الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

١٨ ـ

أبو القاسم الصنوبري

المتوفّى (٣٣٤)

ما في المنازلِ حاجةٌ نقضيها

إلاّ السلامُ وأدمعٌ نذريها

وتفجّعٌ للعينِ فيها حيث لا

عيشٌ أوازيه بعيشيَ فيها

أبكي المنازلَ وهي لو تدري الذي

بحثَ البكاءَ لكنتُ أستبكيها

بالله يا دمعَ السحائبِ اسقها

ولئن بَخِلتَ فأدمعي تسقيها

يا مغرياً نفسي بوصفِ عزيزةٍ

أغريتَ عاصيةً على مغريها

لا خيرَ في وصفِ النساءِ فأعفني

عمّا تُكلّفُنيهِ من وصفيها

يا رُبَّ قافيةٍ حلا إمضاؤها

لم يَحلُ ممضاها إلى مُمضيها

لا تُطْمِعَنَّ النفسَ في إعطائِها

شيئاً فتطلبَ فوق ما تُعطيها

حبُّ النبيِّ محمدٍ ووصيّهِ

مَعْ حبِّ فاطمةٍ وحبِّ بنيها

أهل الكساءِ الخمسة الغرر التي

يبني العلا بعلاهمُ بانيها

كم نعمةٍ أوْلَيْتَ يا مولاهمُ

في حبّهمْ فالحمدُ للموليها

إنّ السَّفاهَ بشُغل مدحي عنهمُ

فيحقُّ لي أن لا أكونَ سفيها

هم صفوةُ الكرمِ الذي أصفاهمُ

وُدِّي وأصفيتُ الذي يُصفيها

أرجو شفاعتَهمْ فتلكَ شفاعةٌ

يلتذُّ بردَ رجائِها راجيها

صلّوا على بنتِ النبيِّ محمدٍ

بعد الصلاةِ على النبيِّ أبيها

٥٠١

وابكوا دماءً لو تشاهدُ سفكَها

في كربلاءَ لَما وَنَتْ تَبكيها

تلك الدماءُ لَوَ انّها تُوقى إذن

كانتْ دماءُ العالمين تقيها

لو أنّ منها قطرةً تُفدى إذن

كنّا بنا وبغيرِنا نَفديها

إنَّ الذينَ بغوا إراقتها بغوا

مشؤومةَ العُقْبى على باغيها

قُتِل ابنُ من أوصى إليهِ خيرُ مَن

أوصى الوصايا قطُّ أو يوصيها

رَفعَ النبيُّ يمينَهُ بيمينِه

ليرى ارتفاعَ يمينِهِ رائيها

في موضعٍ أضحى عليهِ مُنبّهاً

فيهِ وفيهِ يُبدئ التنبيها

آخاه في خُمٍّ ونوّهَ باسمِهِ

لم يَألُ في خيرٍ به تنويها

هو قالَ أفضلُكمْ عليٌّ إنّهُ

أمضى قضيّتَهُ التي يُمضيها

هو لي كهارونٍ لموسى حبّذا

تشبيهُ هارونٍ به تشبيها

يوماه يومٌ للعدى يرويهمُ

جوراً ويومٌ للقنا يرويها

يسع الأنامَ مثوبةً وعقوبةً

كلتاهما تمضي لِما يمضيها

إلى آخر القصيدة (٤٢) بيتاً

وله من قصيدة ذكرها صاحب الدرِّ النظيم في الأئمّة اللهاميم (١) :

هل أُضاخٌ كما عَهدنا أُضاخا (٢)

حبّذا ذلك المناخُ مناخا

يقول فيها :

ذِكْرُ يومِ الحسينِ بالطفِّ أودى

بصماخي فلم يدع لي صِماخا

مُتْبِعاتٌ نساؤهُ النوحَ نوحاً

رافعاتٌ إثْرَ الصراخِ صراخا

منعوهُ ماءَ الفراتِ وظلّوا

يتعاطَونهُ زُلالاً نُقاخا (٣)

__________________

(١) الدرّ النظيم في الأئمة اللهاميم : ١ / ١٨٤.

(٢) أضاخ : جبل. يذكّر ويؤنّث. (المؤلف)

(٣) النقاخ : الماء البارد الصافي. (المؤلف)

٥٠٢

بأبي عترةَ النبيّ وأمِّي

سدَّ عنهم معاندٌ أصماخا

خيرُ ذا الخَلْقِ صبيةً وشباباً

وكهولاً وخيرُهمْ أشياخا

أخذوا صدرَ مفخَرِ العزِّ مُذ كا

نوا وخَلّوا للعالمين المِخاخا

النقيّونَ حيث كانوا جيوباً

حيث لا تأمنُ الجيوبُ اتِّساخا

يألفون الطِّوى إذا ألِفَ النا

سُ اشتواءً من فَيئِهمْ واطّباخا

خُلقوا أسخياءَ لا مُتساخي

 ـ ن وليس السخيُّ من يَتَساخى

أهلُ فَضلٍ تناسخوا الفضلَ شيباً

وشباباً أكرمْ بذاك انتساخا

بهواهمْ يزهو ويشمخُ من قد

كان في الناسِ زاهياً شمّاخا

يا ابن بنت النبيّ أكرمْ به ابناً

وبأسناخِ جدِّهِ أسناخا

وابنَ من وازرَ النبيَّ ووالا

هُ وصافاهُ في الغديرِ وواخى

وابنَ من كان للكريهةِ ركّا

باً وفي وجهِ هولِها رسّاخا

للطُّلى (١) تحت قسطل الحرب ضرّا

باً ولِلهامِ في الوغى شَدّاخا

ذو الدماء التي يُطيل موالي

 ـ يه اختضاباً بطيبِها والتطاخا

ما عليكم أناخَ كَلْكَلَهُ الده

 ـ رُ ولكن على الأنامِ أناخا

الشاعر

أبو القاسم وأبو بكر وأبو الفضل (٢) أحمد بن محمد (٣)) بن الحسن بن مرّار الجزريّ الرقِّي (٤) الضبّي (٥) الحلبيّ ، الشهير بالصنوبريّ.

