الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

البغداديّ ، وعمر بن أحمد بن محمد المقري ، وابنه أبو علي المحسن التنوخي.

وأوّل من قلّده القضاء بعسكر مكرم وتُستر وجندي سابور ، في أيّام المقتدر بالله الخليفة الذي ولي الخلافة من سنة (٢٩٥) حتى قتل سنة (٣٢٠) من قبل القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي ، وكتبه له أبو علي بن مقلة وكان ذلك سنة (٣١٠) في السنة الثانية والثلاثين من عمره ، ثمّ تقلّد القضاء بالأهواز وكورة واسط وأعمالها والكوفة وسقي الفرات ، وعدّة نواحٍ من الثغور الشاميّة ، وأرَّجان وكورة سابور مجتمعاً ومفترقاً ، وتولّى قضاء إيذج وجُنْدَ حِمص من قِبل المطيع لله الذي ولي الخلافة سنة (٣٣٤) ، وكان المطيع لله قد عوّل على أبي السائب عن قضاء القضاة وتقليده إيّاه ، فأفسد ذلك بعض أعدائه ، وكان ابن مقلة قلّده المظالم بالأهواز ، واستخلفه أبو عبد الله البريدي بواسط على بعض أمور النظر.

وقال الثعالبي (١)) : كان يتقلّد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين ، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة زائراً ومادحاً ، فأكرم مثواه وأحسن قِراه ، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أُعيد إلى عمله ، وزِيد في رزقه ورتبته ، وكان المهلّبي الوزير وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه جدّا ، ويتعصّبون له ويعدّونه ريحانة الندماء ، وتاريخ الظرفاء ، ويعاشرون منه من تطيب عشرته ، وتكرم أخلاقه ، وتحسن أخباره.

حديث حفظه وذكائه

كان المترجم آيةً في الحفظ والذكاء ، قال ولده القاضي أبو علي المحسن في نشوار المحاضرة (٢) (ص ١٧٦) : حدّثني أبي قال : سمعت أبي ينشد يوماً وسنّي إذ ذاك خمس عشرة سنة بعض قصيدة دعبل الطويلة التي يفتخر فيها باليمن ويعدّد مناقبهم ،

__________________

(١) يتيمة الدهر : ٢ / ٣٩٣.

(٢) نشوار المحاضرة : ٢ / ١٤٠.

٥٢١

ويردُّ على الكميت مناقبه بنزار أوّلها :

أفيقي من ملامك يا ظعينا

كفاني اللوم مرُّ الأربعينا

وهي نحو ستمائة بيت فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخر اليمن وأهلي ، فقلت : يا سيِّدي تخرجها إليّ حتى أحفظها ، فدافعني فألححت عليه فقال : كأنّي بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتاً أو مائة بيت ثمّ ترمي بالكتاب وتخلقه عليّ. فقلت : ادفعها إليَّ.

فأخرجها وسلّمها إليّ وقد كان كلامه أثّر فيّ ، فدخلت حجرةً كانت برسمي من داره فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيءٍ غير حفظها.

فلمّا كان في السحر كنت قد فرغت من جميعها وأتقنتها ، فخرجت إليه غدوةً على رسمي فجلست بين يديه. فقال : هِي (١) ، كم حفظت من القصيدة؟ فقلت : قد حفظتها بأسرها. فغضب وقد رآني قد كذبته وقال لي : هاتها.

فأخرجت الدفتر من كمِّي ، فأخذه ، وفتحه ، ونظر فيه وأنا أنشد ، إلى أن مضيت في أكثر من مائة بيت. فصفّح منها عدّة أوراق وقال : أنشد من هاهنا. فأنشدت مقدار مائة بيت إلى آخرها ، فهاله ما رآه من حسن حفظي ، فضمّني إليه وقبّل رأسي وعيني ، وقال : بالله يا بُنيّ لا تخبر بها أحداً فإنّي أخاف عليك من العين.

وذكر ابن كثير هذه القصّة ملخّصاً في تاريخه (٢) (١١ / ٢٢٧).

وقال أبو عليّ (٣) أيضاً : حفّظني أبي وحفظت بعده من شعر أبي تمام والبحتري سوى ما كنت أحفظ لغيرهما من المحدثين والقدماء مائتي قصيدة ، قال : وكان أبي

__________________

(١) كلمة تفيد التلهّف.

(٢) البداية والنهاية : ١١ / ٢٥٧ حوادث سنة ٣٤٢ ه‍.

(٣) نشوار المحاضرة : ٢ / ١٤٢.

٥٢٢

وشيوخنا بالشام يقولون : من حفظ للطائيَّين (١)) أربعين قصيدة ولم يقل الشعر فهو حمار في مسلاخ إنسان ، فقلت الشعر وسنّي دون العشرين ، وبدأت بعمل مقصورتي التي أوّلها

لو لا التناهي لمْ أُطِعْ نهيَ النهى

أيَّ مدىً يطلبُ من جازَ المَدى

وقال أبو عليّ (٢) : كان أبي يحفظ للطائيَّين سبعمائة قصيدة ومقطوعة سوى ما يحفظ لغيرهم من المحدثين والمخضرمين والجاهليّين ؛ ولقد رأيت له دفتراً بخطِّه ـ هو عندي ـ يحتوي على رءوس ما يحفظه من القصائد مائتين وثلاثين (٣) ورقة أثمان منصوري لطاف ، وكان يحفظ من النحو واللغة شيئاً عظيماً مع ذلك ، ـ إلى أن قال ـ : وكان مع ذلك يحفظ ويجيب فيما يفوق عشرين ألف حديث ، وما رأيت أحدا أحفظ منه ، ولولا أنّ حفظه افترق في جميع هذه العلوم لكان أمراً هائلاً.

