الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

والقارئ جِدُّ عليم بأنّ الأمير شكيب أرسلان قد غلط أيضاً في فهم ما صدَّر الشيعيُّ الفاضل به كتابه من جملة ـ هو العليُّ الغالب ـ واتّخاذه دليلاً على الغلوِّ في التشيّع ، فإنّها كلمةٌ مطّردة تُكتب وتُقال كقولهم : هو الواحدُ الأحد ـ وما يجري مجراه ـ تُقصد بها أسماء الله الحسنى ، وهي كالبسملة في التيمّن بافتتاح القول بها.

وأنت لا تجد في الشيعة من يبغض العروبة ، وهو يعتنق ديناً عربيّا صدع به عربيّ صميم ، وجاء بكتاب عربيٍّ مبينٍ وفي طيِّه : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) (١) وقد خلفه على أمر الدين والأمّة سادات العرب ، ولا يستنبط أحكام الدين إلاّ بالمأثورات العربيّة عن أولئك الأئمّة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم ـ المنتهية علومهم إلى مؤسِّس الدعوة الإسلاميّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يدعو الله في آناء الليل وأطراف النهار بالأدعية المأثورة عنهم بلغة الضاد ، ويطبع وينشر آلافاً من الكتب العربيّة في فنونها ؛ فالشيعيُّ عربيٌّ في دينه ، عربيٌّ في هواه ، عربيٌّ في مذهبه ؛ عربيٌّ في نزعته ، عربيٌّ في ولائه ، عربيٌّ في خلائقه ، عربيٌّ عربيٌّ عربيٌّ ....

نعم ؛ يبغض الشيعيّ زعانفةً بخسوا حقوق الله ، وضعضعوا أركان النبوّة ، وظلموا أئمّة الدين ، واضطهدوا العترة الطاهرة ؛ وخانوا العروبة ـ عرباً كانوا أو أعاجم ـ وهذه العقيدة شرعٌ سواءٌ فيها الشيعيُّ العربيُّ والعجميُّ.

ولكن شاء الهوى ، ودفعت الضغائن أصحابه إلى تلقين الأمّة بأنَّ التشيّع نزعة فارسيّة ، والشيعيُّ الفارسيُّ يمقت العرب ، شقّا للعصا وتفريقاً للكلم وتمزيقاً لجمع الأمّة ، وأنا أرى أنَّ القصيميّ والأمير قبله في كلمات أخرى يريدان ذلك كلِّه ، و (ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢).

٣ ـ قال : إنَّ الشيعة في إيران نصبوا أقواس النصر ، ورفعوا أعلام السرور

__________________

(١) فصّلت : ٤٤.

(٢) غافر : ٢٩.

٤٠١

والابتهاج في كلِّ مكان من بلادهم لمّا انتصر الروس على الدولة العثمانيّة في حروبها الأخيرة (١ / ١٨).

الجواب : هذه الكلمة مأخوذةٌ من الآلوسي الآنف ذكره ، وذكر فريته والجواب عنها (ص ٢٦٧) ، غير أنَّ القصيميّ كساها طلاءً مبهرجةً ، وكم ترك الأوّل للآخر!

٤ ـ قال : الشيعة قائلون في عليٍّ وبنيه قول النصارى في عيسى بن مريم سواءً مثلاً ؛ من القول بالحلول والتقديس والمعجزات ومن الاستغاثة به وندائه في الضرّاء والسرّاء والانقطاع إليه رغبةً ورهبةً وما يدخل في هذا المعنى ، ومن شاهد مقام عليٍّ أو مقام الحسين أو غيرهما من آل البيت النبوي وغيرهم في النجف وكربلاء وغيرهما من بلاد الشيعة ، وشاهد ما يأتونه من ذلك هنالك ، علم أنّ ما ذكرناه عنهم دُوَين الحقيقة ، وأنّ العبارة لا يمكن أن تفي بما يقع عند ذلك المشاهد من هذه الطائفة ، ولأجل هذا فإنّ هؤلاء لم يزالوا ولن يزالوا من شرِّ الخصوم للتوحيد وأهل التوحيد. (١ / ١٩).

الجواب : أمّا الغلو بالتأليه والقول بالحلول فليس من معتقد الشيعة ، وهذه كتبهم في العقائد طافحة بتكفير القائلين بذلك والحكم بارتدادهم ، والكتب الفقهيّة بأسرها حاكمة بنجاسة أسآرهم.

وأمّا التقديس والمعجزات فليسا من الغلوِّ في شيءٍ ؛ فإنّ القداسة بطهارة المولد ، ونزاهة النفس عن المعاصي والذنوب ، وطهارة العنصر عن الدنايا والمخازي ، لازمةُ منصّة (١) الأئمّة وشرط الخلافة فيهم كما يُشترط ذلك في النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا المعجزات فإنّها من مثبتات الدعوى ومتّمات الحجّة ، ويجب ذلك في كلِّ مدَّعٍ للصلة بينه وبين ما فوق الطبيعة نبيّا كان أو إماماً ، ومعجز الإمام في الحقيقة معجزٌ للنبيِّ الذي يخلفه على دينه وكرامةٌ له ، ويجب على المولى سبحانه في باب

__________________

(١) أي النصّ عليهم بالإمامة.

٤٠٢

اللطف أن يحقّق دعوى المحقِّ بإجراء الخوارق على يديه ، تثبيتاً للقلوب ، وإقامةً للحجّة ؛ حتى يقرِّبهم إلى الطاعة ويبعِّدهم عن المعصية ، لدة ما في مدّعي النبوّة من ذلك ، كما يجب أيضاً أن ينقض دعوى المبطل إذا تحدّى بتعجيزه ، كما يؤثر عن مسيلمة وأشباهه.

وإنَّ من المفروغ عنه في علم الكلام كرامات الأولياء ، وقد برهنت عليها الفلاسفة بما لا معدل عنه ويضيق عنه المقام ، فإذا صحَّ ذلك لكلِّ وليٍّ ، فلما ذا يُعدُّ غلوّا في حجج الله على خلقه؟ وكتب أهل السنّة وتآليفهم مفعمة بكرامات الأولياء ، كما أنَّها معترفة بكرامات مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه.