شاعرٌ شيعيٌّ مجيدٌ ، جمع شعره بين طرفي الرقّة والقوّة ، ونال من المتانة وجودة

__________________

(١) الطُّلى : جمع الطلاة ، وهي العنق.

(٢) كنّاه به كشاجم زميله في شعره. (المؤلف)

(٣) في فهرست النديم : ص ١٩٤ محمد بن أحمد.

(٤) نسبة إلى الرقّة : مدينة مشهورة بشط الفرات ، عمّرها هارون الرشيد. (المؤلف)

(٥) نسبة إلى ضبّة أبي قبيلة. (المؤلف)

٥٠٣

الأسلوب حظّه الأوفر ، ومن البراعة والظرف نصيبه الأوفى ، وتواتر في المعاجم وصفه بالإحسان تارةً (١) وبه وبالإجادة أخرى (٢) وإنّ شعره في الذروة العليا ثالثة (٣) وكان يُسمّى حبيباً الأصغر لجودة شعره (٤)). وقال الثعالبي : تشبيهات ابن المعتز ، وأوصاف كشاجم ، وروضيّات الصنوبري ، متى اجتمعت اجتمع الظرف والطرف ، وسمع السامع من الإحسان العجب.

وله في وصف الرياض والأنوار تقدّم باهر ، وذكر ابن عساكر : أنّ أكثر شعره فيه. وقال ابن النديم في فهرسته (٥) : إنّ الصولي عمل شعر الصنوبري على الحروف في مائتي ورقة. انتهى. فيكون المدوّن على ما التزم به ابن النديم من تحديد كلّ صفحة من الورقة بعشرين بيتاً ثمانية آلاف بيت ، وسمع الحسن بن محمد الغسّاني من شعره مجلّداً (٦).

وله في وصف حلب ومنتزهاتها قصيدة تنتهي إلى مائة وأربعة أبيات ، توجد في معجم البلدان للحموي (٧) (٣ / ٣١٧ ـ ٣٢١) ، وقال البستاني في دائرة المعارف (٧ / ١٣٧) : هي أجود ما وصف به حلب ، مستهلّها :

إحبسا العيس احبساها

وسلا الدار سلاها

وأمّا نسبته إلى الصنوبر فقد ذكر ابن عساكر (٨) عن عبد الله الحلبي الصفري أنّه

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ١ / ٤٥٦ [٢ / ١١٣ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٣ / ٢٣٧]. (المؤلف)

(٢) أنساب السمعاني [٣ / ٥٦٠]. (المؤلف)

(٣) شذرات الذهب : ٢ / ٣٣٥ [٤ / ١٨٥ حوادث سنة ٣٣٤ ه‍]. (المؤلف)

(٤) عمدة ابن رشيق : ١ / ٨٣ [١ / ١٠١]. (المؤلف)

(٥) فهرست النديم : ص ١٩٤.

(٦) أنساب السمعاني [٣ / ٥٦٠]. (المؤلف)

(٧) معجم البلدان : ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٨٩.

(٨) تاريخ مدينة دمشق : ٢ / ١١٣ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٣ / ٢٣٧.

٥٠٤

قال : سألت الصنوبريّ عن السبب الذي من أجله نسب جدّه إلى الصنوبر حتى صار معروفاً به ، فقال لي : كان جدّي صاحب بيت حكمة من بيوت حِكَم المأمون ، فجرت له بين يديه مناظرة فاستحسن كلامه وحدّة مزاجه ، وقال له : إنّك لصنوبريُّ الشكل. يريد بذلك الذكاء وحدّة المزاج. انتهى.

وذكر له النويري في نهاية الأرب (١١ / ٩٨) في نسبته هذه قوله :

وإذا عُزينا إلى الصنوبرِ لم

نُعْزَ إلى خاملٍ من الخشبِ

لا بل إلى باسقِ الفروع علا

مناسباً في أُرومةِ الحسبِ

مثلِ خيامِ الحريرِ تحملُها

أعمدةٌ تحتها من الذهبِ

كأنّ ما في ذراه من ثمرٍ

طيرٌ وقوعٌ على ذرى القُضُبِ

باقٍ على الصيف والشتاء إذا

شابت رءوسُ النباتِ لم يَشِبِ

محصّنُ الحَبِّ في جَواشن (١) قد

أَمِنَ (٢) في لُبْسِها من الحَرَبِ

حَبٌّ حكى الحُبّ صِين في قُرُبِ (٣) ال

أصدافِ حتى بدا من القُرُبِ

ذو نَثّة (٤) ما يُنال من عنبٍ

ما نيل من طِيبِها ولا رُطَبِ

يا شجراً حَبُّهُ حدانيَ أنْ

أفدي بأمّي محبّةً وأبي

فالحمد لله إنّ ذا لقبٌ

يزيد في حسنه على النسبِ

وأمّا تشيّعه فهو الذي يطفح به شعره الرائق كما وقفت على شطرٍ منه ، وستقف فيما يلي على شطرٍ آخر ، ونصّ بذلك اليماني في نسمة السحر (٥) ، وعدُّ ابن شهرآشوب (٦)

__________________

(١) الجواشن : الدروع ، واحده جَوْشن.

