الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

المهاجرون إلى أبي بكر؟ واجتمع ناسٌ إلى العبّاس؟ وبنو هاشم ومن يمتُّ بهم وينتمي إليهم يقولون : إنَّها لأمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه؟

هذه أسئلة حافلة ليس للخضري عنها جوابٌ ، إلاّ أن يدّعي أنَّ معاوية كان أشفق بالأمّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأيّ خلاف رفعه تعيين يزيد وعلى عهده كانت واقعة الطفِّ ، وتلاها فاجعة الحرّة ، وأعقبهما أمر ابن الزبير وقصّة البيت المعظّم؟ كلُّ ذلك من جرّاء ذلك الاختيار ، وثمرة تلك الفكرة الفاسدة ، وفي الناقمين سبط النبوّة حسين العظمة ـ صلوات الله عليه ـ وبقيّة بني عبد مناف ، وعامّة المهاجرين والأنصار في المدينة المنوّرة.

ثمّ إن كان معاوية لم يجد بدّا من الاختيار ، فلما ذا لم يختر صالحاً من صلحاء الصحابة؟ وفي مقدّمهم سبط رسول الله الإمام الطاهر ، ولا معدل عنه في حنكة أو علم أو تقوى أو شرف.

وكيف راق الخضري أن يرى هذا الاختيار حسناً جميلاً صالح الأمّة ، ولم يره حيفاً وجنايةً عليها وعلى إسلامها ورسولها وكتابها وسنّتها؟ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوقظ شعور أمّته قبل ذلك بأعوام بقوله : «إنّ أوّل من يبدِّل سنّتي رجل من بني أميّة». وقوله : «لا يزال هذا الأمر معتدلاً قائماً بالقسط ، حتى يثلمه رجل من بني أميّة يقال له يزيد» (١).

وأخرج ابن أبي شيبة (٢) وأبو يعلى : إنّ يزيد لمّا كان أبوه أمير الشام غزا المسلمون فحصل لرجل جارية نفيسة فأخذها منه يزيد ، فاستعان الرجل بأبي ذرّ ،

__________________

(١) الخصائص الكبرى : ٢ / ١٣٩ [٢ / ٢٣٦] ، تطهير الجنان في هامش الصواعق : ص ١٤٥ [ص ٦٤] وقال : مسند رجاله رجال الصحيح ، إلاّ أنّ فيه انقطاعاً. (المؤلف)

(٢) المصنّف : ١٤ / ١٠٢ ح ١٧٧٢٦.

٣٦١

فمشى معه إليه وأمره بردِّها ثلاث مرّات وهو يتلكّأ ، فقال : أما والله لئن فعلت ، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أوّل من يبدِّل سنّتي لَرجل من بني أميّة» ثمّ ولّى ، فتبعه يزيد فقال : أُذكرك بالله أنا هو؟ فقال : لا أدري ، وردّها يزيد.

قال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق (١) (ص ١٤٥) : لا ينافي هذا الحديث المذكور المصرِّح بيزيد ، إمّا لأنّه بفرض كلام أبي ذرّ على حقيقته لكون أبي ذرّ لم يعلم بذلك المبهم ، فقوله : لا أدري أي في علمي وقد بيّن إبهامه في الرواية الأولى ، والمفسِّر يقضي على المبهم. وإمّا لأنَّ أبا ذرّ علم أنَّه يزيد ولكنّه لم يصرِّح له بذلك خشية الفتنة ، لا سيّما وأبو ذرّ كان بينه وبين بني أميّة أمور تحملهم على أنَّهم ينسبونه إلى التحامل عليهم.

وأمّا رأيه في حصر الخلافة بأسرة فإنّا لا نناقشه إلاّ من عدم جدارة الأُسرة التي يجنح إليها الخضري للخلافة. نعم ؛ لا بأس به إذا حُصرت بأسرةٍ كريمةٍ تتحلّى باللياقة والحذق من الناحية الدينيّة والسياسيّة ، ونحن لا نقول بلزوم الحصر المذكور مع عدم اللياقة ، فإنَّه غير وافٍ لقمِّ جذور الفساد ، وقمع جذوم الاختلاف ، فالأمّة متى وجدت من خليفتها الحيف والجنف تثور عليه وتخلعه ، وبطبع الحال يطمع في الخلافة عندئذٍ من هو أزكى منه نفساً ، وأطيب أرومةً ، وأكرم خلقاً ، وحتى من يساويه في الغرائز ، فأيّ مفسدةٍ اكتسحها حصر الخلافة والحالة هذه؟

جَيْر (٢) ؛ إذا حصرت بمن ذكرناه وشاهدت الأمّة منهم التأهّل ، فإنَّ فيه منقطع أطماع الخارجين عن الأسرة من ناحية خروجهم عن البيت المعيَّن لها ، ودحض معاذير الثوّار والمشاغبين من ناحية عدم وجود أحداث توجب الثورة والخروج ، وعندئذٍ يتأكّد خضوع الأمّة لخليفة شأنه ما ذكرناه ، فتعظم شوكته ، وتتّسق أموره ،

__________________

(١) تطهير الجنان : ص ٦٤.

(٢) حرف جواب بمعنى نعم.

٣٦٢

وتمتثل أوامره ، فلا يدع معرّة إلاّ اكتسحها ، ولا صلاحاً إلاّ بثّه ، والشيعة لا تقول بحصر الخلافة في آل عليٍّ : إلاّ بعد إخباتها إلى سريان ناموس العصمة في رجالات بيتهم المعيّنين للخلافة المدعومة بالنصوص النبويّة المتواترة. راجع (ص ٧٩ ـ ٨٢) من هذا الجزء.

