الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

لأنّي لم أكن من نعثليٍ

ولا أهوى عتيقَ ولا دماما

وله ـ مادحاً أهل البيت الطاهر ـ قوله :

يا لائمي في الولا هل أنت تعتبرُ

بمن يُوالي رسولَ الله أو يذرُ

قومٌ لَوَ انَّ البحار تنزف بالأ

قلام مَشقاً (١) وأقلام الدُّنا شجرُ (٢)

والإنسُ والجنُّ كُتّابٌ لفضلِهمُ

والصحفُ ما احتوت الآصال والبكرُ

لم يكتبوا العُشْر بل لم يعدُ جهدُهمُ

في ذلك الفضل إلاّ وهو محتقرُ

أهلُ الفَخَارِ وأقطابُ المدارِ ومن

أضحت لأمرهمُ الأيّامُ تأتمرُ

هم آلُ أحمدَ والصيدُ الجحاجِحةُ الز

هرُ الغطارفة العلويّة الغررُ (٣)

والبيض من هاشم والأكرمون أولو ال

 ـفضل الجليلِ ومن سادت بهم مضرُ

فافطن بعقلِكَ هل في القدْر غيرهمُ

قومٌ يكاد إليهم يرجعُ القدرُ

أُعطُوا الصفا نَهَلاً أُعطُوا النبوّة من

قبلِ المزاجِ فلم يلحق بهم كَدَرُ

وتُوِّجوا شرفاً ما مثلُهُ شرفٌ

وقُلّدوا خطراً ما مثلُه خطرُ

حسبي بهم حُججاً لله واضحةً

يجري الصلاةُ عليهم أينما ذكروا

هم دوحةُ المجدِ والأوراقُ شيعتهمْ

والمصطفى الأصلُ والذرّيةُ الثمرُ (٤)

وله في رثاء أهل البيت قوله :

يا آلَ أحمدَ ما ذا كان جرمُكُمُ

فكلُّ أرواحِكمْ بالسيفِ تُنتزَعُ

__________________

(١) مشق الخطَّ : مدّه ، وقيل : أسرع فيه.

(٢) أشار إلى ما ورد عن رسول الله صلّي الله عليه واله وسلّم من قوله : «لو أنّ الأشجار أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب». مناقب الخوارزمي : ص ٢ ، ٢٣٥ [ص ٣٢ ح ١ ، ٣٢٨ ح ٣٤١] ، كفاية الطالب : ص ١٢٣ [ص ٢٥١ باب ٦٢] ، تذكرة السبط : ص ٨ [ص ١٣]. (المؤلف)

(٣) الصِّيد : جمع أصيَد ، وهو الذي يرفع رأسه كبراً ، والمراد أنّهم أباة أعزّة النفوس. الجحاجحة : جمع جحجاح ، وهو السيِّد الكريم ، الغطارفة : جمع غطريف ، وهو السيِّد.

(٤) فيه إيعاز إلى ما مرّ في هذا الجزء : ص ٨ ، ٩. (المؤلف)

٥٤١

تُلفى جموعُكمُ شتّى مفرَّقةً

بين العبادِ وشملُ الناسِ مجتمعُ

وتُستباحون أقماراً مُنكَّسةً

تهوي وأرؤسُها بالسمرِ تُقتَرعُ

ألستمُ خيرَ من قامَ الرشادُ بكم

وقوِّضت سُننُ التضليلِ والبدعُ

ووُحِّد الصمدُ الأعلى بهداكمُ

إذ كنتمُ عَلَماً للرشد يُتّبعُ

ما للحوادثِ لا تجري بظالمكم

ما للمصائب عنكم ليس ترتدعُ

منكم طريدٌ ومقتولٌ على ظمأ

ومنكمُ دنفٌ بالسمرِ مُنصرعُ

وهاربٌ في أقاصي الغربِ مغتربٌ

ودارعٌ بدمِ اللبّاتِ مندرعُ

ومقصدٌ من جدارٍ ظلّ مُنكدراً

وآخر تحت ردمٍ فوقه يقعُ

ومن محرّقِ جسمٍ لا يُزارُ له

قبرٌ ولا مشهدٌ يأتيه مرتدعُ

وإن نسيتُ فلا أنسى الحسينَ وقد

مالت إليهِ جنودُ الشركِ تقترعُ

فجسمُهُ لحوامي الخيل مطّردٌ

ورأسه لسنان السُّمر مرتفعُ

وله في رثائهم ـ سلام الله عليهم ـ قوله :

بنو المصطفى تَفْنَوْن بالسيفِ عنوةً

ويُسلمني طيفُ الهجوع فأهجعُ

ظُلِمتم وذبِّحتمْ وقُسِّمَ فيئُكمْ

وجارَ عليكمْ من لكمْ كانَ يخضعُ

فما بقعةٌ في الأرض شَرقاً ومغرباً

وإلاّ لكمْ فيها قتيلٌ ومصرَعُ

وله في رثاء الإمام السبط الشهيد عليه‌السلام قوله :

أعاتبُ عيني إذا أقصرتْ

وأفني دموعي إذا ما جَرَتْ

لذكراكمُ يا بني المصطفى

دموعي على الخطِّ قد سُطّرتْ

لكم وعليكم جَفَتْ غَمْضَها

جفوني عن النومِ واستشعرتْ

أُمثِّل أجسادكم بالعراقِ

وفيها الأسنّةُ قد كُسِّرتْ

أُمثّلكم في عراصِ الطفوفِ

بدوراً تكسّفُ إذ أقمرتْ

غدتْ أرضُ يثربَ من جمعكمْ

كخطِّ الصحيفةِ إذ أقفرتْ

٥٤٢

وأضحى بكم كربلا مغرباً

كزهر النجوم إذا غوّرتْ

كأنّي بزينبَ حول الحسين

ومنها الذوائب قد نُشِّرتْ

تُمرِّغ في نحرِهِ وجهَها

وتُبدي من الوجدِ ما أضمرتْ

وفاطمةٌ عقلُها طائرٌ

إذ السوطَ في جنبها أبصرتْ

وللسبطِ فوق الثرى جثّةٌ

بفيضِ دمِ النحرِ قد عُفِّرتْ

وفتيتُهُ فوق وجهِ الثرى

كمثلِ الأضاحي إذا جُزِّرتْ

وأرؤسُهم فوقَ سُمرِ القنا

كمثلِ الغصونِ إذا أثمرتْ

ورأسُ الحسين أمام الرفاقِ

كغُرّةِ صُبحٍ إذا أسفرتْ

وله في رثائه ـ صلوات الله عليه ـ قوله :