(٢) أي حبّات الصنوبر.

(٣) القُرُب : جمع قراب ، وهو غِمد السيف.

(٤) النثّة : ما يرشح به من الدهن.

(٥) نسمة السحر : مج ٦ / ج ١ / ٢١.

(٦) مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٣٥٠ ، ٣ / ٢٨ و ٢٧٤ ، ٤ / ١٣٤.

٥٠٥

له من مادحي أهل البيت عليهم‌السلام يؤذن بذلك. وأمّا دعوى صاحب النسمة أنّه كان زيديّا واستظهاره ذلك من شعره فأحسب أنّها فتوى مجرّدة ؛ فإنّه لم يدعمها بدليل ، وشعره الذي ذكره هو وغيره خالٍ من أيّ ظهورٍ ادّعاه ، وإليك نبذا ممّا وقفنا عليه في المذهب. قال في قصيدة يمدح بها عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

واخى حبيبي حبيبُ الله لا كذبٌ

وابناه للمصطفى المستخلصِ ابنانِ

صلّى إلى القبلتين المقتدى بهما

والناسُ عن ذاك في صمٍّ وعميانِ

ما مثلُ زوجتِهِ أخرى يُقاسُ بها

ولا يُقاسُ على سبطيهِ سبطانِ

فَمُضْمِرُ الحُبِّ في نورٍ يخصُّ به

ومُضْمِرُ البُغضِ مخصوصٌ بنيرانِ

هذا غداً مالكٌ في النارِ يَملكُهُ

وذاك رضوانُ يلقاهُ برُضوانِ

رُدّتْ له الشمسُ في افلاكِها فقضى

صلاتَهُ غيرَ ما ساهٍ ولا وانِ

أليس من حلّ منه في أخوّتهِ

محلّ هارونَ من موسى بنِ عمرانِ

وشافعَ المَلَكِ الراجي شفاعتَهُ

إذ جاءه مَلَكٌ في خَلْقِ ثُعبانِ

قال النبيُّ له أشقى البريّة يا

عليُّ إذ ذُكر الأشقى شَقيّانِ

هذا عصى صالحاً في عَقْر ناقتِهِ

وذاك فيك سَيَلقاني بعِصيانِ

لَيَخضِبَنْ هذه من ذا أبا حسنٍ

في حينَ يَخضِبها من أحمرٍ قانِ

ويرثي فيها أمير المؤمنين وولده السبط الشهيد بقوله :

نعم الشهيدان ربُّ العرش يشهد لي

والخلقُ أنّهما نِعْمَ الشهيدانِ

من ذا يعزّي النبيّ المصطفى بهما

من ذا يعزّيهِ من قاصٍ ومن دانِ

من ذا لفاطمةَ اللهفاءِ ينبئُها

عن بعلِها وابنها إنباءَ لهفانِ

عن قابضِ النفسِ في المحرابِ منتصباً

وقابضِ النفس في الهيجاءِ عطشانِ

نجمانِ في الأرض بل بدرانِ قد أفلا

نَعَمْ وشمسانِ إمّا قلتَ شمسانِ

سيفانِ يُغْمَدُ سيفُ الحربِ إن برزا

وفي يمينيهِما للحربِ سيفانِ

٥٠٦

وله يرثي الإمام السبط الشهيد عليه‌السلام (١) :

يا خير من لبسَ النب

 ـ وّةَ من جميعِ الأنبياءِ

وَجْدِي على سبطيك وج

 ـ دٌ ليسَ يُؤذِنُ بانقضاءِ

هذا قتيلُ الأشقيا

ءِ وذا قتيلُ الأدعياءِ

يومَ الحسين هرقتَ دم

 ـ عَ الأرضِ بل دمعَ السماءِ

يومَ الحسينِ تركتَ با

بَ العزِّ مهجورَ الفَناءِ

يا كربلاءُ خُلقتِ من

كَرْبٍ عليَّ ومن بَلاءِ

كم فيكِ من وجهٍ تشرّ

بَ ماؤه ماءَ البَهاءِ

نفسي فداءُ المصطلِي نارَ

الوغى أيّ اصطلاءِ

حيثُ الأسنّةُ في الجوا

شنِ كالكواكبِ في السماءِ

فاختارَ دِرْعَ الصبر حي

 ـ ثُ الصبر من لُبْس السناءِ

وأبى إباءَ الأُسْدِ إنّ

الأُسدَ صادِقةُ الإباءِ

وقضى كريماً إذ قضى

ظمآنَ في نفَرٍ ظِماءِ

منعوهُ طَعمَ الماء لا

وجدوا لماءٍ طعمَ ماءِ

من ذا لمعفورِ الجوا

دِ مُمالِ أعوادِ الخِباءِ

من للطريحِ الشلْو عُر

ياناً مخُلّىً بالعراءِ

من للمُحنّط بالترا

بِ وللمغسَّلِ بالدماءِ

من لابنِ فاطمةَ المغيَّ

 ـ بِ عن عيونِ الأولياءِ

ويؤكِّد ما ذكرنا للمترجم من المذهب شدّة الصلة بينه وبين كشاجم المُسلّم تشيّعه ، وتؤكّد المواخاة بينهما كما ستقف عليه في ترجمة كشاجم ، ويعرب عن الولاء الخالص بينهما قول كشاجم في الثناء عليه :

