الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

الناس أحبّ إلى رسول الله؟ قالت : فاطمة. فقيل : من الرجال؟ قالت : زوجها ، إن كان ما علمت صوّاماً قوّاماً (١)؟

وكيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدّم الغير على عليّ في الالتفات إليه؟ وهو أوّل رجل اختاره الله بعده من أهل الأرض لمّا اطّلع عليهم ، كما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة بقوله : «إنّ الله اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلك ، فأوحى إليّ ، فأنكحتُهُ واتخذته وصيّاً» (٢).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ الله اختار من أهل الأرض رجلين : أحدهما أبوكِ والآخر زوجكِ» (٣).

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل : وكان صهرا النبيّ الأمويّان ... إلخ. وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول الله لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة وقعد على قبرها ، ودمعت عيناه فقال : «أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟» فقال أبو طلحة : أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال ابن بطّال : أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها ، وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها ، وفقد منها علقاً لا عوض منه ، لأنّه حين قال عليه‌السلام : «أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟» سكت عثمان ولم يقل : أنا ؛ لأنّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه! ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المقارفة ، فحُرِم بذلك ما كان حقّا له ، وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّنٌ في معنى الحديث ،

__________________

(١) جامع الترمذي : ٢ / ٢٢٧ [٥ / ٦٥٨ ح ٣٨٧٤] طبع الهند ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٥٧ [٣ / ١٦٧ ح ٤٧٣١] ، وجمع آخر. (المؤلف)

(٢) أخرجه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري [المعجم الكبير ٤ / ١٧١ ح ٤٠٤٦] كما في إكمال كنز العمّال : ٦ / ١٥٣ [١١ / ٦٠٤ ح ٣٢٩٢٣] ، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد : ٩ / ١٦٥ عن عليّ الهلالي. (المؤلف)

(٣) المواقف للإيجي : ص ٨ [ص ٤١٠] ، راجع كتابنا : ٢ / ٣١٨. (المؤلف)

٤١

ولعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك بالوحي ، فلم يقل له شيئاً لأنّه فعل فعلاً حلالاً ، غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتى حُرِم ما حُرِم من ذلك بتعريض غير صريح. الروض الأُنف (١) (٢ / ١٠٧).

وما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيّة ، وأُسر مع المشركين مرّتين ، وفرّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّ سنين ، وهاجرت مسلمةً وتركته لشركه ، ولم ترد قط بعد إسلامه كلمة تعرب عن صلته مع النبيّ ومداراته له ، فضلاً عن مقايسته بعليّ أبي ذريّته وسيّد عترته.

وقد اتّهم الرجل نبيّ الإسلام بعدم العمل على سعادة ابنته الطاهرة المطهّرة بنصّ الكتاب العزيز ، ويقذف عليّا بالتألّم من ذلك ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أصبح أتى باب عليّ وفاطمة وهو يقول : «يرحمكم الله إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً».

وكان لم يزل يقول : «فاطمة أحبّ الناس إليّ».

ويقول : «أحبُّ الناس إليّ من النساء فاطمة».

ويقول : «أحبُّ أهلي إليّ فاطمة».

وكان عمر يقول لفاطمة : والله ما رأيت أحداً أحبّ إلى رسول الله منكِ (٢).

وما أقبح الرجل في تقوّله على النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدّه لعليٍّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة ، بكلِّ حول وطَول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه ، فصار بذلك له نفساً ، وأخاً ، ووزيراً ، ووصيّاً ، وخليفةً ، ووارثاً ، ووليّاً بعده ، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه ، وهو ذلك الملقّب بقائد الغرِّ

__________________

(١) الروض الأُنف : ٥ / ٣٦٢.

(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٥٠ [٣ / ١٦٨ ح ٤٧٣٦] وصحّحه. (المؤلف)

٤٢

المحجّلين ، وحياً من الله العزيز في ليلة أسرى بنبيِّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (١).

وأسوأ من ذلك كلّه عدُّ الرجل أزواج النبيّ عدوّات عليّ وفاطمة ، وقد ذكر تنازع عائشة معهما وأمّ سلمة ، وبسط القول في ذلك بنقل حادثة موضوعة ، وشكّل هناك حزبين منهنّ ، دمقراطي ورستودمقراطي ، وتقوّل بما يمسُّ ناموس النبيّ وكرامة أزواج ه‍ أمّهات المؤمنين ويمثّل آل الله بكلِّ جلافة وصلافة.

ليت شعري كيف يروق المترجم عدُّ عائشة عدوّة لفاطمة وهي تقول : مارأيت أحداً قطّ أفضل من فاطمة غير أبيها. أخرجه الطبراني في الأوسط (٢) بسند صحيح على شرط الشيخين ، كما في شرح المواهب (٣ / ٢٠٢) ، والشرف المؤبّد (٣) (ص ٥٨)

وهي كانت تقبّل رأس فاطمة وتقول : ياليتني شعرة في رأسك. نزهة المجالس (٢ / ٢٢٧).