تآليفه

إنّ تضلّع المترجم في العلوم الجمّة ، وشهرته الطائلة في جلِّ الفنون النقلية والعقلية والرياضية ، وتجوّله في الأقطار والأمصار ، تستدعي وجود تآليف له قيِّمة ، كما قال ولده أبو عليّ : إنّ له في علم العروض والفقه وغيرهما عدّة كتب مصنّفة ، وقال الحموي (٤) : إنّ له تصانيف في الأدب ، منها كتابٌ في العروض ، قال الخالع : ما عمل في العروض أجود منه ، وكتاب علم القوافي. وذكر السمعاني واليافعي وابن حجر وصاحب الشذرات له ديوان شعر ، واختار منه الثعالبي ما ذكر من شعره ، وسمعت فيما يتبع شعره في الغدير. نقل الحموي عن ديوانه بائيّته كغيرها ، وذكر المسعودي له

__________________

(١) هما أبو تمام والبحتري.

(٢) نشوار المحاضرة : ٧ / ٢٠٣.

(٣) في المصدر : نيّف وثلاثين.

(٤) معجم الأدباء : ١٤ / ١٦٣.

٥٢٣

قصيدته المقصورة التي عارض بها ابن دريد ، يمدح فيها تنوخ وقومه من قضاعة أوّلها :

لو لا انتهائي لم أُطِعْ نهي النهى

مَدى الصِّبا نطلبُ من جاز المدى

إن كنتُ أقصرتُ فما أقصر قل

 ـ بٌ دامياً ترميه ألحاظُ الدُّمى

ومقلةٌ إن مقلت أهلَ الفضا

أغضتْ وفي أجفانِها جمرُ الغضا

وفيها يقول :

وكم ظباءٍ رعيُها ألحاظَها

أسرعُ في الأنفس من حدِّ الظُّبا

أسرعُ من حرفٍ إلى جرٍّ ومن

حبٍّ إلى حبّة قلبٍ وحشا

قضاعةٌ من مَلِكِ بنِ حِمْيَرٍ

ما بعده للمرتقين مرتقى

وقال أبو عليّ في نشوار المحاضرة (١)) : إنّ ما ضاع من شعره أكثر ممّا حُفظ. انتهى. غير أنّ هذه الكتب قد عصفت عليها عواصف الضياع ، كما أنّ التصدِّي لمنصب القضاء عاقه عن الإكثار من التأليف على قدر غزارة علمه.

مذهبه

من العويص جدّا البحث والتنقيب عن مذهب من نشأ في مثل القرن الثالث والرابع ، عصر التحزّب للآراء والنزعات ، عصر تشتّت الاعتقادات ، عصر تكثّر النِّحَل ، وتوفّر الدواعي على انتحال الرجل لما يخالف عقده القلبي ، وتظاهره بما لا يظهره سرّ جنانه ، وقد قضت الأيّام ، ومرّت الأعوام على آثارهم ونتائج أفكارهم ممّا كان يمكننا منه استظهار المعتقدات ، وحكم الدهر على منشور فلتات ألسن كانت تعرب عن مكنون الضمائر ، وتقرأ علينا دروس الحقيقة من جانب مذهب الغابرين.

__________________

(١) نشوار المحاضرة : ٤ / ٦٤.

٥٢٤

واضطراب كلمات أرباب المعاجم حول مذهب شاعرنا التنوخي وولده أبي عليّ منذ عهدهم إلى اليوم ينمُّ عن أنّهم كانوا يخفون مختارهم من المذهب ، وكانوا يظهرون في كلّ صقع وناحية نزلوا ما يلائم مذهب أهليها ، فقال الخطيب البغدادي في تاريخه ، والسمعاني في أنسابه ، وابن كثير في تاريخه ، وصاحب شذرات الذهب ، والسيّد العبّاسي في المعاهد ، وشيخنا أبو الحسن الشريف في ضياء العالمين : إنّ المترجَم تفقّه على مذهب أبي حنيفة. ونصّ اليافعي في مرآة الجنان ، والذهبي في ميزان الاعتدال ، والسيوطي في البغية ، وأبو الحسنات في الفوائد البهيّة بأنّه حنفيُّ المذهب. وقال الخطيب البغدادي في تاريخه ، والسمعاني في أنسابه : إنّه كان يعرف الكلام في الأصول على مذهب المعتزله. وفي كامل ابن الأثير : كان عالماً بأصول المعتزلة. وفي لسان الميزان : إنّه يُرمى بالاعتزال ، وعدّه سيّدنا القاضي في مجالس المؤمنين من قضاة الشيعة ، وبذلك نصّ صاحب مطلع البدور ، ونقل صاحب نسمة السحر عن المسوري اليمني : أنَّه كان معتزليّ الأصول ، متشيِّعاً جدّا ، حنفيّ المذهب.

والذي يجمع بين هذه الشتات أنّ الرجل كان معتزليّ الأصول ، حنفيّ الفروع ، زيديّ المذهب ، ويؤكِّد مذهبه هذا ما ذكره معاصره المسعودي في مروج الذهب (١) (٢ / ٥١٩) من قوله : إنّه في وقتنا هذا ـ وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ـ بالبصرة في جملة الزيديّين (٢). انتهى. وقصيدته البائيّة التي ذكرنا شطراً منها ترجّح كفّة التشيّع في ميزانه ، كما أنّ غير واحدة من قضايا ذكرها ولده أبو عليّ في كتابه الفرج بعد الشدّة نقلاً عن المترجم تؤذن بذلك.

