الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

المنقبتين ، وفي سنة (٣٩٨) (١) بالرضي ذي الحسبين ، وفي سنة (٤٠١) أمر أن تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان الشريف الأجلّ ، وهو أوّل من خوطب بذلك من الحضرة الملوكيّة.

إنّ المناصب والولايات كانت متكثِّرة على عهد سيّدنا الشريف من الوزارة التنفيذيّة والتفويضيّة ، والإمارة على البلاد بقسميها العامّة والخاصّة. والعامّة بضربيها : استكفاء بعقد عن اختيار ، واستيلاء بعقد عن اضطرار. والإمارة على جهاد المشركين بقسميها : المقصورة على سياسة الجيش وتدبير الحرب ، والمفوّض معها إلى الأمير جميع أحكامها من قسم الغنائم وعقد الصلح. والإمارة على قتال أهل الردّة ، وقتال أهل البغي ، وقتال المحاربين ، وولاية القضاء وولاية المظالم ، وولاية النقابة بقسميها : العامّة والخاصّة ، وولاية إمامة الصلوات ، وإمارة الحجّ ، وولاية الدواوين بأقسامها ، وولاية الحسبة ، وغيرها من الولايات.

فمنها ما كان يخصُّ بالكتّاب والأدباء ، وآخر بالثقات ورجال العدل والنصفة ، وثالث بالأماجد والأشراف والمترفين ، ورابع بأُباة الضيم وأصحاب البسالة والفروسيّة ، وخامس بذوي الآراء والفكرة القويّة والدهاة ، وسادس بأعاظم العلويّين وأعيان العترة النبويّة ، وسابع بالفقهاء وأئمّة العلم والدين.

وهناك ما يخصُّ بجامع تلكم الفضائل ، ومجتمع هاتيك المآثر كسيّدنا الشريف ، ذلك المثل الأعلى في الفضائل كلّها ، فعلى الباحث عن مواقفه ومقاماته ونفسيّاته الكريمة ، أن يقرأ ولو بصورة مصغّرة دروس المناصب التي كان يتولاّها الشريف ، فعندئذٍ يجد صورة مكبّرة تجاه عينيه ممثّلة من العلم ، والفقه ، والحكمة ، والثقة ، والسداد ، والأنفة ، والفتوّة ، والهيبة ، والعظمة ، والجلال ، والروعة ، والوفاء ، وعزّة النفس ، والرأي ، والحزم ، والعزم ، والبسالة ، والعفّة ، والسؤدد ، والكرم ، والإباء ،

__________________

(١) في البداية والنهاية : ١١ / ٣٣٥ : سنة ٣٩٦ [١١ / ٣٨٥]. (المؤلف)

٢٨١

والغنى عن أيّ أحد ، قد حلّيت بالأدب والشعر ، ولا يراها إلاّ مثال الشريف الرضي.

تولّى الشريف نقابة الطالبيّين ، وإمارة الحاجّ والنظر في المظالم سنة (٣٨٠) وهو ابن (٢١) عاماً على عهد الطائع ، وصدرت الأوامر بذلك من بهاء الدولة وهو بالبصرة سنة (٣٩٧) ، ثمّ عهد إليه في (١٦) محرّم سنة (٤٠٣) بولاية أمور الطالبيّين في جميع البلاد ، فدُعي ـ نقيب النقباء ـ ويقال : إنّ تلك المرتبة لم يبلغها أحد من أهل البيت إلاّ الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ، الذي كانت له ولاية عهد المأمون ، وأُتيحت للشريف الخلافة على الحرمين على عهد القادر كما في المجلّد الأوّل من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (١) ، وكان هو والولايات كما قيل :

لم تُشيِّدله الولاياتُ مجداً

لا ولا قيلَ رفّعتْ مقداره

بل كساها وقد تحزّمها الده

ـرُ جلالاً وبهجةً ونضاره

وذكر تحليل المناصب التي تولاّها سيّدنا الشريف وشروطها في تآليف علماء السلف وأفردوا فيها كتباً ، ونحن نأخذ مختصر ما في الأحكام السلطانيّة للماوردي ، المتوفّى سنة (٤٥٠).

النقابة :

النقابة موضوعة على صيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النسب ، ولا يساويهم في الشرف ؛ ليكون عليهم أحنى وأمره فيهم أمضى ، وهي على ضربين : خاصّة وعامّة ، وأمّا الخاصّه فهو أن يقتصر بنظره على مجرّد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حدّ ، فلا يكون العلم معتبراً في شروطها ، ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقّا :

١ ـ حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس هو منها ، أو خارج عنها وهو منها ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٣٨.

٢٨٢

فيلزمه حفظ الخارج منها كما يلزمه حفظ الداخل فيها ؛ ليكون النسب محفوظاً على صحّته ، معزوّا إلى جهته.

٢ ـ تمييز بطونهم ومعرفة أنسابهم ؛ حتى لا يخفى عليه منهم بنو أب ، ولا يتداخل نسب في نسب ، ويثبتهم في ديوانه على تمييز أنسابهم.

٣ ـ معرفة من وُلد منهم من ذكر أو أنثى فيثبته ، ومعرفة من مات منهم فيذكره ؛ حتى لا يضيع نسب المولود إن لم يثبته ، ولا يدّعي نسب الميّت غيره إن لم يذكره.

٤ ـ أن يأخذهم من الآداب بما يضاهي شرف أنسابهم وكرم محتدهم ؛ لتكون حشمتهم في النفوس موقورة ، وحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم محفوظة.

٥ ـ أن ينزّههم عن المكاسب الدنيئة ، ويمنعهم من المطالب الخبيثة ؛ حتى لا يستقلَّ منهم مبتذل ، ولا يستضام منهم متذلّل.

٦ ـ أن يكفّهم عن ارتكاب المآثم ، ويمنعهم من انتهاك المحارم ؛ ليكونوا على الدين الذي نصره أغير ، وللمنكر الذي أزالوه أنكَر ؛ حتى لا ينطق بذمِّهم لسان ، ولا يشنأهم إنسان.