وكيف يرتضي قومه نشر هذه القارصة والقرآن أوجب على الأمّة مودّة العترة النبويّة (٤) ، ومن المتسالم عليه بين المسلمين أنّ آية الإيمان والنفاق في شرعة النبيّ المحبوب : حبُّ عليّ وبغضه كما يأتي حديثه.

وقد اتّفقت الأمّة على ما مرّ في حديث الغدير من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ : «اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه». وصحّ عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من أحبّ عليّا فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني ، ومن آذى عليّا فقد آذاني ومن آذاني

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٣٨ [٣ / ١٤٨ ح ٤٦٦٨] وصحّحه ، الرياض النضرة : ٢ / ١٧٧ [٣ / ١٢٢] ، شمس الأخبار : ص ٣٩ [١ / ١٠٥ باب ٧] ، أُسد الغابة : ١ / ٦٩ [١ / ٨٤ رقم ٩٢] ، مجمع الزوائد : ٩ / ١٢١. (المؤلف)

(٢) المعجم الأوسط : ٣ / ٣٤٩ ح ٢٧٤٢.

(٣) الشرف المؤبّد : ص ١٢٤.

(٤) راجع كتابنا : ٢ / ٣٠٦ ـ ٣١١. (المؤلف)

٤٣

فقد آذى الله» (٥).

وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل أنّه أخبره بأنّ : «السعيد كلّ السعيد من أحبّ عليّا في حياتي وبعد مماتي ، ألا وإنّ الشقيّ كلّ الشقيّ من أبغض عليّا في حياتي وبعد مماتي» (٦).

وكيف خفي على هذا الرجل أنّ عزو عداء سيّد العترة وسيّدتها إلى زوجات النبيّ قذفٌ مقذعٌ ، وسبٌّ شائنٌ ، إن عُرض على محكمة العدل الإسلاميّ وأخذ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عترته : «لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ رديء الولادة» (٧)؟

أو بما ورد من طريق الثقات من : «أنّ عليّا لا يبغضه أحدٌ قطُّ إلاّ وقد شارك إبليس أباه في رحم أمّه» (٨)؟

أو بما أخرجه الحافظ الجزري عن عبادة بن الصامت قال : كنّا نبور (٩) أولادنا بحبِّ عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فإذا رأينا أحدهم لا يحبُّ عليّ بن أبي طالب علمنا أنّه ليس منّا وأنّه لغير رشدة (١٠)؟ ثمّ قال الحافظ : وهذا مشهورٌ من قديم وإلى اليوم أنّه ما يبغض عليّا رضى الله عنه إلاّ ولد زنا. أسنى المطالب (١١) (ص ٨).

هذه نُبَذٌ من مخاريق كتاب حياة محمد وكم لها من نظير حول القرآن وتحريفه ،

__________________

(٥) ٢٠

(٦) الرياض النضرة : ٣ / ٢١٥ [٣ / ١٦٧] ، الفصول المهمّة : ص ١٢٤ [ص ١٢٣] ، مجمع الزوائد : ٩ / ١٣٢ ، كنز العمّال : ٦ / ٤٠٠ [١٣ / ١٤٥ ح ٣٦٤٥٨] ، نزهة المجالس : ٢ / ٢٠٧. (المؤلف)

(٧) الرياض : ٢ / ١٨٩ [٣ / ١٣٦]. (المؤلف)

(٨) تاريخ الخطيب : ٣ / ٢٨٩ [رقم ١٣٧٦]. (المؤلف)

(٩) نبور : نختبر ونمتحن.

(١٠) يقال : هذا ولد رِشْدة ، إذا كان لنكاح صحيح.

(١١) أسنى المطالب : ص ٥٧ ـ ٥٨.

٤٤

وهناك قذف الشيعة بما هي بريئةٌ منه ، والعجب أنّ عادل زعيتر يحسب نفسه معذوراً في بثِّ هذه الأباطيل المضلّة في المجتمع بقوله في مقدّمة الكتاب : وقد كنت أودُّ أن أعلِّق عليها بعض حواشٍ لو لم أرَ أنّ ذلك يخرجني عن دائرة الترجمة.

أمن العدل سقاية روح الملأ الدينيِّ بهذه السموم القتّالة والاعتذار بمثل هذا التافه؟ أهكذا خُلق الإنسان ظلوماً جهولاً؟

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا)

(لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (١)

__________________

(١) النور : ١٩.

٤٥
٤٦

حادث شوّه صحائف التأليف

هناك فكرةٌ غير صالحة ، وإن شئت قلت بدعةٌ سيّئةٌ فتَحت على الأمّة باب التقوّل بمصراعيه ، وعنها تتشعّب شُجنة (١) الإفك في الحديث ، وينبعث القول المزوّر ، وإليها يستند كلُّ بهرجة وسفسطة ، ألا وهي : هذه الخطّة الحديثة في التأليف ، واتّخاذ هذا الأسلوب الحديث الذي يروق بسطاء الأمّة ويسمّونه تحليلاً ، ويرونه حسناً في الكتابة.