٤ ـ قال : وعلى الجملة فإنَّ الحسين أخطأ خطأً عظيماً في خروجه هذا ، الذي جرّ على الأمّة وبال الفرقة والاختلاف ، وزعزع عماد أُلفتها إلى يومنا هذا ، وقد أكثر الناس من الكتابة في هذه الحادثة لا يريدون بذلك إلاّ أن تشتعل النيران في القلوب ، فيشتدُّ تباعدها. غاية ما في الأمر أنّ الرجل طلب أمراً لم يُهيّأ له ، ولم يعدّ له عدّته ، فحيل بينه وبين ما يشتهي وقُتل دونه ، وقبل ذلك قُتل أبوه ، فلم يجد من أقلام الكاتبين ومن يبشّع أمر قتله ويزيد به نار العداوة تأجيجاً ، وقد ذهب الجميع إلى ربِّهم يحاسبهم على ما فعلوا ، والتاريخ يأخذ من ذلك عبرةً وهي : أنَّه لا ينبغي لمن يريد عظائم الأمور أن يسير إليها بغير عدّتها الطبيعيّة ، فلا يرفع سيفه إلاّ إذا كان معه من القوّة ما يكفل النجاح أو يقرب من ذلك ، كما أنَّه لا بدّ أن تكون هناك أسباب حقيقيّة لمصلحة الأمّة ، بأن يكون جور ظاهر لا يحتمل ، وعسف شديد ينوء الناس بحمله ، أمّا الحسين فإنّه خالف يزيد وقد بايعه الناس ، ولم يظهر منه ذلك الجور ولا العسف عند إظهار هذا الخلاف (٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠). وقبل هذه الجمل يبرِّئ ساحة يزيد عن الظلم والجور ، ويراه قرّب عليَّ بن الحسين إليه وأكرمه ونعّمه.

الجواب : ليت الرجل كتب ما كتب بعد الحيطة بشؤون الخلافة الإسلاميّة وشروطها ، وما يجب أن يكتنفه الخليفة من حنكة لتدبير الشؤون ، وملكة لتهذيب النفوس ، ونزاهة عن الرذائل ليكون قدوة للأمّة ، ولا ينقض ما يدعو إليه ببوائقه ، إلى أمثالها من غرائز يجب أن يكون حامل ذلك العبء الثقيل متحلّياً بها ، لكنّه كتب وهو يجهل ذلك كلّه ، وكتبه على حين أنَّه لم يحمل إلاّ نفساً ضئيلة تقتنع بما يحسبه دعةً تحت نير الاضطهاد ، وعلى حين أنّ ضعف الرأي ودقّة الخطر يحبِّذان له راحةً مزعومةً في

٣٦٣

ظلِّ الاستعباد ، فلا نفس كبيرة تدفعه إلى الهرب من حياة الذلِّ ، ولا عقلٌ سليمٌ يعرِّفه مناخ الضعة ، ولا إحاطة بتعاليم الإسلام تلقِّنه دروس الإباء والشهامة ، ولا معرفة بعناصر الرجال ليعلم من نفسيّاتهم الكمّ والكيف ، فلا عرف يزيد الطاغية حتى يعلم أنَّه لا مقيل له في مستوى الخلافة ، ولا عرف حسين السؤدد والشرف والإباء والشهامة ، حسين المجد والإمامة ، حسين الدين واليقين ، حسين الفضل والعظمة ، حسين الحقِّ والحقيقة ، حتى يخبت إلى أنّ من يحمل نفساً كنفسه لا يمكنه البخوع ليزيد الخلاعة والمجون ، يزيد الاستهتار والفسوق ، يزيد النهمة والشره ، يزيد الكفر والإلحاد.

لم ينهض بضعة المصطفى إلاّ بواجبه الدينيِّ ، فإنّ كلّ معتنقٍ للحنيفيّة البيضاء يرى في أوّل فرائضه أن يدافع عن الدين بجهاد من يريد أن يعبث بنواميسه ، ويعيث في طقوسه ، ويبدِّل تعاليمه ، ويعطِّل أحكامه ، وإنّ أظهر مصاديق كلّيٍّ تنطبق عليه هذه الجمل هو يزيد الجور والفجور والخمور ، الذي كان يُعرف بها على عهد أبيه ، كما قال مولانا الحسين عليه‌السلام لمعاوية لمّا أراد أخذ البيعة له : «تريد أن توهم الناس ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ يزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة (١) عند التحارش ، والحمام السبّق لأترابهنَّ ، والقينات ذوات المعازف (٢) وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، دع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه» (٣).

وقال عليه‌السلام لمعاوية أيضاً : «حسبك جهلك! آثرت العاجل على الآجل». فقال معاوية : وأمّا ما ذكرت من أنَّك خير من يزيد نفساً ، فيزيد ـ والله ـ خير لأمّة محمد

__________________

(١) المهارشة : تحريش بعضها على بعض. (المؤلف)

(٢) المعازف جمع معزف : آلات يضرب بها كالعود. (المؤلف)

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٣ [١ / ١٦١]. (المؤلف)

٣٦٤

منك. فقال الحسين : «هذا هو الإفك والزور ، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير منّي؟» (١).

وفي كتاب المعتضد الذي تُلي على رءوس الأشهاد في أيّامه ، ما نصّه :

ومنه : إيثاره ـ يعني معاوية ـ بدين الله ، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبِّر الخِمِّير ، صاحب الديوك والفهود والقرود ، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر ، والسطوة ، والتوعيد ، والإخافة ، والتهدّد ، والرهبة ، وهو يعلم سفهه ، ويطّلع على خبثه ورهقه ، ويعاين سَكَرَانَهُ وفجوره وكفره. فلمّا تمكّن منه ما مكّنه منه ، ووطّأه له وعصى الله ورسوله فيه ، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين ، فأوقع بأهل الحرّة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ، ولا أفحش ممّا ارتكب من الصالحين فيها ، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله ، وظنَّ أن قد انتقم من أولياء الله ، وبلغ النوى لأعداء الله ، فقال مجاهراً بكفره ومظهراً لشركه :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جَزَعَ الخزرجِ من وَقْع الأسلْ (٢)

قد قتلنا القَرْمَ من ساداتِهمْ

وعدلنا ميلَ بدرٍ فاعتدلْ

فأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمَّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

لستُ من خندفَ إن لم أنتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فعلْ

لعبت هاشمُ بالملكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

هذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله وإلى دينه ، ولا إلى كتابه ، ولا إلى رسوله ، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.

ثمَّ من أغلظ ما انتهك وأعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن عليّ ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع موقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه منه ، ومنزلته من

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٥ [١ / ١٦٣]. (المؤلف)

(٢) الأسل : الرماح ، وقد يطلق على النبل.

٣٦٥

الدين والفضل ، وشهادة رسول الله له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنّة ، اجتراءً على الله وكفراً بدينه وعداوةً لرسوله ومجاهدةً لعترته واستهانةً بحرمته ، فكأنَّما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفّار أهل الترك والديلم ، لا يخاف من الله نقمةً ، ولا يرقب منه سطوةً ، فبتر الله عمره ، واجتثَّ أصله وفرعه ، وسلبه ما تحت يده ، وأعدَّ له من عذابه وعقوبته ما استحقّه بمعصيته .. إلخ.