٧ ـ أن يمنعهم من التسلّط على العامّة لشرفهم والتشطّط عليهم لنسبهم ، فيدعوهم ذلك إلى المقت والبغض ، ويبعثهم على المناكرة والبعد ، ويندبهم إلى استعطاف القلوب وتألّف النفوس ؛ ليكون الميل إليهم أوفى ، والقلوب لهم أصفى.

٨ ـ أن يكون عوناً لهم في استيفاء الحقوق حتى لا يضعفوا عنها ، وعوناً عليهم في أخذ الحقوق منهم حتى لا يمنعوا منها ؛ ليصيروا بالمعونة لهم منتصفين ، وبالمعونة عليهم منصفين.

٩ ـ أن ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامّة في سهم ذوي القربى في الفيء

٢٨٣

والغنيمة الذي لا يخصُّ به أحدهم ، حتى يقسم بينهم بحسب ما أوجبه الله لهم.

١٠ ـ أن يمنع أياماهم أن يتزوّجن إلاّ من الأكفاء لشرفهنّ على سائر النساء ، صيانة لأنسابهنّ ، وتعظيماً لحرمتهنّ ، أن يزوّجهنّ غير الولاة ، أو ينكحهنّ غير الكفاة.

١١ ـ أن يقوّمَ ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود بما لا يبلغ به حدّا ، ولا ينهر (١) به دماً ، ويقيل ذا الهيئة منهم عثرته ، ويغفر بعد الوعظ زلّته.

١٢ ـ مراعاة وقوفهم بحفظ أصولها وتنمية فروعها ، وإذا لم يرد إليه جبايتها راعى الجباة لها فيما أخذوه ، وراعى قسمتها إذا قسموه ، وميّز المستحقّين لها إذا خصّت ، وراعى أوصافهم فيها إذا شرطت ؛ حتى لا يخرج منهم مستحقّ ، ولا يدخل فيها غير محقّ.

النقابة العامة :

فعمومها أن يُرَدّ إلى النقيب في النقابة عليهم ـ مع ما قدّمناه من حقوق النظر ـ خمسة أشياء :

١ ـ الحكم بينهم فيما تنازعوا فيه.

٢ ـ الولاية على أيتامهم فيما ملكوه.

٣ ـ إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه.

٤ ـ تزويج الأيامى اللاّتي لا يتعيّن أولياؤهن ، أو قد تعيّنوا فعضلوهنّ.

٥ ـ إيقاع الحجر على من عته منهم أو سفه ، وفكّه إذا أفاق ورشد.

فيصير بهذه الخمسة عامّ النقابة ، فيعتبر حينئذٍ في صحّة نقابته وعقد ولايته أن

__________________

(١) أنهَرَ الدم : أساله.

٢٨٤

يكون عالماً من أهل الاجتهاد ، ليصحَّ حكمه ، وينفذ قضاؤه .. إلى آخر ما في الأحكام السلطانيّة (١) (ص ٨٢ ـ ٨٦) وهذه النقابة هي التي كانت ولايتها لسيّدنا المترجَم.

ولاية المظالم :

نظر المظالم : هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة ، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة ، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر ، نافذ الأمر ، عظيم الهيبة ، ظاهر العفّة ، قليل الطمع ، كثير الورع ؛ لأنّه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة ، وثبت القضاة ، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين ، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين ، فإن كان ممّن يملك الأمور العامّة كالوزراء والأمراء ، لم يحتج النظر فيها إلى تقليد وكان له بعموم ولايته النظر فيها ، وإن كان ممّن لم يفوّض إليه عموم النظر احتاج إلى تقليد وتولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدّمة ، وهذا إنّما يصحّ فيمن يجوز أن يُختار لولاية العهد ، أو لوزارة التفويض ، أو لإمارة الأقاليم ، إذا كان نظره في المظالم عامّا ، فإن اقتصر به على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه ، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه ، جاز أن يكون دون هذه الرتبة في القدر والخطر بعد أن لا تأخذه في الحقِّ لومة لائم ، ولا يستشفّه الطمع إلى رشوة .. إلى آخر ما في الأحكام السلطانية (٢) (ص ٦٤ ـ ٨٢).

الولاية على الحج :

الولاية على الحجِّ ضربان :

أحدهما : أن تكون على تسيير الحجيج.

__________________

(١) الأحكام السلطانية : ٢ / ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) الأحكام السلطانية : ٢ / ٧٧ ـ ٩٥.

٢٨٥

والثاني : على إقامة الحجّ.

فأمّا تسيير الحجيج ، فهو ولاية سياسة وزعامة وتدبير.

والشروط المعتبرة في المولّى : أن يكون مطاعاً ، ذا رأي وشجاعة ، وهيبة وهداية ، والذي عليه في حقوق هذه الولاية عشرة أشياء :

١ ـ جمع الناس في مسيرهم ونزولهم ؛ حتى لا يتفرّقوا فيخاف عليهم التَّوى (١) والتغرير.

٢ ـ ترتيبهم في المسير والنزول بإعطاء كلّ طائفة منهم مقاداً ؛ حتى يعرف كلُ فريق منهم مقاده إذا سار ، ويألف مكانه إذا نزل ، فلا يتنازعون فيه ولا يضلّون عنه.

٣ ـ يرفق بهم في السير ، حتى لا يعجز عنه ضعيفهم ، ولا يضلَّ عنه منقطعهم ،

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الضعيف أمير الرفقة».

يريد أنّ من ضعفت دوابّه كان على القوم أن يسيروا بسيره.

٤ ـ أن يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها ، ويتجنّب أجدبها وأوعرها.

٥ ـ أن يرتاد لهم المياه إذا انقطعت والمراعي إذا قلّت.

٦ ـ أن يحرسهم إذا نزلوا ويحوطهم إذا رحلوا ؛ حتى لا يتخطّفهم داعر ، ولا يطمع فيهم متلصِّص.

٧ ـ أن يمنع عنهم من يصدّهم عن المسير ، ويدفع عنهم من يحصرهم عن الحجِ بقتال إن قدر عليه ، أو ببذل مال إن أجاب الحجيج إليه ، ولا يسعه أن يجبر أحداً على بذل الخفارة إن امتنع منها ، حتى يكون باذلاً لها عفواً ومجيباً إليها طوعاً ، فإنّ بذل المال على التمكين من الحجّ لا يجب.