وفاته

توفّي في عصر يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأوّل سنة (٣٤٢)

__________________

(١) مروج الذهب : ٤ / ٣٤١.

(٢) في النسخة : اليزيديّين. وهو تصحيف واضح. (المؤلف)

٥٢٥

بالبصرة ، ودفن من الغد في تربة اشتريت له بشارع المربد. قال ولده أبو عليّ في نشوار المحاضرة (١)) : وفيما شاهدناه من صحّة أحكام النجوم كفاية ، هذا أبي حوّل مولد نفسه في السنة التي مات فيها ، وقال لنا : هذه سنة قطع على مذهب المنجّمين. وكتب بذلك إلى بغداد إلى أبي الحسن البهلول القاضي ـ صهره ـ ينعى نفسه ويوصيه.

فلما اعتلّ أدنى علّة وقبل أن تستحكم علّته أخرج التحويل ونظر فيه طويلاً ، وأنا حاضرٌ ، فبكى ثمّ أطبقه ، واستدعى كاتبه ، وأملى عليه وصيّته التي مات عنها ، وأشهد فيها من يومه.

فجاءه أبو القاسم غلام زُحل المنجِّم ، فأخذ يطيّب نفسه ، ويورد عليه شكوكاً. فقال له : يا أبا القاسم لستَ ممّن يخفى هذا عليه فأنسبك إلى غلط ، ولا أنا ممّن يجوز عليه هذا فتستغفلني ، وجلس فوافقه على الموضع الذي خافه وأنا حاضرٌ.

ثمّ قال له أبي : دعني من هذا ، بيننا شكّ في أنّه إذا كان يوم الثلاثاء العصر لسبع بقين من الشهر فهو ساعة قطع (٢)) عندهم؟ فأمسك أب والقاسم غلام زُحل لأنّه كان خادماً لأبي ، وبكى طويلاً ، وقال : يا غلام الطست ، فجاءه به ، فغسل التحويل ، وقطّعه ، وودّع أبا القاسم توديع مفارق. فلمّا كان في ذلك اليوم العصر مات كما قال.

أخذنا ترجمته (٣) من : يتيمة الدهر (٢ / ٣٠٩) ، نشوار المحاضرة ، تاريخ الخطيب

__________________

(١) نشوار المحاضرة : ٢ / ٣٢٩.

(٢) المقصود به القطع عند المنجّمين ، وهو قطع خطّ الحياة بحادث يعرض للحيّ.

(٣) يتيمة الدهر : ٢ / ٣٩٣ ، وفيات الأعيان : ٣ / ٣٦٦ رقم ٤٦٥ ، الأنساب : ١ / ٤٨٥ ، فوات الوفيات : ٣ / ٦٠ رقم ٣٤٨ ، الكامل في التاريخ : ٥ / ٣٠٥ حوادث سنة ٣٤٢ ه‍ ، البداية والنهاية : ١١ / ٢٥٧ حوادث سنة ٣٤٢ ه‍ ، لسان الميزان : ٤ / ٢٩٥ رقم ٥٩٠٩ ، معاهد التنصيص : ٢ / ١١ رقم ٧٥ ، شذرات الذهب : ٤ / ٢٢٧ حوادث سنة ٣٤٢ ه‍ ، مجالس المؤمنين : ١ / ٥٤١ ، مطلع البدور : ص ١٣٦ ، الحدائق الورديّة : ٢ / ٢١١ ، نسمة السحر : مج ٨ / ج ٢ / ٣٦٩ ، روضات الجنّات : ٥ / ٢١٦ رقم ٤٨٩.

٥٢٦

البغدادي (١٢ / ٧٧) ، تاريخ ابن خلكان (١ / ٢٨٨) ، معجم الأدباء (١٤ / ١٦٢) ، أنساب السمعاني ، فوات الوفيات (٢ / ٦٨) ، كامل ابن الأثير (٨ / ١٦٨) ، تاريخ ابن كثير (١١ / ٢٢٧) ، مرآة الجن ان (٢ / ٣٣٤) ، لسان الميزان (٤ / ٢٥٦) ، معاهد التنصيص (١ / ١٣٦) ، شذرات الذهب (٢ / ٣٤٢) ، مجالس المؤمنين (ص ٢٥٥) ، الفوائد البهيّة في تراجم الحنفية (ص ١٣٧) ، مطلع البدور ، الحدائق الوردية ، نسمة السحر (ج ٢) ، روضات الجنّات (ص ٤٤٧ ، ٤٧ ٧) ، تنقيح المقال (٢ / ٣٠٢).

قد يوجد الاشتباه في غير واحد من هذه المعاجم كمجالس المؤمنين ، ونسمة السحر ، وتنقيح المقال بين ترجمة المترجَم وبين ترجمة حفيده أبي القاسم عليِّ بن المحسن للاتحاد في الاسم والكنية والشهرة بالتنوخي ، فوقع الخلط بين الترجمتين. يطّلع عليه الباحث بمعونة ما ذكرناه.

