الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

أمري ، وشغل من فكري لما افترقنا ، وشوقي ـ علم الله ـ فغالبٌ ، وظمئي فشديدٌ ، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبّة ، إنّه قادرٌ جوادٌ.

ومكاننا من جميل رأيك ـ أيّدك الله ـ يبعثنا على تقاضي حقوقنا قِبَلك ، وكريم سجاياك وأخلاقك يشجّعنا على إمضاء العزم في ذلك ، وما تطوّلت به من الإيناس يؤنسنا بك ، ويَبسُطنا إليك ، وآثار يديك تدلّنا عليك ، وتشهد لنا بسماحتك ، والله يطيل بقاءك ، ويديم لنا فيك وبك السعادة.

وبلغني أدام الله عزّك أنّ سحابة من سحائب تفضّلك أمطرت منذ أيّام مطراً عمّ إخوانك ، بهدايا مشتملة على حسن وطيب ، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدّك ، ويعتقدك ، وينحوك ، ويعتمدك ، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظنِّ برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظّ من لطفك ، فرأيت مداواة قلبي من ظنّه ، وقلبك من سهوه ، واستبقاء الودِّ بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل : ويبقى الودّ ما بقي العتابُ ، وفيما عاتبت كفايةٌ عند من له أذنك الواعية ، وعينك الر اعية.

٤ ـ وقال في تفضيل النرجس على الورد :

النرجس يشبه الأعين والمضاحك ، والورد يشبه الخدود ، والأعين والمضاحك أشرف من الخدود ، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى ، والورد صفةٌ لأنَّه لونٌ ، والنرجس يضارعه في هذا الاسم ، لأنَّ النرجس هو الريحان الوارد ، أعني أنَّه أبداً في الماء ، والورد خجل والنرجس مبتسم ، وانظر أدناهما شبهاً بالعيون فهو أفضل.

هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا ، وخليقٌ بمن يكتب بهذا الأسلوب أن يُعدّ في بُلغاء الكتّاب ، وإن لم يُعدّ في أبلغهم ، على أنّ ابن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلاّ مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف ، فإنّه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا

٦١

الحسين كاتب ابن أبي الاصبع :

ونحن معاشر الشعراءِ ننمى

إلى نسبٍ من الكتّابِ دانِ

وإن كانوا أحقّ بكلّ فضلٍ

وأبلغَ باللسانِ وبالبيانِ

أبونا عند نسبتنا أبوهم

عطاردٌ السماويُّ المكانِ

أمّا حظّه من علوم العربية والدين ، فمن المفضول أن نتعرّض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه ، لأنَّه أبين من أن يحتاج إلى تبيين. وندر في قصائده المطوّلة أو الموجزة قصيدة تقرأها ولا تخرج منها وأنت موقنٌ باستبحار ناظمها في اللغة ، وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها ، وأوزان اشتقاقها ، وتصريفها ، وموقع أمثالها ، وأسماء مشاهيرها ، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين ، ومقتبسات من أدب القرآن ، فليس في شعر العربيّة من تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقّة غير شاعرين اثنين : أحدهما صاحبنا والثاني المعرّي ، وقد كان يمدح الرؤساء والأدباء أمثال : عبيد الله بن عبد الله ، وعليّ بن يحيى ، وإسماعيل بن بلبل ، فيفسّر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصائده ، كأنَّه كان يشفق أن تفوتهم دقائق لفظه وأسرار لغته ، ثمّ يعود إلى الاعتذار من ذلك إذا أنِسَ منهم الجفوة والتغيّر :

لم أفسِّر غريبها لكَ لكنْ

لامرئٍ يجهلُ الغريبَ سواكا

لغيرِكَ لا لكَ التفسيرُ أنّى

يُفسَّرُ لابن بَجدَتِها الغريبُ

وكانوا لشهرته باللغة ، وعلم أسرارها ، ولطيف نكاتها ، يختلقون له الكلمات النافرة ، يسألونه عنها ليعبثوا به أو يعجزوه ، وقصّة الجرامض إحدى هذه المعابثات التي تدلّ على غيرها من قبيلها ، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله : ما الجرامض؟ فارتجل مجيباً :

وسألت عن خبرِ الجرا

مضِ طالباً علمَ الجرامضْ

٦٢

وهو الخزاكل والغوا

مض قد تفسّر بالغوامضْ

وهو السلجكلُ شئت ذ

لك أم أبيت بفرض فارضْ

وكلّها كلمات من مادّة الجرامض لا معنى لها ولا وجود.

وإذا صحّ استقراؤنا ، وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة فضلاً عن الأستاذيّة الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار ، هؤلاء كلّهم من نخبة النخبة في هذه المطالب ، ولا سيّما إذا أعانهم تلميذٌ ذو فطنة متوقّدة الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ ، فقد مرّ بك أنَّه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة ، فهب في الرواية بعض المبالغة التي تتعرّض لها أمثال هذه الروايات ، فهو بعدُ سريع الحفظ ، وهذا ممّا يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.