__________________

(١) التَّوى ـ بفتح التاء ـ : الهلاك. من (توي) بوزن (رضي) : أي هلك.

٢٨٦

٨ ـ أن يصلح بين المتشاجرين ويتوسّط بين المتنازعين ، ولا يتعرّض للحكم بينهم إجباراً إلاّ أن يفوّض الحكم إليه ، فيُعتبر فيه أن يكون من أهله فيجوز له حينئذٍ الحكم بينهم ، فإن دخلوا بلداً فيه حاكم جاز له ولحاكم البلد أن يحكم بينهم ، فأيّهما حكم نفذ حكمه.

٩ ـ أن يقوِّم زائغهم ، ويؤدِّب خائنهم ، ولا يتجاوز التعزير إلى الحدّ ، إلاّ أن يُؤذن له ، فيستوفيه إن كان من أهل الاجتهاد فيه.

١٠ ـ أن يراعي اتّساع الوقت حتى يؤمن الفوات ولا يلجئهم ضيقه إلى الحثّ في السير ، فإذا وصل إلى الميقات أمهلهم للإحرام وإقامة سننه.

وأمّا الولاية على إقامة الحجّ ، فالوالي فيه بمنزلة الإمام في إقامة الصلوات ، فمن شروط الولاية عليه مع الشروط المعتبرة في أئمّة الصلوات : أن يكون عالماً بمناسك الحجّ وأحكامه ، عارفاً بمواقيته وأيّامه ، وتكون مدّة ولايته مقدّرة بسب عة أيّام ، أوّلها من صلاة الظهر في اليوم السابع من ذي الحجّة ، وآخرها يوم الثالث عشر من ذي الحجّة ، وعلى الذي يختصُّ بولايته خمسة أحكام متّفق عليها وسادس مختلف فيه ، ألا وهي :

١ ـ إشعار الناس بوقت إحرامهم والخروج إلى مشاعرهم ؛ ليكونوا له متّبعين وبأفعاله مقتدين.

٢ ـ ترتيبهم للمناسك على ما استقرَّ الشرع عليه لأنّه متبوعٌ فيها ، فلا يقدِّم مؤخَّراً ولا يؤخِّر مقدَّماً ، سواء كان الترتيب مستحقّا أو مستحبّا.

٣ ـ تقدير المواقف بمقامه فيها ومسيره عنها ، كما تقدّر صلاة المأمومين بصلاة الإمام.

٤ ـ اتِّباعه في الأركان المشروعة فيها ، والتأمين على أدعيته بها ليتّبعوه في القول كما اتّبعوه في العمل.

٢٨٧

٥ ـ إمامتهم في الصلوات.

وأمّا السادس المختلف فيه : حكمه بين الحجيج فيما لا يتعلّق بالحجّ ، وإقامة التعزير والحدّ في مثله (١). انتهى.

تولّى الشريف الرضي هذه الإمارة منذ صباه في أكثر أيّام حياته ، ووزيراً لأبيه ونائباً عنه ومستقلاّ بها من سنة (٣٨٠) ، وله فيها مواقف عظيمة سجّلها التاريخ وأبقى له ذكرى خالدة.

قال أبو القاسم بن فهد الهاشمي في إتحاف الورى بأخبار أُمّ القرى (٢) في حوادث سنة (٣٨٩) : حجَّ فيها الشريفان المرتضى والرضي فاعتقلهما في الطريق ابن الجرّاح الطائي ، فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما.

ولادته ووفاته :

وُلد الشريف الرضي ببغداد سنة (٣٥٩) بإطباق من المؤرِّخين ، ونشأ بها (٣) وتوفّي بها يوم الأحد (٦) محرّم (٤) سنة (٤٠٦) كما في فهرس النجاشي (٥) ، وتاريخ بغداد للخطيب (٦) ، وعمدة الطالب (٧) ، والخلاصة (٨) ، وغيرها.

__________________

(١) الأحكام السلطانية : ٢ / ١٠٨ ـ ١١٢.

(٢) إتحاف الورى في أخبار أُمّ القرى : ٢ / ٤٢٦.

(٣) قال جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة : ٢ / ٢٥٧ [مؤلّفات جرجي زيدان الكاملة : مج ١٤ / ٩٢] : وكان يقيم في سرَّ من رأى (سامرّاء). وكم له لدة هذا في تاريخه مما يميط الستر عن جهله بتاريخ الشيعة ورجالهم! (المؤلف)

(٤) في تاريخ ابن خلّكان [٤ / ٤١٩ رقم ٦٦٧] : وقيل : في صفر. وفي تاريخ ابن كثير [١٢ / ٥] : خامس المحرّم. (المؤلف)

(٥) رجال النجاشي : ص ٣٩٨ رقم ١٠٦٥.

(٦) تاريخ بغداد : ٢ / ٢٤٧ رقم ٧١٥.

(٧) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : ص ٢١٠.

(٨) رجال العلاّمة الحلّي : ص ١٦٤ رقم ١٧٦.

٢٨٨

فما في شذرات الذهب (١) : أنَّه توفّي بكرة الخميس ، فهو من خطأ النسّاخ ، فإنّه نقله عن تاريخ ابن خلّكان ، وفي التاريخ بكرة يوم الأحد لا الخميس. وأمّا ما في دائرة المعارف لفريد وجدي (٤ / ٢٥٣) من أنّه توفّي (٤٠٤) فأحسبه مأخوذاً من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، أو أنّه خطأ من الناسخ ، وقد أرّخه فريد وجدي صحيحاً في دائرة المعارف (٩ / ٤٨٧) ب (٦) محرم سنة (٤٠٦) ، وقد رثى الشريف الرضي معاصره أبا الحسن أحمد بن عليّ البتّي المتوفّى سنة (٤٠٥) في شعبان بقصيدة توجد في ديوانه (٢) (١ / ١٣٨) ، وقال جامع الديوان : وبعده بشهور توفّي الرضي رضى الله عنه.