خلف المترجَم على علمه الجمّ وفضائله الكثيرة ولده أبو عليّ المحسن بن عليّ وهو كما قال الثعالبي (١) : هلال ذلك القمر ، وغصن هاتيك الشجر ، والشاهد العدل بمجد أبيه وفضله ، والفرع المثيل لأصله ، والنائب عنه في حياته ، والقائم مقامه بعد وفاته ، وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجّاج الآتي ذكره :

إذا ذُكر القضاةُ وهم شيوخٌ

تخيّرْتُ الشبابَ على الشيوخِ

ومن لم يرضَ لم أصفَعْه إلاّ

بحضرةِ سيِّدي القاضي التنوخي

له كتاب الفرج بعد الشدّة ، ونشوار المحاضرة ، والمستجاد من فعلات الأجواد ، ديوان شعره وهو أكبر من ديوان أبيه ، سمع بالبصرة من مشايخها ، ونزل بغداد وحدّث بها ، وأوّل سماعه بالحديث سنة (٣٣٣) ، وأوّل ما تقلّد القضاء بالقصر وبابل وأرباضهما في سنة (٣٤٩) ، ثمّ ولاّه المطيع لله بعسكر مكرم وإيذج ورامهرمز ، وتقلّد غيرها أعمالاً كثيرة في شتّى الجهات.

__________________

(١) يتيمة الدهر : ٢ / ٤٠٥.

٥٢٧

وُلد ليلة الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الأوّل سنة (٣٢٧) بالبصرة ، وتوفّي ليلة الإثنين لخمس بقين من المحرّم سنة (٣٨٤) ببغداد ، وهو في المذهب شبيه أبيه ، لكنّ شواهد التشيّع فيه أكثر وأوضح من أبيه.

وأعقب أبو عليّ المحسن أبا القاسم عليّا ، خلف أبيه وجدّه على علمهما الكثار ، وأدبهما الغزير ، كان يصحب الشريف المرتضى علم الهدى ويلازمه ، وكان من خاصّته ، وصحب أبا العلاء المعرّي وأخذ عنه ، وكانت بينه وبين الخطيب أبي زكريّا التبريزي صلة ومؤانسة ، وتقلّد قضاء المدائن وأعمالها ، ودرزنجان ، والبردان ، وقرميسين وغيرها.

يروي عنه الخطيب البغدادي في تاريخه (١) ، وترجمه وذكر مشايخه ، ويروي عنه أبو الغنائم محمد بن عليّ بن الميمون النرسي المعروف بأُبَيّ ، وهو يروي عن أبي الحسن عليِّ بن عيسى الرمّاني كما في إجازة العلاّمة الحلّي الكبيرة لبني زهرة (٢) ، وعن أبي عبد الله المرزباني المتوفّى (٣٨٤) ، وأمره في المذهب أوضح من والده وجدِّه ، وتشيّعه من المتسالم عليه عند أرباب المعاجم ، ولد في منتصف شعبان سنة (٣٧٠) بالبصرة ، وتوفّي ليلة الإثنين ثاني المحرّم سنة (٤٤٧) ودفن بداره بدرب التلِّ.

حدّث الحموي في معجم الأدباء عن القاضي أبي عبد الله ابن الدامغاني قال : دخلت على القاضي أبي القاسم التنوخي ـ الصغير ـ قبل موته بقليل ، وقد علت سنّه ، فأخرج إليَّ ولده من جاريته ، فلمّا رآه بكى ، فقلت : تعيش إن شاء الله وتربّيه ويقرُّ الله عينك به. فقال : هيهات والله ما يتربّى إلاّ يتيماً ، وأنشد :

أرى وَلَدَ الفتى كَلّ عليهِ

لقد سعدَ الذي أمسى عقيما

فإمّا أن يُخلّفَهُ عدوّا

وإمّا أن يُربِّيَهُ يتيما

__________________

(١) تاريخ بغداد : ١٢ / ١١٥ رقم ٦٥٥٨.

(٢) انظر بحار الأنوار : ١٠٧ / ١١١.

٥٢٨

ثمّ قال : أريد أن تزوِّجني من أمّه فإنّني قد اعتقتها على صداق عشرة دنانير. ففعلت ، وكان كما قال تربّى يتيماً ، وهو أبو الحسن محمد بن عليِّ بن المحسن. قبل القاضي أبو عبد الله شهادته ، ثمّ مات سنة أربع وتسعين وأربعمائة وانقرض بيته. بسط القول في ترجمته الحموي في معجم الأدباء (١٤ / ١١٠ ـ ١٢٤).

٥٢٩
٥٣٠

٢٠ ـ

أبو القاسم الزاهي

المولود (٣١٨)

المتوفّى (٣٥٢)

لا يهتدي إلى الرشادِ من فَحَصْ

إلاّ إذا والى عليّا وخلصْ

ولا يذوقُ شَربةً من حوضِهِ

من غمسَ الولا عليهِ وغمَصْ (١)

ولا يشمُّ الروحَ من جِنانِهِ

من قال فيه من عداهُ وانتقصْ

نفسُ النبيِّ المصطفى والصنوُ وال

 ـ خليفةُ الوارثُ للعلمِ بنصّ

من قد أجابَ سابقاً دعوتَهُ

وهو غلامٌ وإلى اللهِ شَخَصْ

ما عَرَفَ اللاتَ ولا العُزّى ولا ان

 ـ ثنى إليهما ولا حبّ ونصّ

من ارتقى متنَ النبيِّ صاعداً

وكسّرَ الأوثانَ في أولى الفُرَصْ

وطهّرَ الكعبةَ من رجسٍ بها

ثمّ هوى للأرض عنها وقمصْ (٢)

من قد فدى بنفسِهِ محمداً

ولم يكن بنفسهِ عنهُ حَرَصْ

وباتَ من فوقِ الفراشِ دونَهُ

وجادَ فيما قد غلا وما رخصْ

من كان في بدرٍ ويومِ أُحُدٍ

قطَّ من الأعناقِ ما شاءَ وقصّ

فقال جبريل ونادى لا فتى

إلاّ عليٌّ عمّ في القول وخصّ

__________________

(١) يقال : غمص النعمة غمصاً أي تهاون بها وكفرها وازدرى بها.