عاش ابن الرومي حياته كلّها في بغداد ، لا يفارقها قليلاً حتى يعود سريعاً ، وقد نازعه إليها الشوق وغلبه نحوها حنين ، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع ، وكان صاحب ضيْعَة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة ، منها قدح زعم أنَّه كان للرشيد ، ووصفه في شعره لمّا أهداه إلى عليّ ابن المنجّم يحيى :

قدحٌ كان للرشيد اصطفاهُ

خلفٌ من ذكوره غير خلفِ

كفم الحِبِّ في الحلاوة بل أحلى

وإن كان لا يناغي بحرفِ

صِيغ من جوهرٍ مصفّى طِباعاً

لا علاجاً بكيمياءِ مصفِ

تنفُذُ العينُ فيه حتى تراها

أخطأتهُ من رِقّة المستشفِ

كهواه بلا هباءٍ مشوبٍ

بضياءٍ ارقِق بذاك وأصفِ

ثمّ استوعب الكلام في البحث عن مزاجه ، وأخلاقه ، ومعيشته ، وما كانت تملكه يده ، وذكرى مطايباته ومفاكهاته ، وهجائه وفشله وطيرته من (ص ١٠٢) إلى (ص ٢٠٣) فشرع في بيان عقيدته ـ وهناك مواقع للنظر ـ وقال :

٦٣

عقيدته :

تقدّم في الكلام عن الحالة الدينيّة في القرن الثالث للهجرة أنَّه كان عصراً كثرت فيه النحل والمذاهب ، وقلّ فيه من لا يرى في العقائد رأياً يفسّر به إسلامه ، وبخاصّة بين جماعة الدارسين وقرّاء العلوم الحديثة.

فابن الرومي واحدٌ من هؤلاء القرّاء ، لا ننتظر أن تمرّ به هذه المباحث التي كان يدرسها ، ويحضر مجالسها ، ويسمع من أهلها ، بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة ، فكان مسلماً صادق الإسلام ، ولكنّه كان شيعيّا معتزليّا قدريّا يقول بالطبيعتين ، وهي أسلم النحل التي كانت شائعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.

وقد قال المعرّي في رسالة الغفران (١) : إنّ البغداديّين يدّعون أنَّه متشيّع ، ويستشهدون على ذلك بقصيدته الجيميّة. ثمّ عقّب على ذلك فقال : ما أراه إلاّ على مذهب غيره من الشعراء.

ولا ندري لما ذا شكَّ المعرّي في تشيّعه لأنّه على مذهب غيره من الشعراء ، فإنّ الشعراء إذا تشيّعوا كانوا شيعة حقّا كغيرهم من الناس ، وربّما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامّة المتشيّعين ، وإنّما نعتقد أنّ المعرّي لم يطّلع على شعره كلّه ، فخفيت عنه حقيقة مذهبه ، ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.

على أنّ القصيدة الجيميّة وحدها كافيهٌ في إظهار التشيّع الذي لا شكّ فيه ، لأنّ الشاعر نظمها بغير داعٍ يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة ، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء ، فقد رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن عليّ الثائر في وجه الخلافة ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان ، وقال فيها يخاطب بني العبّاس ويذكر ولاة السوء من أبناء طاهر :

__________________

(١) رسالة الغفران : ص ٢٤٤.

٦٤

أجِنّوا بني العبّاس من شنآنكم

وأوكوا على ما في العيابِ وأشرجوا (١)

وخلّوا ولاة السوء منكم وغيَّهم

فأحرى بهم أن يغرقوا حيث لجّجوا

نظارٍ لكم أن يُرجِعَ الحقَّ راجعٌ

إلى أهله يوماً فتَشجُوا كما شَجوا

على حين لا عُذرى لمعتذريكمُ

ولا لكم من حُجّةِ اللهِ مخرجُ

فلا تُلقحوا الآنَ الضغائنَ بينكم

وبينهمُ إنّ اللواقحَ تنتجُ

غُرِرتم لئن صَدّقتمُ أنّ حالةً

تدوم لكم والدهرُ لونان أخرجُ (٢)

لعلّ لهم في منطوى الغيبِ ثائراً

سيسمو لكم والصبحُ في الليل مولَجُ

فما ذا يقول الشيعيُّ لبني العبّاس أقسى وأصرح في التربّص بدولتهم وانتظار دولة العلويّين من هذا الكلام؟ فقد أنذر بني العبّاس بزوال الملك وكاد يتمنّى ـ أو تمنّى ـ لبني عليّ يوماً يهزمون فيه أعداءهم ، ويرجعون فيه حقّهم ، ويطلبون تراثهم ، وينكّلون بمن نكّل بهم ، وهواه ظاهرٌ من العلويّين لا مداجاة فيه كهوى كلّ شيعيّ في هذا المقام.

على أنَّه كان أظهر من هذا في النونيّة التي تمنّى فيها هلاك أعدائهم ، ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم :

إن يوالي الدهرُ أعداءً لكمْ

فلهم فيه كمينٌ قد كَمَنْ

خلعوا فيه عِذارَ المعتدي

وغدوا بين اعتراضٍ وأرَنْ (٣)

فاصبروا يُهلِكْهُمُ الله لكمْ

مثل ما أهلكَ أذواءَ اليمنْ

قَرُبَ النصرُ فلا تستبطِئوا

قَرُبَ النصرُ يقيناً غيرَ ظنْ

__________________

(١) أوكى القربة : ربطها وشدّ رأسها. العياب : جمع عيبة ، وهي وعاء يكون فيه المتاع ، والعرب تكنّي عن الصدور والقلوب التي تحتوي على الضمائر المخفاة بالعياب ، وأشرج العيبة : عقد عراها وأدخل بعضها في بعض. والمقصود : اخفوا يا بني العبّاس ما في صدوركم من بغض لآل عليّ.