وأمّا الاستغاثة والنداء والانقطاع وما أشار إليها فلا تعدو أن تكون توسّلاً بهم إلى المولى سبحانه ، واتِّخاذهم وسائل إلى نُجح طلباتهم عنده جلّت عظمته ، لقربهم منه وزلفتهم إليه ومكانتهم عنده لأنَّهم عبادٌ مكرمون ، لا لأنَّ لذواتهم القدسيّة دخلاً في إنجاح المقاصد أوّلاً وبالذات ، لكنّهم مجاري الفيض وحلقات الوصل ووسائط بين المولى وعبيده كما هو الشأن في كلِّ متقرِّب من عظيم يُتوسَّل به إليه ، وهذا حكم عامّ للأولياء والصالحين جميعاً وإن كانوا متفاوتين في مراحل القرب ، كلّ هذا مع العقيدة الثابتة بأنَّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله سبحانه ، ولا تقع في المشاهد المقدَّسة كلّها من وفود الزائرين إلاّ ما ذكرناه من التوسّل (١) ، فأين هذه من مضادّة التوحيد؟ وأين هؤلاء من الخصومة معه ومع أهله؟ (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (٢) ، (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٣).

٥ ـ قال : تذهب الشيعة ـ تبعاً للمعتزلة ـ إلى إنكار رؤية الله يوم القيامة ، وإنكار صفاته ، وإنكار أن يكون خالقاً أفعال العباد لشبهات باطلة معلومة ، وقد

__________________

(١) فصّلنا القول في ذلك في الجزء الخامس من كتابنا هذا. (المؤلف)

(٢) الأنعام : ١١٢.

(٣) النحل : ١٠٥.

٤٠٣

أجمع العلماء من أهل الحديث والسنّة والأثر كالأئمّة الأربعة على الإيمان بذلك كلِّه ، ليس بينهم خلافٌ في أنَّ الله خالقُ كلِّ شيءٍ ، حتى العباد وأفعالهم ، ولا في رؤية الله يوم القيامة.

ومن عجب أن تنكر الشيعة ذلك خوف التشبيه ، وهم يقولون بالحلول والتشبيه الصريح ، وبتأليه البشر ، ووصف الله بصفات النقص ، وأهل السنّة يعدُّون الشيعة والمعتزلة مبتدعين غير مهتدين في جحدهم هذه الصفات (١ / ٦٨).

الجواب : إنَّ الرجل قلّد في ذات الله وصفاته ابن تيميّة وتلميذه ابن القيِّم ، ومذهبهما في ذلك كما قال الزرقاني المالكي في شرح المواهب (٥ / ١٢) : إثبات الجهة والجسميّة ، وقال : قال المناوي : أمّا كونهما من المبتدعة فمسلّم. والقصيميّ يقدّسهما ورأيهما ويصرِّح بالجهة ويعيِّنها ، وله فيها كلمات كثيرة في طيِّ كتابه ، ونحن لا نناقشه في هذا الرأي الفاسد ، ونحيل الوقوف على فساده إلى الكتب الكلاميّة من الفريقين ، والذي يهمّنا إيقاف القارئ على كذبه في القول ، واختلاقه في النسب.

إنّ الشيعة لم تتّبع المعتزلة في إنكار رؤية الله يوم القيامة ، بل تتّبع برهنة تلك الحقيقة الراهنة من العقل والسمع ، وحاشاهم عن القول بالحلول ، والتشبيه ، وتأليه البشر ، وتوصيف الله بصفات النقص ، وإنكار صفات الله الثابتة له. بل إنَّهم يقولون جمعاء بكفر من يعتقد شيئاً من ذلك ، راجع كتبهم الكلاميّة قديماً وحديثاً ، وليس في وسع الرجل أن يأتي بشيءٍ ممّا يدلُّ على ما باهتهم ، ولعمري لو وجد شيئاً من ذلك لصدح به وصدع.

نعم ؛ تنكر الشيعة أن تكون لله صفات ثبوتيّة زائدة على ذاته وإنَّما هي عينها ، فلا يقولون بتعدّد القدماء معه سبحانه ، وإنّ لسان حالهم ليناشد من يخالفهم بقوله :

إخواننا الأدنين منّا ارفقوا

لقد رقيتمْ مرتقىً صعبا

إن ثلّثت قومٌ أقانيمهمْ

فإنَّكم ثمّنتمُ الربّا

٤٠٤

وللمسألة بحثٌ ضافٍ مترامي الأطراف تتضمّنه كتب الكلام.

وأمّا أفعال العباد فلو كانت مخلوقةً لله سبحانه خلق تكوين لبطل الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، وإنَّ من القبيح تعذيب العاصي على المعصية وهو الذي أجبره عليها ، وهذه من عويصات مسائل الكلام ، قد أُفيض القول فيها بما لا مزيد عليه ، وإنَّ من يقول بخلق الأفعال فقد نسب إليه سبحانه القبيح والظلم غير شاعر بهما ، وما استند إليه القصيميّ من الإجماع وقول القائلين لا يكاد يجديه نفعاً تجاه البرهنة الدامغة.

وأمّا قذف أهل السنّة الشيعة والمعتزلة بما قذفوه وعدُّهم من المبتدعين ، فإنَّها شِنْشِنَةٌ أعرفها من أخزم (١).

٦ ـ قال في عدّ معتقدات الشيعة : وذرّية النبيِّ جميعاً محرّمون على النار ، معصومون من كلِّ سوء. في الجزء الثاني (ص ٣٢٧) من كتاب منهاج الشريعة زعم مؤلِّفه أنّ الله حرّم جميع أولاد فاطمة بنت النبيِّ على النار ، وأنَّ من فاته منهم أوّلاً فلا بدَّ أن يوفَّق إليه قبل وفاته. قال : ثمّ الشفاعة من وراء ذلك.

وقال في أعيان الشيعة الجزء الثالث (ص ٦٥) : إنَّ أولاد النبيِّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يخطئون ولا يذنبون ولا يعصون الله إلى قيام الساعة (٢ / ٢٠).

الجواب : إنَّ الشيعة لم تكسُ حلّة العصمة إلاّ خلفاء رسول الله الاثني عشر من ذرّيته وعترته وبضعته الصدّيقة الطاهرة ، بعد أن كساهم الله تعالى بتلك الحلّة الضافية بنصِّ آية التطهير في خمسةٍ أحدهم نفس النبيِّ الأعظم ، وفي البقيّة بملاك الآية والبراهين العقليّة المتكثّرة والنصوص المتواترة ، وعلى هذا أصفق علماؤهم والأمّة الشيعيّة جمعاء في أجيالهم وأدوارهم ، وإن كان هناك ما يوهم إطلاقاً أو عموماً فهو

__________________

(١) مثل يضرب لمن يكرّر عادة أسلافه ويعمل وفق طبيعتهم ، والشنشنة هي العادة والطبيعة. مجمع الأمثال : ٢ / ١٥٥ رقم ١٩٣٣.