هذه الفكرة هي التي خفّت بها وطأة التأليف ـ وطأة حزونته ـ وكثر بذلك المؤلِّفون ، فجاء لفيفٌ من الناس يؤلّف وكلٌّ منهم سلك وادي تُضُلّل (٢) ، ولا يخنق على جِرَّته (٣) ويرمي القول على عواهنه ، وينشر في الملأ ما ليس للمجتمع فيه درك ، فيتحكّم في آرائه ، ويكذب في حديثه ، ويخون في نقله ، ويحرّف الكلم عن مواضعه ، ويقذف من خالف نحلته ، وينسبه إلى ما شاءه هواه ، ويسلقه بالبذاء ، ولا يكفف عنه لغبه (٤).

__________________

(١) الشجنة ـ بكسر الشين وضمّها ـ : شعبة من غصن من غصون الشجرة.

(٢) مثل يضرب لمن عمل شيئاً فأخطأ فيه [مجمع الأمثال : ٢ / ١٢٢ رقم ١٨٢٧]. (المؤلف)

(٣) مثل يضرب لمن يعجز عن كتمان ما في نفسه [مجمع الأمثال : ٣ / ١٦٨ رقم ٣٥٤١ ، والجِرّة : ما يخرجه البعير وكلّ ذي كرش يجترّ من بطنه ليمضغه ثم يبلعه]. (المؤلف)

(٤) اللغب : الكلام السيّئ الفاسد.

٤٧

هذه الفكرة هي التي جرّت على الأمّة شية العار ووصمة الشنار ، ورمتها بثالثة الأثافي ، ومدّت يد الفحشاء على التأليف ، وأبدت في صفحاته وصمات سوء ، فراح شرف الإسلام ، وأدب الدين ، وأمانة النقل ، ومكانة الصدق ، ضحيّة الميول والشهوات ، ضحيّة الأهواء والنزعات الباطلة ، ضحيّة الأقلام المستأجرة.

هذه الفكرة هي التي شوّهت وجه التأليف ، وجنت بها الأقلام ، وولّدت في القلوب ضغائن ، فجاء المفسّر يؤوّل القرآن برأيه ، والمحدّث يختلق حديثاً يوافق ذوقه ، والمتكلّم يذكر فِرَقاً مفتعلة ، والفقيه يفتي بما يحبّذه ، والمؤرّخ يضع في التاريخ ما يرتضيه ، كلّ ذلك قولاً بلا دليل ، وتحكّماً بلا بيّنة ، وتكلّماً بلا مأخذ ، ودعوى بلا برهان ، وتقوّلاً بلا مصدر ، وكذباً بلا مبالاة ، وإفكاً بلا تحاش.

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (١).

والقارئ يجد مثال هذه كلّها نصب عينيه في طيّ كتاب الصراع بين الإسلام والوثنيّة ، والوشيعة في الردّ على الشيعة ، وفجر الإسلام وضحاه وظهره ، والجولة في ربوع الشرق الأدنى ، والمحاضرات للخضري ، والسنّة والشيعة ، والإسلام الصحيح ، والعقيدة في الإسلام ، وخلفاء محمد ، وحياة محمد لهيكل ، وفي مقدّمها كتاب حياة محمد لإميل درمنغم.

فخلوُّ تأليف الشرقيِّ المسلم عن ذكر المصادر نسايةٌ للكتاب والسنّة ، وإضاعةٌ لأصول العلم ، وجنايةٌ على السلف ، وتفويتٌ لمآثر الإسلام ، وعملٌ مُخْدج (٢) ، وسعيٌ أبتر ، وليس من صالح الأمّة ولا من صلاح المجتمع الإسلامي ، وسيأتيه يومٌ وهو يقرع سنّ نادم.

وإنّ تأليفاً هو هكذا لا يمثّل في علومه ومعارفه إلاّ نفسيّة مؤلِّفه وأنظاره ، ولا

__________________

(١) البقرة : ٧٩.

(٢) الخداج : النقصان.

٤٨

يراه القارئ إلاّ كرواية لا تقوم إلاّ بقائلها.

خذ إليك في موضوع واحد كتابين هما مثالان لأكثر ما ارتأينا في هذا البحث ، ألا وهما :

١ ـ كتاب الإمام عليّ ، تأليف الأستاذ أبي نصر عمر.

٢ ـ كتاب الإمام عليّ ، تأليف الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود.