(٢) الأخرج : ذو اللونين ، ومؤنّثه خرجاء. يقال : جبل أخرج ونعجة خرجاء.

(٣) الأَرَن : النشاط وإظهار القوة.

٦٥

ومن التقصيرِ صوني مهجتي

فِعلَ من أضحى إلى الدنيا ركنْ

لا دمي يُسفكُ في نُصرتِكمْ

لا ولا عِرضيَ فيكم يُمْتَهنْ

غير أنّي باذلٌ نفسي وإنْ

حقنَ الله دمي فيما حقنْ

ليت أنّي غَرضٌ من دونكمْ

ذاك أو دِرعٌ يقيكمْ ومِجَنْ

أتلقّى بجبيني من رمى

وبنحري وبصدري من طَعَنْ

إنّ مبتاع الرضا من ربّه

فيكمُ بالنفس لا يخشى الغَبَنْ

وليس يجوز الشكّ في تشيّع من يقول هذا القول ويشعر هذا الشعور ، فإنّه يعرّض نفسه للموت في غير طائل حبّا لبني عليّ ، وغضباً لهم ، وإشهاراً لهم لعاطفة لا تفيده ولا تفيدهم ، وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلاّ بلقب الشهيد كما ذكره في القصيدة الجيميّة وفي خاطرة أخرى مفردة نظمها في هذين البيتين :

كسته القنا حلّةً من دمٍ

فأضحتْ لدى الله من أُرجوانِ

جزته معانقةُ الدارع

 ـ ين معانقةَ القاصراتِ الحسانِ

وبعض هذا يكفي في الدلالة على تشيّعه للطالبيّين ، واتّخاذه التشيّع مذهباً في الخلافة كمذهب الشعراء أو غير الشعراء ، ولا سيّما التشيّع المعتدل الذي يقول أهله بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل ، ويستنكرون لعن الصحابة الذين عارضوا عليّا في الخلافة ، ومعظم هؤلاء من الزيديّة الذين خرجوا في جند يحيى بن عمر لقتال بني العبّاس ، فهم لا يقولون في نصرة آل عليّ أشدّ ممّا قال ابن الرومي ، ولا يتمنّون لهم أكثر ممّا تمنّاه.

ويلوح لنا أنّ ابن الرومي ورث التشيّع وراثة من أمّه وأبيه ، لأنّ أمّه كانت فارسيّة الأصل فهي أقرب إلى مذهب قومها الفرس في نصرة العلويّين ، ولأنّ أباه سمّاه عليّا وهو من أسماء الشيعة المحبوبة التي يتجنّبها المتشدّدون من أنصار الخلفاء ، ولا حرج على أبي الشاعر أن يتشيّع وهو في خدمة بيت من بيوت العبّاسيّين ، لأنّ مواليه

٦٦

كانوا أناساً بعيدين من الخلافة وولاية العهد ، وهما علّة البغضاء الشديدة بين العبّاسيّين والعلويّين ، وقد اتّفق لبعض الخلفاء وولاة العهد أنفسهم أنّهم كانوا يكرمون عليّا وأبناءه ، كما كان مشهوراً عن المعتضد الخليفة الذي أكثر ابن الرومي من مدحه ، وكما كان مشهوراً عن المنتصر وليّ العهد الذي قيل إنّه قتل أباه المتوكّل جريرة ملاحاة وقعت بينهما في الذبّ عن حرمة عليّ وآله.

ثمّ قال بعد استظهار تشيّع بني طاهر (ص ٢٠٧ ـ ٢٠٩) : وإنّ أحقّ عقيدة أن يجدّ المرء فيها لعقيدةٌ تُجرّئه إذا خاف ، وتبسط له العذر والعزاء إذا سخط من صروف الحوادث ، وتمهّد له الأمل في مقبلٍ خيرٍ من الحاضر ، وأدنى منه إلى كشف الظلامات وردّ الحقوق ، وكلّ أولئك كان ابن الرومي واجده على أوفاه في التشيّع للعلويّين أصحاب الإمامة المنتظرة في عالم الغيب ، على العباسيّين أصحاب الحاضر الممقوت المتمنّى زواله ، فلهذا كان متشيّعاً في الهوى ، متشيّعاً في الرجاء ، وكان على مذهب غيره من الشعراء وعلى مذهب غيره من سائر المتشيّعين.

أمّا الاعتزال فابن الرومي لا يكتمه ولا يماري فيه ، بل يظهره إظهار معتزٍّ به ، حريصٍ عليه ، فمن قوله في ابن حريث :

معتزليٌّ مسرُّ كفرٍ

يُبدي ظهوراً لها بطونُ

أأرفضُ الاعتزال رأياً

كلاّ لأنِّي به ظنينُ

لو صحّ عندي له اعتقادٌ

ما دنتُ ربّي بما يدينُ

وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدريّة الذين يقولون بالاختيار ، وينزّهون الله عن عقاب المُجبَر على ما يفعل ، وذلك واضح من قوله يخاطب العبّاس بن القاشي ويناشده صلة المذهب :