٤٠٥

منزَّل على هؤلاء فحسب ، وإن كان في رجالات أهل البيت غيرهم أولياء صدّيقون أزكياء لا يجترحون السيّئات إلاّ أنَّ الشيعة لا توجب لهم العصمة.

وأمّا ما استند إليه الرجل من كلام صاحب منهاج الشريعة ، فليس فيه أيّ إشارة إلى العصمة بل صريح القول منه خلافها ، لأنَّه يثبت أنَّ فيهم من تفوته ثمَّ يتدارك بالتوبة قبل وفاته ثمّ الشفاعة من وراء ذلك ، فرجل يقترف السيّئة ، ثمّ يوفّق للتوبة عنها ، ثمّ يُعفى عنها بالشفاعة لا يُسمّى معصوماً ، بل هذه خاصّة كلّ مؤمن يتدارك أمره بالتوبة ، وإنّما الخاصّة بالذرّية التمكّن من التوبة على أيّ حال.

قال القسطلاني في المواهب (١) ، والزرقاني في شرحه (٣ / ٢٠٣) : رُوي عن ابن مسعود رفعه : «إنّما سُمِّيت فاطمة» بإلهام من الله لرسوله إن كانت ولادتها قبل النبوّة ، وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي «لأنّ الله قد فطمها» من الفطم وهو المنع ومنه فطم الصبيّ «وذرّيتها من النار يوم القيامة» أي منعهم منها ، فأمّا هي وابناها فالمنع مطلق ، وأمّا من عداهم فالممنوع عنهم نار الخلود فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير ، ففيه بشرى لآله صلى الله عليه وسلم بالموت على الإسلام ، وأنَّه لا يختم لأحد منهم بالكفر ، نظيره ما قاله الشريف السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة مع أنَّه يشفع لكلّ من مات مسلماً ، أو أنَّ الله يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراماً لفاطمة وأبيها صلى الله عليه وسلم ، أو يوفّقهم للتوبة النصوح ولو عند الموت ويقبلها منهم. أخرجه الحافظ الدمشقي هو ابن عساكر (٢).

وروى الغسّاني (٣) والخطيب (٤) وقال : فيه مجاهيل مرفوعاً : «إنَّما سُمِّيت فاطمة لأنَّ الله فطمها ومحبّيها عن النار» ففيه بشرى عميمة لكلّ مسلم أحبّها ، وفيه التأويلات المذكورة.

__________________

(١) المواهب اللدنيّة : ٢ / ٦٤.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٥ / ٤٦ ، وفي ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ـ الطبعة المحقّقة ـ : رقم ١٧٤.

(٣) معجم الشيوخ : ص ٣٥٩ رقم ٣٤٤.

(٤) تاريخ بغداد : ١٢ / ٣٣١ رقم ٦٧٧٢.

٤٠٦

وأمّا ما رواه أبو نعيم والخطيب (١) : أنَّ عليّا الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سُئل عن حديث : «إنَّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها الله وذرّيتها على النار». فقال : «خاصٌّ بالحسن والحسين» وما نقله الأخباريّون عنه من توبيخه لأخيه زيد حين خرج على المأمون ، وقوله : «ما أنت قائل لرسول الله؟ أغرّك قوله : إنَّ فاطمة أحصنت ...؟ إنّ هذا لِمن خرج من بطنها لا لي ولا لك ، والله ما نالوا ذلك إلاّ بطاعة الله ، فإن أردت أن تنال بمعصيته ما نالوه بطاعته ، إنَّك إذاً لأكرم على الله منهم». فهذا من باب التواضع والحثّ على الطاعات وعدم الاغترار بالمناقب وإن كثرت ، كما كان الصحابة المقطوع لهم بالجنّة على غايةٍ من الخوف والمراقبة ، وإلاّ فلفظ ذرّية لا يختصُّ بمن خرج من بطنها في لسان العرب (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) (٢). الآية. وبينه وبينهم قرون كثيرة ، فلا يريد بذلك مثل عليِّ الرضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب ، على أنَّ التقييد بالطائع يبطل خصوصيّة ذرّيتها ومحبّيها ، إلاّ أن يُقال : لله تعذيب الطائع فالخصوصيّة أن لا يُعذِّبه إكراماً لها. والله أعلم (٣).

وأخرج الحافظ الدمشقي بإسناده عن عليٍّ رضى الله عنه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة : يا فاطمة تدرين لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟ قال عليٌّ رضى الله عنه : لِمَ سُمِّيت؟ قال : إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد فطمها وذرّيتها عن النار يوم القيامة».

وقد رواه الإمام عليّ بن موسى الرضا في مسنده (٤) ولفظه : «إنَّ الله فطم ابنتي فاطمة وولدها ومن أحبّهم من النار» (٥).

__________________

(١) تاريخ بغداد : ٣ / ٥٤ رقم ٩٩٧.

(٢) الأنعام : ٨٤.

(٣) بقيّة العبارة مرّت ص ١٧٦. (المؤلف)

(٤) مسند الإمام الرضا : ١ / ١٤٣ ح ١٨٥.

(٥) عمدة التحقيق تأليف العبيدي المالكي المطبوع في هامش روض الرياحين لليافعي : ص ١٥ [ص ٢٦]. (المؤلف)

٤٠٧

أيرى القصيميّ بعدُ أنَّ الشيعة قد انفردوا بما لم يقله أعلام قومه؟ أو رووا بحديث لم يروه حفّاظ مذهبه؟ أو أتوا بما يخالف مبادئ الدين الحنيف؟ وهل يسعه أن يتّهم ابن حجر والزرقاني ونظراءهما من أعلام قومه ، وحفّاظ نِحلته المشاركين للشيعة في تفضيل الذرّية؟ ويرميهم بالقول بعصمتهم؟ ويتحامل عليهم بمثل ما تحامل على الشيعة؟

وليس من البدع تفضّل المولى ـ سبحانه ـ على قوم بتمكينه إيّاهم من النزوع عن الآثام ، والندم على ما فرّطوا في جنبه ، والشفاعة من وراء ذلك ، ولا ينافي شيئاً من نواميس العدل ولا الأصول المسلّمة في الدين ، فقد سبقت رحمته غضبه ووسعت كلّ شيء.