وعند وفاته حضر إلى داره الوزير أبو غالب فخر الملك وسائر الوزراء والأعيان والأشراف والقضاة حفاة ومشاة ، وصلّى عليه فخر الملك ودُفن في داره الكائنة في محلّة الكرخ بخطِّ مسجد الأنباريّين (٣) ، ولم يشهد جنازته أخوه الشريف المرتضى ولم يصلِّ عليه ، ومضى من جزعه عليه إلى [مشهد] الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، لأنّه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ، ومضى فخر الملك بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره.

ذكر كثير من المؤلِّفين نقل جثمانه إلى كربلاء المشرّفة بعد دفنه في داره بالكرخ فدُفن عند أبيه أبي أحمد الحسين بن موسى ، ويظهر من التاريخ أنّ قبره كان في القرون الوسطى مشهوراً معروفاً في الحائر المقدّس.

قال صاحب عمدة الطالب (٤) : وقبره في كربلاء ظاهر معروف.

وقال (٥) في ترجمة أخيه المرتضى : دُفن عند أبيه وأخيه ، وقبورهم ظاهرة مشهورة.

__________________

(١) شذرات الذهب : ٥ / ٤٦ حوادث سنة ٤٠٦ ه‍.

(٢) ديوان الشريف الرضي : ١ / ١٧٠.

(٣) يُنسب إليهم لكثرة من سكنه منهم. (المؤلف)

(٤) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : ص ٢١٠.

(٥) عمدة الطالب : ص ٢٠٥.

٢٨٩

وقال الرفاعي المتوفّى (٨٨٥) في صحاح الأخبار (ص ٦٢) : نُقل المرتضى إلى مشهد الحسين بكربلا كأبيه وأخيه ودُفن هناك ، وقبره ظاهر معروف.

وهذا قريبٌ إلى الاعتبار ؛ لأنّ بني إبراهيم المجاب قطنوا الحائر المقدّس وجاوروا الإمام السبط ـ سلام الله عليه ـ فدفن فيه إبراهيم المذكور بمقربة ممّا يلي رأس قبر الإمام عليه‌السلام فاتّخذ بنوه تربته مدفناً لهم ، وكان من قطن منهم بغداد أو البصرة كبني موسى الأبرش يُنقل بعد موته إلى تربة جدِّه ، وقد ثبت أنّ والد الشريف المترجَم نُقل إلى الحائر المقدّس قبل دفنه ودُفن بها ، أو دُفن في داره أوّلاً ثمّ نُقل إلى مشهد الحسين كما في المنتظم لابن الجوزي (١) (٧ / ٢٤٧) ، وصحَّ أيضاً نقل جثمان الشريف علم الهدى المرتضى إلى الحائر بعد دفنه في داره ، وكانت تولية تلك التربة المقدّسة بيدهم ، وما كان يُدفن هناك أيّ أحد إلاّ بإجازةٍ منهم ، كما مرَّ في ترجمة الوزير أبي العبّاس الضبّي في هذا الجزء (ص ١٠٦).

وقد رثى الشريف الرضي غير واحد ممّن عاصروه ، وفي مقدّمهم أخوه علم الهدى بقوله :

يا للرجالِ لفجعةٍ جذمتْ يدي

ووددتُ لو ذهبتْ عليَّ براسي

ما زلت أحذرُ وقعَها حتى أتت

فحسوتُها في بعضِ ما أنا حاسي

ومطلتُها زمناً فلمّا صمّمتْ

لم يُجدِني مَطْلي وطولُ مكاسي

لا تنكروا من فيض دمعي عبرةً

فالدمعُ غيرُ مساعدٍ ومُواسي

لله عمرك من قصيرٍ طاهرِ

ولَرُبَّ عمرٍ طال بالأدناسِ (٢)

وممّن رثاه تلميذه في الأدب مهيار الديلمي ـ المترجَم في شعراء القرن الخامس ـ رثاه بقصيدتين إحداهما ذات (٧٠) بيتاً توجد في ديوانه (٣ / ٣٦٦) ، مستهلّها :

__________________

(١) المنتظم : ١٥ / ٧٢ رقم ٣٠١٧.

(٢) ديوان الشريف المرتضى : ١ / ٥٧٧.

٢٩٠

من جبَّ غاربَ هاشمٍ وسنامَها

ولوى لويّا فاستزلَّ مقامَها

وغزا قريشاً بالبطاحِ فلفّها

بيدٍ وقوّض عزَّها وخيامَها

وأناخ في مُضَرٍ بكلكلِ خسفِهِ

يستامُ واحتملتْ له ما سامها

من حلَّ مكّةَ فاستباح حريمَها

والبيتُ يشهد واستحلَّ حرامَها

ومضى بيثربَ مزعجاً ما شاء من

تلك القبورِ الطاهراتِ عظامَها

يبكي النبيُّ ويستنيحُ لفاطمٍ

بالطفِّ في أبنائِها أيّامَها

الدينُ ممنوعُ الحمى من راعه

والدارُ عاليةُ البِنا ، من رامها

أتناكرتْ أيدي الرجالِ سيوفَها

فاستسلمت أم أنكرتْ إسلامَها

أم غالَ ذا الحسَبينِ حاميَ ذودِها

قدرٌ أراحَ على الغدوّ سوامَها

وقصيدته الأخرى (٤٠) بيتاً توجد في ديوانه (١ / ٢٤٩) مطلعها :

أقريشُ لا لفمٍ أراكِ ولا يدِ

فتواكلي غاض الندى وخلا الندي

ولشهرة القصيدتين ووجودهما في غير واحد من الكتب والمعاجم فضلاً عن ديوان مهيار ، ضربنا عنهما صفحاً.