إن لا يكنْ بيننا قربى فآصرةٌ

للدين يقطع فيها الوالدُ الولدا

٦٧

مقالةُ العدلِ والتوحيدِ تجمعُنا

دون المضاهين من ثنّى ومن جحدا

وبين مستطرِفَي غَيٍّ مرافقةٌ

تُرعى فكيف اللذان استطرفا رشدا

كن عند أخلاقِك الزُّهرِ التي جُعِلَتْ

عليكَ موقوفةً مقصورةً أبدا

ما عذرُ معتزليٍّ مُوسرٍ مَنعَتْ

كفّاهُ معتزليّا مُقتراً صفدا

أيزعمُ القدرُ المحتومُ ثبّطَه

إن قال ذاك فقد حلّ الذي عقدا

أم ليس مستأهلاً جدواه صاحبُهُ

أنّى وما جار عن قصدٍ ولا عَنَدا

أم ليس يُمكِنُهُ ما يرتضيه له

يكفي أخاً من أخ ميسورُ ما وجدا

لا عذرَ فيما يُريني الرأي علّمهُ

للمرء مثلُكَ ألاّ يأتيَ السددا

فواضحٌ من كلامه هذا أنَّه معتزليٌّ ، وأنَّه من أهل العدل والتوحيد ، وهو الاسم الذي تسمّى به القدريّة ، لأنّهم ينسبون العدل إلى الله ، فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضى له وسبق إليه ، ولأنّهم يوحّدون الله فيقولون : إنّ ال قرآن من خلقه ، وليس قديماً مضاهياً له في صفتَي الوجود والقدم ، وقد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم ليردّوا به على الذين سمّوهم القدريّة ، ورووا فيهم الحديث : القدريّة مجوس هذه الأمّة. فهم يقولون : ما نحن بالقدريّة ؛ لأنّ الذين يعتقدون القدَر أولى بأن ينسبوا إليه ، إنّما نحن من أهل العدل والتوحيد ، لأنَّنا ننزّه الله عن الظلم وعن الشريك.

وواضحٌ كذلك من كلامه أنَّه يعتقد حرّية الإنسان فيما يأتي من خير وشرّ ، ويحتجُّ على زميله بهذه الحجّة فيقول له : لِمَ لا تثيبني؟ إن قلتَ : إنّ القدر يمنعك فقد حللت ما اعتقدت من اختيار الإنسان في أفعاله ، وإن قلتَ : إنّك لا تريد فقد ظلمت الصداقة وأخللت بالمروءة.

وله عدا هذا أبيات صريحة في اعتقاد الاختيار وخلق الإنسان لأفعاله ، كقوله :

لو لا صروفُ الاختيارِ لأعنقُوا

لهوىً كما اتّسقت جمالُ قِطارِ

٦٨

وقوله :

أنّى تكون كذا وأنت مخَيّرٌ

متصرّفٌ في النقضِ والإمرارِ

وقوله :

الخيرُ مصنوعٌ بصانعِهِ

فمتى صنعتَ الخيرَ أعقبَكا

والشرُّ مفعولٌ بفاعِلهِ

فمتى فعلتَ الشرّ أعطَبَكا

إلاّ أنَّه كان يقول بالقدَر في تقسيم الأرزاق وأنّ :

الرزق آتٍ بلا مطالبةٍ

سيّانَ مدفوعهُ ومجتَذبُه

ويقول :

أما رأيتَ الفجاجَ واسعةً

واللهَ حيّا والرزقَ مضمونا

قال الأميني : هذا في الرزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي تطلبه كما فصّله الحديث (١).

ولا تناقض عند القدريّة في هذا ، لأنّهم يقولون بالاختيار فيما يُعاقب عليه الإنسان ويُثاب ، لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة.

أمّا القول بالطبيعتين فأوضح ما يكون في قوله :

فينا وفيكَ طبيعةٌ أرضيّةٌ

تهوي بنا أبداً لشرِّ قرارِ

هبطتْ بآدمَ قبلَنا وبزوجِهِ

من جنّةِ الفِردوس أفضلِ دارِ

فتعوّضا الدنيا الدنيّة كاسمِها

من تلكمُ الجنّاتِ والأنهارِ

__________________

(١) إلى هنا تنتهي عبارة المصنّف قدس‌سره التي استدرك بها على ابن الرومي ، وما يليها استئناف لحديث العقّاد.

٦٩

بئست لَعَمرُ الله تلكَ طبيعةٌ

حَرَمَت أبانا قُربَ أكرِم جارِ

واستأسرت ضَعفَى بنيهِ بعدَه

فهمُ لها أسرى بغير إسارِ

لكنّها مأسورةٌ مقصورةٌ

مقهورةُ السلطانِ في الأحرارِ

فجسومُهم من أجلِها تهوي بهم

ونفوسُهم تسمو سموّ النارِ

لو لا منازعةُ الجسومِ نفوسَهم

نفروا بِسَورَتِها من الأقطارِ

أو قصّروا فتناولوا بأكفّهمْ

قمرَ السماءِ وكلَّ نجمٍ سارِ

قال الأميني : لقد عزى الكاتب هاهنا إلى المترجَم هنات لا مقيل لها في مستوى الحقيقة ، ومنشأ ذلك بُعده عن علم الأخلاق ، وعدم تعقّله معنى الشعر ، فَحَسِبَهُ منافياً للتوحيد الذي جاء به نبيّ الإسلام ، لكن العارف بأساليب الكلام ، العالم بما جبل به الإنسان من الغرائز المختلفة ، لا يكاد يشكّ في صحّة معنى الشعر ، وهو يعرب عن إلمام ابن الرومي بالأخلاق ، والمتكفّل لتفصيل هذه الجملة كتب الأخلاق وما يضاهيها ، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحاً.