وليس هذا القول المدعوم بالنصوص الكثيرة بأبدع من القول بعدالة الصحابة أجمع ، والله سبحانه يعرِّف في كتابه المقدّس أناساً منهم بالنفاق وانقلابهم على أعقابهم بآيات كثيرة رامية غرضاً واحداً ، ولا تنس ما ورد في الصحاح والمسانيد ومنها ما في صحيح البخاري من أنَّ أناساً من أصحابه صلى الله عليه وسلم يؤخذ بهم ذات الشمال ، فيقول : «أصحابي أصحابي ، فيقال : إنَّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم».

وفي صحيح آخر : «ليُرفَعَنَّ رجالٌ منكم ثمَّ لَيختلجُنَّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقال : إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك!».

وفي صحيح ثالث : «أقول : أُصَيْحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك!»

وفي صحيح رابع : «أقول : إنَّهم منّي ، فيقال : إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي».

وفي صحيح خامس : «فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنَّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى!».

وفي صحيح سادس : «بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم ، خرج رجل من

٤٠٨

بيني وبينهم ، فقال : هلمَّ. فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله.

قلت : وما شأنهم؟ قال : إنَّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. ثمَّ إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال : هلمَّ. قلت : أين؟ قال : إلى النار والله. قلت : ما شأنهم؟ قال : إنَّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هَمَل النعم» (١).

قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري (٢) (٩ / ٣٢٥) في هذا الحديث : هَمَل بفتح الهاء والميم : ضوالُّ الإبل ، واحدها : هامل. أو : الإبل بلا راعٍ. ولا يقال ذلك في الغنم ، يعني : أنّ الناجي منهم قليلٌ في قلّة النعم الضالّة ، وهذا يشعر بأنّهم صنفان : كفّار وعصاة. انتهى.

وأنت من وراء ذلك كلّه جِدُّ عليم بما شجر بين الصحابة من الخلاف الموجب للتباغض والتشاتم والتلاكم ، والمقاتلة القاضية بخروج إحدى الفريقين عن حيّز العدالة ، ودع عنك ما جاء في التاريخ عن أفراد منهم من ارتكاب المآثم والإتيان بالبوائق.

فإذا كان هذا التعديل عنده وعند قومه لا يستتبع لوماً ولا يعقب هملجة ، فأيّ حزازةٍ في القول بذلك التفضّل الذي هو من سنّة الله في عباده؟ (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٣).

وأمّا ما أردفه في الاستناد إلى كلام سيّدنا الأمين في أعيان الشيعة (٤) (٣ / ٦٥) فإنّي ألفت نظر القارئ إلى نصّ عبارته حتى يعرف مقدار الرجل من الصدق والأمانة

__________________

(١) راجع صحيح البخاري : ٥ / ١١٣ و ٩ / ٢٤٢ ـ ٢٤٧ [٣ / ١٢٢٢ ح ٣١٧١ و ٥ / ٢٤٠٤ ـ ٢٤٠٧ ح ٦٢٠٥ ، ٦٢١١ ـ ٦٢١٥]. (المؤلف)

(٢) إرشاد الساري : ١٣ / ٦٨٦ ح ٦٥٨٧.

(٣) فاطر : ٤٣.

(٤) أعيان الشيعة : ١ / ٣٧٠.

٤٠٩

في النقل ، ويرى محلّه من الإرجاف وقذف رجل عظيم من عظماء الأمّة بفاحشة مبيَّنة ، واتِّهامه بالقول بعصمة الذرّية وهو ينصُّ على خلافه ، قال بعد ذكر حديث الثقلين (١) بلفظ مسلم (٢) وأحمد (٣) وغيرهما من الحفّاظ ما نصّه :

دلّت هذه الأحاديث على عصمة أهل البيت من الذنوب والخطإ ، لمساواتهم فيها بالقرآن الثابت عصمته في أنَّهم أحد الثقلين المخلَّفَين في الناس ، وفي الأمر بالتمسّك بهم كالتمسّك بالقرآن ، ولو كان الخطأ يقع منهم لما صحَّ الأمر بالتمسّك بهم الذي هو عبارة عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجّةً ، وفي أنَّ المتمسِّك بهم لا يضلُّ كما لا يضلُّ المتمسِّك بالقرآن ، ولو وقع منهم الذنب أو الخطأ لكان المتمسِّك بهم يضلُّ ، وأنَّ في اتِّباعهم الهدى والنور كما في القرآن ، ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتِّباعهم الضلال ، وأنَّهم حبل ممدود من السماء إلى الأرض كالقرآن ، وهو كنايةٌ عن أنَّهم واسطة بين الله تعالى وبين خلقه ، وأنَّ أقوالهم عن الله تعالى ، ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك ، وفي أنَّهم لن يفارقوا القرآن ولن يفارقهم مدّة عمر الدنيا ، ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم ، وفي عدم جواز مفارقتهم بتقدّمٍ عليهم بجعل نفسه إماماً لهم أو تقصير عنهم وائتمام بغيرهم ، كما لا يجوز التقدّم على القرآن بالإفتاء بغير ما فيه أو التقصير عنه باتِّباع أقوال مخالفيه ، وفي عدم جواز تعليمهم وردِّ أقوالهم ، ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجب تعليمهم ولم يُنهَ عن ردِّ قولهم.

ودلّت هذه الأحاديث أيضاً على أنَّ منهم من هذه صفته في كلِّ عصر وزمانٍ ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» ، وأنَّ اللطيف الخبير أخبره بذلك ، وورود الحوض كناية عن انقضاء عمر الدنيا ، فلو خلا زمانٌ من أحدهما لم يصدق أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

__________________

(١) إنّي تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي». (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ٢٦ ـ ٢٧ ح ٣٦ ـ ٣٧ كتاب فضائل الصحابة.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٣٨٨ ، ٣٩٣ ح ١٠٧٢٠ ، ١٠٧٤٧ و ٥ / ٤٩٢ ح ١٨٧٨٠ و ٦ / ٢٣٢ ح ٢١٠٦٨.