فهما على وحدة الموضوع ، والنزعة ، والبيئة ، والدراسة ، والهوى السائد ، طالما اختلفا في الأبحاث والنظريّات ، فهذا الأستاذ أبو نصر أخذ آراء الخضري الأمويّة ومن يضاهيه فيها ، وصبّها في بوتقة تأليفه ، فجاء في كتابه بكلِّ شنآء شوهاء التقت بها حلقتا البطان (١).

وأمّا الأستاذ عبد الفتّاح فإنّه جدّ وثابر على جهود جبّارة ، وأخذ زبدة المخض من الحقائق الناصعة ، غير أنَّه ضيّع أتعابه بإهمال المصادر ، فلم يأت كتابه إلاّ كنظريّة شخصيّة ، ولو ازدان تأليفه بذكرها في التعاليق ، وإرداف ذلك النقل الواضح بما ارتآه من الرأي السديد ، لكان أبلغ في تمثيل أفكار الجامعة ، والإعراب عن نظريّات الملأ الدينيِّ ، وإن كان ما ثابره الآن مشفوعاً بشكر جزيل.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٢)

__________________

(١) مثل يضرب في الحادثة إذا بلغت النهاية. أنظر : مجمع الأمثال : ٣ / ١٠٢ رقم ٣٢٩٣.

(٢) النساء : ٦٦.

٤٩
٥٠

١٣ ـ

ابن الرومي

المتوفّى (٢٨٣)

 يا هندُ لم أعشق ومثليَ لا يرى

عشقَ النساء ديانةً وتحرُّجا

لكنّ حبّي للوصيّ مخيّمٌ

في الصدر يسرحُ في الفؤاد تولّجا

فهو السراجُ المستنيرُ ومن بهِ

سببُ النجاةِ من العذاب لمن نجا

وإذا تركتُ له المحبّة لم أجدْ

يومَ القيامةِ من ذنوبي مَخرجا

قل لي أأتركُ مستقيمَ طريقِهِ

جهلاً وأتّبعُ الطريقَ الأعوجا

وأراهُ كالتّبرِ المُصفّى جوهراً

وأرى سواه لناقديهِ مبهرجا

ومَحِلُّهُ من كلِّ فضلٍ بيّنٌ

عالٍ محلّ الشمسِ أو بدر الدجى

قال النبيُّ له مقالاً لم يكنْ

يوم الغديرِ لسامعيه مُمجمجا (١)

من كنتُ مولاهُ فذا مولىً له

مثلي وأصبحَ بالفَخارِ متوّجا

وكذاك إذْ منعَ البتولَ جماعةً

خطبوا وأكرمَهُ بها إذ زوّجا

وله عجائبُ يومَ سارَ بجيشِهِ

يبغي لقصرِ النهروانِ المخرجا

رُدّت عليهِ الشمسُ بعد غروبِها

بيضاءَ تلمعُ وقدةً وتأجُّجا (٢)

الشاعر

أبو الحسن عليّ بن عبّاس بن جريج (٣) مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر

__________________

(١) مجمجَ الرجل في حديثه : لم يبيّنه.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب : ١ / ٥٣١ طبع إيران [٣ / ٣٨]. (المؤلف)

(٣) كذا في فهرست النديم [ص ١٩٠] ، وتاريخ الخطيب [١٢ / ٢٣ رقم ٦٣٨٧] ، وكثيرا من المعاجم. وفي مروج الذهب : سريج [في الطبعة التي بين أيدينا ٤ / ٣٠١ : جريج]. وفي معجم المرزباني [ص ١٤٥] : جورجس. وفي تاريخ ابن خلّكان [٣ / ٣٥٨ رقم ٤٦٣] : قيل : جورجيس. وفي بعض المعاجم : جرجيس. (المؤلف)

٥١

البغدادي ، الشهير بابن الرومي. مفخرةٌ من مفاخر الشيعة ، وعبقريٌ من عباقرة الأمّة ، وشعره الذهبيُّ الكثير الطافح برونق البلاغة قد أربى على سبائك التّبر حسناً وبهاءً ، وعلى كثر النجوم عدداً ونوراً. برع في المديح ، والهجاء ، والوصف ، والغزل من فنون الشعر ، فقصر عن مداه الطامحون ، وشخصت إليه الأبصار ، فجلّ عن الندّ كما قصر عن مزاياه العدُّ.

وله في مودّة ذوي القربى من آل الرسول ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ أشواط بعيدة ، واختصاصه بهم ومدائحه لهم ودفاعه عنهم من أظهر الحقائق الجليّة ، وقد عدّه ابن الصبّاغ المالكي المتوفّى (٨٥٥) في فصوله المهمّة (١) (ص ٣٠٢) ، والشبلنجي في نور الأبصار (٢) (ص ١٦٦) من شعراء الإمام الحسن العسكري ـ صلوات الله عليه.