ابكي يا عين ابكي آلَ رسول ال

 ـلَّه حتى تُخدّ منكِ الخدودُ

وتقلّبْ يا قلبُ في ضَرم الحزنِ

فما في الشجا لهم تفنيدُ

فهمُ النخل باسقاتٌ كما قال

سوامٍ لهنّ طلعٌ نضيدُ

وهمُ في الكتابِ زيتونةُ النور

وفيها لكلِّ نارٍ وقودُ

وبأسمائهم إذا ذُكِرَ اللهُ

بأسمائِهِ اقترانٌ أكيدُ

غادرتهمْ حوادثُ الدهرِ صرعى

كلُّ شهمٍ بالنفس منه يجودُ

لست أنسى الحسينَ في كربلاءَ

وهو ظامٍ بين الأعادي وحيدُ

ساجدٌ يلثم الثرى وعليهِ

قُضُبُ الهندِ رُكّعٌ وسجودُ

يطلبُ الماءَ والفراتُ قريبٌ

ويرى الماءَ وهو عنهُ بعيدُ

يا بني الغدر من قتلْتُمْ لَعمري

قد قتلتمْ من قامَ فيه الوجودُ

وله في أهل البيت الطاهر ـ سلام الله عليهم ـ :

قومٌ سماؤهمُ السيوفُ وأرضُهمْ

أعداؤهمْ ودمُ النحورِ بحورها

يستمطرونَ من العجاجِ سحائباً

صوبَ الحتوفِ على الزحوف مطيرها

٥٤٣

وحَنادسُ الفتنِ التي إن أظلمتْ

فشموسها آراؤهم وبُدورها

ملكوا الجنانَ بفضلهم فرياضُها

طرّا لهم وخيامُها وقُصورها

وإذا الذنوبُ تضاعفتْ فبحبِّهمْ

يُعطي الأمانَ أخا الذنوبِ غَفورُها

تلك النجومُ الزُّهرُ في أبراجِها

ومن السنين بهم تتمُّ شهورها

أخذنا ترجمة الزاهي (١) من : تاريخ بغداد (١١ / ٣٥٠) ، يتيمة الدهر (١ / ١٩٨) ، أنساب السمعاني ، مناقب ابن شهرآشوب ومعالمه ، تاريخ ابن خلكان (١ / ٣٩٠) ، مرآة الجنان (٢ / ٣٤٩) ، مجالس المؤمنين (ص ٤٥٩) ، بحار الأنوار (١٠ / ٢٥٥) ، الكنى والألقاب (٢ / ٢٥٧) ، دائرة المعارف للبستاني (٩ / ١٦١) ، الأعلام للزركلي (٢ / ٦٥٩).

__________________

(١) يتيمة الدهر : ١ / ٢٨٩ ، الأنساب : ٣ / ١٢٦ ، مناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٣٠ ، معالم العلماء : ص ١٤٨ ، وفيات الأعيان : ٣ / ٣٧١ رقم ٤٦٧ ، مجالس المؤمنين : ٢ / ٥٤٤ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ٢٤٧ ، الكنى والألقاب : ٢ / ٢٨٧ ، الأعلام : ٤ / ٢٦٣.

٥٤٤

٢١ ـ

الأمير أبو فراس الحمداني

المولود (٣٢٠ ، ٣٢١)

المتوفّى (٣٥٧)

الحقُّ مُهتضمٌ والدينُ مُخترمُ

وفيءُ آلِ رسولِ الله مُقتسَمُ

والناسُ عندَكَ لا ناسٌ فيحفظَهمْ (١)

سَوْمُ الرعاةِ ولا شاءٌ ولا نَعَمُ

إنّي أبِيتُ قليلَ النومِ أرّقني

قلبٌ تَصارعَ فيه الهمُّ والهِمَمُ

وعزمةٌ لا ينامُ الليلَ صاحبُها

إلاّ على ظَفَرٍ في طيِّهِ كَرَمُ

يُصان مُهري لأمرٍ لا أبوحُ به

والدرعُ والرمحُ والصمصامةُ الحذمُ (٢)

وكلّ مائرةِ الضبعين مسرحُها

رِمْثُ الجزيرةِ والخذرافُ والعَنَمُ (٣)

وفتيةٌ قلبهمْ قلبٌ إذا ركِبوا

وليس رأيهمُ رأياً إذا عزموا

يالَلرِّجالِ أما لله مُنتصرٌ

من الطغاةِ أما لله مُنتقمُ

بنو عليٍّ رعايا في ديارهمُ

والأمرُ تملكه النسوان والخدمُ

__________________

(١) احفظه : اغضبه فغضب.

(٢) الحذم من السيوف ، بالحاء المهملة : القاطع. (المؤلف)

(٣) مار : تحرّك. الضبع : العضد ، كناية عن السمن. الرِّمث ـ بكسر المهملة ـ : خشب يضمُّ بعضه إلى بعض ويسمّى : الطوف. الخذراف ـ بكسر الخاء ثمّ الذال المعجمتين ـ : نبات إذا أحسّ بالصيف يبس. العَنم ـ بفتح المهملة ـ : نبات له ثمرة حمراء يشبّهُ به البنان المخضوب. (المؤلف)

٥٤٥

محلّؤون فأصْفَى شُرْبِهمْ وَشَلٌ

عند الورود وأوفى وُدّهِم لَمَمُ (١)

فالأرض إلاّ على مُلاّكها

سعةٌ والمال إلاّ على أربابهِ دِيَمُ

فما السعيد بها إلاّ الذي ظَلموا

وما الغني بها إلاّ الذي حرموا (٢)

للمتّقين من الدنيا عواقبُها

وإن تعجّلَ منها الظالمُ الأثِمُ

أتفخرون عليهم لا أبا لكُمُ

حتى كأنّ رسولَ الله جدُّكمُ

وما توازن فيما بينكم شرفٌ

ولا تساوت لكم في موطنٍ قدمُ

ولا لكم مثلُهم في المجد متّصلٌ

ولا لجدِّكمُ معشار جدِّهمُ (٣)

ولا لعرقِكمُ من عرقِهم شَبَهٌ

ولا نثيلتكم من أمِّهم أمَمُ (٤)