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب : ٢ / ٢٣٢ [٤ / ١٣٤]. (المؤلف)

٥٠٧

لي من أبي بكرٍ أخي ثقةٍ

لم أسترِبْ بإخائِهِ قطُّ

ما حالَ في قربٍ ولا بُعدٍ

سيّان فيه الثوبُ والشطُّ

جسمانِ والروحانِ واحدةٌ

كالنقطتين حواهما خطُّ

فإذا افتقرتُ فلي به جِدَةٌ (١)

وإذا اغتربتُ فلي به رَهْطُ

ذاكرْهُ أو حاوِلْهُ مختبراً

ترَ منه بحراً ما له شطُّ

في نعمةٍ منه جلبْتُ بها

لا الشيبُ يبلغُها ولا القرطُ

وبدلةٍ بيضاءَ ضافيةٍ

مثلِ الملاءة حاكها القِبْطُ

متذلّلٌ سهلٌ خلائقُهُ

وعلى عدوّ صديقِهِ سَلْطُ

ونتاجُ مغناهُ متمّمةٌ

ونتاجُ مغنى غيرِه سَقْطُ

وجِنانُ آدابٍ مُثمّرةٌ

ما شانها أَثَلٌ ولا خَمْطُ

وتواضع يزداد فيه علاً

والحُرُّ يعلو حين ينحطُّ

وإذا امرؤٌ شِيبَتْ خلائقُهُ

غدراً فما في وُدِّه خَلطُ

وقصيدته الأخرى وقد كتبها إليه :

ألا أَبلغْ أبا بكرِ

مقالاً من أخٍ بَرِّ

يناديكَ بإخلاصٍ

وإن ناداكَ عن عقرِ

أظنُّ الدهرَ أعداك

فاخلدتَ إلى الغدرِ

فما ترغبُ في وصلٍ

ولا تُعرضُ من هَجْرِ

ولا تُخْطِرُني منكَ

على بالٍ من الذِّكرِ

أتنسى زمناً كنّا

به كالماءِ في الخمرِ

أليفينِ حليفينِ

على الإيسارِ والعُسْرِ

مكبّينِ على اللذّا

تِ في الصحْوِ وفي السكرِ

__________________

(١) الجِدة : الغنى.

٥٠٨

نُرى في فَلَك الآدا

بِ كالشمسِ وكالبدرِ

كما ألّفتِ الحكم

 ـ ةُ بين العودِ والزمرِ

فَألهتْكَ بساتينُ

 ـ كَ ذاتُ النَّوْرِ والزهرِ

وما شيّدتَ للخلوَ

ةِ من دارٍ ومن قصْرِ

كان المترجَم يسكن حلب دمشق ، وبها أنشد شعره ، ورواه عنه أبو الحسن محمد بن أحمد بن جميع الغسّاني ، كما في أنساب السمعاني (١) ، وتوفّي في سنة (٣٣٤) كما أرّخه صاحب شذرات الذهب (٢)) ، وغيره.

وعدّه ابن كثير في تاريخه (٣) (١١ / ١١٩) ممّن توفّي في حدود الثلاثمائة ، وهذا بعيد عن الصحّة جدّا من وجوه ، منها : أنّه اجتمع (٤) مع أبي الطيّب المتنبّي بعد ما نظم القريض ، وقد ولد بالكوفة سنة (٣٠٣) ، ومنها : مدحه سيف الدولة الحمداني وقد ولد سنة (٣٠٣).

أعقب المترجَم ولده أبا عليّ الحسين ، حكى ابن جنّي (٥) ، قال : حدّثني أبو عليّ الحسين بن أحمد الصنوبري ، قال : خرجت من حلب أريد سيف الدولة ، فلمّا برزت من السور إذا أنا بفارس متلثّم قد أهوى نحوي برمح طويل ، وسدّده إلى صدري ، فكدت أطرح نفسي من الدابّة فَرَقاً ، فلمّا قرب منّي ثنى السنان وحسر لثامه ، فإذا المتنبّي ـ الشاعر المعروف ـ وأنشدني :

نثرنا رءوساً بالأُحيدبِ منهمُ

كما نُثِرتْ فوق العروسِ الدراهمُ

ثمّ قال : كيف ترى هذا القول؟ أَحَسن هو؟ فقلت له : ويحك! قد قتلتني

__________________

(١) الأنساب : ٣ / ٥٦٠.

(٢) شذرات الذهب : ٤ / ١٨٥ حوادث سنة ٣٣٤ ه‍.

(٣) البداية والنهاية : ١١ / ١٣٥ حوادث سنة ٣٠٠ ه‍.

(٤) عمدة ابن رشيق : ١ / ٨٣ [١ / ١٠١]. (المؤلف)

(٥) كما في يتيمة الدهر : ١ / ٩٧ [١ / ١٤٧]. (المؤلف)

٥٠٩

يا رجل. قال ابن جنّي : فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيّب ، فعرفها وضحك لها.