راجع تاريخ الطبري (١) (١١ / ٣٥٨).

وقبل هذه كلّها ما مرَّ (ص ٢٥٧) من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ أوّل من يبدِّل سنّته رجل من بني أميّة ، و «لا يزال هذا الأمر معتدلاً قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أميّة يقال له يزيد».

وإلى مثل هذه كان يرمي كلَّ من ينقم بيعة يزيد ، فخلافة مثله وهو على هذه الحالة خطر عظيم على الدين والمسلمين من شتّى النواحي :

١ ـ فقومٌ تتضعضع ضمائرهم عن الدين لما تمركز في الأدمغة من أنّ الخليفة يجب أن يكون مسانخاً لمن يتخلّف عنه ، والناشئة الذين لم يدركوا عصر النبوّة ولم تكهربهم التعاليم الصحيحة في العصور المظلمة ، تخالجهم هذه الشبهة بأسرع ما يكون ، فيحسبون أنَّ قداسة النبيِّ الأعظم كانت ملوّثة ـ العياذ بالله ـ بأمثال هذه الأدناس ، من دون علم بأنَّ الرجل خليفة أبيه لا خليفة رسول الله ، وإنَّما سنّمه ذلك العرش المطامع والشره من جانب ، والتخويف والإرهاب من جانب.

٢ ـ قومٌ يروقهم اقتصاص أثر الخليفة في تهتّكه لميل النفوس إلى الاستهتار ورفض القيود تارة ، ومن جهة حبُّ التشبّه بالعظماء والساسة طوراً ـ والناس على دين مليكهم ـ والناس إذا استهوتهم الشهوات لا يقفون على حدّ ، فتكثر فيهم الموبقات ، وتشيع الفواحش ، فمن فجورٍ إلى مثله ، ومن فاحشةٍ إلى أخرى ، فلا يمرُّ

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ١٠ / ٦٠ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍.

٣٦٦

يسيرٌ من الزمن إلاّ ومملكة الإسلام مباءة للمنكرات ، ومستوىً للفواحش ، حتى لا تبقى من نواميس الدين عين ولا أثر.

٣ ـ وهناك أقوامٌ ينكرون هذه المظاهر ، وقد أفلتت من أيديهم المظاهر الدينيّة ، فهم بين حائر لا يدري أين يولّي وجهه وممّن يأخذ معالم دينه ، وبين من تتسرّب إليه الشبه خلال هاتيك الظلمات الدامسة ، فلا يشعر حتى يرى نفسه في هلكة الجاهليّة الأولى.

٤ ـ إذا سادت الخلاعة بين أيِّ أمّة من ملوكها وسوقتها وأمرائها وزعمائها ، فهي بطبع الحال تلتهي عن الشؤون الاجتماعيّة والإداريّة ودحض الفوضى ومقاومة القلاقل الداخليّة ، فهنالك يسود فيها الضعف اختلال نظامها ، فتنبو عن الدفاع عن ثغورها واستقلالها ، فتطمع فيها الأجانب ، وتكثر عليها الهجمات ، فلا يمرُّ عليها ردح قصير من الزمن إلاّ وهي فريسة الضاري ، وأكلة الجشع ، وطعمة كلِّ مخالف.

٥ ـ إنَّ نواميس الإسلام كانت بطبع الحال تبلغ إلى أممٍ نائيةٍ عن مملكته فيروقها جمالها البهيج ، وحكمتها البالغة ، وموافقتها العقل والمنطق ، وأعمال رجالها المخلصين فيكون فيهم من يتأثّر بجاذبيّتها ، أو يكون على وشك من اعتناقها ، ولا أقلَّ من الحبّ الممتزج لنفسيّاتهم ، لكن بينما القوم على هذه الحالة ، إذا تعاقب تلك الأنباء ما يضادّها من عادات هذا الدور الجديد الحالك ، وأخبارها الموحشة تحت راية تلك الخلافة الجائرة ، وبلغهم أنَّ هاتيك التعاليم الوضيئة قد هجرت ، والمطّرد في مملكة الإسلام غيرها بشهوة من الخليفة ، وانهماك من القوّاد ، وتهالك من الزعامة ، وتفانٍ من السوقة ، فسرعان ما تعود تلك السمعة مشوّهة ، ويعود ذلك الحبّ بغضاً ، من غير تمييز بين الأصيل والدخيل من الأعمال ، فتكون الحالة معثرة في سبيل سير الإسلام وتسرّيه إلى الأجانب.

٦ ـ أضف إلى هذه كلّها ما كان يظهر من فلتات ألسنة الأمويّين ، ويُرى في

٣٦٧

فجوات أعمالهم من نواياهم السيِّئة على الدين والمسلمين ، وقد علمنا من ذلك أنَّهم لم يقلعهم عن دينهم الوثنيِّ الأوّل إلاّ خشية السيف والطمع في الزعامة ، فأقلّ شيءٍ يُنتظر منهم على ذلك عدم اهتمامهم بنشر معالم الدين ، إن لم ترد الأمّة عن سيرها الدينيِ القهقرى ، فتبقى مرتطمة بين هذه وبين تهالكها في الفجور وسيِّئ الخلق ، فتعود دولة قيصريّة ومملكة جاهليّة.

ثمَّ إنَّ نفس الخليفة إذا شاهد من استحوذ عليهم من الأمم على هذه الأحوال ، وعلم أنَّه قد ملك الرقاب ولا منكر عليه من بينهم ، على مآثم يرتكبها أو سيِّئات يجترحها ، فإنّه بالطبع يتوغّل في غلوائه ، ويزداد في انهماكه ، ويشتدُّ في التفرعن والاستعباد.