٤١٠

إذا عُلم ذلك ظهر أنَّه لا يمكن أن يراد بأهل البيت جميع بني هاشم ، بل هو من العامّ المخصوص بمن ثبت اختصاصهم بالفضل والعلم والزهد والعفّة والنزاهة من أئمّة أهل البيت الطاهر ، وهم الأئمّة الاثنا عشر وأمّهم الزهراء البتول ، للإجماع على عدم عصمة من عداهم ، والوجدان أيضاً على خلاف ذلك ؛ لأنَّ من عداهم من بني هاشم تصدر منهم الذنوب ، ويجهلون كثيراً من الأحكام ، ولا يمتازون عن غيرهم من الخلق ، فلا يمكن أن يكونوا هم المجعولين شركاء القرآن في الأمور المذكورة ، بل يتعيّن أن يكونوا بعضهم لا كلّهم ليس إلاّ من ذكرنا ، أمّا تفسير زيد بن أرقم لهم بمطلق بني هاشم (١) ـ إن صحّ ذلك عنه ـ فلا تجب متابعته عليه بعد قيام الدليل على بطلانه.

إقرأ واحكم ، حيّا الله الأمانة والصدق ، هكذا يكون عصر النور!!

٧ ـ قال : من آفات الشيعة قولهم : إنَّ عليّا يذود الخلق يوم العطش ، فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه ، وإنَّه قسيم النار وإنّها تطيعه يخرج منها من يشاء (٢ / ٢١)

الجواب : لقد أسلفنا في الجزء الثاني (ص ٣٢١) أسانيد الحديث الأوّل عن الأئمّة والحفّاظ ، وأوقفناك على تصحيحهم لغير واحد من طرقه ، وبقيّتها مؤكِّدة لها ، فليس هو من مزاعم الشيعة فحسب ، وإنّما اشترك معهم فيه حَمَلة العلم والحديث من أصحاب الرجل ، لكنَّ القصيميّ ، لجهله بهم وبما يروونه أو لحقده على من رُوي الحديث في حقِّه ، يحسبه من آفات الشيعة.

وأمّا الحديث الثاني فكالأوّل ليس من آفات الشيعة بل من غرر الفضائل عند أهل الإسلام ، فأخرجه الحافظ أبو إسحاق بن ديزيل المتوفّى (٢٨٠ ، ٢٨١) عن الأعمش ، عن موسى بن طريف ، عن عباية ، قال : سمعت عليّا وهو يقول : «أنا قسيم النار يوم القيامة ، أقول : خذي ذا ، وذري ذا».

__________________

(١) فيما أخرجه مسلم في صحيحه [٥ / ٢٦ ح ٣٦ كتاب فضائل الصحابة]. (المؤلف)

٤١١

وذكره ابن أبي الحديد في شرحه (١) (١ / ٢٠٠) ، والحافظ ابن عساكر في تاريخه (٢) من طريق الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي.

وهذا الحديث سُئل عنه الإمام أحمد ، كما أخبر به محمد بن منصور الطوسي ، قال : كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجلٌ : يا أبا عبد الله ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى : أنَّ عليّا قال : «أنا قسيم النار»؟

فقال أحمد : وما تنكرون من هذا الحديث؟ أليس رُوينا أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ : «لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»؟ قلنا : بلى. قال : فأين المؤمن؟ قلنا في الجنّة. قال : فأين المنافق؟ قلنا : في النار. قال : فعليٌّ قسيم النار. كذا في طبقات أصحاب أحمد وحكى عنه الحافظ الكنجي في الكفاية (٣) (ص ٢٢) ، فليت القصيميّ يدري كلام إمامه.

هذه اللفظة أخذها ـ سلام الله عليه ـ من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ، فيما رواه عنترة [عن الرضا عليه‌السلام] عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أنت قسيم الجنّة والنار في يوم القيامة ، تقول للنار : هذا لي وهذا لك». وبهذا اللفظ رواه ابن حجر في الصواعق (٤)(ص ٧٥).

ويعرب عن شهرة هذا الحديث النبويِّ بين الصحابة احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام به يوم الشورى ، بقوله : «أنشدكم بالله هل فيكم أحدٌ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليُّ أنت قسيم الجنّة يوم القيامة غيري؟» قالوا : اللهمَّ لا.

والأعلام ترى هذه الجملة من حديث الاحتجاج صحيحاً. وأخرجه الدارقطني كما في الصواعق (ص ٧٥) ، ويرى ابن أبي الحديد استفاضة كلا الحديثين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٦٠ خطبة ٣٥.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ٢٧١ ، وفي ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ الطبعة المحقّقة ـ : رقم ٧٦١.

(٣) كفاية الطالب : ص ٧٢ باب ٣.

(٤) الصواعق المحرقة : ص ١٢٦.

٤١٢

النبويّ والمناشدة العلويّة ، فقال في شرحه (١) (٢ / ٤٤٨):

فقد جاء في حقّه الخبر الشائع المستفيض : أنّه قسيم النار والجنّة ، وذكر أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين : أنّ قوماً من أئمّة العربيّة فسّروه فقالوا : لأنّه لَمّا كان محبّه من أهل الجنّة ومبغضه من أهل النار ، كان بهذا الاعتبار قسيم النار والجنّة. قال أبو عبيد : وقال غير هؤلاء : بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة ، يدخل قوماً إلى الجنّة وقوماً إلى النار ، وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيراً هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه : يقول للنار : هذا لي فدعيه ، وهذا لكِ فخذيه.

وذكره القاضي في الشفا (٢) : أنَّه قسيم النار. وقال الخفاجي في شرحه (٣ / ١٦٣) : ظاهر كلامه أنَّ هذا ممّا أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ أنّهم قالوا : لم يروه أحد من المحدِّثين إلاّ ابن الأثير ، قال في النهاية (٣) : إلاّ أنَّ عليّا رضى الله عنه قال : «أنا قسيم النار» ، يعني أراد أنّ الناس فريقان : فريق معي فهم على هدى ، وفريق عليَّ فهم على ضلال ، فنصف معي في الجنّة ، ونصف عليَّ في النار. انتهى. قلت : ابن الأثير ثقة ، وما ذكره عليٌّ لا يُقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع ، إذ لا مجال فيه للاجتهاد ، ومعناه : أنا ومن معي قسيم لأهل النار ، أي مقابل لهم ، لأنّه من أهل الجنّة ، وقيل : القسيم : القاسم كالجليس والسمير ، وقيل : أراد بهم الخوارج ومن قاتله ، كما في النهاية.