وتوفّيت للصنوبري بنت في حياته ، رثاها زميله كشاجم وعزّاه بقوله :

أتأسى يا أبا بكرِ

لموتِ الحُرّةِ البِكرِ

وقد زوّجتَها قَبْراً

وما كالقبرِ من صِهرِ

وعُوِّضتَ بها الأجرَ

وما للأجرِ من مَهْرِ

زفافٌ أُهدِيَتْ فيهِ

من الخِدْرِ إلى القبرِ

فتاةٌ أسبلَ اللهُ

عليها أسبغَ السترِ

ورده أشبه النعم

 ـ ةَ في الموقعِ والقَدْرِ

وقد يختارُ في المكرو

هِ للعبدِ وما يدري

فقابلْ نعمةَ اللهِ ال

 ـ تي أولاكَ بالشكرِ

وعزِّ النفسَ ممّا فا

ت بالتسليمِ والصبرِ

وكتب المترجَم على كلّ جانبٍ من جوانب قبّة قبرها الستّة بيتين ، توجد الأبيات في تاريخ ابن عساكر (١) (١ / ٤٥٦ ، ٤٥٧).

حكاية

حدّث المترجَم له أبو بكر أحمد بن محمد الصنوبريّ ، قال : كان بالرُّها (٢) ورّاقٌ يقال له سعد ، وكان في دكّانه مجلس كلّ أديب ، وكان حسن الأدب والفهم يعمل شعراً رقيقاً ، وما كنّا نفارق دكّانه أنا وأبو بكر المعوج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر ، وكان لتاجر بالرُّها نصرانيّ من كبار تجّارها ابن اسمه

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢ / ١١٣.

(٢) الرُّهاء بضمّ أوّله والمد والقصر : مدينة بين الموصل والشام ، استحدثها الرُّهاء بن البلندي فسمّيت باسمه. (المؤلف)

٥١٠

عيسى من أحسن الناس وجهاً ، وأحلاهم قدّا ، وأظرفهم طبعاً ومنطقاً ، وكان يجلس إلينا ويكتب عنّا أشعارنا ، وجميعنا يحبّه ويميل إليه ، وهو حينئذٍ صبيٌّ في الكتّاب ، فعشقه سعد الورّاق عشقاً مبرّحاً وأخذ يعمل فيه الأشعار ، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكّانه قوله :

اجعل فؤادي دواةً والمداد دَمي

وهاكَ فابرِ عظامي موضعَ القَلمِ

وصيِّرِ اللوحَ وجهي وامْحُهُ بيدٍ

فإنّ ذلكَ برءٌ لي من السقَمِ

ترى المعلّم لا يدري بمن كَلَفي

وأنت أشهرُ في الصبيان من علَمِ

ثمّ شاع بعشق الغلام في الرُّها خبره ، فلمّا كبر وشارف الائتلاف ، أحبّ الرهبنة وخاطب أباه وأمّه في ذلك ، وألحّ عليهما حتى أجاباه وخرجا به إلى دير زكي بنواحي الرقّة (١) وهو في نهاية حسنه ، فابتاعا له قلاّية (٢)) ودفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها ، فأقام الغلام فيها وضاقت على سعد الورّاق الدنيا بما رحبت ، وأغلق دكّانه ، وهجر إخوانه ، ولزم الدير مع الغلام ، وسعد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار ، فممّا عمل فيه وهو في الدير والغلام قد عمل شمّاساً (٣) :

يا حُمّةً (٤) عَلَتْ غصناً من البانِ

كأنّ أطرافها أطرافُ ريحانِ

قد قايسوا الشمسَ بالشمّاسِ فاعترفوا

بأنّما الشمسُ والشمّاس سيّانِ

فقل لعيسى بعيسى كم هراقَ دماً

إنسانُ عينِك من عينٍ لإنسانِ

ثمّ إنّ الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعد به ، ونهوهُ عنه وحرموه إن أدخله ، وتوعّدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل ، فأجابهم إلى ما سألوه من ذلك.

__________________

(١) الرقّة كلّ أرض منبسطة جانب الوادي يعلوها الماء وقت المد. ولا يظنّ أنّ الرقّة البلد الذي على شاطئ الفرات ، فإنّ الرُّها بين الموصل والشام. (المؤلف)

(٢) القلاّية : مسكن الأسقف.

(٣) كلمة سريانية معناها : الخادم. (المؤلف)

(٤) الحُمّة : السواد ، يريد بذلك شعر الرأس.

٥١١

فلمّا رأى سعد امتناعه منه شقّ عليه ، وخضع للرهبان ورفق بهم ، ولم يجيبوه وقالوا : في هذا علينا إثم وعار ونخاف السلطان ، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في وجهه ، ولم يدعوا الغلام يكلّمه.

فاشتدّ وجده وازداد عشقه ، حتى صار إلى الجنون ، فخرق ثيابه ، وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار ، ولزم صحراء الدير ، وهو عريان يهيم ، ويعمل الأشعار ويبكي.