فأيّ خطرٍ أيّها الخضري أعظم على المجتمع الدينيِّ من هذه الأحوال؟ وأيّ مصلحة أعظم من اكتساح هذه المعرّة تدفع كلّ دينيّ غيور إلى النهوض في وجه هذه السلطة القاسية؟ وأيّ عسف شديد ينوء الناس بحمله ، أو جور ظاهر لا يحتمل أشدّ ممّا ذكرنا ، الذي يترك كلّ متديِّن أن يرى من واجبه الإنكار عليه ، والنهضة تجاهه ولو بمفرده؟ وإن عَلِم أنَّه مقتول لا محالة ، فإنّه وإن يُقتل في يومه لكن حياته الأبديّة في سبيل الدين والشريعة لا تزال مضعضعة لأركان الدولةالظالمة ، وهو فيها يتلو على الملأ صحيفة صاحبها السوداء ، وأنَّه كان مغتصباً ذلك العرش المقدّس ، وأنّه إنَّما وأد هذا الإنسان دون إنكاره على جرائمه ، ويتّخذ الملأ الواقف على حديثه درساً راقياً من التضحية والمفاداة للمبدإ الصحيح ، فيقتصّون أثره ، ويحصل هناك قوم يرقّون لهذا المضحّي فينهضون لثاراته ، وفي الأمّة بقيّة ساخطة لمآثم المتغلّب وفتكه بالمنكر عليه ، فتلتقي الروحان : الثائرة والساخطة ، فتنهك هذه قوى الدولة الغاشمة ، وتتثبّط الأخرى عن مناصرتها ، فيكون هناك بوار الظلم وظهور الصالح العام.

وهكذا أثّرت نهضة الحسين المقدّسة حتى أجهزت على دولة الأمويِّين أيّام

٣٦٨

حمارهم ، وهكذا علّمت الأمّة دروسها الراقية ، لكنَّ الخضريّ ومن يلفُّ لفّه قد أعشى الجهل أبصار بصائرهم.

لم يكن حسين التضحية يريد ملكاً عضوضاً ، حتى كان خروجه قبل الأُهبة خطأً عظيماً كما يحسبه الخضريُّ ، فيقول بملء فمه : فحيل بينه وبين ما يشتهي وقُتل دونه! ... وإنَّما أراد الفادي الكريم والمجاهد الظافر التضحية في سبيل الدين ؛ ليُعْلِم الأمّة بفظاظة الأمويِّين وقسوة سياستهم ، وابتعادهم عن الناموس البشريِّ فضلاً عن الناموس الدينيِّ ، وتوغّلهم في الغلظة الجاهليّة وعادات الكفر الدفين ؛ ليُعلِم الملأ الدينيّ كيف أنَّهم لم يوقّروا كبيراً ولم يرحموا صغيراً ، ولم يرقّوا على رضيع ، ولم يعطفوا على امرأة ، فقدّم إلى ساحات المفاداة أغصان الرسالة وأوراد النبوّة وأنوار الخلافة ، ولم يُبقِ جوهرة من هاتيك الجواهر الفردة ، فلم يعتم هو ولا هؤلاء إلاّ وهم ضحايا في سبيل تلك الطلبة الكريمة.

سل كربلا كم من حشاً لمحمدٍ

نُهِبَتْ بها وكم استُجذّت من يدِ

أقمارُ تمٍّ غالها خسفُ الردى

واغتالها بصروفِهِ الزمنُ الردي

وما كان حسين العظمة بالذي تذهب أعماله أدراج الرياح ، لما هو المعلوم بين أمّة جدِّه من شموخ مكانته ، ورفعة مقامه ، وعلمه المتدفِّق ، ورأيه الأصيل ، وعدله الواضح ، وتقواه المعلومة ، وأنَّه ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المستقي من تيّار فضله ، فلن تجد بين المسلمين من ينكر عليه شيئاً من هذه المآثر وإن كان ممّن لا يدين بخلافته ، فما كانت الأمّة تفوه بشيءٍ حول نهضته القدسيّة قبل التنقيب والنظر ، وقد نقّبوا وتروّوا فيها ، فوجدوها طبقاً لصالح المجتمع ، فلم يُسمع من أحدهم غير تقديس أو إكبار ، ولذلك لم تسمع أذن الدهر من أيّ أحدٍ ما تجرّأ به الخضريُّ بقوله : أخطأ.

(إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) (١).

__________________

(١) المجادلة : ٢.

٣٦٩

فالذي نستفيده من تاريخ السبط المفدّى هو وجوب النهوض في وجه كلِّ باطلٍ ومناصرة كلِّ حقٍّ ، ولإبقاء هيكل الدين ونشر تعاليمه وبثِّ أخلاقه. نعم ، يُعلّمنا هذا التاريخ المجيد النزوع إلى إيثار الخلود في البقاء ولو باعتناق المنيّة على الحياة المخدَجة تحت نير الاستعباد ، والمبادرة إلى الانتهال من مناهل الموت لتخليص الأمّة من مخالب الجور والفجور ، ويلزمنا بسلوك سنن المفاداة دون الحنيفيّة البيضاء ، والنزول على حكم الإباء دون مهاوي الذلِّ. هذا غيض من فيض من دروس سيِّدنا الحسين عليه‌السلام التي ألقاها على أمّة جدِّه ، لا ما جاء في مزعمة الخضريِّ من أن التاريخ .. إلخ.

وللخضريِّ من ضرائب ما ذُكر بوائق جمّة ضربنا عنها صفحاً ، وإنَّما أردنا إيقاظ شعور الباحث بما ذكر إلى سنخ آرائه الأمويّة.

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ

(وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١)

٩ ـ

السنَّة والشيعة

بقلم

السيِّد محمد رشيد رضا صاحب المنار

لم يقصد صاحب هذه الرسالة نقداً نزيهاً أو حجاجاً صحيحاً ، وإن كان قد صبغها بصبغة الردّ على العلاّمة الحجّة في علويّة الشيعة السيّد محسن الأمين العاملي ـ حياه الله وبيّاه ـ لكنّه لم يتهجّم على حصونه المنيعة إلاّ بسباب مقذع ، أو إهانة قبيحة ، أو تنابز بالألقاب ، أو هتك شائن ، ومعظم قصده إغراء الدول الثلاث العربية : العراقية ، والحجازية ، واليمانية بالشيعة ، بأكاذيب وتمويهات ، وعليه فليس من خطّة الباحث نقد أمثالها ، غير أنّه لم نجد منتدحاً من الإيعاز إلى شيءٍ من الأكاذيب

__________________

(١) النساء : ١٠٨.

٣٧٠

والمخاريق المودعة فيها من وليدة فكرته أو ما نقله عن غيره متطلّباً من علماء الشيعة تخطئة ما يرونه فيها خطأ ، وهو يعلم أنّ الإعراض عنها هو الحزم ، لما فيه من السياسة الدولية الخارجة عن محيط العلم والعلماء.