ومن نماذج شعر الشريف الرضي في المذهب قوله يفتخر بأهل البيت ويذكر قبورهم ويتشوّق إليها :

ألا لله بادرةُ الطلابِ

وعزمٌ لا يُرَوَّعُ بالعتابِ

وكلّ مشمّرِ البُردينِ يهوي

هويَّ المصلَتات إلى الرقابِ

أعاتبُه على بُعد التنائي

ويعذلني على قربِ الإيابِ

رأيت العجزَ يخضع للّيالي

ويرضى عن نوائبِها الغضابِ

ولولا صولةُ الأيّام دوني

هجمتُ على العلى من كلِّ بابِ

ومن شيمِ الفتى العربيِّ فينا

وصالُ البيضِ والخيلِ العرابِ

٢٩١

له كِذْبُ الوعيدِ من الأعادي

ومن عاداتِهِ صدقُ الضرابِ

سأدّرع الصوارمَ والعوالي

وما عُرِّيتُ من خِلَعِ الشبابِ

وأشتملُ الدجى والركبُ يمضي

مضاءَ السيف شذَّ عن القرابِ

وكم ليلٍ عبأتُ له المطايا

ونارُ الحيِّ حائرةُ الشهابِ

لقيتُ الأرضَ شاحبةَ المحيّا

تَلاعبُ بالضراغمِ والذئابِ

فَزِعتُ إلى الشحوبِ وكنتُ طَلْقاً

كما فَزِعَ المشيبُ إلى الخضابِ

ولم نرَ مثلَ مُبيضِّ النواحي

تعذّبُهُ بِمُسودِّ الإهابِ

أبيتُ مضاجعاً أملي وإنّي

أرى الآمالَ أشقى للركابِ

إذا ما اليأس خيّبنا رجونا

فشجَّعَنا الرجاءُ على الطلابِ

أقول إذا استطار من السواري

زَفونُ القطرِ رقّاصُ الحَبابِ (١)

كأنّ الجوَّ غصَّ به فأوما

ليقذفَهُ على قممِ الشعابِ

جديرٌ أن تصافحه الفيافي

ويسحبَ فوقها عَذَبَ الربابِ (٢)

إذا هتم التلاع رأيتَ منه

رضاباً في ثنيّاتِ الهضابِ (٣)

سقى اللهُ المدينةَ من محلٍ

لُبابَ الماءِ والنطَفِ العذابِ

وجادَ على البقيعِ وساكنيه

رخيُّ الذيلِ ملآنُ الوطابِ

وأعلامَ الغريّ وما استباحتْ

معالمُها من الحسب اللبابِ

وقبراً بالطفوف يضمُّ شلواً

قضى ظمأً إلى بَرد الشرابِ

وبغدادٍ وسامرّا وطوسٍ

هطولُ الودْقِ منخرقُ العبابِ

__________________

(١) زفون القطر : دفاع المطر. الحَباب : فقاقيع الماء. (المؤلف)

(٢) الرباب : السحاب الأبيض. (المؤلف) [العَذَب : جمع عَذَبة ، وهي طرف الشيء].

(٣) التلاع ـ جمع التلعة ـ : ما علا الأرض ، ما سفل منها. الهضاب : أعالي الجبال. (المؤلف) [وفي لسان العرب : الهضبة : الجبل المنبسط].

٢٩٢

قبورٌ تنطُفُ العبراتُ فيها

كما نطفَ الصبيرُ على الروابي (١)

فلو بَخِلَ السحابُ على ثراها

لذابتْ فوقَها قِطَعُ السرابِ

سقاكَ فكم ظمئتُ إليك شوقاً

على عُدواء داري واقترابي

تجافي يا جَنُوبَ الريح عنِّي

وصوني فضلَ بُردكِ عن جنابي

ولا تسري إليَّ مع الليالي

وما استحقبت من ذاكَ الترابِ (٢)

قليلٌ أن تُقادَ له الغوادي

وتُنحَرَ فيه أعناقُ السحابِ (٣)

أما شَرِقَ الترابُ بساكنيه

فيلفظهمْ إلى النعم الرغابِ

فكم غدتِ الضغائنُ وهي سكرى

تديرُ عليهمُ كأسَ المصابِ

صلاةُ اللهِ تخفقُ كلَّ يوم

على تلكَ المعالمِ والقبابِ

وإنّي لا أزالُ أكرُّ عزمي

وإن قلّتْ مساعدةُ الصحابِ

وأخترقُ الرياحَ إلى نسيمٍ

تَطلّعَ من تراب أبي ترابِ

بودّي أن تطاوعَني الليالي

وينشَبَ في المنى ظفري ونابي

فأرمي العيسَ نحوكمُ سهاماً

تغلغلُ بين أحشاءِ الروابي

ترامى باللُّغامِ على طلاها

كما انحدر الغثاء عن العقابِ (٤)

وأجنُبُ بينها خُرْقَ المذاكي

فأملي باللُّغامِ على اللغابِ (٥)

لعلّي أن أبلَّ بكم غليلاً

تغلغلَ بين قلبي والحجابِ

فما لُقياكُمُ إلاّ دليلٌ

على كنزِ الغنيمةِ والثوابِ

ولي قبرانِ بالزوراءِ أشفي

بقربِهما نزاعي واكتئابي

__________________

(١) نطف : سال. الصبير : السحاب الذي يصير بعضه فوق بعض. (المؤلف)

(٢) استحقبت : ادّخرت. (المؤلف)

(٣) الغوادي ـ جمع الغادية ـ : وهي السحابة. (المؤلف)

(٤) اللغام : لعاب الإبل. الطلى : العنق. الغثاء : البالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل. العقاب ـ جمع عقبة ـ : مرقى صعب من الجبال. (المؤلف)

(٥) أجنُب : أقود. اللغاب : السهم لم يُحسن بريه. (المؤلف)

٢٩٣

أقودُ إليهما نفسي وأهدي

سلاماً لا يحيدُ عن الجوابِ

لقاؤهما يطهِّر من جناني

ويدرأُ عن ردائي كلَّ عابِ

قسيمُ النارِ جدّي يوم يلقى (١)

به باب النجاة من العذابِ

وساقي الخلقِ والمهجاتُ حرّى

وفاتحةُ الصراطِ إلى الحسابِ

ومن سمحتْ بخاتمِهِ يمينٌ (٢)

تضِنُّ بكلّ عاليةِ الكعابِ

أما في بابِ خيبرَ معجزاتٌ

تُصَدَّقُ أو مناجاةُ الحُبابِ (٣)

أرادت كيدَهُ والله يأبى

فجاءَ النصرُ من قِبَلِ الغرابِ (٤)