قال : وابن الرومي كان مفطوراً على التديّن لأنَّه كان مفطوراً على التهيّب والاعتماد على نصير ، وهما منفذان خفيّان من منافذ الإيمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود ، ومن ثمّ كان مؤمناً بالله خوفاً من الشكّ ، مقبلاً على ال تسليم ، بسيطاً في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر السكينة على أيّ شيء. وبلغ من بساطته أنَّه كان ينكر على الحكماء الذين يشكّون في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت ويحسبونه من فعل الدواء والحنوط ، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوّق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء :

ياذائق الموتى ليعلمَ هل بقوا

بعد التقادمِ منهمُ بدواءِ

بيّنتَ عن رعة وصدقِ أمانة

لو لا اتّهامُك خالقَ الأشياءِ

أحسِبتَ أنّ الله ليس بقادرٍ

أن يجعلَ الأمواتَ كالأحياءِ

وظننتَ ما شاهدتَ من آياته

بلطيفةٍ من حيلةِ الحكماءِ

٧٠

ومات وهو يقول في ساعاته الأخيرة :

ألا إنّ لقاء اللهِ

هولٌ دونه الهولُ

وما كانت الطِيَرة عنده إلاّ شعبة من ذلك التهيّب الدينيّ الغريزيّ فيه ، فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين ، ولكن في حدودٍ من الشعور لا في حدود من التفكير ، ولهذا كان الفنّان ولم يكن الفيلسوف.

قال الأميني : الطِيَرة ليست من شعب الدين ، ولا يركن إليها أيُّ خاضع له وملء مسامعه قول الصادع به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طِيَرة ولا حام». وإنّما هي من ضعف النفس غير المتقوّية بنور اليقين ، والتوكّل على الله في ورد وصدر ، ولذا كانت شائعة في الجاهليّة ونفاها الإسلام.

قال : وليس من الاجتراء أنَّه قال بالاختيار ، ورأى له في الدين رأياً غير ما اصطلح عليه السواد ، فإنّه كان يحيل الذنب على الإنسان ، وينفي الظلم عن القدر في العقاب والثواب ، ويتصوّر الله على أحسن ما يتصوّر المتفلسف مثله إلهه ، فكأنّما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه ، وإنّما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره ، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار ، وينتهي فيها إلى برّ الأمان ، ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره ، ويستعين بهم على تفريج غمّته :

ويدمجُ أسبابَ المودّة بيننا

مودّتُنا الأبرارَ من آلِ هاشمِ

وإخلاصُنا التوحيدَ لله وحدهُ

وتَذبيبُنا عن دينهِ في المقاومِ

بمعرفة لا يقرع الشكُّ بابَها

ولا طعنُ ذي طعنٍ عليها بهاجمِ

وإعمالنا التفكير في كلِّ شبهة

بها حجّة تُعيي دُهاة التراجمِ

يبيت كلانا في رضى الله ماحضاً

لحجّته صدراً كثير الهماهمِ (١)

__________________

(١) الهماهم : جمع همهمة ، وهي الكلام الخفيّ.

٧١

بيد أنّ الإيمان شيءٌ وأداء الفرائض الدينيّة شيءٌ آخر ، فقصارى الإيمان عنده أنَّه يؤمّنه بقرب آل البيت ، وتنزيه ربّه ، والاطمئنان إلى عدله ورحمته ، ثمّ يدَعُ له سبيله يلعب ويمرح كلّما لذّ له اللعب والمرح ، ولا أهلاً بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من لذّة وأرب :

فلا أهلاً بمانعِ كلِّ خيرٍ

وأهلاً بالطعامِ وبالشراب

بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبّهَها بليلة المعراج :

رَفَعَتْنا السعودُ فيها إلى الفو

زِ فكانت كليلةِ المعراجِ

ذلك أنّه كان في تقواه طوع الإحساس الحاضر ، كما كان في كلّ حالة من حالاته. يلعب فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجونٌ ، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يُباريه أحدٌ من المتعبّدين ، ويخيّل إليك أنَّك تستمع إلى متعبّد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول :

تتجافى جنوبُهم

عن وَطء المضاجعِ

كلّهم بين خائفٍ

مستجيرٍ وطامعِ

تركوا لذّةَ الكرى

للعيونِ الهواجعِ

ورَعَوا أنجُمَ الدجى

طالعاً بعد طالعِ

لو تراهم إذا همُ

خَطَروا بالأصابعِ

وإذا هم تأوّهوا

عند مرّ القوارعِ

وإذا باشروا الثرى

بالخدودِ الضوارعِ

واستهلّت عيونُهمْ

فائضاتِ المدامعِ

ودعوا يا مليكَنا

يا جميلَ الصنائعِ

اعفُ عنّا ذنوبَنا

للوجوهِ الخواشعِ

اعفُ عنّا ذنوبَنا

للعيونِ الدوامعِ

٧٢

أنت إن لم يكن لنا

شافعٌ خيرُ شافعِ

فَأُجيبوا إجابةً

لم تقع في المسامِعِ

ليس ما تصنعونَهُ

أوليائي بضائعِ

ابذلوا لي نفوسَكم

إنّها في ودائعِ

وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثيرٌ لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين.