قام النبيُّ بها يومَ الغدير لهم

والله يشهدُ والأملاكُ والأممُ

حتى إذا أصبحتْ في غير صاحبِها

باتت تنازعها الذُّؤبان والرخمُ

وصيّروا أمرهم شورى كأنّهمُ

لا يعرفون ولاة الحقّ أيّهمُ

تالله ما جَهِلَ الأقوامُ موضعَها

لكنّهمْ ستروا وجهَ الذي علموا

ثمّ ادّعاها بنو العبّاس مُلكَهمُ

ولا لهم قَدَمٌ فيها ولا قِدمُ

لا يُذْكَرون إذاما معشرٌ ذُكِروا

ولا يُحَكَّمُ في أمرٍ لهم حَكَمُ

ولا رآهم أبو بكرٍ وصاحبُهُ

أهلاً لِما طَلبوا منها وما زَعموا

فهل همُ مدّعوها غيرَ واجبةٍ

أم هل أئمّتُهمْ في أخذِها ظلموا

أمّا عليٌّ فأدنى من قرابتكم

عند الولاية إن لم تُكفَرِ النِّعمُ

أيُنكِرُ الحَبْرُ عبد الله نعمتَهُ

أبوكمُ أم عبيدُ اللهِ أَم قَثَمُ

بئس الجزاءُ جَزَيتُمْ في بني حسنٍ

أباهُم العَلَمَ الهادي وأمّهمُ

__________________

(١) حلاّه عن الماء : طرده. الوشل : الماء القليل. لمم : أي غبّ. (المؤلف)

(٢) الشطر الثاني في الأصل : وما الشقيّ بها إلاّ الذي ظلموا. والصحيح ، بحسب المعنى والقواعد النحوية ، ما أثبتناه عن الديوان : ص ٢٥٦. (٣) في الديوان وأعيان الشيعة : ٤ / ٣٤١ : مسعاة جدّهم.

(٤) نثيلة : هي أمّ العبّاس بن عبد المطّلب. الأمم : القرب. (المؤلف)

٥٤٦

لا بيعةٌ ردَعتكمْ عن دمائهمُ

ولا يمينٌ ولا قُربى ولا ذَممُ

هلاّ صفحتمْ عن الأسرى بلا سببٍ

للصافحين ببدرٍ عن أسيركمُ (١)

هلاّ كففتمْ عن الديباجِ سوطَكُمُ (٢)

وعن بناتِ رسولِ الله شتمَكم (٣)

ما نُزِّهتْ لرسول الله مُهْجَتُهُ

عن السياطِ فهلاّ نُزِّهَ الحَرَمُ

ما نالَ منهمْ بنو حربٍ وإن عظُمَتْ

تلكَ الجرائرُ إلاّ دون نَيْلِكمُ

كم غدرةٍ لكم في الدين واضحةٍ

وكم دمٍ لرسول الله عندكمُ

أنتم له شيعةٌ (٤) فيما ترونَ وفي

أظفارِكُم من بنيه الطاهرينَ دمُ

هيهاتَ لا قرّبتْ قُربى ولا رَحِمٌ

يوماً إذا أَقْصَتِ الأخلاقُ والشِّيَمُ

كانت مودّةُ سلمانٍ له رَحِماً

ولم يكن بين نوحٍ وابنه رَحِمُ

يا جاهداً في مساويهم يكتِّمُها

غَدْرُ الرشيدِ بيحيى كيف يْنكَتِمُ (٥)

ليس الرشيدُ كموسى في القياسِ ولا

مأمونُكُمْ كالرضا لو أنصفَ الحكمُ

ذاق الزبيري غِبّ الحنثِ وانكشفت

عن ابن فاطمةَ الأقوالُ والتُّهمُ (٦)

باؤوا بقتل الرضا من بعد بيعتِهِ

وأبصروا بعضَ يومٍ رُشدَهم وعموا

يا عُصْبَةً شَقِيَتْ من بعد ما سعدتْ

ومَعْشَراً هلكوا من بعد ما سلِموا

__________________

(١) أراد بالأسرى : عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وبأسيرهم ببدر : العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه.

(٢) الديباج : هو محمد بن عبد الله العثمانيّ ، أخو بني حسن لأمّهم فاطمة بنت الحسين السبط ، ضربه المنصور مائتين وخمسين سوطاً. (المؤلف)

(٣) ٢٠

(٤) في الديوان وأعيان الشيعة : أأنتم آله.

(٥) أشار إلى غدر الرشيد بيحيى بن عبد الله بن الحسن الخارج ببلاد الديلم سنة ١٧٦ ، فإنّه أمّنه ثمّ غدره وحبسه ، ومات في حبسه. (المؤلف)

(٦) الزبيري : هو عبد الله بن مصعب بن الزبير ، باهله يحيى بن عبد الله بن حسن فتفرّقا ، فما وصل الزبيري إلى داره حتى جعل يصيح : بطني بطني ، ومات. (المؤلف)

٥٤٧

لَبِئسما لَقِيَتْ منهم وإن بليَتْ

بجانبِ الطفِّ تلكَ الأعظمُ الرممُ (١)

لاعن أبي مسلمٍ في نُصْحِهِ صفحوا

ولا الهبيريَّ نجّا الحلفُ والقَسَمُ (٢)

ولا الأمانُ لأهل الموصلِ اعتمدوا

فيه الوفاءَ ولا عن غيِّهم حَلِموا (٣)

أبلغ لديك بني العبّاس مألُكةً (٤)

لا يدّعوا ملكَها ملاّكُها العجمُ

أيّ المفاخرِ أمستْ في منازلِكُمْ

وغيرُكُمْ آمرٌ فيها ومحتكِمُ

أنّى يَزيدُكمُ في مفخرٍ عَلَمٌ

وفي الخلافِ عليكمْ يخفِقُ العَلَمُ

يا باعةَ الخمرِ كُفّوا عن مفاخرِكمْ

لمعشرٍ بَيعُهمْ يومَ الهِياجِ دَمُ

خلّوا الفَخَار لعلاّمينَ إن سُئلوا

يومَ السؤالِ وعَمّالين إن عَلِموا

لا يغضبونَ لغيرِ الله إن غضبوا

ولا يُضيعُونَ حُكمَ الله إن حَكموا

تُنشى التلاوةُ في أبياتهم سَحَراً

وفي بيوتكُمُ الأوتارُ والنغَمُ

منكمْ عُليّةُ أم منهم وكان لكمْ

شيخُ المغنِّين إبراهيمُ أم لَهُمُ (٥)

إذا تلوا سورةً غنّى إمامُكمُ

قف بالطلولِ التي لم يعفها القِدمُ

ما في بيوتهمُ للخمرِ مُعتصَرٌ

ولا بيوتكمُ للسوءِ مُعتَصَمُ

ولا تبيت لهم خُنْثَى تنادمهمْ

ولا يُرى لهمُ قِرْدٌ ولا حَشَمُ (٦)

__________________

(١) أشار إلى ما فعله المتوكّل بقبر الإمام الشهيد. (المؤلف)

(٢) أبو مسلم : هو الخراساني مؤسّس دولة بني العبّاس ، قتله المنصور. والهبيريّ : هو يزيد بن عمر ابن هبيرة ، أحد ولاة بني أميّة ، حاربه بنو العبّاس أيام السفّاح ثمّ أمّنوه ، فخرج إلى المنصور بعد المواثيق والأيمان ، فغدروا به وقتلوه سنة ١٣٢. (المؤلف)

(٣) استعمل السفّاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل فأمّنهم ونادى : من دخل الجامع فهو آمن. وأقام الرجال على أبواب الجامع ، فقتلوا الناس قتلاً ذريعاً. قيل : إنّه قتل فيه أحد عشر ألفاً ممّن له خاتم ، وخلقاً كثيراً ممّن ليس له خاتم ، وأمر بقتل النساء والصبيان ثلاثة أيام وذلك في سنة ١٣٢. (المؤلف)

(٤) المألُكة : الرسالة.