أهذا البدرُ يُكسَفُ بالدياجي

وهذي الشمسُ تُطمَسُ بالضبابِ

وكان إذا استطال عليه جانٍ

يرى تركَ العقابِ من العقابِ

أرى شعبانَ يُذْكِرُني اشتياقي

فمن لي أن يذكّركم ثوابي

بكم في الشعرِ فخري لا بشعري

وعنكم طالَ باعي في الخطابِ

أُجَلّ عن القبائحِ غير أنّي

لكم أرمي وأُرمى بالسبابِ

فأجهرُ بالولاءِ ولا أُوَرّي

وأنطقُ بالبراءِ ولا أحابي

ومن أولى بكم منّي وليّا

وفي أيديكمُ طَرَفُ انتسابي

محبّكمُ ولو بغضتْ حياتي

وزائرُكمْ ولو عقرتْ ركابي

تُباعِدُ بيننا غِيَرُ الليالي

ومرجِعُنا إلى النسب القرابِ (٥)

وقال يرثي الإمام السبط المفدّى الحسين بن عليّ عليهما‌السلام في يوم عاشوراء سنة (٣٩١):

__________________

(١) أشار إلى حديث مرّ بيانه في : ٣ / ٢٩٩. (المؤلف)

(٢) أشار إلى تصدّقه بخاتمه ، وقد مرّ حديثه : ٢ / ٤٧ و ٣ / ١٥٥ ـ ١٦٢. (المؤلف)

(٣) الحُباب : الحيّة.

(٤) أشار إلى حديث الحُباب الذي أسلفناه : ٢ / ٢٤١ ـ ٢٤٢. (المؤلف)

(٥) ديوان الشريف الرضي : ١ / ١١٣.

٢٩٤

هذي المنازلُ بالغميمِ فنادِها

واسكبْ سخيَّ العينِ بعد جمادِها

إن كان دَيْنٌ للمعالمِ فاقضِه

أو مهجةٌ عند الطلولِ ففادِها

ياهل تَبُلُّ من الغليلِ إليهمُ

إشرافةٌ للركبِ فوق نجادِها

نُؤيٌ كمنعطف الحنيّةِ دونَهُ

سُحُم الخدودِ لهنّ إرثُ رمادِها

ومناطُ أطنابٍ ومقعدُ فِتْيةٍ

تخبو زنادُ الحَيّ غيرَ زنادِها

ومَجَرُّ أرسانِ الجيادِ لِغلمةٍ

سجفوا البيوتَ بشقرِها وورادِها

ولقد حبستُ على الديارِ عصابةً

مضمومةَ الأيدي إلى أكبادِها

حسرى تجاوبُ بالبكاءِ عيونُها

وتعطُّ بالزفراتِ في أبرادِها

وقفوا بها حتى كأنّ مطيَّهمْ

كانت قوائمُهنّ من أوتادِها

ثمّ انثنتْ والدمعُ ماءُ مزادِها

ولواعجُ الأشجانِ من أزوادِها

من كلِّ مشتملٍ حمائِلَ رنّةٍ

قطْرُ المدامعِ من حُليِّ نجادِها

حيّتكَ بل حيّتْ طلوعَكَ ديمةٌ

يشفي سقيمَ الربعِ نفثُ عِهادِها

وغدتْ عليك من الخمائل يَمنةٌ

تستامُ نافقةً على روّادِها (١)

هل تطلبونَ من النواظرِ بعدَكم

شيئاً سوى عبراتِها وسُهادِها

لم يبقَ ذُخرٌ للمدامعِ عنكمُ

كلاّ ولا عينٌ جرى لرقادِها

شغلَ الدموعَ عن الديارِ بكاؤنا

لبكاءِ فاطمةٍ على أولادِها

لم يخلُفوها في الشهيدِ وقد رأى

دُفَعَ الفراتِ يُذادُ عن أورادِها (٢)

أَتُرى دَرَتْ أنّ الحسينَ طريدةٌ

لِقَنا بني الطرداءِ عند ولادِها

كانت مآتمُ بالعراقِ تعدُّها

أمويَّةٌ بالشام من أعيادِها

ما راقبتْ غضبَ النبيِّ وقد غدا

زرعُ النبيِّ مظنّةً لحصادِها

باعتْ بصائرَ دينِها بضلالِها

وشَرَتْ معاطبَ غيِّها برشادِها

__________________

(١) الخمائل ـ جمع خميلة ـ : القطيفة. اليمنة : بُرد يمني. تستام : تسأل السوم. (المؤلف).

(٢) دُفَع ـ جمع دفعة ـ : دفقة المطر ، استعارها للفرات.

٢٩٥

جعلتْ رسولَ اللهِ من خُصَمائِها

فلبئس ما ذخرتْ ليومِ معادِها

نسلُ النبيِّ على صعابِ مطيِّها

ودمُ النبيِّ على رءوس صِعادِها

وا لهفتاهُ لعصبةٍ علويّةٍ

تبعتْ أُميّةَ بعد عزِّ قيادِها

جعلتْ عِرانَ الذلِّ في آنافِها

وعِلاطَ وسْمِ الضيمِ في أجيادِها (١)

زعمتْ بأنّ الدينَ سوّغَ قتلَها

أوَليس هذا الدينُ عن أجدادِها

طلبتْ تراثَ الجاهليّةِ عندَها

وشفتْ قديمَ الغِلِّ من أحقادِها

واستأثرتْ بالأمر عن غُيّابِها

وقضتْ بما شاءت على شُهّادِها

اللهُ سابقُكمْ إلى أرواحِها

وكسبتمُ الآثامَ في أجسادِها

إن قُوِّضتْ تلك القبابُ فإنّما

خرّتْ عمادُ الدين قبل عمادِها

إنّ الخلافةَ أصبحتْ مزويّةً

عن شعبِها ببياضِها وسوادِها

طمسَتْ منابرَها علوجُ أميّةٍ

تنزو ذئابُهمُ على أعوادِها

هي صفوةُ اللهِ التي أوحى لها

وقضى أوامِرهُ إلى أمجادِها

أخذتْ بأطرافِ الفخارِ فعاذرٌ

أن يصبحَ الثقَلانِ من حسّادِها

الزهدُ والأحلامُ في فتّاكِها

والفتكُ لو لا اللهُ في زهّادِها

عُصَبٌ يُقمَّطُ بالنجادِ وليدُها

ومُهُودُ صبيتِها ظهورُ جيادِها

تروي مناقبَ فضلِها أعداؤها

أبداً وتسندُه إلى أضدادِها

يا غيرةَ اللهِ اغضبي لنبيِّه

وتزحزحي بالبيضِ عن أغمادِها

من عصبةٍ ضاعتْ دماءُ محمدٍ

وبنيه بين يزيدِها وزيادِها

صفداتُ مالِ اللهِ ملءُ أكُفِّها

وأكفُّ آلِ اللهِ في أصفادِها (٢)