قال الأميني : ليس ما ارتآه ابن الرومي في باب الاختيار نتيجة مخامرة الشُبَه والشكوك كما يراه المترجِم ، وإنّما هي وليدة البرهنة الصادقة ، وإنّه لم يعطِ القدر حقّه محاباةً له ، لكنّ الحجج الدامغة ألجأته إلى ذلك ، وكذلك ما يقوله في باب الأرزاق ، فهي تقادير محضة غير أنّ الإنسان كلف بتحرّي الأسباب الظاهريّة جرياً على النواميس الإلهيّة المطّردة في النظام العالميّ الأتمّ ، وهذه مسائل كلاميّة لا يروقنا الخوض فيها إلاّ هنالك.

وأمّا اعتماد ابن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربّه ، فهو شأن كلّ مؤمن بالله ، عارف بكمال قدسه وصفاته الجمالية الجلاليّة ، وليس قرب أهل البيت الطاهر عليهم‌السلام إلاّ نتيجة مودّتهم التي هي أجر الرسالة بنصّ من الذكر الحكيم ، وإنّما مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ، وهم عِدل الكتاب ، وقد خلّفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده وقال : «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي» ، فأحرِ بهم أن يكون القرب منهم مؤمّناً للإنسان نشأته الأخرى ، وأمّا ما عزاه إليه من مظاهر المجون ، فهي معانٍ شعريّة لا يؤاخذ بها القائل ، وكم للشعراء الأعفّاء أمثالها.

هجاؤه

أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجّاءين ، هما أشهر الهجّائين في أدب

٧٣

العصور الإسلاميّة عامّة ، أحدهما ابن الرومي ، والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء والأمراء وهاجي الناس جميعاً والقائل :

إنّي لأَفتحُ عيني حين أفتحُها

على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا

وقد جمع المعرّي بينهما في بيت واحد ، وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه ، فقال

لو أنصفَ الدهرُ هجا أهلَهُ

كأنَّه الروميُّ أو دعبلُ

وليس للمؤرّخ الحديث أن يضيف اسماً جديداً إلى هذين الاسمين ، فإنّ العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوّة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة ، وكلاهما مع هذا نوع فذٌّ في الهجاء يظهر متى قُرن بالآخر.

فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب ... (لا يهمّنا ما ذكره في دعبل) (١).

أمّا ابن الرومي فلم يكن مطبوعاً على النفرة من الناس ، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب ، ولكنّه كان فنّاناً بارعاً أُوتي ملكة التصوير ، ولطف التخيّل والتوليد ، وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال ، فإذا قصد شخصاً أو شيئاً به جاء صوّب إليه (مصوّرته) الواعية ، فإذا ذلك الشخص أو ذلك الشيء صورةٌ مهيّأةٌ في الشعر تهجو نفسها بنفسها ، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدّبة ، فكلّ هجوه تصويرٌ مستحضرٌ لأشكاله ، أو لعبٌ بالمعاني على حساب من يستثيره.

وابن الرومي يسلب مهجوّه الفطنة والكياسة والعلم ، ويلصق به كلّ عيوب الحضارة التي يجمعها التبذّل والتهالك على اللذّات ، فإذا حذفت من هجوه كلّ

__________________

(١) ما بين القوسين للمؤلّف رحمة الله.

٧٤

ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شرّ ما فيه ، ولم يبقَ منه إلاّ ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

وكان لصاحبنا فنٌّ واحد من الهجاء ، لا ترتاب في أنَّه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجئه النقمة إليه ، ونعني به فنّ التصوير الهزليّ والعبث بالأشكال المضحكة والمناظر الفكاهيّة والمشابهات الدقيقة ، فهو مطبوعٌ على هذا كما يطبع المصوّر على نقل ما يراه ، وإعطاء التصوير حقّه من الإتقان والاختراع ، وما نراه كان يقع عنه في شعره ، ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته ، لكنّ هذا الفنّ أدخلُ في التصوير منه في الهجاء ، وهو حسنة وليس بسيّئة ، وقدرةٌ تُطلب وليس بخَلّة تُنبذ ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذِّبه وتهديه ماهراً فيه ، خبيراً بمغامزه وخوافيه ، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ، ويهين المهين ، ويهجو من يستهدف عرضه للهجاء ؛ لأنَّك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزليّة وأن يفتنّ في إدراك معانيها وتم ثيل مشابهاتها منعت ملكة فيه أن تنمو ، وأبيتَ على حاسّته الصادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه ، أمّا إذا منعت الهجاء وبواعثه ، فإنّك تمنع خُلُقاً يستغنى عنه ، وميلاً لا بدّ له من التقويم.

