازةٍ

خفضتْ برفعةِ قدرِها الأقدارُ

ومنها :

وكأنّها تابوتُ موسى أُودِعتْ

في جانبيهِ سكينةٌ ووقارُ

أوطنْتَهُ دارَ الوزارةِ ريثما

بُنيت لنقلتِهِ الكريمةِ دارُ

__________________

(١) جبانة في مصر والكلام فيها طويل ، بسط القول فيها المقريزي في الخطط : ٤ / ٣١٧ [٢ / ٤٤٣]. (المؤلف)

٤٨٠