٨ ـ قال : جاءت روايات كثيرة في كتبهم ـ يعني الشيعة ـ أنَّه ـ يعني الإمام المنتظر ـ يهدم جميع المساجد ، والشيعة أبداً هم أعداء المساجد ؛ ولهذا يقلّ أن يشاهد الضارب في طول بلادهم وعرضها مسجداً (٢ / ٢٣).

الجواب : لم يقنع الرجل كلّ ما في علبة مكره من زور واختلاق ، ولم يقنعه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٩ / ١٦٥ خطبة ١٥٤.

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ١ / ٦٥٧.

(٣) النهاية : ٤ / ٦١.

٤١٣

إسناد ما يفتعله إلى روايةٍ واحدةٍ يسعه أن يُجابه المنكِر عليه بأنّه لم يقف عليه حتى عزاه إلى روايات كثيرة جاءت في كتب الشيعة ، وليته ـ إن كان صادقاً ، وأنّى وأين؟ ـ ذكر شيئاً من أسماء هاتيك الكتب ، أو أشار إلى واحدةٍ من تلك الروايات ، لكنَّه لم تسبق له لفتة إلى أن يفتعل أسماء ويضع أسانيد قبل أن يكتب الكتاب فيذكرها فيه.

إنّ الحجّة المنتظر سيِّد من آمن بالله واليوم الآخر ، الذين يعمرون مساجد الله ، وأين هو عن هدمها؟ وإنَّ شيعيّا يعزو إليه ذلك لم يُخلق بعدُ.

وأمّا ما ذكره عن بلاد الشيعة ، فلا أدري هل طرق هو بلاد الشيعة ، فكتب ما كتب ، وكذب ما كذب ، أو أنَّه كان رجماً منه بالغيب؟ أو استند ـ كصاحب المنار ـ إلى سائح سنِّي مجهولٍ ، أو مبشِّرٍ نصراني لم يُخلقا بعدُ؟ وأيّا ما كان فهو مأخوذ بإفكه الشائن ، وقد عرف من جاس خلال ديار الشيعة ، وحلَّ في أوساطهم وحواضرهم وحتى البلاد الصغيرة والقرى والرساتيق ، ما هنالك من مساجد مشيَّدة صغيرة أو كبيرة ، وما في كثير منها من الفرش والأثاث والمصابيح ، وما تُقام فيها من جمعة وجماعة ، وليس من شأن الباحث أن ينكر المحسوس ، ويكذب في المشهود ، وينصر المبدأ بالتافهات.

٩ ـ قال : قد استفتى أحد الشيعة إماماً من أئمّتهم ـ لا أدري أهو الصادق أم غيره؟ ـ في مسألة من المسائل فأفتاه فيها ، ثمَّ جاءه من قابلٍ واستفتاه في المسألة نفسها فأفتاه بخلاف ما افتاه عام أوّل ، ولم يكن بينهما أحد حينما استفتاه في المرّتين ، فشكَّ ذلك المستفتي في إمامه وخرج من مذهب الشيعة ، وقال : إن كان الإمام إنّما أفتاني تقيّة ، فليس معنا من يُتّقى في المرّتين ، وقد كنتُ مخلصاً لهم عاملاً بما يقولون ، وإن كان مأتيُّ هذا هو الغلط والنسيان ، فالأئمّة ليسوا معصومين إذن ، والشيعة تدّعي لهم العصمة ، ففارقهم وانحاز إلى غير مذهبهم ، وهذه الرواية مذكورة في كتب القوم (٢ / ٣٨).

الجواب : أنا لا أقول لهذا الرجل إلاّ ما يقوله هو لمن نسب إلى إمام من أئمّته

٤١٤

لا يشخّص هو أنّه أيٌّ منهم مسألةً فاضحةً مجهولةً لا يعرفها ، عن سائل هو أحد النكرات ، لا يُعرَّف بسبعين (ألف لام) ، وأسند ما يقول إلى كتب لم تؤلَّف بعدُ ، ثمَّ طفق يشنُّ الغارة على ذلك الإمام وشيعته على هذا الأساس الرصين ، فنحن لسنا نردُّ على القصيميِّ إلاّ بما يردُّ هو على هذا الرجل. ولعمري لو كان المؤلِّف ـ القصيميّ ـ يعرف الإمام أو السائل أو المسألة أو شيئاً من تلك الكتب لذكرها بهوس وهياج ، لكنّه لا يعرف ذلك كلّه ، كما أنّا نعرف كذبه في ذلك كلِّه ، ولا يخفى على القارئ همزه ولمزة.

١٠ ـ قال : من نظر في كتب القوم علم أنَّهم لا يرفعون بكتاب الله رأساً ، وذلك أنّه يقلُّ جدّا أن يستشهدوا بآية من القرآن فتأتي صحيحةً غير ملحونةٍ مغلوطةٍ ، ولا يصيب منهم في إيراد الآيات إلاّ المخالطون لأهل السنّة ، العائشون بين أظهرهم ، على أنَّ إصابة هؤلاء لا بدَّ أن تكون مصابة ، أمّا البعيدون منهم عن أهل السنّة فلا يكاد أحدٌ منهم يورد آيةً فتسلم عن التحريف والغلط ، وقد قال من طافوا في بلادهم : إنّه لا يوجد فيهم من يحفظون القرآن ، وقالوا : إنّه يندر جدّا أن توجد بينهم المصاحف.

الجواب :

بلاءٌ ليس يُشبهُهُ بلاءُ

عداوةُ غيرِ ذي حسبٍ ودينِ

يبيحك منه عِرضاً لم يَصُنْهُ

ويرتعُ منك في عِرضٍ مصونِ

ليتني كنت أعلم أنّ هذه الكلمة متى كُتبت؟ أفي حال السكر أو الصحو؟ وأنَّها متى رُقمت؟ أعند اعتوار الخبل أم الإفاقة؟ وهل كتبها متقوِّلها بعد أن تصفّح كتب الشيعة فوجدها خلاءً من ذكر آية صحيحة غير ملحونة؟ أم أراد أن يصمهم فافتعل لذلك خبراً؟ وهل يجد المائن في الطليعة من أئمّة الأدب العربيّ إلاّ رجالاً من الشيعة ألّفوا في التفسير كتباً ثمينة ، وفي لغة الضاد أسفاراً كريمةً هي مصادر اللغة ، وفي الأدب زبُراً قيّمة هي المرجع للملإ العلميّ والأدبيّ ، وفي النحو مدوَّنات لها وزنها العلميّ ،

٤١٥

وإنَّك لو راجعت كتب الإماميّة لوجدتها مفعمة بالاستشهاد بالآيات الكريمة ، كأنّها أفلاك لتلك الأنجم الطوالع ، غير مغشّاة بلحن أو غلط.