وكان مجموع شعره غير مرتّب على الحروف ، رواه عنه المسيِّبي عليّ بن عبيد الله بن المسيِّب ؛ ومثقال ـ غلام ابن الرومي ـ في مائة ورقة ، ورواه عن مثقال أبو الحسن عليّ بن العصب الملحي ، وكتب أحمد بن أبي قسر الكاتب من شعره مائة ورقة ، وخالد الكاتب كذلك ، فرتّبه الصولي على الحروف في مائتي ورقة. جمع شعره أبو الطيّب ورّاق بن عبدوس من جميع النسخ فزاد على كلّ نسخة ممّا هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت.

وللخالديَّين أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد كتابٌ في أخبار شعر المترجم (٣) ، وانتخب ابن سينا ديوانه ، وشرح مشكلات شعره كما في كشف الظنون (٤) (١ / ٤٩٨) ،

__________________

(١) الفصول المهمّة : ص ٢٨١.

(٢) نور الأبصار : ص ٣٣٨.

(٣) راجع فهرست النديم : ص ٢٣٥ ، ٢٤١ [ص ١٩٠ ، ١٩٥]. (المؤلف)

(٤) كشف الظنون : ١ / ٧٦٦.

٥٢

وعن ابن سينا : أنّ ممّا كلّفني أستاذي في الأدب حفظ ديوان ابن الرومي ، فحفظته مع عدّة كتب في ستّة أيّام ونصف يوم.

ويروي بعض شعره : أبو الحسين عليّ بن جعفر الحمداني ، وإسماعيل بن عليّ الخزاعيّ ، وأبو الحسن جُحظة ، الذي مدحه ابن الرومي بقصيدة توجد في ديوانه (١) (ص ١٦٨).

تجد ذكره والثناء عليه في (٢) فهرست ابن النديم (ص ٢٣٥) ، تاريخ بغداد (١٢ / ٢٣) ، معجم الشعراء (ص ٢٨٩ ، ٤٥٣) ، أمالي الشريف المرتضى (٢ / ١٠١) ، مروج الذهب (٢ / ٤٩٥) ، العمدة لابن رشيق (١ / ٥٦ ، ٦١ ، ٩١) ، معالم العلماء لابن شهرآشوب ، وفيات الأعيان (١ / ٣٨٥) ، مرآة الجنان لليافعي (٢ / ١٩٨) ، شذرات الذهب (٢ / ١٨٨) ، معاهد التنصيص (١ / ٣٨) ، كشف الظنون (١ / ٤٩٨) ، روضات الجنّات (ص ٤٧٣) ، نسمة السحر فيمن تشيّع وشعر ، دائرة المعارف للبستاني (١ / ٤٩٤) ، دائرة المعارف الإسلاميّة (١ / ١٨١) ، الأعلام للزركلي (٢ / ٦٧٥) ، الشيعة وفنون الإسلام (ص ١٠٥) ، مجلّة الهدى العراقيّة الجزء السادس (ص ٢٢٣ ـ ٢٢٧).

وعُنيَ بجمع آثاره وكتابة أخباره وروايتها جمعٌ منهم :

١ ـ أبو العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمّار : المتوفّى (٣١٩) ، قال ابن المسيّب : لمّا مات ابن الرومي عمل كتاباً (٣) في تفضيله ومختار شعره ، وجلس يمليه

__________________

(١) ديوان ابن الرومي : ١ / ١٧٥.

(٢) فهرست النديم : ص ١٩٠ ، معجم الشعراء : ص ١٤٥ ، ص ٤١٠ ، مروج الذهب : ٤ / ٣٠١ ، العمدة : ص ٦٩ ، ٧٢ ، ١١٠ ، معالم العلماء : ص ١٥١ ، وفيات الأعيان : ٣ / ٣٥٨ رقم ٤٦٣ ، شذرات الذهب : ٣ / ٣٥٢ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍ ، معاهد التنصيص : ١ / ١٠٨ رقم ١٨ ، كشف الظنون : ١ / ٧٦٦ ، روضات الجنّات : ٥ / ٢٠١ رقم ٤٨٥ ، نسمة السحر : مج ٨ / ج ٢ / ٣٥٨ ، الأعلام : ٤ / ٢٩٧ ، الشيعة وفنون الإسلام : ص ١٣٧.

(٣) ينقل الحموي عنه ترجمة أحمد بن محمد بن عمّار في معجم الأدباء [٣ / ٢٤٠]. (المؤلف)

٥٣

على الناس ، كما في فهرست ابن النديم (١) (ص ٢١٢) ومعجم الأدباء (١ / ٢٢٧).

٢ ـ أبو عثمان الناجم. ترجمه في كتاب مقصور عليه.

٣ ـ أبو الحسن عليّ بن عبّاس النوبختي : المتوفّى (٣٢٧). جمع أخباره في كتاب مفرد ، كما في معجم المرزباني (٢) (ص ٢٩٥) ومعجم الأدباء (٣) (٥ / ٢٢٩).