(٥) عُليّة : بنت المهدي بن المنصور كانت عوّادة ، وإبراهيم أخوها كان مغنّياً وعوّاداً. (المؤلف)

(٦) الخنثى : هو عبادة نديم المتوكّل. والقرد كان لزبيدة. (المؤلف)

٥٤٨

الركن والبيتُ والأستارُ منزلهُمْ

وزمزمٌ والصفا والحِجرُ والحَرَمُ

وليس من قَسَمٍ في الذِكر نعرفهُ

إلاّ وهم غيرَ شكٍّ ذلكَ القَسَمُ

ما يتبع الشعر

توجد هذه القصيدة كما رسمناها (٥٨) بيتاً في ديوانه (١) المخطوط ، المشفوع بشرحه لابن خالويه النحوي المعاصر له المتوفّى بحلب في خدمة بني حمدان سنة (٣٧٠) ، وخمّس منها العلاّمة الشيخ إبراهيم يحيى العاملي (٥٤) بيتاً ، وذكر تخميسه في منن الرحمن (١ / ١٤٣) ، مستهلّه :

يا للرجال لجُرحٍ ليس يلتئمُ

عُمْرَ الزمانِ وداءٌ ليسَ ينحسمُ

حتى متى أيّها الأقوام والأممُ

الحقُّ مهتضمٌ

أودى هدى الناس حتى أن أحفظهم

للخير صار بقولِ السوءِ ألفظهُم

فكيف توقظهم إن كنت موقظهمْ

والناس عندك .....

وهي التي شرحها أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الحلبي المتوفّى (٥٦٥) ، وشرحها ابن أمير الحاجّ بشرحه المعروف المطبوع ، وتوجد بتمامها في الحدائق الورديّة (٢) المخطوط ، وذكرها القاضي في مجالس المؤمنين (٣) (ص ٤١١) ، والسيّد ميرزا حسن الزنوزي في رياض الجنّة في الروضة الخامسة ستِّين بيتاً ، وهي التي شطّرها العلاّمة السيد محسن الأمين العاملي. وإليك نصّ البيتين الزائدين :

أمّن تُشاد له الألحان سائرةً

عليّهُمْ ذو المعالي أم عليّكمُ (٤)

__________________

(١) ديوان أبي فراس : ص ٢٥٥ ، طبعة دار صادر ـ بيروت.

(٢) الحدائق الورديّة : ٢ / ٢٢١ ، طبعة دار اسامة ـ دمشق.

(٣) مجالس المؤمنين : ٢ / ٤١٣.

(٤) بعد البيت ال ٥٣. (المؤلف)

٥٤٩

صلّى الإلهُ عليهم كلّما سجعت

ورْقٌ فهم للورى كهفٌ ومعتصمُ (١)

وأسقط ناشر الديوان منها أبياتاً وذكرها (٥٣) بيتاً ، وأحسب أنّه التقط أبياتاً ما كان يروقه مفادها ، ودونك الإشارة إليها :

١ ـ وكلّ مائرة الضبعين مسرحها ...

٢ ـ وفتيةٌ قلبهم قلبٌ إذا ركبوا ...

٣ ـ فما السعيد بها إلاّ الذي ظلموا ...

٤ ـ للمتّقين من الدنيا عواقبها ...

٥ ـ ليس الرشيد كموسى في القياس ولا ...

٦ ـ يا باعة الخمر كفّوا عن مفاخركم ...

٧ ـ صلّى الإله عليهم كلّما سجعت (٢) ...

هذه القصيدة تُعرف بالشافية ، وهي من القصائد الخالدة التي تصافقت المصادر على ذكرها ، أو ذكر بعضها (٣) أو الإيعاز إليها ، مطّردة متداولة بين الأدباء ، محفوظة عند الشيعة وقسمائهم منذ عهد نظمها ناظمها أمير السيف والقلم وإلى الآن ، وستبقى خالدةً مع الدهر ، وذلك لما عليها من مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ، وجودة السرد ، وقوّة الحجّة ، وفخامة المعنى ، وسلاسة اللفظ ، ولمّا أنشد ناظمها الأمير ، أمر خمسمائة سيفٍ وقيل أكثر أن تُشهر في المعسكر (٤)) ، نظمها لمّ أوقف على قصيدة ابن سكرة العبّاسي ، التي أوّلها :

بني عليٍّ دعوا مقالتكمْ

لا يُنقصُ الدرَّ وضعُ من وضعه

__________________

(١) مختتم القصيدة. (المؤلف)

(٢) هذه الأبيات السبعة كلّها ـ إلاّ البيت السادس ـ موجودة في الطبعة التي بين أيدينا من الديوان ، ولعلّ المؤلف قدس‌سره يشير إلى ناشر آخر.