قال أبو بكر الصنوبريّ : ثمّ عبرت يوماً أنا والمعوج من بستان بتنا فيه فرأيناه جالساً في ظلّ الدير ، وهو عريان وقد طال شعره ، وتغيّرت خلقته ، فسلّمنا عليه ، وعذلناه وعتبناه ، فقال : دعاني من هذا الوسواس ، أتريان ذلك الطائر على هيكل؟ وأومأ بيده إلى طائر هناك. فقلنا : نعم. فقال : أنا وحقِّكما يا أخويَّ أناشده منذ الغداة أن يسقط فأحمِّله رسالة إلى عيسى. ثمّ التفت إليَّ وقال : يا صنوبري معك ألواحك؟ قلت : نعم. قال : اكتب :

بدينِكِ يا حمامةَ ديرِ زَكّي

وبالإنجيلِ عندَكِ والصليبِ

قِفي وتحمّلي عنّي سلاماً

إلى قمرٍ على غُصْنٍ رَطيبِ

حَماهُ جماعةُ الرهبانِ عنّي

فقلبي ما يَقِرُّ من الوجيبِ

عليهِ مسوحُهُ (١) وأضاء فيها

وكان البدرُ في حُلَل المغيبِ

وقالوا رابنا إلمامُ سعدٍ

ولا والله ما أنا بالمريبِ

وقولي سعدُكَ المسكينُ يشكو

لهيبَ جوىً أحرَّ من اللهيبِ

فَصِلْهُ بنظرةٍ لكَ من بعيدٍ

إذا ما كنتَ تمنعُ من قريبِ

وإن أنا متُّ فاكتبْ حول قبري

محبٌّ ماتَ من هجر الحبيبِ

رقيبٌ واحدٌ تنغيصُ عيشٍ

فكيف بمن له ألفا رقيبِ

__________________

(١) المسوح : ما لبس من نسيج الشعر تقشّفاً وقهراً للبدن. جمع مِسح بكسر الميم. (المؤلف)

٥١٢

ثمّ تركنا وقام يعدو إلى باب الدير وهو مغلق دونه ، وانصرفنا عنه وما زال كذلك زماناً ، ثمّ وُجد في بعض الأيّام ميّتاً إلى جانب الدير ، وكان أمير البلد يومئذٍ العبّاس بن كيغلغ ، فلمّا اتّصل ذلك به وبأهل الرُّها خرجوا إلى الدير ، وقالوا ما قتله غير الرهبان. وقال لهم ابن كيغلغ : لا بدّ من ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنار ، ولا بدّ من تعزير جميع الرهبان بالسياط ، وتعصّب في ذلك ، فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم (١).

__________________

(١) توجد ملخّصة في تزيين الأسواق : ص ١٧٠ [ص ٣٥٤]. (المؤلف)

٥١٣
٥١٤

١٩ ـ

القاضي التنوخي

المولود (٢٧٨)

المتوفّى (٣٤٢)

مِن ابن رسول الله وابنِ وصيِّهِ

إلى مُدْغِلٍ (١) في عقبة الدينِ ناصبِ

نشا بين طنبورٍ وزقٍّ ومِزْهَرٍ (٢)

وفي حجْرِ شادٍ أو على صدر ضاربِ

ومن ظهرِ سكرانٍ الى بطنِ قَيْنةٍ

على شُبَهٍ في مِلْكِها وشوائبِ

يَعيبُ عليّا خيرَ من وطئ الحصى

وأكرمَ سارٍ في الأنام وساربِ

ويُزري على السبطين سبطَي محمدٍ

فقل في حضيضٍ رامَ نَيْلَ الكواكبِ

ويَنسِبُ أفعالَ القراميطِ كاذباً

إلى عترة الهادي الكرام الأطائبِ

إلى معشرٍ لا يبرحُ الذمُّ بينهمْ

ولا تُزْدَرى أعراضُهمْ بالمعايبِ

إذا ما انتدوا كانوا شموسَ بيوتهمْ

وإن ركبوا كانوا شموسَ المواكبِ

وإن عبَسوا يوم الوغى ضحِكَ الردى

وإن ضَحِكوا أبكَوا عيونَ النوادبِ

نَشَوا بين جبريلٍ وبين محمدٍ

وبين عليٍّ خير ماشٍ وراكبِ

وزيرِ النبيّ المصطفى ووصيِّهِ

ومُشبهِهِ في شيمه وضرائبِ

ومن قال في يوم الغدير محمدٌ

وقد خاف من غدرِ العِداةِ النواصبِ

__________________

(١) أدغل في الأمر : أدخل فيه ما يفسده.

(٢) الطنبور والمِزهر : آلتان من آلات الطرب.

٥١٥

أما إنّني أولى بكم من نفوسكمْ

فقالوا بلى قولَ المُريبِ الموارِبِ

فقال لهم من كنت مولاه منكمُ

فهذا أخي مولاهُ بعدي وصاحبي

أطيعوه طُرّا فهو منّي بمنزلٍ

كهارونَ من موسى الكليمِ المخاطَبِ

القصيدة (٨٣) بيتاً

ما يتبع الشعر

كان عبد الله بن المعتزّ العبّاسي المتوفّى سنة (٢٩٦) ممّن ينصب العداء للطالبيّين ، ويتحرّى الوقيعة فيهم بما ينمُّ عن سوء سريرته ، ويشفُّ عن خبث طينته ، وكثيراً ما كان يفرغ ما ينفجر به بركان ضغائنه في قوالب شعريّة ، فجاءت من ذلك قصائد خلّدت له السوأة والعار ، ولقد تصدّى غير واحد من الشعراء لنقض حججه الداحضة ، منهم :

الأمير أبو فراس الآتي ذكره وترجمته ، غير أنّه أربى بنفسه الأبيّة عن أن تقابل ذلك الرجس بالموافقة في البحر والقافية ، فصاغ قصيدته الذهبية الخالدة الميميّة ينصر فيها العلويّين ، وينال من مناوئيهم العبّاسيّين ، ويوعز إلى فضائحهم وطامّاتهم التي لا تُحصى.