(٢) قمص : وثب.

٥٣١

من قَدَّ عمرو العامريَّ سيفُهُ

فخرَّ كالفيلِ هوى وما فحصْ

وراء ما صاح أَلا مبارزٌ

فالتوَت الأعناقُ تشكو من وَقصْ (١)

من أُعطي الرايةَ يومَ خيبرٍ

من بعد ما بها أخو الدعوى نَكَصْ

وراح فيها مُبصراً مستبصراً

وكان أرمداً بعينيه الرمَصْ (٢)

فاقتلعَ البابَ ونالَ فَتْحَهُ

ودكَّ طَودَ مرحبٍ لمّا قعصْ (٣)

من كَسَحَ البصرةَ من ناكثِها

وقصّ رِجل عسكرٍ (٤) بما رقصْ

وفرّق المالَ وقالَ خمسةٌ

لواحدٍ فساوت الجند الحصصْ

وقال في ذي اليوم يأتي مددٌ

وعدّه فلم يَزِدْ وما نقصْ

ومن بصفِّينَ نضا حسامَهُ

فَفَلّق الهامَ وفرّق القَصصْ (٥)

وصدّ عن عمرو وبُسْرٍ كرماً

إذ لَقيا بالسوأتين من شخصْ (٦)

ومن أسالَ النهروانَ بالدِّما

وقطّع العرق الذي بها رهصْ

وكذّب القائل أن قد عَبَرُوا

وعدّ من يُحْصَدُ منهمْ ويُحَصْ (٧)

ذاك الذي قد جمعَ القرآن في

أحكامِهِ للواجباتِ والرُّخصْ

ذاك الذي آثر في طعامِهِ

على صيامِهِ وجادَ بالقُرَصْ

فأنزلَ اللهُ تعالى هل أتى

وذَكَر الجزاءَ في ذاكَ وقَصّ (٨)

ذاك الذي استوحشَ منه أنسٌ

أن يشهَدَ الحقّ فشاهدَ البَرَصْ (٩)

__________________

(١) وقص العنق : كسرها وَدَقّها. (المؤلف) (٢) الرمص : قذىً تلفظ به العين.

(٣) قعصه وأقعصه : قتله مكانه ، أجهز عليه. (المؤلف)

(٤) عسكر : اسم الجمل الذي كانت تركبه عائشة يوم الجمل.

(٥) القص : الصدرُ أو عظمُه. (المؤلف)

(٦) مرّت قصّته عليه‌السلام مع عمرو وبُسْر في الجزء الثاني : ص ١٥٨ ، ١٦٥. (المؤلف)

(٧) حص الشيء : قطع عنه. (المؤلف)

(٨) أسلفنا نزول هل أتى في العترة الطاهرة وسيّدهم في هذا الجزء : ص ١٠٧ ـ ١١١ ، ١٦٩.(المؤلف)

(٩) مرّ تفصيل قصّة أنس في الجزء الأول : ص ١٩١. (المؤلف)

٥٣٢

إذ قال من يشهَدُ بالغديرِ لي

فبادَرَ السامعُ وهو قد نكصْ

فقال أُنْسِيتُ فقال كاذبُ

سوف ترى ما لا تُواريه القُمُصْ

يا ابنَ أبي طالبِ يا من هو من

خاتمِ الانبياءِ في الحكمةِ فُصْ

فضلُكَ لا يُنكَرُ لكنّ الولا

قد ساغَهُ بعضٌ وبعضٌ فيه غَصْ

فذكرُهُ عند مُواليكَ شِفا

وذكرُهُ عند مُعاديك غُصصْ

كالطير بعضٌ في رياضٍ أزهرَتْ

وابتسم الوردُ وبعضٌ في قفصْ

وله في ذكر خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنَّها له بنصّ حديث الغدير ، قوله :

قدّمتُ حيدرَ لي مولىً بتأميرِ

لمّا علمتُ بتنقيبي وتنقيري

إنّ الخلافةَ من بعد النبيِّ لهُ

كانت بأمرٍ من الرحمن مقدورِ

من قال أحمدُ في يوم الغدير له

بالنقلِ في خبرٍ بالصدقِ مأثورِ

قم يا عليُّ فكن بعدي لهم عَلَماً

واسعد بمنقلبٍ في البعثِ محبورِ

مولاهمُ أنتَ والموفي بأمرِهمُ

نصٌّ بوحيٍ على الأفهام مسطورِ

وذاك أنّ إلهَ العرش قال لهُ

بلّغْ وكن عند أمري خيرَ مأمورِ

فإن عَصَيْتَ ولم تفعل فإنّك ما

بلّغتَ أمري ولم تصدع بتذكيري

وله قوله يمدح أمير المؤمنين عليه‌السلام ويذكر فرض ولائه بحديث الغدير :

دع الشناعاتِ أيّها الخُدَعَهْ (١)

واركن إلى الحقِّ واغدُ متّبعَهْ

من وحّدَ اللهَ أوّلاً وأبى

إلاّ النبيَّ الأميَّ واتّبعَهْ

من قال فيه النبيُّ كان مع ال

حقِّ عليٌّ والحقُّ كان معَهْ

من سلّ سيفَ الإلهِ بينهمُ

سيفاً من النور ذو العُلى طَبَعَهْ

من هزّم الجيش يومَ خيبرِهمْ

وهزّ بابَ القموصِ فاقتلعَهْ

من فَرَضَ المصطفى ولاهُ على ال

خلقِ بيوم الغديرِ إذ رفعَهْ

__________________

(١) الخُدَعة : الذي يخدع الناس كثيراً.