وأفرد من الكتّاب المتأخّرين الأستاذ عبّاس محمود العقّاد كتاباً (٤) في ترجمته في (٣٩٢) صفحة ونحن نأخذ منه ما هو المهمّ ملخّصاً بلفظه. قال :

قد أدرك ابن الرومي في حياته ثمانية خلفاء ، هم : الواثق ، المتوكّل ، المنتصر ، المستعين ، المعتز ، المهتدي ، المعتمد ، المعتضد المتوفّى بعد ابن الرومي.

أثنى عليه العميدي صاحب الإبانة (٥) ، وابن رشيق صاحب العمدة (٦) وقال : أكثر المولّدين اختراعاً وتوليداً فيما يقول الحذّاق : أبو تمام وابن الرومي. وأطراه ابن سعيد المغربي المتوفّى (٦٧٣) في كتابه : عنوان المرقصات والمطربات (٧).

ويظهر أنّ أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي ـ من أدباء القرن الرابع ـ توسّع في ترجمته ، إمّا في كتابه حماسة المحدثين ، أو في كتاب مقصور عليه. ولكنّ أخباره هذه ذهبت كلّها ولم يبق منها أثر إلاّ متفرّقات في الكتب ، لا تغني في ترجمة وافية ولا شبيهة بالوافية ، فنحن ننقلها كما هي :

ولد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب (٢٢١) ببغداد ، في

__________________

(١) فهرست النديم : ص ١٦٦.

(٢) معجم الشعراء : ص ١٥٥.

(٣) معجم الأدباء : ١٣ / ٢٦٧.

(٤) طبع أخيراً ضمن المجموعة الكاملة لمؤلّفات العقّاد : المجلد ١٥.

(٥) الإبانة : ص ٢٤.

(٦) العمدة : ١ / ٢٦٥ باب ٣٥.

(٧) المرقصات والمطربات : ص ٥٠.

٥٤

الموضع المعروف بالعقيقة (١) ودرب الختليّة ، في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور (٢).

كان ابن الرومي مولىً لعبد الله بن عيسى ، ولا يشكّ أنَّه روميّ الأصل ، فإنّه يذكره ويؤكّده في مواضع من ديوانه ، واسم جدّه مع هذا : جريج ـ أو جرجيس ـ اسم يونانيّ لا شبهة فيه ؛ فلا ينبغي الالتفات إلى من قال : إنّه سمّي بابن الرومي لجماله في صباه.

وكان أبوه صديقاً لبعض العلماء والأدباء منهم : محمد بن حبيب الراوية الضليع في اللغة والأنساب ، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة ، وكان محمد ابن حبيب يخصّه لما يراه من ذكائه وحدّة ذهنه ، وحدّث الشاعر عنه فقال : إنّه كان إذا مرّ به شيء يستغربه ويستجيده يقول لي : يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك (٣).

وقد علمنا أنّ أمّه كانت فارسيّة من قوله : الفرس خُؤولي والروم أعمامي ، وقوله : فلم يلدني أبو السوّاس ساسان. بعد أن رفع نسبه إلى يونان من جهة أبيه ، وربّما كانت أمّه من أصل فارسيّ ، ولم تكن فارسيّة قحّا لأبيها وأمّها ـ وهذا هو الأرجح ـ لأنّ علمه بالفارسيّة لم يكن علم رجل نشأ في حجر أمّ تتكلّم هذه اللغة ، ولا تحسن الكلام بغيرها ، وماتت أمّه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها :

أقول وقد قالوا أتبكي لفاقدٍ

رضاعاً وأين الكهلُ من راضعِ الحَلَمْ

هي الأمُّ يا لَلناسِ جزّعت فقدها

ومن يَبْكِ أمّا لم تُذمْ قطُّ لا يُذَمْ

وكانت أمّه تقيّة ، صالحة ، رحيمة ، كما يُؤخذ من أبياته في رثائها.

__________________

(١) في معجم الشعراء [ص ١٤٥] : في الجانب الغربي بالعتيقة. وهذا هو الصحيح. (المؤلف)

(٢) أخذه من أبي عثمان الخالدي. (المؤلف)

(٣) تامور الرجل : قلبه وعقله.

٥٥

قال الأميني : أُمّه حسنة بنت عبد الله السجزي كما في معجم المرزباني (١) ، وسِجز بلدةٌ من بلاد الفرس من أرباض خراسان ، فهي فارسيّة قحّ.

أخوه وشقيقه محمد المكنّى بأبي جعفر ، وهو أكبر من المترجَم ، وتوفّي قبله ، وكان يتفجّع بذكراه ورثاه ، ومات أخوه وهو يعمل في خدمة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أحد أركان بيت بني طاهر ، ويظهر من ديوان المترجَم أنَّه كان أديباً كاتباً أيضاً.