ذلك هو فنُّ ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار ، فأمّا ما عدا ذلك من هجائه فهو مسوقٌ فيه لا سائق ، ومدافعٌ لا مهاجم ، ومستثارٌ عن عمد في بعض الأحيان لا مستثيرٌ ، وإنّك لتقرأ له قوله :

ما استبّ قطُّ اثنانِ إلاّ غلبا

شرّهما نفساً وأمّا وأبا

فلا تصدّق أنّ قائله هو ابن الروميّ هجّاء اللغة العربيّة وقاذف المهجوّين بكلّ نقيصة ، لكنّ الواقع هو هذا ، والواقع كذلك أنَّه كان يسكن إلى رشده أحياناً ، فيسأم الهجاء ويعافه ويودُّ الخلاص منه حتى لوكان مهجوّا معدوّا عليه،ويع تزم التوبة عن الهجاء مقسماً :

٧٥

آليتُ لا أهجو طوا

لَ الدهرِ إلاّ من هجاني

لا بل سأطّرحُ الهجا

ءَ وإن رماني من رماني

أمنَ الخلائقُ كُلُّهم

فليأخذوا منّي أماني

حِلْمي أعزُّ عليَّ من

غضبي إذا غضبي عَراني

أولى بجهلي بعد ما

مكّنتُ حلمي من عِناني

وهذا أشبه بابن الرومي لأنَّه في صميمه خُلِق مسالماً سهلاً ، ولم يُخلق شريراً مطويّا على الشكس والعداوة ، بل هو لو كان شرّيراً لما اضطرّ إلى كلّ هذا الهجاء ، أو هو لو كان أكثر شرّا لكان أقلّ هجاءً ، لأنَّه كان يأمن من جانب العدوان فلا يقابله بمثله ، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلاّ سلاح دفاع لا سلاح هجوم ، وما كان هجاؤه يشفُّ عن الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشرّ المستقرّ في الغريزة ، كما كان يشفُّ عن الحرج والتبرّم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتّقائه ، وكثيرٌ من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض ، يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذمٍّ في إنسان ، وكثيرٌ من الناس يذمّون ويتسخّطون لأنّهم على ذلك مطبوعون.

ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده ، وأمّه ، وأخيه ، وزوجته ، وخالته ، وبعض أصدقائه ، علم منها أنّها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء والإخوان ، فمراثيه هي التي تدلُّ عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي كان يمليها الطمع والرغبة ، أو أهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلّة الصبر على خلائق الناس. ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات ، ونرى فيه الولد البارّ ، والأخ الشفيق ، والوالد الرحيم ، والزوج الودود ، والقريب الرؤوف ، والصديق المحزون ، ولا يكون الرجل كذلك ثمّ يكون مع ذلك شرّيراً مغلق الفؤاد ، مطبوعاً على الكيد والإيذاء.

٧٦

وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدّق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدّق كلامهم فيه ، لأنّهم كانوا يستبيحون إيذاءه ، ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره ، وتعوّد الناس أن يصدّقوا كلّ ما يُرمى به غريبُ الأطوار من التهم والأعاجيب ، في حين أنَّه كان يتحاشى عن تلك التهم ، ويغفر الإساءة بعد الإساءة مخافةً من كثرة الشكاية وعلماً منه بقلّة الإنصاف :

أتاني مقالٌ من أخٍ فاغتفرتُهُ

وإن كان فيما دونه وجهُ معتب

وذكّرتُ نفسي منه عند امتعاضِها

محاسنَ تعفو الذنبَ عن كلِّ مُذنب

ومثلي رأى الحُسنى بعينٍ جليّةٍ

وأغضى عن العوراءِ غيرَ مؤنّب

فيا هارباً من سُخطنا متنصِّلاً

هربتَ إلى أنجى مفرٍّ ومهرب

فعذرُكَ مبسوطٌ لدينا مقدَّمٌ

وودُّك مقبولٌ بأهلٍ ومرحب

ولو بلَّغَتْني عنك أذني أقمتُها

لديّ مقام الكاشحِ المتكذِّب

ولستُ بتقليبِ اللسانِ مصارماً

خليلي إذا ما القلبُ لم يتقلّب

فالرجل لم يكن شرّيراً ، ولا رديء النفس ، ولا سريعاً إلى النقمة ، فلما ذا إذن كثر هجاؤه ، واشتدّ وقوعه في أعراض مهجوّيه؟ نظنُّ أنَّه كان كذلك لأنَّه كان قليل الحيلة ، طيّب السريرة ، خالياً من الكيد والمراوغة والدسيسة ، وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره ، فكان مستغرقاً في فنّه يحسب أنّ الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلةٌ بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة ، لأنَّه كان في زمن يتولّى فيه الوزارة الكتّاب والرواة ، ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف ، ويحظوْن بالزلفى عند الأمراء والخلفاء ، وقد كان هو شاعراً كاتباً ، وكان خطيباً واسع الرواية ، مشاركاً في المنطق والفلَك واللغة ، وكلّ ما تدور عليه ثقافة زمان ، أو كما قال المسعودي : كان الشعر أقلّ أدواته.

وكان الشعر وحده كافياً لجمع المال وبلوغ الآمال ؛ فما ذا بعد أن يعرف الناس

٧٧

أنَّه شاعرٌ ، وأنَّه كاتبٌ ، وأنَّه راويةٌ مطّلعٌ على الفلسفة والنجوم إلاّ أن تجيئه الوزارة ساعية إليه تخطب ودّه ، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه ، ولا يبلغون في البلاغة مكانه؟! ألم يصل ابن الزيّات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسّرها للمعتصم وفصّل له تفسيرها ، وهي كلمة الكلأ التي يعرفها عامّة الأدباء؟ بلى ، وابن الرومي كان يعرف من غرائب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه ، فما أولاه إذن بالوزارة! وما أظلم الدنيا إن هي ضنّت عليه بحقّه من المناصب والثراء!