ومنهم : تميم بن معد الفاطمي : المولود (٢٣٧) والمتوفّى (٣٧٤) ، ردّ على قصيدة ابن المعتزّ الرائيّة أوّلها :

أيَّ ربع لآل هند ودار

وأوّل قصيدة ابن معد :

يا بني هاشمٍ ولسنا سواءً

في صِغارٍ من العلى وكبارِ

ومنهم : ابن المنجِّم (١).

__________________

(١) أبو الحسن عليّ بن هارون المتوفّى سنة ٣٥٢ ه‍.

٥١٦

و [منهم] : أبو محمد المنصور بالله : المتوفّى (٦١٤) الآتي ذكره في شعراء القرن السابع.

ومنهم : صفيُّ الدين الحلّي : المتوفّى (٧٥٢) فقد ردّ عليه ببائيّته الرنّانة المنشورة في ديوانه ، المذكورة في ترجمته الآتية في شعراء القرن الثامن.

ومنهم : القاضي التنوخي المترجَم له ، فقد نظم هذه القصيدة التي ذكرنا منها شطراً ردّا عليه ، وهي مذكورة في كتاب الحدائق الورديّة (١)) (٨٣) بيتاً ، وأَحسبها كما في غير واحد من المجاميع المخطوطة أنّها تمام القصيدة ، وذُكرت في مطلع البدور (٢) (٧٤) بيتاً ، وذكر منها اليماني في نسمة السحر (٣) (٤٨) بيتاً ، والحموي (١٤) بيتاً في معجم الأدباء (١٤ / ١٨١) وقال : كان عبد الله بن المعتز قد قال قصيدةً يفتخر فيها ببني العبّاس على بني أبي طالب أوّلها :

أبى الله إلاّ ما ترونَ فما لكمْ

غِضاباً على الأقدار يا آلَ طالبِ

فأجابه أبو القاسم التنوخي بقصيدة نحلها بعض العلويّين ، وهي مثبتة في ديوانه أوّلها

من ابن رسولِ اللهِ وابنِ وصيّهِ

إلى مُدْغلٍ في عقدةِ الدينِ ناصبِ

نشا بين طنبور ودفٍّ ومِزْهرٍ

وفي حجرِ شادٍ أو على صدرِ ضاربِ

ومن ظهر سَكرانٍ إلى بَطْنِ قَيْنَةٍ

على شُبَهٍ في مِلْكِها وشوائبِ

يقول فيها :

وقلتَ بنو حربٍ كَسَوْكُمْ عمائماً

من الضربِ في الهامات حُمْرَ الذوائبِ

__________________

(١) الحدائق الورديّة : ٢ / ٢١١.

(٢) مطلع البدور : ص ١٣٦.

(٣) نسمة السحر : مج ٨ / ج ٢ / ٣٧٢.

٥١٧

صَدَقْتَ منايانا السيوفُ وإنّما

تموتون فوق الفرش موتَ الكواعبِ

ونحن الأُلى لا يسرحُ الذمُّ بيننا

ولا تَدَّري (١) أعراضُنا بالمعايبِ

إذا ما انتدوا كانوا شموسَ نديّهم

وإن ركبوا كانوا بدور الركائبِ

وإن عبَسوا يوم الوغى ضحِكَ الردى

وإن ضحكوا بكّوا عيون النوائبِ

وما للغواني والوغى فتعوّدوا

بقرعِ المثاني من قراعِ الكتائبِ

ويومَ حنينٍ قُلْتَ حُزْنا فَخَارَهُ

ولو كان يدري عدّها في المثالبِ

أبوه منادٍ والوصيُّ مضاربٌ (٢)

فَقُلْ في منادٍ صيّتٍ ومُضاربِ

وجئتم مع الأولادِ تبغونَ إرثَهُ

فأبْعِدْ بمحجوبٍ بحاجبِ حاجبِ

وقلتمْ نهضنا ثائرينَ شعارُنا

بثاراتِ زيدِ الخيرِ عند التحاربِ

فهلاّ بإبراهيم كان شعارُكم

فترجعَ دعواكمْ تَعِلّةَ (٣) خائبِ

ورواها عماد الدين الطبري في الجزء العاشر من كتابه بشارة المصطفى لشيعة المرتضى (٤) وقال : حدّثنا الحسين بن أبي القاسم التميمي ، قال : أخبرنا أبو سعيد السجستاني ، قال أنبأنا القاضي ابن القاضي أبو القاسم عليّ بن المحسن بن عليّ التنوخي ببغداد ، قال : أنشدني أبي أبو عليّ المحسن ، قال : أنشدني أبي أبو القاسم عليّ ابن محمد بن أبي الفهم التنوخي لنفسه من قصيدةٍ :

ومن قال في يوم الغدير محمدٌ

وقد خاف من غدرِ العِداةِ النواصبِ

أما أنا أَولى منكمُ بنفوسكمْ

فقالوا بلى قولَ المُريب الموارِبِ

فقال لهم من كنتُ مولاهُ منكمُ

فهذا أخي مولاهُ فيكمْ وصاحبي

أَطيعوهُ طُرّا فهو منّي كمنزلٍ

لهارونَ من موسى الكليم المخاطَبِ

__________________

(١) لا تدَّري : أي لا تجعل نفسها دريئة للمعايب.