ضربوا بسيف محمدٍ أبناءَهُ

ضربَ الغرائبِ عُدنَ بعد ذِيادِها

__________________

(١) العِران : عود يُجعل في أنف البعير. العلاط : حبل يُجعل في عنق البعير. (المؤلف)

(٢) الصفدات ـ من الصفد ـ : العطاء ، والأصفاد : الأغلال. (المؤلف)

٢٩٦

قد قلتُ للركبِ الطلاحِ كأنّهمْ

رُبْدُ النسور على ذرى أطوادِها (١)

يحدو بعُوجٍ كالحنيِّ أطاعَهُ

مُعتاصُها فطغى على مُنقادِها (٢)

حتى تخيّلَ من هِباب رقابها

أعناقَها في السيرِ من أعدادِها (٣)

قف بي ولو لوثَ الإزارِ فإنّما

هي مهجةٌ علِقَ الجوى بفؤادِها (٤)

بالطفِّ حيث غدا مُراقُ دمائِها

ومُناخُ أينُقِها ليومِ جِلادِها

القفرُ من أرواقِها والطير من طرّا

قها والوحشُ من عُوّادِها

تجري لها حَبَبُ الدموعِ وإنّما

حبُّ القلوبِ يكنُّ من أمدادها

يا يومَ عاشوراءَ كم لك لوعةٍ

تترقّصُ الأحشاءُ من إيقادِها

ما عدتَ إلاّ عاد قلبي غلّةٌ

حرّى ولو بالغتُ في إبرادِها

مثلُ السليمِ مضيضةٌ آناؤه

خُزْرُ العيونِ تعودُهُ بعدادِها

يا جدُّ لا زالتْ كتائبُ حسرةٍ

تغشى الضميرَ بكرِّها وطرادِها

أبداً عليك وأدمعٌ مسفوحةٌ

إن لم يراوحْها البكاءُ يغادِها

هذا الثناءُ وما بلغتُ وإنّما

هي حلبةٌ خلعوا عِذارَ جوادِها

أأقول جادَكمُ الربيعُ وأنتمُ

في كلِّ منزلةٍ ربيعُ بلادِها

أم أستزيدُ لكم عُلىً بمدائحي

أينَ الجبالُ من الربى ووهادِها

كيف الثناءُ على النجوم إِذا سمتْ

فوقَ العيون إلى مدى أبعادها

أغنى طلوعُ الشمسِ عن أوصافِها

بجلالِها وضيائِها وبعادِها (٥)

__________________

(١) الطَّلِح : المهزول والمعيا ، والجمع أطلاح. الربدة : الغبرة ، يقال : أربد لونه : تغيّر. وتربّد الرجل : تعبّس. (المؤلف)

(٢) العوج ـ جمع عوجاء ـ : الناقة السيّئة الخلق.

(٣) الهباب : النشاط والسرعة. الأعداد ـ جمع عدّ ـ : الماء الجاري لا ينقطع.

(٤) لاث الإزار : أداره مرّتين على بدنه ، والتعبير كناية عن قصر فترة الوقوف ؛ والمراد : قف بي ولو قليلاً.

(٥) ديوان الشريف الرضي : ١ / ٣٦٠.

٢٩٧

وقال يرثي جدّه الإمام السبط الشهيد في عاشوراء سنة (٣٧٧):

صاحت بِذَوديَ بغدادٌ فآنسني

تقلّبي في ظهورِ الخيلِ والعيرِ

وكلّما هَجْهَجَتْ بي عن منازِلها

عارضتُها بجَنانٍ غيرِ مذعورِ

أطغى على قاطنيها غيرَ مكترثٍ

وأفعلُ الفعلَ فيها غيرَ مأمورِ

خطبٌ يهدِّدني بالبعدِ عن وطني

وما خُلقتُ لغير السرجِ والكورِ

إنّي وإن سامني ما لا أقاومه

فقد نجوتُ وقِدحي غيرُ مقمورِ

عجلانَ ألبسُ وجهي كلَّ داجيةٍ

والبَرُّ عريانُ من ظبيٍ ويعفورِ

ورُبَّ قائلةٍ والهمُّ يُتحِفُني

بناظرٍ من نطافِ الدمعِ ممطورِ

خفِّضْ عليك فللأحزانِ آونةٌ

وما المقيمُ على حُزنٍ بمعذورِ

فقلت هيهات فات السمع لائمه

لا يُفهَمُ الحزنُ إلاّ يومَ عاشورِ

يومٌ حدا الظُّعْنَ فيه بابن فاطمةٍ

سنانُ مطّردِ الكعبينِ مطرُورِ (١)

وخرَّ للموتِ لا كفٌّ تقلِّبُهُ

إلاّ بوطءٍ من الجُردِ المحاضيرِ

ظمآنَ سلّى نجيعُ الطعنِ غُلّتَهُ

عن باردٍ من عُبَابِ الماءِ مقرورِ (٢)

كأنّ بيضَ المواضي وهي تنهبُهُ

نارٌ تحكّم في جسمٍ من النورِ

لله مُلقىً على الرمضاء عضَّ به

فمُ الردى بين إقدامٍ وتشميرِ

تحنو عليه الربى ظلاّ وتسترُهُ

عن النواظرِ أذيالُ الأعاصيرِ (٣)

تهابُه الوحشُ أن تدنو لمصرعِهِ

وقد أقامَ ثلاثاً غيرَ مقبورِ

وموردٌ غمراتِ الضربِ غُرّتَهُ

جرّتْ إليه المنايا بالمصاديرِ

ومُستطيلٌ على الأزمان يقدرُها

جنى الزمانُ عليها بالمقاديرِ

أغرى به ابنَ زيادٍ لؤمُ عنصرِهِ

وسعيُهُ ليزيدٍ غيرُ مشكورِ

__________________

(١) المطرور : المحدّد.