ولم يبق لابن الرومي بعد موت أخيه أحدٌ يعوّل عليه من أهله أو من يحسبون في حكم أهله ، إلاّ أناسٌ من مواليه الهاشميّين العبّاسيّين ، كانوا يبرّونه حيناً ويتناسونه أحياناً ، وكان لعهد الهاشميّين الطالبيّين أحفظ منه لعهد الهاشميّين العبّاسيّين ، كما يظهر ممّا يلي. أمّا ابن عمِّه الذي أشار إليه في قوله :

ليَ ابنُ عمٍّ يَجُرُّ الشرّ مجتهداً

إليّ قِدْماً ولا يصلي له نارا

يجني فأصلى بما يجني فيخذلني

وكلّما كان زنداً كنت مِسعارا

فلا ندري أهو ابن عمّ لحّ ، أو ابن عمّ كلالة؟ ومبلغ ما بينهما من صلة المودّة ظاهرٌ من البيتين.

أولاده :

رُزق ابن الرومي ثلاثة أبناء وهم : هبة الله ، ومحمد ، وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه ، ماتوا جميعاً في طفولتهم ، ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والدٌ أبناءه ، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد ، فرثاه بداليّة مشهورة ، يقول فيها :

توخّى حِمامُ الموتِ أوسطَ صِبْيَتي

فللهِ كيف اختارَ واسطةَ العِقدِ

على حينَ شِمتُ الخيرَ في لمحاتِهِ

وآنستُ من أفعالِهِ آيةَ الرشدِ

__________________

(١) معجم الشعراء : ص ١٤٥.

٥٦

ومنها في وصف مرضه :

لقد قلّ بين المهدِ واللحدِ لَبثُهُ

فلم ينسَ عهدَ المهدِ إذ ضُمَّ في اللحدِ

أَلَحّ عليه النزفُ حتى أحالَهُ

إلى صُفرةِ الجاديِ (١) عن حمرةِ الوردِ

وظلَّ على الأيدي تَساقطُ نفسُهُ

ويذوي كما يذوي القضيبُ من الرندِ (٢)

ويذكر فيها أخويه الآخرين :

محمدُ ما شيء تُوهّم سلوةً

لقلبيَ إلاّ زاد قلبي من الوجْدِ

أرى أخويك الباقيينِ كليهما

يكونان للأحزان أورى من الزنْدِ

إذا لعبا في ملعبٍ لكَ لذّعا

فؤادي بمثل النارِ عن غير ما عمْدِ

فما فيهما لي سلوةٌ بل حزازةٌ

يُهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

أمّا ابنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يُفهم من قوله في رثائه :

يا حسرتا فارقْتَني فَنَنَاً

غَضّا ولم يُثْمِرْ ليَ الفَنَنُ

أبُنيّ إنّكَ والعزاءَ معاً

بالأمسِ لُفّ عليكما كَفنُ

وفي الديوان أبيات يرثي بها ابناً لم يذكر اسمه ، وهي :

حماه الكرى هَمٌّ سَرى فتأوَّبا

فباتَ يراعي النجمَ حتى تصوَّبا

أعينيَّ جودا لي فقد جُدتُ للثرى

بأكثرَ ممّا تمنعانِ وأطيبا

بُنيّ الذي أهديتُهُ أمسِ للثرى

فلله ما أقوى قناتي وأصلبا

فإن تمنعاني الدمعَ أرجِعْ إلى أسىً

إذا فترتْ عنه الدموعُ تلهّبا

وهي على الأرجح رثاؤه لأصغر أبنائه الذي لم يذكر اسمه ، ولا ندري هل مات

__________________

(١) الجادي : الزعفران. (المؤلف)

(٢) يذوي من ذوى النبات وذوي : ذبل ونشف ماؤه. الرند : نبات من شجر البادية طيّب الرائحة يشبه الآس. (المؤلف)

٥٧

قبل أخيه أو بعده ، ولكن يخيّل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أنّ الأبيات البائيّة كانت آخر ما رثى به ولداً ، لأنّها تنمُّ عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين ، حتى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلاّ الأسى الملتهب في الضلوع ، وإلاّ العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكلّ هذه الفجائع ، وقد كان رثاؤه لابنه الأوسط صرخة الضربة الأولى ، ففيها ثورةٌ لاعجةٌ تحسّ من خلل الأبيات ، ثمّ حلّ الألم المرير محل الألم السوّار في مصيبته الثانية ، فوجم وسكن واستعبر ، ثمّ كانت الخاتمة فهو مستسلمٌ يعجب للحزن كيف لم يقضِ عليه ، ويحسّ وقدة المصاب في نفسه ولا يحسّه في عينيه ، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلّها ، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعاً ، فتمّت بها مصائبه وكبر عليه الأمر ... إلخ.