(٣) ذكر سراج الدين السيّد محمد الرفاعي ، المتوفّى ٨٨٥ في صحاح الأخبار : ص ٢٦ من القصيدة ثمانية أبيات ، وقال : القصيدة طويلة ليس هذا محلّ ذكرها. (المؤلف)

(٤) كما ذكره الفتّوني في كشكوله ، وأبو عليّ في رجاله : ص ٣٤٩ [ص ٤١٢]. (المؤلف)

٥٥٠

وللأمير أبي فراس هائيّة يمدح بها أهل البيت ، وفيها ذكر الغدير وهي :

يومٌ بسفحِ الدارِ لا أنساهُ

أرعى له دهري الذي أولاهُ

يومٌ عمرتُ العُمْرَ فيه بفتيةٍ

من نورهمْ أخذَ الزمانُ بَهاهُ

فكأنّ أوجهَهمْ ضياءُ نهاره

وكأنّ أوجهَهمْ نجومُ دجاهُ

ومُهفهفٍ كالغُصنِ حُسنُ قوامِهِ

والظبيِ منه إذا رنا عيناهُ

نازعتُهُ كأساً كأنّ ضياءَها

لمّا تبدّت في الظلامِ ضياهُ

في ليلةٍ حسُنتْ لنا بوصالِهِ

فكأنّما من حُسْنها إيّاهُ

وكأنّما فيها الثريّا إذ بدتْ

كفٌّ يشيرُ إلى الذي يهواهُ

والبدرُ منتصفُ الضياء كأنَّهُ

متبسِّمٌ بالكفِّ يسترقاهُ

ظبيٌ لَوَ انَّ الدرّ مرّ بخدّه

من دون لحظة ناظرٍ أدماهُ

إن لم أكن أهواه أو أهوى الردى

في العالمين لكلّ ما يهواهُ

فحُرِمْتُ قُرْبَ الوَصلِ منه مثلما

حُرِم الحسينُ الماءَ وهو يراهُ

إذ قال أسقوني فَعُوِّض بالقنا

من شُربِ عَذبِ الماء ما أرواهُ

فاجتُزّ رأسٌ طالما من حِجرِهِ

أدنتْهُ كفّا جدِّهِ ويداهُ

يومٌ بعينِ اللهِ كان وإنّما

يُملي لِظلمِ الظالمينَ اللهُ

وكذاك لو أردى عِداة نبيِّه

ذو العرش ما عرَفَ النبيّ عِداهُ

يومٌ عليهِ تغيّرتْ شمسُ الضحى

وبكتْ دماً ممّا رأتهُ سَماهُ

لا عُذرَ فيه لمهجةٍ لم تنفطرْ

أو ذي بكاءٍ لم تفض عيناهُ

تبّا لقوم تابعوا أهواءهم

فيما يسوؤهمُ غداً عُقباهُ

أتراهمُ لم يسمعوا ما خصّهُ

منه النبيُّ من المقال أباهُ

إذ قال يومَ غدير خمٍّ معلناً

من كنتُ مولاه فذا مولاهُ

هذي وصيّته إليهِ فافهموا

يا من يقول بأنّ ما أوصاهُ

أقروا من القرآن ما في فضلِهِ

وتأمّلوه وافهموا فحواهُ

٥٥١

لو لم تُنزّلْ فيه إلاّ هل أتى

من دون كلِّ مُنزَّلٍ لكفاهُ

من كان أوّلَ من حوى القرآن من

لفظ النبيِّ ونطقِهِ وتلاهُ

من كان صاحبَ فتحِ خيبرَ من رمى

بالكفّ منهُ بابَهُ ودحاهُ

من عاضدَ المختارَ من دون الورى

من آزرَ المختارَ من آخاهُ

من بات فوق فراشِهِ متنكّراً

لمّا أطلّ فراشَهُ أعداهُ

من ذا أرادَ إلهُنا بمقالِهِ

الصادقون القانتون سواهُ

من خصّه جبريلُ من ربِّ العُلى

بتحيّةٍ من ربِّهِ وحبَاهُ

أظننتمُ أن تقتلوا أولادَهُ

ويُظِلُّكُمْ يومَ المعادِ لواهُ

أو تشربوا من حوضِهِ بيمينِهِ

كأساً وقد شربَ الحسينُ دماهُ

طوبى لمن ألفاهُ يوم أُوامِهِ (١)

فاستلّ يوم حياته وسقاهُ

قد قال قبلي في قريضٍ قائلٌ

ويلٌ لمن شفعاؤه خُصماهُ

أنسيتمُ يومَ الكساءِ وإنّهُ

ممّن حواهُ مع النبيِّ كِساهُ

يا ربِّ إنّي مهتدٍ بهداهمُ

لا أهتدي يوم الهدى بسواهُ

أهوى الذي يهوى النبيَّ وآلَهُ

أبداً وأشنأ كلّ من يشناهُ

وأقولُ قولاً يُستدلُّ بأنّه

مُستبصرٌ من قالَهُ ورواهُ

شعراً يودّ السامعون لَوَ انّه

لا ينقضي طولَ الزمانِ هُداهُ

يُغري الرواةَ إذا روتْهُ بحفظِهِ

ويروقُ حسنُ رويِّه معناهُ

الشاعر

أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد بن المثنّى بن رافع بن الحارث بن عطيف بن محربة بن حارثة بن مالك ابن عُبيد بن عديّ بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غُنْم بن تغلب الحمداني التغلبي.

__________________

(١) الأُوام : شدّة العطش.

٥٥٢

ربّما يرتج القول في المترجَم وأمثاله ، فلا يدري القائل ما ذا يصف ، أيُطريه عند صياغة القول؟ أو يصفه عند قيادة العسكر؟ وهل هو عند ذلك أبرع؟ أم عند هذا أشجع؟ وهل هو لِجُمَل القوافي أسبك؟ أم لأزِمّة الجيوش أملك؟ والخلاصة أنّ الرجل بارع في الصفتين ، ومتقدِّمٌ في المقامين ، جمع بين هيبة الملوك ، وظرف الأدباء ، وضمّ إلى جلالة الأمراء لطف مفاكهة الشعراء ، وجمع له بين السيف والقلم ؛ فهو حينما ينطق بفم كما هو عند ثباته على قدم ، فلا الحرب تروعه ، ولا القافية تعصيه ، ولا الروع يهزمه ، ولا روعة البيان تعدوه ، فلقد كان المقدّم بين شعراء عصره ، كما أنّه كان المتقدّم على أمرائه ، وقد تُرجم بعض أشعاره إلى اللغة الألمانيّة ، كما في دائرة المعارف الإسلاميّة.

قال الثعالبي في يتيمة الدهر (١) (١ / ٢٧) : كان فرد دهره ، وشمس عصره أدباً وفضلاً ، وكرماً ونبلاً ، ومجداً وبلاغةً وبراعةً ، وفروسيّةً وشجاعةً ، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة ، والسهولة والجزالة ، والعذوبة والفخامة ، والحلاوة والمتانة ، ومعه رواء الطبع ، وسمة الظرف ، وعزّة الملك ، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلاّ في شعر عبد الله بن المعتز ، وأبو فراس يُعدُّ أشعر منه عند أهل الصنعة ، ونَقَدَةِ الكلام ، وكان الصاحب يقول : بُدئ الشعر بملك وختم بملك ، يعني امرأ القيس وأبا فراس.