١ ـ بدأ رسالته بتاريخ التشيّع ومذاهب الشيعة ، فجعل مبتدع أصوله عبد الله ابن سبأ اليهودي ، ورأى خليفة السبئيِّين في إدارة دعاية التفرّق بين المسلمين بالتشيّع والغلوِّ زنادقة الفرس ، وعدَّ من تعاليم غلاة الشيعة بدعة عصمة الأئمّة ، وتحريف القرآن ، والبدع المتعلّقة بالحجّة المنتظر ، والقول بألوهيّة بعض الأئمّة والكفر الصريح.

وقسّم الإماميّة على المعتدلة القريبة من الزيديّة ، والغلاة القريبة من الباطنيّة ، وقال : هم الذين لُقّحوا ببعض تعاليمهم الإلحاديّة كالقول بتحريف القرآن ، وكتمان بعض آياته ، وأغربها في زعمهم سورة خاصّة بأهل البيت يتناقلونها بينهم ، حتى كتب إلينا سائحٌ سنِّيّ مرّةً : أنَّه سمع بعض خطبائهم في بلد من بلاد إيران يقرأها يوم الجمعة على المنبر ، وقد نقلها عنهم بعض دعاة النصرانيّة المبشِّرين ، فهؤلاء الإماميّة الاثنا عشريّة ، ويلقّبون بالجعفريّة درجات.

وعدَّ من الإماميّة بدعة البابيّة ثمَّ البهائيّة الذين يقولون بألوهيّة البهاء ، ونسخه لدين الإسلام وإبطاله لجميع مذاهبه. ومن وراء هذه الكلم المثيرة للفتن والإحن يرى نفسه الساعي الوحيد في توحيد الكلمة والإصلاح بعد السيِّد جمال الدين الأفغاني ، ثمَّ بسط القول الخرافيَّ والكلم القارصة.

والباحث يجد جواب كثير ممّا لفّقه من المخاريق فيما مرَّ من هذا الجزء من كتابنا ، والسائح السنِّي الذي أخبر صاحب المنار عن خطيب إيران لم يولد بعدُ ، ومثله الخطيب الذي كان يهتف بتلك السورة المختلقة في الجمعات ، ولا أنَّ الشيعة تقيم لتلك السورة المزعومة وزناً ، ولا تراها بعين الكتاب العزيز ، ولا تجري عليها أحكامه ،

٣٧١

ويا ليت الرجل راجع مقدّمات تفسير العلاّمة البلاغي ـ آلاء الرحمن (١) ـ وما قاله في حقِّ هذه السورة وهو لسان الشيعة وترجمان عقائدهم ، ثمَّ كتب ما كتب حولها.

ونحن نرحِّب بهذا الحِجاج الذي يستند فيه إلى المبشِّر النصرانيِّ ، ومن جهله الشائن عدُّ البابيّة والبهائيّة من فرق الشيعة ، والشيعة على بكرة أبيها لا تعتقد إلاّ بمروقهم عن الدين ، وبكفرهم وضلالهم ونجاستهم ، والكتب المؤلّفة في دحض أباطيلهم لعلماء الشيعة أكثر من أن تُحصى ، وأكثرها مطبوع منشور.

٢ ـ قال : اختلال العراق دائماً إنّما هو من الأرفاض ، فقد تهرّى أديمهم من سمِّ ضلالهم ، ولم يزالوا يفرحون بنكبات المسلمين حتى إنّهم اتّخذوا يوم انتصار الروس على المسلمين عيداً سعيداً ، وأهل إيران زيّنوا بلادهم يومئذٍ فرحاً وسروراً (ص ٥١) (٢).

الجواب : عجباً للصلافة! أيحسب هذا الانسان أنَّ البلاد العراقيّة والإيرانيّة غير مطروقةٍ لأحد؟ أو أنَّ أخبارهم لا تصل إلى غيرهما؟ أو أنَّ الأكثريّة الشيعيّة في العراق قد لازمها العمى والصمم عمّا تفرّد برؤيته أو سماعه هذا المتقوِّل؟ أو أنَّهم معدودون من الأمم البائدة الذين طحنهم مرُّ الحقب والأعوام؟ فلم يبق لهم من يدافع عن شرفهم ، ويناقش الحساب مع من يبهتهم ، فيسائل هذا المختلق عن أولئك النفر الذين يفرحون بنكبات المسلمين ، أهم في عراقنا هذا مجرى الرافدين؟ أم يريد قارّة لم تُكتشف تُسمّى بهذا الاسم؟ ويعيد عليه هذا السؤال بعينه في إيران.

أمّا المسلمون القاطنون في تَيْنِكَ المملكتين ومن طرقهما من المستشرقين والسوّاح والسفراء والموظّفين ، فلا عهد لهم بهاتيك الأفراح ، والشيعة جمعاء تحترم نفوس المسلمين ودماءهم وأعراضهم وأموالهم مطلقاً من غير فرق بين السنّيِ

__________________

(١) آلاء الرحمن : ص ٢٤.

(٢) نقلها وما بعدها عن الآلوسي في كتاب نسبه إليه ، كتبها إلى الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي. (المؤلف)

٣٧٢

والشيعيِّ ، فهي تستاء إذا ما انتابت أيَّ أحد منهم نائبةٌ ، ولم تقيِّد الأخوّة الإسلاميّة المنصوص عليها في الكتاب الكريم بالتشيّع. ويُساءَل الرجل أيضاً عن تعيين اليوم ، أيُّ يوم هو هذا العيد؟ وفي أيِّ شهر هو؟ وأيُّ مدينة ازدانت لأجله؟ وأيُّ قوم ناءوا بتلك المخزاة؟

لا جواب للرجل ، إلاّ الاستناد إلى مثل ما استند إليه صاحب الرسالة من سائح سنِّيّ مجهول أو مبشِّر نصرانيّ.

٣ ـ قال تحت عنوان : بغض الروافض لبعض أهل البيت :

إنَّ الروافض كاليهود يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ـ إلى أن قال ـ : ويبغضون كثيراً من أولاد فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بل يسبّونهم : كزيد بن عليِّ بن الحسين. وكذا يحيى ابنه ، فإنّهم أيضاً يبغضونه.

وكذا إبراهيم وجعفر ابنا موسى الكاظم ـ رضي الله عنهم ـ ولقّبوا الثاني بالكذّاب ، مع أنّه كان من أكابر الأولياء ، وعنه أخذ أبو يزيد البسطامي.

ويعتقدون أنَّ الحسن بن الحسن المثنّى وابنه عبد الله المحض وابنه محمد الملقّب بالنفس الزكيّة ارتدّوا ـ حاشاهم ـ عن دين الإسلام.