٥٣٣

أشهدُ أنّ الذي تقولُ به

يعلمُ بطلانَهَ الذي سَمِعَهْ

وقال يمدحه ـ صلوات الله عليه ـ :

أُقيمَ بخمٍّ للخلافةِ حيدرٌ

ومن قبلُ قال الطهرُ ما ليس يُنكرُ

غداةَ دعاهُ المصطفى وهو مُزمِعٌ

لقصدِ تبوكٍ وهو للسيرِ مُضْمِرُ

فقال : أَقِمْ عنّي بِطَيْبَةَ واعلَمَنْ

بأنّك للفُجّار بالحقِّ تقهرُ

ولمّا مضى الطهرُ النبيُّ تظاهرتْ

عليه رجالٌ بالمقالِ وأجهروا

فقالوا عليٌّ قد قلاه محمدٌ

وذاك من الأعداءِ إفكٌ ومنكرُ

فأتبعه دون المعرّسِ فانثنى

وقالوا عليٌّ قد أتى فتأخّروا

ولمّا أبانَ القولَ عمّن يقولُهُ

وأبدى له ما كانَ يُبدي ويُضمرُ

فقال أما ترضى تكونُ خليفتي

كهارونَ من موسى وشأنك أكبرُ

وعلاّه خيرُ الخَلقِ قَدْراً وقُدرَةً

وذاك من الله العليِّ مقدّرُ

وقال رسول الله هذا إمامكمْ

له الله ناجى أيّها المتحيِّرُ

الشاعر

أبو القاسم عليّ بن إسحاق بن خلف القطّان البغداديّ النازل بالكرخ في قطيعة الربيع (١) ، الشهير بالزاهي (٢)) ، شاعر عبقريّ تحيّز في شعره إلى أهل بيت الوحي ، ودان بمذهبهم ، وأدّى بمودّتهم أجر الرسالة ، فكان أكثر شعره الواقع في أربعة أجزاء فيهم مدحاً ورثاءً ، بحيث عُدّ في معالم العلماء (٣) في طبقة المجاهرين من شعرائهم وصّافاً ، فلم يزل فيه يكافح عنهم ويناطح ، وينازل ويناضل ، ولذلك لم يُلْفِ نشوراً بين من كان يناوئهم أو لا يقول بأمرهم ، فحسبوه مُقلاّ من الشعر كما في تاريخ

__________________

(١) تنسب إلى الربيع بن يونس حاجب المنصور ومولاه ووالد وزيره الفضل بن الربيع. (المؤلف)

(٢) نسبة إلى (زاه) قرية من قرى نيسابور. يقال في النسبة إليها : زاهي ، وإزاهي. (المؤلف)

(٣) معالم العلماء : ص ١٤٨.

٥٣٤

بغداد (١) وغيره ، غير أنّ جزالة شعره ، وجودة تشبيهه ، وحسن تصويره ، لم يدع لأرباب المعاجم منتدحاً من إطرائه.

وفي فهم المعنى الذي لا يبارح الخلافة والإمامة من لفظ المولى من مثل الزاهي العارف بمعاريض الكلام ، والمتسالم على تضلّعه في اللغة والأدب العربيّ ، وبثِّه في نظمه لَحجّةٌ قويّةٌ على الصواب الذي ترتئيه الشيعة في الاستدلال بحديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وُلد الزاهي يوم الإثنين لعشر ليالٍ بقين من صفر سنة (٣١٨) كما نصّ به ابن خلّكان نقلاً عن طبقات الشعراء لعميد الدولة. وتُوفّي ببغداد يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولى سنة (٣٥٢) في رواية عميد الدولة ، ودفن في مقابر قريش. أو بعد سنة (٣٦٠) فيما قاله الخطيب نقلاً عن التنوخي. وأرّخه السمعاني كذلك نقلاً عن الخطيب.

ولمّا لم يكن في المعاجم عناية بشعره المذهبيّ الراقي ، فنحن نذكر منه شطراً. فمن ذلك قوله يمتدح به أمير المؤمنين عليه‌السلام :

يا سادتي يا آلَ ياسينَ فقطْ

عليكمُ الوحيُ من اللهِ هَبَطْ

لولاكمُ لم يُقْبَلِ الفرضُ ولا

رحنا لبحر العفو من أكرمِ شَطْ

أنتمْ وُلاةُ العهدِ في الذرِّ ومنْ

هواهمُ اللهُ علينا قد شَرَطْ

ما أحدٌ قايسَكمْ بغيرِكم

ومازجَ السلسلَ بالشرب اللمَطْ (٢)

إلاّ كمن ضاهى الجبال بالحصى

أو قايس الأبحرَ جهلاً بالنقَطْ

صنوُ النبيِّ المصطفى والكاشف ال

ـغمّاء عنه والحسامُ المخترَطْ

__________________

(١) تاريخ بغداد : ١١ / ٣٥٠ رقم ٦١٩٤.

(٢) اللمط : المضطرب العكِر.