وكان المتنبّي يشهد له بالتقدّم والتبريز ، ويتحامى جانبه ، فلا ينبري لمباراته ، ولا يجترئ على مجاراته ، وإنّما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيّباً له وإجلالاً ، لا إغفالاً وإخلالاً ، وكان سيف الدولة يعجب جدّا بمحاسن أبي فراس ، ويميِّزه بالإكرام عن سائر قومه ، ويصطنعه لنفسه ، ويصطحبه في غزواته ، ويستخلفه على أعماله ، وأبو فراس ينثر الدرّ الثمين في مكاتباته إيّاه ، ويوافيه حقّ سؤدده ، ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته. انتهى.

__________________

(١) يتيمة الدهر : ١ / ٥٧.

٥٥٣

وتبعه في إطرائه والثناء عليه (١) : ابن عساكر في تاريخه (٢ / ٤٤٠) ، ابن شهرآشوب في معالم العلماء ، ابن الأثير في الكامل (٨ / ١٩٤) ، ابن خلّكان في تاريخه (١ / ١٣٨) ، أبو الفداء في تاريخه (٢ / ١١٤) ، اليافعي في مرآة الجنان (٢ / ٣٦٩) ، ومؤلِّف شذرات الذهب (٣ / ٢٤) ، مجالس المؤمنين (ص ٤١١) ، رياض العلماء ، أمل الآمل (ص ٢٦٦) ، منتهى المقال (ص ٣٤٩) ، رياض الجنّة في الروضة الخامسة ، دائرة المعارف للبستاني (٢ / ٣٠٠) ، دائرة المعارف لفريد وجدي (٧ / ١٥٠) ، روضات الجنّات (ص ٢٠٦) ، قاموس الأعلام للزركلي (١ / ٢٠٢) ، كشف الظنون (١ / ٥٠٢) ، تاريخ آداب اللغة (٢ / ٢٤١) ، الشيعة وفنون الإسلام (ص ١٠٧) ، معجم المطبوعات ، دائرة المعارف الإسلامّة (١ / ٣٨٧) ، وجمع شتات ترجمته وأوعى سيِّدنا المحسن الأمين في (٢٦٠) صحيفة في أعيان الشيعة في الجزء الثامن عشر (ص ٢٩ ـ ٢٩٨).

كان المترجَم يسكن منبج ، ويتنقل في بلاد الشام في دولة ابن عمِّه أبي الحسن سيف الدولة ، واشتهر في عدّة معارك معه ، حارب بها الروم ، وأُسر مرّتين.

فالمرّة الأولى ب ـ مغارة الكحل ـ سنة (٣٤٨) وما تعدّوا به خرْشَنَة (٢)) ، وهي قلعةٌ ببلاد الروم ، والفرات يجري من تحتها ، وفيها يقال : إنّه ركب فرسه وركضه برجله ، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات ، والله أعلم.

والمرّة الثانية : أسرته الروم على منبج ، وكان متقلِّداً بها في شوّال سنة (٣٥١) ،

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٤ / ٩٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ١٥٠ ، معالم العلماء : ص ١٤٩ ، الكامل في التاريخ : ٥ / ٣٥٥ حوادث سنة ٣٥٧ ه‍ ، وفيات الأعيان : ٢ / ٥٨ رقم ١٥٣ ، المختصر في تاريخ البشر : ٢ / ١٠٨ حوادث سنة ٣٥٧ ه‍ ، شذرات الذهب : ٤ / ٣٠٠ حوادث سنة ٣٥٧ ه‍ ، مجالس المؤمنين : ٢ / ٤١٢ ، رياض العلماء : ٥ / ٤٨٩ ، أمل الآمل : ٢ / ٥٩ رقم ١٥٠ ، روضات الجنّات : ٣ / ١٥ رقم ٢٣٢ ، الأعلام : ٢ / ١٥٥ ، كشف الظنون : ١ / ٧٧٣ ، مؤلفات جرجي زيدان الكاملة ـ تاريخ آداب اللغة العربية ـ : ١٤ / ٧٨ ، الشيعة وفنون الإسلام : ص ١٤٠ ، معجم المطبوعات : ١ / ٣٣٧ ، أعيان الشيعة : ٤ / ٣٠٧.

(٢) خَرْشَنَة : بلدة قرب مَلَطية ـ بلدة تتاخم بلاد الشام ـ من بلاد الروم. معجم البلدان : ٢ / ٣٥٩.

٥٥٤

أُسر وهو جريحٌ وقد أصابه سهمٌ بقي نصله في فخذه ، وحُمِل مثخناً إلى خَرْشَنَة ثم إلى القسطنطينية وأقام في الأسر أربع سنين لتعذّر المفاداة ، واستفكّه من الأسر سيف الدولة سنة (٣٥٥) ، وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض ، واستزادة سيف الدولة ، وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبّائه ، والتبرّم بحاله ومكانه ، عن صدر حرج ، وقلب شجيٍّ ، تزداد رقّةً ولطافةً ، تُبكي سامعها ، وتعلق بالحفظ لسلاستها ، تُسمّى بالروميّات.

قال ابن خالويه : قال أبو فراس : لمّا حملت إلى القسطنطينية أكرمني ملك الروم إكراماً لم يكرمه أسيراً قبلي ، وذلك أنّ من رسومهم أن لا يركب أسيرٌ في مدينة ملكهم دابّة قبل لقاء الملك ، وأن يمشي في ملعب لهم يعرف بالبطوم مكشوف الرأس ، ويسجد فيه ثلاث سجدات أو نحوها ، ويدوس الملك رقبته في مجمع لهم يعرف بالتوري ، فأعفاني من جميع ذلك ونقلني لوقتي إلى دار وجعل لي برطسان (١)) يخدمني ، وأمر بإكرامي ، ونقل من أردته من أسارى المسلمين إليّ ، وبذل لي المفاداة مفرداً ، وأبيت بعد ما وهب الله لي من الكرامة ورُزقته من العافية والجاه أن أختار نفسي على المسلمين ، وشرعت مع ملك الروم بالفداء ، ولم يكن الأمير سيف الدولة يستبقي أُسارى الروم ، فكان في أيديهم فضل ثلاثة آلاف أسير ممّن أُخذ من الأعمال والعساكر ، فابتعتهم بمائتي ألف دينار روميّة على أن يوقع الفداء وأشتري هذه الفضيلة ، وضمنت المال والمسلمين ، وخرجتُ بهم من القسطنطينية ، وتقدّمتُ بوجوههم إلى خَرْشَنَةَ ، ولم يعقد قطُّ فداء مع أسير ولا هدنة ، فقلت في ذلك شعراً (٢) :

ولله عندي في الأسارِ وغيرِهِ

مواهبُ لم يُخْصَصْ بها أحدٌ قبلي

حَلَلْتُ عقوداً أعجزَ الناسَ حلُّها

وما زال عقدي لا يُذمُّ ولا حَلِّي

__________________

(١) البرطسان : لفظ معرّب ، ومعناه الذي يكتري للناس الإبل والحمير.