وهكذا اعتقدوا في إبراهيم بن عبد الله ، وزكريّا بن محمد الباقر ، ومحمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن ، ومحمد بن القاسم بن الحسن ، ويحيى بن عمر ، الذي كان من أحفاد زيد بن عليِّ بن الحسين.

وكذلك في جماعة ـ حسنيِّين وحسينيِّين ـ كانوا قائلين بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين ، إلى غير ذلك ممّا لا يسعه المقام ، وهم حصروا حبّهم بعدد منهم قليل ، كلّ فرقة منهم تخصُّ عدداً وتلعن الباقين. هذا حبّهم لأهل البيت والمودّة في القربى المسؤول عنها (ص ٥٢ ـ ٥٤).

٣٧٣

الجواب : هذه سلسلة أوهام حسبها الآلوسي حقائق ، أو أنَّه أراد تشويه سمعة الشيعة ولو بأشياء مفتعلة ، فذكر أحكاماً بعضها باطل بانتفاء موضوعه ، وجملة منها لأنَّها أكاذيب.

أمّا زيد بن عليّ الشهيد فقد مرَّ الكلام فيه وفي مقامه وقداسته عند الشيعة جمعاء. راجع (ص ٦٩ ـ ٧٦).

وأمّا يحيى بن زيد الشهيد ابن الشهيد ، فحاشا أن يبغضه شيعيٌّ وهو ذلك الإماميّ البطل المجاهد ، يروي عن أبيه الطاهر : أنَّ الأئمّة اثنا عشر ، وسمّاهم بأسمائهم وقال : إنَّه عهد معهود عهده إلينا رسول الله (١). ورثاه شاعر الإماميّة دعبل الخزاعي في تائيّته السائرة ، وقرأها للإمام عليِّ بن موسى الرضا عليه‌السلام.

ولم توجد للشيعة حوله كلمة غمز فضلاً عن بغضه ، وغاية نظر الشيعة فيه كما في كتاب زيد الشهيد (ص ١٧٥) : أنَّه كان معترفاً بإمامة الإمام الصادق ، حسن العقيدة ، متبصِّراً بالأمر ، وقد بكى عليه الصادق عليه‌السلام واشتدَّ وجده له ، وترحّم له. فسلام الله عليه وعلى روحه الطاهرة.

وفي وسع الباحث أن يستنتج ولاء الشيعة ليحيى بن زيد ، ممّا أخرجه أبو الفرج في مقاتل الطالبيّين (٢) (ص ٦٢) طبع إيران ، قال : لَمّا أُطلق يحيى بن زيد وفُكَّ حديده ، صار جماعة من مياسير الشيعة إلى الحدّاد الذي فكَّ قيده من رجله ، فسألوه أن يبيعهم إيّاه ، وتنافسوا فيه وتزايدوا حتى بلغ عشرين ألف درهم ، فخاف أن يشيع خبره فيُؤخذ منه المال ، فقال لهم : اجمعوا ثمنه بينكم. فرضوا بذلك وأعطوه المال ، فقطّعه قطعةً قطعةً وقسّمه بينهم ، فاتّخذوا منه فصوصاً للخواتيم يتبرّكون بها.

وقد أقرّت الشيعة هذا في أجيالها المتأخِّرة وحتى اليوم ، ولم ينقم ذلك أحد منهم.

__________________

(١) مقتضب الأثر في الأئمة الاثني عشر. (المؤلف)

(٢) مقاتل الطالبيّين : ص ١٤٨.

٣٧٤

وأمّا إبراهيم بن موسى الكاظم ، فليتني أدري وقومي بغض أيِّ إبراهيم يُنسب إلينا؟

هل إبراهيم الأكبر أحد أئمّة الزيديّة؟ الذي ظهر باليمن أيّام أبي السرايا ، والشيعة تروي عن الإمام الكاظم أنَّه أدخله في وصيّته وذكره في مقدّم أولاده المذكورين فيها ،

وقال : «إنّما أردت بإدخال الذين أدخلتهم معه ـ يعني الإمام عليّ بن موسى ـ من ولدي ، التنويه بأسمائهم والتشريف لهم» (١).

وترجمه شيخنا الأكبر المفيد في الإرشاد (٢) ، بالشيخ الشجاع الكريم ، وقال : ولكلِّ واحدٍ من ولد أبي الحسن موسى عليه‌السلام فضل ومنقبة مشهورة ، وكان الرضا المقدَّم عليهم في الفضل. وقال سيِّدنا تاج الدين بن زهرة في غاية الاختصار (٣) : كان سيِّداً أميراً جليلاً نبيلاً عالماً فاضلاً ، يروي الحديث عن آبائه عليهم‌السلام.

وفذلكة رأي الشيعة فيه ما في تنقيح المقال (١ / ٣٤ و ٣٥) : أنّه في غاية درجة التقوى ، وهو خيِّرٌ ديِّنٌ.

أَم إبراهيم الأصغر الملقَّب بالمرتضى؟ والشيعة تراه كبقيّة الذرّية من الشجرة الطيِّبة ، وتتقرّب إلى الله بحبِّهم. وحكى سيِّدنا الحسن صدر الدين الكاظمي ، عن شجرة ابن المهنّا : أنَّ إبراهيم الصغير كان عالماً عابداً زاهداً ، وليس هو صاحب أبي السرايا ، وإنّي لم أجد لشيعيٍّ كلمة غمزٍ فيه لا في كتب الأنساب ولا في معاجم الرجال ، حتى يستشمّ منها بغض الشيعة إيّاه ، وهذا سيِّدنا الأمين العاملي عدّهما من أعيان الشيعة ، وترجمهما في الأعيان (٤) (٥ / ٤٧٤ ـ ٤٨٢). فنسبة بغض أيٍّ منهما إلى الشيعة فرية واختلاق.

__________________

(١) أصول الكافي : ص ١٦٣ [١ / ٣١٧] في باب الإشارة والنصّ على الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام. (المؤلف)

(٢) الإرشاد : ٢ / ٢٤٦.

(٣) غاية الاختصار : ص ٨٧.

(٤) أعيان الشيعة : ٢ / ٢٢٧ ، ٢٢٨.