٥٣٥

أوّلُ من صامَ وصلّى سابقاً

إلى المعالي وعلى السبق غُبطْ

* * *

مكلّمُ الشمسِ ومن رُدّت لهُ

ببابلٍ والغربُ منها قد قبطْ (١)

وراكضُ الأرضِ ومن أنبعَ لل

 ـ عسكرِ ماءَ العينِ في الوادي القحطْ

بحرٌ لديه كلُّ بحرٍ جدولٌ

يغرفُ من تيّاره إذا اغتمطْ

وليثُ غابٍ كلُّ ليثٍ عنده

ينظره العقل صغيراً إذ فلطْ (٢)

باسط علم الله في الأرض ومن

بحبِّه الرحمن للرزق بسطْ

سيفٌ لَوَ انّ الطفل يلقى سيفه

بكفّه في يوم حربٍ لَشَمطْ (٣)

يخطو إلى الحرب بِه مدّرعاً

فكمْ به قد قدّ من رجْسٍ وقطْ

قوله : مكلّم الشمس.

أشار به إلى ما رُوي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعليٍّ : «يا أبا الحسن كلّم الشمس فإنّها تكلّمك». قال عليٌّ عليه‌السلام : «السلام عليك أيّها العبد المطيع لله ورسوله».

فقالت الشمس : وعليك السلام يا أمير المؤمنين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرِّ المحجّلين ، يا عليُّ أنت وشيعتك في الجنّة ، يا عليُّ أوّل من تنشقُّ عنه الأرض محمد ثمّ أنت ، وأوّل من يُحيا محمد ثمّ أنت ، وأوّل من يُكسى محمد ثمّ أنت.

فسجد عليٌّ عليه‌السلام لله تعالى وعيناه تذرفان بالدموع ، فانكبّ عليه النبيُّ فقال : «يا أخي وحبيبي ارفع رأسك فقد باهى الله بك أهل سبع سماوات».

أخرجه شيخ الإسلام الحمّوئي في فرائد السمطين (٤) الباب (٣٨) ، والخوارزمي

__________________

(١) قُبط : جُمع.

(٢) فلط عن الشيء : دهش عنه.

(٣) شمط الشيء يشمطه : خلطه ، والشمط في الشعر : اختلافه بالسواد والبياض.

(٤) فرائد السمطين : ١ / ١٨٥ ح ١٤٧.

٥٣٦

في المناقب (١) (ص ٦٨) ، والقندوزي في الينابيع (٢) (ص ١٤٠).

وقوله : ومَن رُدّت له ببابل.

حديث ردِّ الشمس لعليٍّ عليه‌السلام ببابل أخرجه نصر بن مزاحم في كتاب صفِّين (٣) (ص ١٥٢) طبع مصر ـ بإسناده عن عبد خير (٤) ، قال : كنت مع عليّ أسير في أرض بابل وحضرت الصلاة ـ صلاة العصر ـ قال : فجعلنا لا نأتي مكاناً إلاّ رأيناه أفيح من الآخر ، قال : حتى أتينا على مكانٍ أحسن ما رأينا وقد كادت الشمس أن تغيب ، قال : فنزل عليٌّ ونزلت معه ، قال : فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، قال : فصلّينا العصر ثمّ غابت الشمس.

قوله : ومن أنبع للعسكر ماء العين.

أشار به إلى ما رواه نصر بن مزاحم في كتاب صفِّين (٥) (ص ١٦٢) ، بإسناده عن أبي سعيد التيمي التابعيّ المعروف بعقيصا أنّه قال : كنّا مع عليّ في مسيره إلى الشام ، حتى إذا كنّا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد ، عطش الناس واحتاجوا إلى الماء ، فانطلق بنا عليٌّ حتى أتى بنا على صخرة ضرس من الأرض كأنّها ربضة عنز ، فأمرنا فاقتلعناها فخرج لنا ماءٌ ، فشرب الناس منه وارتووا ، قال : ثمّ أمرنا فأكفأناها عليه.

قال : وسار الناس حتى إذا مضينا قليلاً ، قال عليٌّ : «منكم أحدٌ يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟». قالوا : نعم يا أمير المؤمنين. قال : «فانطلقوا إليه». قال :

__________________

(١) المناقب : ص ١١٣ ح ١٢٣.

(٢) ينابيع المودّة : ١ / ١٤٠ باب ٤٩.

(٣) وقعة صفّين : ص ١٣٦.

(٤) مرّت ترجمته وثقته في : ١ / ٦٧. (المؤلف)

(٥) وقعة صفّين : ص ١٤٥.

٥٣٧

فانطلق منّا رجالٌ ركباناً ومشاةً ، فاقتصصنا الطريق حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنّه فيه.

قال : فطلبناها (١) فلم نقدر على شيء ، حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب منّا فسألناهم : أين الماء الذي هو عندكم؟ قالوا : ما قربنا ماء. قالوا : بلى ، إنّا شربنا منه. قالوا : أنتم شربتم منه؟ قلنا : نعم. قال صاحب الدير : ما بُني هذا الدير إلاّ بذلك الماء ، وما استخرجه إلاّ نبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ.

وأخرجه الخطيب في تاريخه (١٢ / ٣٠٥).

ومن قصيدته الطائيّة قوله :

وهو لكلّ الأوصياء آخرُ

بضبطه التوحيدَ في الخَلقِ انضبطْ

باطنُ علمِ الغيب والظاهرُ في

كشفِ الإشارات وقطبُ المغتبطْ

أحيا بحدِّ سيفِهِ الدينَ كما

أماتَ ما أبدعَ أربابُ اللغَطْ

مفقّهُ الأمّةِ والقاضي الذي

أحاطَ من علمِ الهدى ما لم يُحَطْ

والنبأُ الأعظمُ والحجّةُ وال

 ـمحنةُ والمصباحُ في الخَطْبِ الورطْ (٢)

حبلٌ إلى الله وبابُ الحطّةِ ال

 ـفاتحُ بالرشدِ مغاليقَ الخُطَطْ

والقدمُ الصدق الذي سيطَ به

قلبُ امرئٍ بالخطواتِ لم يسطْ

ونهرُ طالوتَ وجنبُ اللهِ وال

 ـعينُ التي بنورِها العقلُ خَبَطْ

والأُذُنُ الواعيةُ الصمّاءُ عن

كلِّ خنا يغلطُ فيه من غَلَطْ

حسنُ مآبٍ عند ذي العرشِ ومن

لو لا أياديهِ لكنّا نختبطْ

قوله : الأذن الواعية.