تعليمه

ذلك كلّ ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ، ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيّام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم وتتلمذ له من العلماء والرواة ، فإنّ هذه المصادر خلوٌ ممّا يُفيد في هذا المقام إلاّ ما جاء عرضاً في الجزء السادس من الأغاني (١) ، حيث يروي ابن الرومي عن أبي العبّاس ثعلب ، عن حمّاد بن المبارك ، عن الحسين بن الضحّاك. وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة ، عن عمر السكوني بالكوفة ، عن أبيه ، عن الحسين بن الضحّاك ، فيصح أن تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ ، لأنّ ثعلباً ولد سنة مائتين ، فهو أكبر من الشاعر بإحدى وعشرين سنة. أمّا قتيبة ـ والمفهوم أنَّه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدّث العالم المشهور ـ فجائز أن يكون ممّن أمْلَوا عليه وعلّموه ، لأنَّه مات وابن الرومي يناهز العشرين.

وقد مرّ بنا أنَّه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسّابة الكبير ، وسنرى

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ١٩٤.

٥٨

هنا أنَّه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغويّة ، فيذكر شرحها في ديوانه معتمداً عليه ، قال بعد قوله :

وأصْدَقُ المدح مدحُ ذي حسدٍ

ملآنَ من بغضَةٍ ومن شَنَفِ

قال لي محمد بن حبيب : الشنف ما ظهر من البغضة في العينين ، وأشار إليه بعد بيت آخر وهو :

بانوا فبانَ جميلُ الصبرِ بعدهُمُ

فللدموعِ من العينينِ عينانُ

إذ فسّر كلمة (عينان) ، فروى عن ابن حبيب أنّه قال : عان الماء يعين عيناً وعيناناً إذا ساح. فهؤلاء ثلاثة من أساتذة ابن الرومي على هذا الاعتبار ، ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه ، وحسبنا مع هذا أنّ الرجل ـ كيفما كان تعليمه وأيّا كان معلّموه ـ قد نشأ على نصيب وافٍ من علوم عصره ، وساهم في القديم والحديث منها بقسط وافر في شعره ، فلو لم يقل المعرّي : إنّه كان يتعاطى الفلسفة ، والمسعودي : إنّ الشعر كان أقلّ آلاته لعلمنا ذلك من شواهد شتّى في كلامه ، فهي هناك كثيرةٌ متكرّرةٌ لا يلمّ المتصفِّح ببعضها إلاّ جزم باطّلاع قائلها على الفلسفة ، ومصاحبة أهلها ، واشتغاله بها ، حتى سَرَت في أسلوبه وتفكيره ، وما كان متعلّم الفلسفة في تلك الأيّام يصنع أكثر من ذلك ليتعلّمها أو لِيُعَدّ من متعلّميها ، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملمّ بالفلسفة والقياس المنطقيّ والنجوم كلاماً كهذا الكلام :

لِما تؤذنُ الدنيا به من صروفها

يكونُ بكاءُ الطفلِ ساعةَ يولَدُ

وإلاّ فما يُبكيه منها وأنّها

لأرحبُ ممّا كان فيه وأرغدُ

وذكر (١) شواهد كثيرة على إلمامه بالعلوم ومعرفته بمصطلحاتها ، غضضنا الطرف عنها اختصاراً.

__________________

(١) أي العقّاد في كتابه عن ابن الرومي.

٥٩

رسائل ابن الرومي

وقد وردت في أبياته الهمزيّة إشارة إلى حذقه في الكتابة ، ومشاركته في البلاغة المنثورة ، تعزّزها إشارة مثلها في هذا البيت :

ألَمْ تَجدوني آلَ وهبٍ لمدحِكمْ

بشعري ونثري أخطلاً ثمّ جاحظا

فلا بدّ أنَّه كان يكتب ويمارس الصناعة النثريّة ، إلاّ أنَّ ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذاً معدودة موجزة ، منها :

١ ـ رسالة إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصِّلاً :

ترفّع عن ظلمي إن كنت بريئاً ، وتفضّل بالعفو إن كنت مسيئاً ، فو الله إنّي لأطلب عفو ذنب لم أجنِه ، وألتمس الإقالة ممّا لا أعرفه ، لتزداد تطوّلاً ، وأزداد تذلّلاً ، وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واشٍ يكيدها ، وأحرسها بوفائك من باغٍ يحاول إفسادها ، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظّي منك بقدر ودّي لك ، ومحلّي من رجائك بحيث أستحقُّ منك. والسلام.

٢ ـ رسالة كتبها يعود صديقاً :

أذن الله في شفائك ، وتلقّى داءك بدوائك ، ومسح بيد العافية عليك ، ووجّه وفد السلامة إليك ، وجعل علّتك ماحية لذنوبك ، مضاعفة لثوابك.

٣ ـ كتب إلى صديق له قَدِم من سيراف (١) ، فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه

أطال الله بقاءك ، وأدام عزّك وسعادتك ، وجعلني فداءك ، لو لا أنّي في حيرة من

__________________

(١) سيراف : مدينة جليلة على ساحل بحر فارس ، منها إلى شيراز ستّون فرسخاً [معجم البلدان ٣ / ٢٩٤]. (المؤلف)

٦٠