٣٧٥

وأمّا جعفر بن موسى الكاظم ، فإنّي لم أجد في تآليف الشيعة بسط القول في ترجمته ، ولم أقرأ كلمة غمز فيه حتى تكون آية بغضهم إيّاه ، ولم أر قطُّ أحداً من الشيعة لقّبه بالكذّاب ، ليت المفتري دلّنا على من ذكره ، أو على تأليف يوجد فيه ، والشيعة إنَّما تلقّبه بالخواري وولده بالخواريِّين والشجريِّين كما في عمدة الطالب (١) (ص ٢٠٨). وليتني أدري ممّن أخذ عدّ جعفر من أكابر الأولياء؟ ومن الذي ذكر أخذ أبي يزيد البسطاميّ عنه؟

إنّما الموجود في المعاجم تلمّذ أبي يزيد البسطاميّ طيفور بن عيسى بن آدم المتوفّى (٢٦١) على الإمام جعفر بن محمد الصادق ، وهذا اشتباه من المترجمين كما صرّح به المنقِّبون منهم ، إذ الإمام الصادق توفّي (١٤٨) وأبو يزيد في (٢٦١ ـ ٢٦٤) ولم يعدّ من المعمّرين ، ولعلّه أبو يزيد البسطامي الأكبر طيفور بن عيسى بن شروسان الزاهد (٢) ، فالرجل خبط خبط عشواء في فريته هذه.

وأمّا الحسن بن الحسن المثنّى ، فهو الذي شهد مشهد الطفِّ مع عمّه الإمام الطاهر ، وجاهد وأبلى وارتثّ بالجراح ، فلمّا أرادوا أخذ الرؤوس وجدوا به رمقاً ، فحمله خاله أبو حسّان أسماء بن خارجة الفزاري إلى الكوفة وعالجه حتى برأ ، ثمَّ لحق بالمدينة (٣).

ويعرب عن عقيدة الشيعة فيه قول شيخهم الأكبر الشيخ المفيد في إرشاده : كان جليلاً رئيساً فاضلاً ورعاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين في وقته ، وله مع الحجّاج خبرٌ ذكره الزبير بن بكّار ....

وعدّه العلاّمة الحجّة السيِّد محسن الأمين العاملي ـ الذي ردَّ عليه الآلوسي

__________________

(١) عمدة الطالب : ص ٢١٨.

(٢) راجع معجم البلدان : ٢ / ١٨٠ [١ / ٤٢١]. (المؤلف) معجم البلدان (بسطام) وراجع بقية مصادر ترجمته في (أعلام معجم البلدان للشبستري) ص ٢٨٦.

(٣) إرشاد المفيد [٢ / ٢٥] ، عمدة الطالب : ص ٨٦ [ص ١٠٠]. (المؤلف)

٣٧٦

بكلمته هذه ـ من أعيان الشيعة ، وذكر له ترجمة ضافية في (١) (٢١ / ١٦٦ ـ ١٨٤)

فالقول بأنّ الرافضة تعتقد بارتداده عن دين الإسلام قذفٌ بفريةٍ مُقذعةٍ تندى منها جبهة الإنسانيّة.

أمّا عبد الله المحض ابن الحسن المثنّى فقد عدّه شيخ الشيعة أبو جعفر الطوسي في رجاله (٢) من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وزاد ابن داود (٣) الباقر عليه‌السلام.

وقال جمال الدين بن المهنّا في العمدة (٤) (ص ٨٧) : كان يشبه رسول الله ، وكان شيخ بني هاشم في زمانه ، يتولّى صدقات أمير المؤمنين بعد أبيه الحسن.

والأحاديث في مدحه وذمِّه ، وإن تضاربت غير أنّ غاية نظر الشيعة فيها ما اختاره سيِّد الطائفة السيِّد ابن طاووس في إقباله (٥) (ص ٥١) من صلاحه ، وحسن عقيدته ، وقبوله إمامة الصادق عليه‌السلام ، وذكر من أصل صحيحٍ كتاباً للإمام الصادق وصف فيه عبد الله بالعبد الصالح ودعا له ولبني عمِّه بالأجر والسعادة ، ثمَّ قال :

وهذا يدلُّ على أنّ الجماعة المحمولين ـ يعني عبد الله وأصحابه الحسنيِّين ـ كانوا عند مولانا الصادق معذورين وممدوحين ومظلومين ، وبحقِّه عارفين ، وقد يوجد في الكتب أنّهم كانوا للصادِقَين عليهما‌السلام مفارقين ، وذلك محتملٌ للتقيّة لئلاّ يُنسب إظهارهم لإنكار المنكر إلى الأئمّة الطاهرين ، وممّا يدلّك على أنَّهم كانوا عارفين بالحقِّ وبه شاهدين ما رويناه. وقال بعد ذكر السند وإنهائه إلى الصادق : ثمّ بكى عليه‌السلام حتى علا صوته وبكينا ، ثمَّ قال : حدّثني أبي ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها أنَّه قال :

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٥ / ٤٣ ـ ٤٧.

(٢) رجال الطوسي : ص ٢٢٢ ، وعدّه في ص ١٢٧ من أصحاب الباقر عليه‌السلام.

(٣) رجال ابن داود : ص ١١٨ رقم ٨٤٩.

(٤) عمدة الطالب : ص ١٠١ ، ١٠٣.

(٥) إقبال الأعمال : ص ٥٧٩ ـ ٥٨١.

٣٧٧

«يُقتل منك ـ أو يُصاب ـ نفرٌ بشطِّ الفرات ، ما سبقهم الأوّلون ولا يعدلهم الآخرون».

ثمَّ قال : أقول : وهذه شهادة صريحة من طرق صحيحة بمدح المأخوذين من بني الحسن ـ عليه وعليهم‌السلام ـ وأنّهم مضوا إلى الله جلَّ جلاله بشرف المقام ، والظفر بالسعادة والإكرام.

ثمَّ ذكر أحاديث تدلُّ على حسن اعتقاد عبد الله بن الحسن ومن كان معه من الحسنيِّين ، فقال : أقول : فهل تراهم إلاّ عارفين بالهدى وبالحقِّ اليقين ، ولله متّقين؟ انتهى.

فأنت عندئذٍ جدُّ عليم بأنّ نسبة القول بردّته وردّة بقيّة الحسنيِّين إلى الشيعة بعيدة عن مستوى الصدق.