وما كنّا نعرف حتى اليوم أنّ مقياس التلاوة صحيحةً أو ملحونةً هو النزعات والمذاهب التي هي عقودٌ قلبيّة لا مدخل لها في اللسان وما يلهج به ، ولا أنّ لها مساساً باللغة ، وسرد الكلمات ، وصياغة الكلام ، وحكاية ما صيغ منها من قرآن أو غيره.

وليت شعري ما حاجة الشيعة في إصابة القرآن وتلاوته [تلاوة] (١) صحيحة إلى غيرهم؟ ألإعواز في العربية؟ أو لجهل بأساليب القرآن؟ لاها الله ليس فيهم من يتّسم بتلك الشية ، أمّا العربيُّ منهم فالتشيّع لم ينتأ بهم عن لغتهم المقدّسة ، ولا عن جبلّيّات عنصرهم ، أوَهل ترى أنَّ بلاد العراق وعاملة وما يشابههما ، وهي مفعمةٌ بالعلماء الفطاحل والعباقرة والنوابغ ، أقلّ حظّا في العربيّة من أعراب بادية نجدٍ والحجاز أكّالة الضبِّ ، ومساورة الضباع؟! وأمّا غير العربيّ منهم فما أكثر ما فيهم من أئمّة العربية والفطاحل والكتّاب والشعراء ، ومن تصفّح السِّيَر علم أنّ الأدب شيعيّ ، والخطابة شيعية ، والكتابة شيعية ، والتجويد والتلاوة شيعيّان. ومن هنا يقول ابن خلّكان في تاريخه في ترجمة عليّ بن الجهم (٢) (١ / ٣٨) : كان مع انحرافه عن عليّ بن أبي طالب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإظهاره التسنّن مطبوعاً مقتدراً على الشعر عذب الألفاظ. فكأنَّه يرى أنَّ مطبوعيّة الشعر وقرضه بألفاظ عذبة خاصّة للشيعة وأنّه المطّرد نوعاً.

وهذه المصاحف المطبوعة في إيران والعراق والهند منتشرة في أرجاء العالم ، والمخطوطة منها التي كادت تُعَدُّ على عدد من كان يحسن الكتابة منهم قبل بروز الطبع ،

__________________

(١) الزيادة يقتضيها السياق.

(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ٣٥٥ رقم ٤٦٢.

٤١٦

وفيهم من يكتبه اليوم تبرّكاً به ، ففي أيٍّ منها يجد ما يحسبه الزاعم من الغلط الفاشي؟ أو خلّة في الكتابة؟ أو ركّة في الأسلوب؟ أو خروج عن الفنّ؟ غير طفائف يزيغ عنه بصر الكاتب الذي هو لازم كلِّ إنسان شيعيّ أو سنّي ، عربيّ أو عجميّ.

وأحسب أنَّ الذي أخبر القصيميّ بما أخبر من الطائفين في بلاد الشيعة لم يولد بعدُ ، لكنَّه صوّره مثالاً وحسب أنَّه يحدِّثه ، أو أنّه لمّا جاس خلال ديارهم لم يزد على أن استطرق الأزقّة والجوادّ (١) فلم يجد مصاحف ملقاةً فيما بينهم وفي أفنية الدور ، ولو دخل البيوت لوجدها موضوعة في عياب وعلب ، وظاهرة مرئيّة في كلِّ رفٍّ وكوّة على عدد نفوس البيت في الغالب ، ومنها ما يزيد على ذلك ، وهي تُتلى آناء الليل وأطراف النهار.

هذه غير ما تتحرّز به الشيعة من مصاحف صغيرة الحجم في تمائم الصبيان وأحراز الرجال والنساء ، غير ما يحمله المسافر للتلاوة والتحفّظ عن نكبات السفر ، غير ما يوضع منها على قبور الموتى للتلاوة بكرةً وأصيلا وإهداء ثوابها للميِّت ، غير ما تحمله الأطفال إلى المكاتب لدراسته منذ نعومة الأظفار ، غير ما يُحمل مع العروس قبل كلِّ شيء إلى دار زوجها ، ومنهم من يجعل ذلك المصحف جزءً من صداقها تيمّناً به في حياتها الجديدة ، غير ما يؤخذ إلى المساكن الجديدة المتّخذة للسكنى قبل الأثاث كلِّه ، غير ما يوضع منها إلى جنب النساء لتحصينها عن عادية الجنِّ والشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم ـ ومنهم القصيميّ مخترع الأكاذيب ـ زخرف القول غروراً.

أفهؤلاء الذين لا يرفعون بالقرآن رأساً؟ أفهؤلاء الذين يندر جدّا أن توجد بينهم المصاحف؟ وأمّا ما أخبر به الرجل شيطانه الطائف بلاد الشيعة من عدم وجود من يحفظ القرآن منهم ، فسل حديث هذه الأكذوبة عن كتب التراجم ومعاجم السِّيَر ،

__________________

(١) الجوادّ : جمع جادّة.

٤١٧

وراجع كتاب كشف الاشتباه (١) في ردّ موسى جار الله (ص ٤٤٤ ـ ٥٣٢) تجدهناك من حفّاظ الشيعة وقرّائهم مائة وثلاثة وأربعين.

١١ ـ قال : هل يستطيع أن يجيء ـ الشيعيُّ ـ بحرف واحد من القرآن يدلُّ على قول الشيعة بتناسخ الأرواح ، وحلول الله في أشخاص أئمّتهم ، وقولهم بالرجعة وعصمة الأئمّة ، وتقديم عليٍّ على أبي بكر وعمر وعثمان؟ أو يدلُّ على وجود عليٍّ في السحاب ، وأنَّ البرق تبسّمه والرعد صوته كما تقول الشيعة الإماميّة؟ (١ / ٧٢).