(٢) ديوان أبي فراس : ص ٢٣٧.

٥٥٥

إذا عايَنَتْنِي الرومُ كبّرَ صِيدُها

كأنّهمُ أسرى لديّ وفي كَبْلي (١)

وَأُوسَعُ أَيّاً ما حللتُ كرامةً

كأنّيَ من أهلي نُقِلتُ إلى أهلي

فَقُلْ لِبني عمِّي وأبلِغْ بني أبي

بأَنّي في نَعْماءَ يشكرُها مِثلي

وما شاءَ ربّي غيرَ نَشْرِ محاسني

وأنْ يعرفوا ما قد عرفتُمْ من الفضلِ

وقال يفتخر وقد بلغه أنّ الروم قالت : ما أَسَرْنا أحداً لم نسلب ثيابَه غير أبي فراس (٢) :

أراك عصيّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ

أما للهوى نهيٌ لديك ولا أمرُ

بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ

ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرُّ

إذا الليل أضواني بسطتُ يدَ الهوى

وأذْلَلْتُ دَمْعاً من خلائقِهِ الكِبْرُ

تكادُ تضيءُ النارُ بين جوانحي

إذا هي أذكَتْها الصبابةُ والفِكْرُ

ويقول فيها :

أُسِرتُ وما صحبي بعُزلٍ لدى الوغى

ولا فَرَسِي مهرٌ ولا ربّهُ غَمْرُ

ولكن إذا حُمَّ القضاء على امرئٍ

فليس له بَرٌّ يَقِيهِ ولا بَحْرُ

وقال أُصَيْحابي الفِرارُ أو الردى

فقلتُ هما أمرانِ أحلاهُما المرُّ

ولكنّني أمضي لما لا يَعيبُني

وحسبُكَ من أمرينِ خيرُهما الأسرُ

يقولون لي بِعْتَ السلامةَ بالردى

فقلتُ لهم واللهِ ما نالني خُسْرُ

هو الموتُ فاختر ما علا لك ذِكرُهُ

ولم يَمُتِ الإنسانُ ما حَيِيَ الذكرُ

ولا خَيْرَ في ردِّ الردى بمذلّةٍ

كما ردّه يوماً بسوأته عَمْرو

يَمُنّونَ أن خَلّوْا ثيابي وإنّما

عليَّ ثيابٌ من دمائِهِمُ حُمْرُ

وقائمُ سيفي فيهمُ دُقَّ نَصْلُهُ

وأعقابُ رمحي منهمُ حُطّمَ الصدْرُ

__________________

(١) الكبل : القيد الضخم.

(٢) ديوان أبي فراس : ص ١٥٧.

٥٥٦

سيذكرني قومي إذا جدَّ جدُّهُمْ

وفي الليلةِ الظلماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ

فإنْ عشتُ فالطعنُ الذي يعرفونَهُ

وتلك القنا والبيضُ والضُمَّرُ الشقْرُ

وإن متُّ فالإنسانُ لا بدّ ميّتٌ

وإن طالتِ الأيّامُ وانفسحَ العمرُ

ولو سدَّ غيري ما سددتُ اكتفَوا بهِ

وما كان يغلو التِّبرُ لو نفقَ الصُّفْرُ

ونحن أُناسٌ لا توسّطَ عندنا

لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ

تهونُ علينا في المعالي نفوسُنا

ومن خَطَبَ الحسناءَ لم يُغلِها المَهْرُ

أعَزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا

وأكرمُ منْ فَوقَ الترابِ ولا فخرُ

وقال لمّا أُسر (١) :

ما للعبيدِ من الذي

يقضي به اللهُ امتناعُ

ذُدْتُ الأُسودَ عن الفَرا

ئسِ ثمّ تفرسُني الضباعُ

وقال (٢)):

قد عَذُبَ الموتُ بأفواهِنا

والموتُ خيرٌ من مقامِ الذليلْ

إنّا إلى الله لما نابَنا

وفي سبيلِ اللهِ خيرُ السبيلْ

وقال لمّا ورد أسيراً بخَرْشَنَة (٣) :

إن زُرْتُ خَرْشَنَةً أسيراً

فَلَكَمْ حَلَلْتُ بها مُغيرا

ولقد رأيتُ النارَ تن

 ـتهبُ المنازلَ والقُصورا

ولَقَدْ رأيتُ السبْيَ يُجْلَ

 ـبُ نَحْوَنا حُوّا (٤) وَحُورا

من كان مثلي لم يَبتْ

إلاّ أميراً أو أسيرا

__________________

(١) ديوان أبي فراس : ص ١٨٨.

(٢) ديوان أبي فراس : ص ٢٤٦.

(٣) ديوان أبي فراس : ص ١٥٥.

(٤) الحُوّ : جمع حوّاء التي في شفتها حوّة ، وهي سمرة مستحسنة.

٥٥٧

ليستْ تَحِلُّ سراتُنا

إلاّ الصدورَ أو القبورا

ولمّا ثقل الجراح وآيس من نفسه وهو أسير ، كتب إلى والدته يُعزِّيها بنفسه (١) :