وأمّا محمد بن عبد الله بن الحسن الملقّب بالنفس الزكيّة ، فعدّه الشيخ أبو جعفر الطوسي في رجاله من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وقال ابن المهنّا في عمدة الطالب (١) (ص ٩١) : قُتل بأحجار الزيت ، وكان ذلك مصداق تلقيبه النفس الزكيّة ، لأنّه رُوي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال : «تُقتل بأحجار الزيت من ولدي نفس زكيّة».

وذكر سيِّدنا ابن طاووس في الإقبال (٢) (ص ٥٣) ، تفصيلاً برهن فيه على حسن عقيدته ، وأنَّه خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنَّه كان يعلم بقتله ويخبر به ، ثمَّ قال : كلُّ ذلك يكشف عن تمسّكهم بالله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا رأي الشيعة في النفس الزكيّة ، وهم مخبتون إلى ما في مقاتل الطالبيِّين (٣) (ص ٨٥) من أنّه أفضل أهل بيته ، وأكبر أهل زمانه في علمه بكتاب الله وحفظه له ، وفقهه في

__________________

(١) عمدة الطالب : ص ١٠٥.

(٢) إقبال الأعمال : ص ٥٨٢.

(٣) مقاتل الطالبيّين : ص ٢٠٧.

٣٧٨

الدين ، وشجاعته ، وجوده ، وبأسه ، والإماميّة حاشاهم عن قذفه بالردّة عن الدين ، والمفتري عليهم به قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً.

وأمّا إبراهيم بن عبد الله قتيل باخمرى المكنّى بأبي الحسن ، فعدّه شيخ الطائفة (١) من رجال الصادق ، وقال جمال الدين بن المهنّا في العمدة (٢) (ص ٩٥) : كان من كبار العلماء في فنون كثيرة. وذكره دعبل الخزاعي شاعر الشيعة في تائيّته المشهورة ب ـ مدارس آيات ـ التي رثى بها شهداء الذرّية الطاهرة بقوله :

قبورٌ بكوفانٍ وأخرى بطيبةٍ

وأخرى بفخٍّ نالَها صلواتي

وأخرى بأرض الجوزجانِ محلُّها

وقبرٌ بباخمرى لدى الغُرباتِ

فلو لا شهرة إبراهيم عند الشيعة بالصلاح وحسن العقيدة ، واستيائهم بقتله ، وكونه مرضيّا عند أئمّتهم ـ صلوات الله عليهم ـ لم يرثه دعبل ولم يقرأ رثاءه للإمام عليّ بن موسى ـ سلام الله عليه ـ. ونحن نقول بما قال أبو الفرج في المقاتل (٣) (ص ١١٢) : كان إبراهيم جارياً على شاكلة أخيه محمد في الدين والعلم والشجاعة والشدّة. وعدّه السيِّد الأمين العاملي من أعيان الشيعة ، وبسط القول في ترجمته (٤) (٥ / ٣٠٨ ـ ٣٢٤). فنسبة القول بردّته عن الدين إلى الشيعة بهتان عظيم.

وأمّا زكريّا بن محمد الباقر ، فإنّه لم يولد بعدُ ، وهو من مخلوقات عالم أوهام الآلوسي ، إذ مجموع أولاد أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام الذكور ستّة باتِّفاق الفريقين ، ولم نجد فيما وقفنا عليه من تآليف العامّة والخاصّة غيرهم ، وهم : جعفر ، عبد الله ، إبراهيم ، عليّ ، زيد ، عبيد الله (٥). فنسبة القول بردّة زكريّا إلى الشيعة باطلة بانتفاء الموضوع.

__________________

(١) رجال الطوسي : ص ١٤٣.

(٢) عمدة الطالب : ص ١٠٩.

(٣) مقاتل الطالبيّين : ص ٢٧٣.

(٤) أعيان الشيعة : ٢ / ١٧٧ ـ ١٨١.

(٥) كذا في المجدي [ص ٩٤] للنسّابة العمري وجملة من المصادر ، وفي بعضها : عبد الله مع التعدّد. (المؤلف)

٣٧٩

وأمّا محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن ، فإن كان يريد حفيد الحسين الأثرم ابن الإمام المجتبى ، فلم يذكر النسّابة فيه إلاّ قولهم : انقرض عقبه سريعاً ، ولم يسمّوا له ولداً ولا حفيداً. وإن أراد غيره فلم نجد في كتب الأنساب له ذكراً ، حتى تكفِّره الشيعة أو تؤمن به ، ولم نجد في الإماميّة من يكفِّر شخصاً يسمّى بهذا الاسم حسنيّا كان أو حسينيّا.

وأمّا محمد بن القاسم بن الحسن ، فهو ابن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يُلقّب بالبطحاني (١) ، عدّه شيخ الطائفة في رجاله (٢) من أصحاب الصادق ـ سلام الله عليه ـ ، وقال جمال الدين بن المهنّا في العمدة (٣) (ص ٥٧) : كان محمد البطحاني فقيهاً. ولم نجد لشيعيٍّ كلمة غمزٍ فيه حتى تكون شاهداً للفرية المعزوّة إلى الشيعة.

أمّا يحيى بن عمر فهو أبو الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد ابن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ـ سلام الله عليهم ـ ، أحد أئمّة الزيديّة ، فحسبك في الإعراب عن رأي الشيعة فيه ما في عمدة الطالب لابن المهنّا (٤) (ص ٢٦٣) من قوله : خرج بالكوفة داعياً إلى الرضا من آل محمد ، وكان من أزهد الناس ، وكان مثقل الظهر بالطالبيّات يجهد نفسه في بِرِّهنَّ ـ إلى أن قال ـ : فحاربه محمد بن عبد الله ابن طاهر ، فقُتل ، وحُمل رأسه إلى سامرّاء ، ولمّا حُمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر جلس بالكوفة للهنا (كذا) ، فدخل عليه أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري وقال : إنّك لتهنّأ بقتيلٍ لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّا لعزّي فيه (٥) ، فخرج وهو يقول :

__________________

(١) يُروى بفتح الموحّدة منسوباً إلى البطحاء ، وبالضم منسوباً إلى بُطحان : وادٍ بالمدينة. عمدة الطالب : ص ٥٧ [ص ٧٢]. (المؤلف)

(٢) رجال الطوسي : ص ٢٩٨.

(٣) عمدة الطالب : ص ٧٢.

(٤) عمدة الطالب : ص ٢٧٣.

(٥) وذكره اليعقوبي في تاريخه : ٣ / ٢٢١ [٢ / ٤٩٧]. (المؤلف)

٣٨٠