فإذا لم تكن الوزارة ، فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتّاب المبرّزين؟ فإذا لم يكن هذا ولا ذاك ، فهل غبنٌ أصعب على النفس من هذا الغبن؟ وهل تقصيرٌ من الزمان ألأم من هذا التقصير؟

ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله : أنت للشرف ، أيذهب هذا كلّه هباءً لا يقبض منه اليدين على شيء؟ تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار ، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشّيها وتعمّق في الضمير أغوارها ، أيأتي الشباب وهي محوٌ لغوٌ مطموسٌ لا يبين ، أَوَلا يبين منه إلاّ ما ينقلب إلى الأضداد ، وتترجمه الأيّام بالسقم والفقر والكساد؟ وكيف يُمحى إلاّ وقد مُحي القلب الذي طبعت فيه؟ وكيف ينعكس معناه إلاّ وقد انعكس في القلب كلّ قائم والتوى فيه كلّ قويم؟ ذلك صعبٌ على النفوس وليس بالسهل ، إلاّ على من يلهو به وهو بعيدٌ.

وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرّة بعد مرّة ويوماً بعد يوم :

ما لي أُسَلُّ من القرابِ وأُغمَدُ

لِمْ لا أُجرَّدُ والسيوفُ تُجرَّدُ

لِمْ لا أُجرَّبُ في الضرائبِ مرّةً

يا لَلرجالِ وإنّني لَمهنّدُ

ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله ، لأنَّه لم يكن يدري أنّ فضائله كلّها لا تساوي فتيلاً بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس ، وأنّ الحيلة وحدها

٧٨

قد تغني عن فضائله جميعاً ولو كان صاحبها لا ينظم شعراً ، ولا ينظر في كتب الفلسفة والرواية والنجوم.

حسن ، إذن ندع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطّره في كلمة عابرة ، ولكنّه لا يسهل على من يعالجه ويشقى بمحنته في كلّ ساعة من ساعات حياته ، ندع الوزارة والولاية والعمالة ، ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمّال ، إن كانوا يثيبون المادحين ، فهل تراهم يفعلون؟

لا! لأنّ الحيلة لازمةٌ في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كلّ غرض من أغراض المعاش ، ولا سيّما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات ، وما كانت تنقضي منه سنةٌ واحدةٌ بغير مكيدة خبيثة تؤدي بحياة خليفة ، أو أمير ، أو وزير ، وربما كانت مصانعة الحجّاب ، والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان ، واللعب بمغامز النفوس الخفيّة ، وإضحاك هؤلاء وهؤلاء ، أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره وغزارة علمه.

وبسط الكلام في الموضوع إلى (ص ٢٣٥) فقال :

هو وشعراء عصره

عاصر ابن الرومي في بيئته كثيرٌ من الشعراء ، أشهرهم في عالم الشعر : الحسين ابن الضحّاك ، ودعبل الخزاعي ، والبحتري ، وعليُّ بن الجهم ، وابن المعتزّ ، وأبو عثمان الناجم.

وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممّن عاصروه وعرفوه أو لم يعرفوه أثر يُذكر في تكوينه غير اثنين فيما نظنّ ، هما الحسين بن الضحّاك ودعبل الخزاعي.

قال الأميني : وكان بين ابن الرومي والشاعر المفلق ابن الحاجب محمد بن أحمد صلة ومودّة ، وجرت بينهما نوادر ، منها : أنّ ابن الحاجب سأله ابن الرومي زيارته في

٧٩

يوم معلوم ، فصاروا إليه فلم يجدوه ، فقال ابن الرومي فيه شعراً أوّله :

نجّاك يا ابن الحاجب الحاجبُ

وليس ينجو منّيَ الهاربُ

وأجابه ابن الحاجب بأبيات توجد في معجم المرزباني (١) (ص ٤٥٣).

قال (٢) : فكان ابن الرومي معجباً بالحسين بن الضحاك ، يروي شعره ، ويستملح أخباره ، ويذكرها لأصحابه ، وكان ابن الرومي يافعاً يحضر مجالس الأدب ويتلقّى دروسه ، والحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق. ثمّ ذكر بعض ما رواه ابن الروميّ من شعر ابن الضحّاك نقلاً عن الأغاني فقال : وقد مات الحسين بن الضحّاك وابن الرومي في التاسعة والعشرين ، ولم نرَ في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يشير إلى تلاقيهما في بغداد حيث عاش ابن الرومي معظم حياته ، أو في غير بغداد حيث كان يرحل ابن الضحّاك.

أمّا دعبل فابن الرومي عارضه في موضعين : أحدهما القصيدة الطائيّة التي نظمها دعبل حين اتّهم خالداً بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه ، وقال في مطلعها :

أسر المؤذّنَ خالدٌ وضيوفُهُ

أسْرَ الكميِّ هفا خلال الماقط (٣)

والآخر في قصيدة لدعبل مطلعها :

أتيتُ ابنَ عمروٍ فصادفتُهُ

مريضَ الخلائقِ مُلتاثَها

وكان دعبل عدا ذلك متشيّعاً لآل عليّ غالياً في تشيّعه (٤) ، فجذب ذلك كلّه نفس ابن الرومي الفتى نحوه ، وحبّب إليه محاكاته ومجاراته ، وربما كانت الرغبة في

__________________

(١) معجم الشعراء : ص ٤١٠.

(٢) أي العقّاد في كتابه المذكور.

(٣) راجع من كتابنا : ٢ / ٣٧٩. (المؤلف)

(٤) عزو باطل لا يشوّه به قدس تشيّع مثل دعبل. (المؤلف)

٨٠