مُصابي جليلٌ والعزاءُ جميلُ

وعلمي بأنّ اللهَ سوفَ يُديلُ

وإنّي لَفي هذا الصباحِ لَصالِحُ

وَلي كلّما جنّ الظلامُ غَليلُ

وما نالَ منّي الأسْرُ ما تريانِهِ

ولكنّني دامي الجراحِ عَليلُ

جِراحٌ تحاماهُ الأساة (٢) مخافةً

وسقمانِ بادٍ منهما ودخيلُ

وأسرٌ أقاسيه وليلٌ نجومُه

أرى كلّ شيءٍ غيرهنّ يزولُ

تطول بيَ الساعات وهي قصيرةٌ

وفي كلِّ دهر لا يسرُّكَ طولُ

تناسانيَ الأصحابُ إلاّ عصابةً

ستَلحَقُ بالأُخرى غداً وَتَحولُ

وإنّ الذي يبقى على العهد منهمُ

وإن كَثُرَتْ دعواهمُ لقليلُ

أقلّبُ طرفي لا أرى غيرَ صاحبٍ

يميلُ مع النعماءِ كيف تَميلُ

وصرنا نَرى أنّ المُتاركَ محسنٌ

وأنّ خليلاً لا يضرُّ وَصولُ

وليس زماني وحده بِيَ غادرٌ

ولا صاحبي دون الرجال ملولُ

وما أَثَري يومَ اللقاءِ مُذَمّمٌ

ولا موقفي عند الأسارِ ذليلُ

تصفّحتُ أقوالَ الرجالِ فلم يكن

إلى غيرِ شاكٍ للزمانِ وُصولُ

أكلُّ خليلٍ هكذا غيرُ مُنصفٍ

وكلُّ زمانٍ بالكرامِ بخيلُ

نعمْ دَعَتِ الدنيا إلى الغدرِ دَعوةً

أجاب إليها عالمٌ وجهولُ

وقبليَ كان الغدرُ في الناسِ شيمةً

وذُمَّ زمانٌ واسْتلَامَ خليلُ

وفارقَ عمرو بن الزبير شقيقَهُ

وخلّى أميرَ المؤمنين عقيلُ

فيا حسرتا من لي بخِلٍّ موافقٍ

يقول بشجوي مرّةً وأقولُ

وإنّ وراء الستْرِ أمّا بكاؤها

عليَّ وإن طالَ الزمانُ طويلُ

__________________

(١) ديوان أبي فراس : ص ٢٣٢. (٢) الأساة : جمع آسٍ ، وهو الطبيب.

٥٥٨

فيا أمّتا لا تَعْدَمي الصبرَ إنّه

إلى الخير والنُّجْحِ القريبِ رسولُ

ويا أمّتا لا تحبطي الأجرَ إنّهُ

على قَدَرِ الصبرِ الجميلِ جزيلُ

ويا أمّتا صبراً فكلُّ مُلمّةٍ

تجلّي على علاّتها وتزولُ

أما لكِ في ذاتِ النطاقين أُسْوةٌ (١)

بمكّةَ والحربُ العَوانُ تجولُ

أراد ابنُها أخْذَ الأمانِ فلم يُجَبْ

وتعلمُ علماً إنَّه لَقتيلُ

تأسّيْ كفاكِ اللهُ ما تحذرينَهُ

فقد غالَ هذا الناسَ قبلَكِ غُولُ

وكوني كما كانت بأُحدٍ صفيّةٌ

ولم يُشْفَ منها بالبكاءِ غَليلُ

فما ردّ يوماً حمزةَ الخيرِ حُزْنُها

إذا ما عَلَتها زَفرةٌ وعويلُ

لَقِيتُ نجومَ الأفقِ وهي صوارِمٌ

وخُضْتُ ظَلام الليلِ وهو خيولُ

ولم أرْعَ للنفسِ الكريمةِ خِلّةً

عشيّةَ لم يَعطِفْ عليَّ خليلُ

ولكن لَقِيتُ الموتَ حتى تركته (٢)

وفيهِ وفي حدِّ الحُسامِ فُلولُ

ومن لم يَقِ الرحمنُ فهو ممزَّقٌ

ومن لم يُعزّ اللهُ فهو ذليلُ

ومن لم يُرِدْهُ اللهُ في الأمرِ كلّهِ

فليسَ لمخلوقٍ إليه سبيلُ

وإن هو لم يَدْلُلْكَ في كلِّ مسلكٍ

ظللت ولو أنّ السِّماكَ دليلُ

إذا ما وقاكَ اللهُ أمراً تخافُهُ

فما لكَ ممّا تتّقيهِ مُقيلُ (٣)

وإن هو لم يَنْصُرْكَ لم تَلْقَ ناصراً

وإن جَلّ أنصارٌ وعزّ قبيلُ (٤)

وما دامَ سيفُ الدولةِ الملك باقياً

فظلُّكَ فيّاحُ الجَناب ظليلُ

قال ابن خالويه : وقال يصف أيّامه ومنازله بَمنبِج ، وكان ولايته وأقطاعه وداره بها ، ويعرِّض بقوم بلغه شماتتهم فيه وهو في أسر الروم (٥) :

__________________

(١) ذات النطاقين هي أسماء بنت أبي بكر. (المؤلف) (٢) في الديوان : تركتها.

(٣) هذا البيت والبيت الأخير من القصيدة غير موجودين في الديوان.

(٤) ورد في الديوان الشطر الثاني من البيت هكذا : وإن عزّ أنصار وجلّ قبيل.

(٥) ديوان أبي فراس : ص ٢٣٩.

٥٥٩

قِفْ في رسومِ المستجابِ

 ونادِ أكناف المصلّى

فالجوسقِ الميمونِ فالس

 ـقياءِ فالنهرِ المُعلّى

أُوْطِنْتُها زمنَ الصِّبا

وجعلتُ مَنْبِجَ لي مَحِلاّ

حُرِمَ الوقوفُ بها عليَ

وكانَ قبلَ اليومِ حِلاّ

حيث التفتُّ وجدتُ ماءً

سائحاً وسكنتُ ظلاّ

تزداد وادٍ غير قا

صٍ منزلاً رحباً مُطلاّ (١)

وتحلُّ بالجسرِ الجنان

وتسكنُ الحِصنَ المعلّى

تجلو عرائسَهُ لنا

بالبِشْر جنْبَ العيشِ سهلا

والماء يفصلُ بين زَهْ

 ـرِ الروضِ في الشطّين فصلا

كبساط وشْيٍ جرّدتْ

أيدي القيونِ (٢) عليه نَصْلا

من كان سُرّ بما عرا

ني فَلْيمُتْ ضُرّا وَهَزْلا

لم أخلُ فيما نابَني

من أن أُعزّ وأن أُحلاّ

مثلي إذا لَقِيَ الأسا

رَ فلن يُضامَ ولن يذلاّ

رُعْتُ القلوبَ مَهابةً

وملأتها نُبلاً وفضلا

ما غضّ منّي حادثٌ

والقَرْمُ قَرمٌ حيث حَلاّ

أنّى حَلَلْتُ فإنّما

يدعونيَ السيفُ المحلّى

فَلَئِنْ خَلَصْتُ فإنّني

غيظُ العِدى طفلاً وكهلا

ما كنت إلاّ السيفَ زا

دَ على صُروفِ الدهرِ صَقْلا

ولئن قُتِلْتُ فإنَّما

موتُ الكرامِ الصِّيدِ قَتْلا

لا يَشْمتَنَّ بموتِنا

إلاّ فتىً يفنى ويبلى

يغترُّ بالدنيا الجهو

لُ وليس في الدنيا مُمَلاّ

__________________

(١) ورد هذا البيت في الديوان هكذا :

(تَرَ دار وادي عين قا

صرَ منزلاً رحباً مطلاّ

(٢) القيون : جمع قين ، وهو الحدّاد.

٥٦٠