(٢) يريد العبّاس وعليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام. (المؤلف)

(٣) أي تعلّل. (المؤلف)

(٤) بشارة المصطفى : ص ٢٦٨.

٥١٨

فقولا له : إن كنتَ من آلِ هاشمٍ

فما كلُّ نجمٍ في السماءِ بثاقبِ

وروى القصيدة وأنّها في ردّ عبد الله بن المعتز صاحب تاريخ طبرستان (ص ١٠٠) بهاء الدين محمد بن حسن ، وذكر منها خمسة عشر بيتاً ومنها :

فكم مثلِ زيدٍ قد أبادت سيوفُكمْ

بلا سببٍ غيرَ الظنونِ الكواذبِ

أما حملَ المنصورُ من أرضِ يثربٍ

بُدورَ هدىً تجلو ظلامَ الغياهبِ

وقطّعتمُ بالبغيِ يومَ محمدٍ

قرائنَ أرحامٍ له وقرائبِ

وفي أرضِ باخمرى (١) مصابيحُ قد ثَوَتْ

مترّبةَ الهاماتِ حُمْرَ الترائبِ

وغادرَ هاديكمْ بفخٍ (٢) طوائفاً

يغاديهمُ بالقاعِ بُقْعُ النواعبِ (٣)

وهارونُكمْ أودى بغيرِ جريرةٍ

نجومَ تقىً مثلَ النجومِ الثواقبِ

ومأمونُكمْ سمَّ الرضا بعد بيعةٍ

تَؤدُّ (٤) ذرى شمّ الجبال الرواسبِ

فهذا جوابٌ للذي قال ما لَكمْ

غِضاباً على الأقدار يا آل طالبِ

الشاعر

أبو القاسم التنوخي عليّ بن محمد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم بن تميم بن جابر بن هاني بن زيد بن عبيد بن مالك بن مريط بن سرح بن نزار بن عمرو بن الحارث بن صبح بن عمرو بن الحرث بن عمرو بن الحارث بن عمرو ـ ملك تنوخ ـ ابن فهم بن تيم الله ـ وهو تنوخ ـ بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة [بن] ملك بن حِمْيَر بن سبأ بن سحت بن يعرب بن قحطان بن

__________________

(١) موضع بين الكوفة وواسط ، وفيها قُتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب : أيّام المنصور العبّاسي. معجم البلدان : ١ / ٣١٦.

(٢) وادٍ بمكة وفيه قتلت جيوش بني العبّاس الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن عليّ ابن أبي طالب عليهم‌السلام أيّام الهادي العبّاسي. معجم البلدان : ٤ / ٢٣٧.

(٣) أي الغربان.

(٤) أدّه الأمر يؤدّه إذا دهاه.

٥١٩

غابن بن شالح بن الشحد بن سام بن نوح النبيّ عليه‌السلام (١).

من أغزر عيالم العلم ، وملتقى الفضائل ، ومجتمع الفنون المتنوّعة ، مشاركاً في علومٍ كثيرةٍ ، مقدَّماً في الكلام ، متضلّعاً في الفقه والفرائض ، حافظاً في الحديث ، قدوةً في الشعر والأدب ، بصيراً بعلم النجوم والهيئة ، خبيراً بالشروط والمحاضر والسجلاّت ، أستاذاً في المنطق ، متبحِّراً في النحو ، واقفاً على اللغة ، معلّماً في القوافي ، عبقريّا في العروض ، وكما أنّه من أعيان العلم فهو مفرد في الكرم وحسن الشِّيَم ، فذٌّ في الظرف والفكاهة ، دمث الخلائق ، ليّن الجانب.

ولادته ونشأته

وُلد بانطاكية يوم الأحد لأربع ليالٍ بقين من ذي الحجّة سنة (٢٧٨) ، ونشأ بها حتى غادرها في حداثته سنة ستٍّ وثلاثمائة إلى بغداد ، وتفقّه بها على مذهب أبي حنيفة ، وسمع الحديث من الحسن بن أحمد بن حبيب الكرمانيّ صاحب مسدّد ، وأحمد ابن خليل الحلبي صاحب أبي اليمان الحمصيّ ، وأحمد بن محمد بن أبي موسى الأنطاكي ، وأنس بن سالم الخولانيّ ، والحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فيل ، والفضل ابن محمد العطّار الأنطاكيّين ، والحسين بن عبد الله القطّان الرقّي ، وأحمد بن عبد الله بن زياد الجبليّ ، ومحمد بن حصن بن خالد الآلوسي الطرسوسيّ ، والحسن بن الطيّب الشجاعيّ ، وعمر بن أبي غيلان الثقفيّ ، وأبي بكر محمد بن محمد الباغنديّ ، وحامد بن محمد بن شعيب البلخيّ ، وأبي القاسم البغوي ، وأبي بكر بن أبي داود. وقرأ في النجوم على البنّائي المنجّم ، صاحب الزيج.

يروي عنه : أبو حفص بن الآجريّ البغدادي ، وأبو القاسم بن الثلاّج

__________________

(١) النسب ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه [١٢ / ٧٧ رقم ٦٤٨٧] نقلاً عن حفيد المترجم أبي القاسم بن المحسن إلى قضاعة ، وذكر ما بعده السمعاني في الأنساب [١ / ٤٨٥] ، وإلى قضاعة بين الكتابين اختلاف في بعض الأسماء. (المؤلف)

٥٢٠