الجواب : إن تعجب فعجبٌ أنَّ الرجل ومن شاكله من المفترين بهتوا الشيعة الإماميّة بأشياء هم براء منها على حين تداخل الفرق ، وتداول المواصلات ، وسهولة استطراق الممالك والمدن بالوسائل النقليّة البخاريّة في أيسر مدّةٍ ، ومن المستبعد جدّا إن لم يكن من المتعذِّر جهل كلِّ فرقةٍ بمعتقدات الأخرى ، فمحاول الوقيعة اليوم والحالة هذه على أيِّ فرقة من الفرق قبل الفحص والتنقيب المتيسِّرين بسهولة مستعمل للوقاحة والصلافة ، وهو الأفّاك الأثيم عند من يطالع كتابه ، أو يصيخ إلى قيله.

ولو كان الرجل يتدبّر في قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٢) ، أو يصدِّق ما أوعد الله به كلَّ أفّاكٍ أثيمٍ همّاز مشّاء بنميم ، لكفَّ مَدّته عن البهت ، وعرف صالحه ، ولكان هو المجيب عن سؤال شيطانه بأنَّ الشيعة الإماميّة متى قالت بالتناسخ وحلول الله في أشخاص أئمّتهم؟ ومن الذين ذهب منهم قديماً وحديثاً إلى وجود عليٍّ في السحاب. إلخ. حتى يوجد حرف واحد منها في القرآن؟

نعم ؛ عليّ في السحاب كلمةٌ للشيعة تأسِّياً بالنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى الذي مرّ في الجزء الأوّل (ص ٢٩٢) غير أنّ قوّالة الإحنة حرّفتها عن موضعها ، وأوّلتها بما يشوِّه الشيعة الإماميّة.

__________________

(١) [ص ١٧٢] تأليف العلم الحجّة شيخنا المحقّق الشيخ عبد الحسين الرشتي النجفي. (المؤلف)

(٢) سورة ق : ١٨.

٤١٨

أليس عاراً على الرجل وقومه أن يكذب على أمّةٍ كبيرةٍ إسلاميّةٍ ولا يبالي بما يباهتهم ، وينسبهم إلى الآراء المنكرة أو التافهة ، ولا يتحاشى عن سوء صنيعه؟ أليست كتب الشيعة الإماميّة المؤلّفة في قرونها الماضية ويومها الحاضر وهي لسانهم المعرب عن عقائدهم مشحونة بالبراءة من هذه النسب المختلقة بألسنة مناوئيهم؟

فإن كان لا يدري فتلك مصيبةٌ

وإن كان يدري فالمصيبة أعظمُ

نعم ؛ له أن يستند في أفائكه إلى شاكلته طه حسين ، وأحمد أمين ، وموسى جار الله ، رجال الفرية والبذاءة.

وقول الإماميّة بالرجعة نطق به القرآن ، غير أنَّ الجهل أعشى بصر الرجل كبصيرته ، فلم يره ولم يجده فيه ، فعليه بمراجعة كتب الإماميّة ، وقد أفردها بالتأليف جماهير من العلماء ، فحبّذا لو كان الرجل يراجع شيئاً منها.

كما أنّ آية التطهير ناطقة بعصمة جمع ممّن تقول الإماميّة بعصمتهم ، وفي البقيّة بوحدة الملاك والنصوص الثابتة ، وفيما أخرجه إمام مذهبه أحمد بن حنبل في الآية الشريفة في مسنده (١) (١ / ٣٣١ و ٣ / ٢٨٥ و ٤ / ١٠٧ و ٦ / ٢٩٦ ، ٢٩٨ ، ٣٠٤ ، ٣٢٣) مقنعٌ وكفايةٌ.

وكيف لم يقدِّم القرآن عليّا على غيره؟ وقد قرن الله ولايته بولايته وولاية نبيِّه بقوله العزيز : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). وقد مرَّ في هذا الجزء (ص ١٥٦ ـ ١٦٢) : إطباق الفقهاء والمحدِّثين والمتكلّمين على نزولها في عليٍّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والباحث إن أعطى النصفة حقّها يجد في كتاب الله آياً تُعَدُّ بالعشرات نزلت في

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٥٤٤ ح ٣٠٥٢ و ٤ / ٢٠٢ ح ١٣٦٢٦ و ٥ / ٧٩ ح ١٦٥٤٠ و ٧ / ٤٢١ ح ٢٦٠٠٠ ، ص ٤٢٣ ح ٢٦٠١٠ ، ص ٤٣١ ح ٢٦٠٥٧ ، ص ٤٥٥ ح ٢٦٢٠٦.

٤١٩

عليٍّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي تدلّ على تقديمه على غيره ، ولا بدع وهو نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّ القرآن ، وبولايته أكمل الله دينه ، وأتمَّ علينا نعمه ، ورضي لنا الإسلام ديناً.

ونحن نعيد السؤال هاهنا على القصيميِّ فنقول : هل يستطيع أن يجيء هو وقومه بحرف واحدٍ من القرآن يدلُّ على تقديم أبي بكر وعمر وعثمان على وليّ الله الطاهر أمير المؤمنين عليه‌السلام؟

١٢ ـ قال : والقوم ـ يعني الإماميّة ـ لا يعتمدون في دينهم على الأخبار النبويّة الصحيحة ، وإنّما يعتمدون على الرقاع المزوَّرة المنسوبة كذباً إلى الأئمّة المعصومين في زعمهم وحدهم (١ / ٨٣).

الجواب : عرفت الحال في التوقيعات الصادرة عن الناحية المقدّسة ، والرجل قد أتى من شيطانه بوحي جديد ، فيرى توقيعات بقيّة الأئمّة أيضاً مكذوبة على الأئمّة ، ويرى عصمتهم مزعومةً للشيعة فحسب ، إذ لم يجدها في طامور أوهامه.

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١).

١٣ ـ المتعة التي تتعاطاها الرافضه أنواع : صغرى وكبرى. فمن أنواعها : أن يتّفق الرجل والمرأة المرغوب فيها على أن يدفع إليها شيئاً من المال أو من الطعام والمتاع ـ وإن حقيراً جدّا ـ على أن يقضي وطره منها ، ويشبع شهوته يوماً أو أقل أو أكثر حسب ما يتّفقان عليه ، ثمَّ يذهب كلٌّ منهما في سبيله كأنَّما لم يجتمعا ولم يتعارفا ، وهذا من أسهل أنواع هذه المتعة.

وهناك نوع آخر أخبث من هذا يسمّى عندهم بالمتعة الدوريّة وهي أن يحوز جماعة امرأة واحدة فيتمتّع بها واحد من الصبح إلى الضحى ، ثمّ يتمتّع بها آخر من

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٤٢٠