(٢) مقرور ـ من القرّ ـ : البرد. (المؤلف)

(٣) الأعاصير ـ جمع الإعصار ـ : ريح ترتفع بالتراب. (المؤلف)

٢٩٨

وودّ أن يتلافى ما جنتْ يدُهُ

وكان ذلك كسراً غير مجبورِ

تُسبى بناتُ رسولِ اللهِ بينهمُ

والدينُ غضُّ المبادي غيرُ مستورِ

إن يظفرِ الموتُ منّا بابن مُنجِبَةٍ

فطالما عادَ ريّانَ الأظافيرِ

يلقى القنا بجبينٍ شانَ صفحتَهُ

وقعُ القنا بين تضميخٍ وتعفيرِ

من بعد ما ردَّ أطرافَ الرماحِ به

قلبٌ فسيحٌ ورأيٌ غيرُ محصورِ

والنقعُ يسحبُ من أذيالِهِ وله

على الغزالةِ جيبٌ غيرُ مزرورِ

في فيلقٍ شرقٍ بالبيضِ تحسبُه

برْقاً تدلّى على الآكام والقورِ (١)

بني أميّةَ ما الأسيافُ نائمةٌ

عن شاهرٍ في أقاصي الأرض موتورِ

والبارقاتُ تلوّى في مغامدها

والسابقاتُ تمطّى في المضاميرِ

إنّي لأرقبُ يوماً لا خفاءَ له

عريانَ يقلقُ منهُ كلُّ مغرورِ

وللصوارمِ ما شاءتْ مضاربُها

من الرقابِ شرابٌ غيرُ منزورِ

أكلَّ يومٍ لآلِ المصطفى قمرٌ

يهوي بوقعِ العوالي والمباتيرِ

وكلَّ يومٍ لهم بيضاءُ صافيةٌ

يشوبُها الدهرُ من رنقٍ وتكديرِ

مغوارُ قومٍ يروعُ الموتُ من يدِهِ

أمسى وأصبح نهباً للمغاويرِ

وأبيضُ الوجهِ مشهورٌ تغطرفُهُ

مضى بيومٍ من الأيّام مشهورِ

مالي تعجّبتُ من همّي ونَفرتِهِ

والحزن جرحٌ بقلبي غيرُ مسبورِ

بأيّ طرفٍ أرى العلياء إن نَضَبت

عيني ولجلجْتُ عنها بالمعاذيرِ

ألقى الزمانَ بِكَلْمٍ غيرِ مندملٍ

عمرَ الزمانِ وقلبٍ غيرِ مسرورِ

يا جدِّ لا زالَ لي همٌّ يحرّضُني

على الدموعِ ووجدٌ غيرُ مقهورِ

والدمعُ تحفزُهُ عينٌ مؤرَّقةٌ

حفزَ الحنيّة عن نزعٍ وتوتيرِ

إنّ السلوَّ لمحظورٌ على كبدي

وما السلوُّ على قلبٍ بمحظورِ (٢)

__________________

(١) القور ـ جمع القارة ـ : الجبل الصغير المنقطع عن الجبال. (المؤلف)

(٢) ديوان الشريف الرضي : ١ / ٤٨٧.

٢٩٩

وقال يرثي سيّدنا الإمام الشهيد في يوم عاشوراء سنة (٣٨٧):

راحلٌ أنت والليالي نُزولُ

ومضرٌّ بك البقاءُ الطويلُ

لا شجاعٌ يبقى فيعتنقُ ال

ـبيضَ ولا آملٌ ولا مأمولُ

غايةُ الناسِ في الزمانِ فناءٌ

وكذا غايةُ الغصونِ الذبولُ

إنّما المرءُ للمنيّةِ مخبو

ءٌ وللطعنِ تُستجَمُّ الخيولُ

من مَقِيلٍ بين الضلوعِ إلى طو

ل عناءٍ وفي الترابِ مقيلُ (١)

فهو كالغيمِ ألَّفته جَنوبٌ

يومَ دُجْنٍ ومزّقتْهُ قَبولُ (٢)

عادةٌ للزمان في كلِّ يومٍ

يتناءى خِلٌّ وتبكي طلولُ

فاللّيالي عونٌ عليكَ مع البي

ـنِ كما ساعدَ الذوابلَ طولُ

ربّما وافقَ الفتى من زمانٍ

فرحٌ غيرُهُ بهِ متبولُ (٣)

هي دنيا إن واصلتْ ذا جفته

ـذا ملالاً كأنّها عطبولُ (٤)

كلُّ باكٍ يُبكى عليه وإن طا

ل بقاءٌ والثاكلُ المثكولُ

والأمانيُّ حسرةٌ وعناءٌ

للذي ظنَّ أنّها تعليلُ

ما يُبالي الحِمام أين ترقّى

بعد ما غالتِ ابنَ فاطمَ غولُ

أيُّ يومٍ أدمى المدامعَ فيه

حادثٌ رائعٌ وخطبٌ جليلُ

يومُ عاشوراءَ الذي لا أعان ال

ـصحبُ فيهِ ولا أجار القبيلُ

يا ابن بنتِ الرسولِ ضيّعَتِ العه

ـدَ رجالٌ والحافظون قليلُ

ما أطاعوا النبيَّ فيك وقد ما

لت بأرماحِهم إليك الذحولُ (٥)

__________________

(١) من قال قيلاً وقيلولة ومقيلاً : نام نصف النهار. (المؤلف)

(٢) القَبول : ريح الصَّبا.

(٣) يقال : تبلهم الدهر ، أي أفناهم. (المؤلف)

(٤) العطبول : المرأة الفتيّة الجميلة. (المؤلف)

(٥) الذحول : الثارات.

٣٠٠