__________________

(١) أي الصخرة. (المؤلف)

(٢) في أعيان الشيعة : ٨ / ١٦٤ ورد البيت هكذا :

والنبأ الأعظم والحجّة والمصباح

في المحنة والخطب الورط

٥٣٨

إشارة إلى ما أخرجه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء (١ / ٦٢) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«يا عليُّ إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أُدنيَك وأُعلّمَك لتعي ـ وأُنزلت هذه الآية : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١)) ـ فأنت أُذُنٌ واعيةٌ لعلمي». وأخرجه جمعٌ من الحفّاظ.

وقال القاضي عضد الإيجي في المواقف (٢) (٣ / ٢٧٦) : أكثر المفسِّرين في قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أنّه عليٌّ.

وله في مدح مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله :

والِ عليّا واستضِئ مقباسَهُ

تدخلْ جِناناً ولتُسقى كاسهُ

فمن تولاّهُ نجا ومن عَدا

ما عَرَفَ الدينَ ولا أساسهُ

أوّلُ من قد وحّدَ الله وما

ثنى إلى الأوثانِ يوماً راسهُ

فدى النبيَّ المصطفى بنفسِهِ

إذ ضيّقتْ أعداؤهُ أنفاسهُ

باتَ على فرشِ النبيِّ آمناً

والليلُ قد طافَتْ به أحراسهُ

حتى إذا ما هجَمَ القومُ على

مستيقظٍ بنصلِهِ أشماسهُ

ثار إليهم فَتَوَلّوا مِزَقاً

يمنعُهمْ عن قربهِ حماسهُ

مُكسِّرُ الأصنامِ في البيتِ الذي

أُزيح عن وجهِ الهدى غِماسهُ

رقى على الكاهلِ من خيرِ الورى

والدينُ مقرونٌ به أنباسهُ

ونكّس اللاتَ وألقى هُبَلاً

مُهشّماً يقلبه انتكاسهُ

وقام مولايَ على البيتِ وقد

طهّره إذ قد رمى أرجاسهُ

واقتلع الباب اقتلاعاً معجِزاً

يُسمعُ في دويِّه ارتجاسهُ

كأنّه شرارةٌ لموقدٍ

أخرجها من نارِه مقباسهُ

__________________

(١) الحاقّة : ١٢.

(٢) المواقف : ص ٤١١.

٥٣٩

من قد ثنى عمرَو بنَ وُدٍّ ساجياً

إذ جزعَ الخندقَ ثمّ جاسهُ

من هبط الجبَّ ولم يخشَ الردى

والماءُ منحلُّ السقا فجاسهُ

من أحرقَ الجنّ برجمِ شُهبِهِ

أشواظَه يقدمُها نُحاسهُ

حتى انثنت لأمره مذعنةً

ومنهمُ بالعَوَذِ احتراسهُ

بيان : أشار بقوله : من هَبَط الجبّ ، إلى ما أخرجه الإمام أحمد في المناقب (١) عن عليّ عليه‌السلام قال : «لمّا كان ليلة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يستقي لنا من ماء؟» فأحجم الناس عنه ، فقام عليٌّ فاحتضن قربة ، ثمّ أتى بئراً بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها ، فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل : أن تأهّبوا لنصر محمد وأخيه وحزبه. فهبطوا من السماء لهم لغطٌ يذعر من سمعه ، فلمّا حاذوا البئر سلّموا عليه من عند آخرهم ، إكراماً له وإجلالاً. شرح ابن أبي الحديد (٢) (٢ / ٤٥٠).

وله في مدحه ـ صلوات الله عليه ـ قوله :

هذا الذي أردى الوليدَ وعُتْبةً

والعامريّ وذا الخمارِ ومرحبا

هذا الذي هشمتْ يداهُ فوارساً

قسراً ولم يكُ خائفاً مترقِّبا

في كلِّ منبتِ شعرةٍ من جسمِهِ

أسَدٌ يمدُّ إلى الفريسة مِخلَبا

وله فيه ـ سلام الله عليه ـ قوله :

أبا حسنٍ جعلتُكَ لي ملاذاً

ألوذُ به ويشملُني الزماما

فكن لي شافعاً في يومِ حشري

وتجعل دار قُدسك لي مقاما

__________________

(١) حديث رقم ١٧١ وفي فضائل الصحابة : ح ١٠٤٩ ، تاريخ ابن عساكر : رقم ٨٦٨ وفي أماليه الجزء ٢٢١ ، ذخائر العقبى : ص ٦٨ ، تذكرة الخواص : ص ٤٦ عن أحمد قال : وذكره أرباب المغازي ، جواهر المطالب : ١ / ٩١ ، سمط النجوم العوالي : ٢ / ٤٨٥ ، وأخرجه ابن شاهين كما في جمع الجوامع للسيوطي : ٢ / ٧٨. (الطباطبائي)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٩ / ١٧٢ خطبة ١٥٤.

٥٤٠