الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

وما عساني أن أقول وأبو جعفر الإسكافي المعتزلي ـ البعيد عن عالم التشيّع ـ يقول (١) : أمّا ما احتجَّ به الجاحظ لإمامة أبي بكر بكونه أوّل الناس إسلاماً ، فلو كان هذا احتجاجاً صحيحاً لاحتجَّ به أبو بكر يوم السقيفة وما رأيناه صنع ذلك ، لأنّه أخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجرّاح ، وقال للناس : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا منهما مَن شئتم. ولو كان هذا احتجاجاً صحيحاً لما قال عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتةً وقى الله شرّها. ولو كان احتجاجاً صحيحاً لادّعى واحدٌ من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام ، وما عرفنا أحداً ادّعى له ذلك. على أنّ جمهور المحدِّثين لم يذكروا أنّ أبا بكر أسلم إلاّ بعد عدّة من الرجال منهم : عليّ بن أبي طالب ، وجعفر أخوه ، وزيد بن حارثة ، وأبو ذرّ الغفاري ، وعمرو بن عنبسة السلمي ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وخبّاب بن الأرتّ ، وإذا تأمّلنا الروايات الصحيحة والأسانيد القويّة الوثيقة ، وجدناها كلّها ناطقةً بأنَّ عليّا عليه‌السلام أوّل من أسلم.

فأمّا الرواية عن ابن عبّاس أنّ أبا بكر أوّلهم إسلاماً. فقد روي عن ابن عبّاس خلاف ذلك بأكثر ممّا رووا وأشهر ، فمن ذلك ما رواه يحيى بن حمّاد ـ ثمَّ ذكر أحاديث صحيحة ممّا مرَّ عن ابن عبّاس ، فقال : فهذا قول ابن عبّاس في سبق عليّ عليه‌السلام إلى الإسلام ، وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر ، على أنَّه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك من حديث أبي بكر الهذلي. ثمَّ ذكر حديثه وأحاديث أخرى ، ممّا ذكر نقلاً عن الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها (٢). هذا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) (٣).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٢٤ خطبة ٢٣٨.

(٢) مرّت بقيّة الكلام : ٢ / ٢٨٧ ، وللإسكافي في المقام كلمات ضافية نحيل الحيطة بها إلى رسالته في الردّ على الجاحظ. (المؤلف)

(٣) العنكبوت : ٦٨.

٣٤١

لفت نظر

لعلَّ الباحث يرى خلافاً بين كلمات أمير المؤمنين المذكورة (ص ٢٢١ ـ ٢٢٤) في سنيّ عبادته وصلاته مع رسول الله ، بين ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع سنين.

فنقول : أمّا ثلاث سنين : فلعلَّ المراد منه ما بين أوّل البعثة إلى إظهار الدعوة من المدّة ، وهي ثلاث سنين (١) ، فقد أقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ثلاث سنين من أوّل نبوّته مستخفياً ، ثمَّ أعلن في الرابعة.

وأمّا خمس سنين : فلعلَّ المراد منها سنتا (٢) فترة الوحي من يوم نزول : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى نزول (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، وثلاث سنين من أوّل بعثته بعد الفترة إلى نزول قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٣) وقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٤) سنوّ الدعوة الخفيّة التي لم يكن فيها معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ خديجة وعليّ. وأحسب أن هذا مراد من قال : إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مستخفيا أمره خمس سنين. كما في الإمتاع (ص ٤٤).

وأمّا سبع سنين : فإنَّها مضافاً إلى كثرة طرقها وصحّة أسانيدها معتضدة بالنبويّة المذكورة (ص ٢٢٠) وبحديث أبي رافع المذكور (ص ٢٢٧) وهي سنوّ الدعوة النبويّة من أوّل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فرض الصلاة المكتوبة.

وذلك أنَّ الصلاة فُرضت بلا خلاف ليلة الإسراء ، وكان الإسراء كما قال محمد ابن شهاب الزهري قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقد أقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة عشر سنين ، فكان أمير المؤمنين خلال هذه المدّة ـ السنين السبع ـ يعبد الله ويصلّي معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٢١٦ ، ٢١٨ [٢ / ٣١٨ ، ٣٢٢] ، سيرة ابن هشام : ١ / ٢٧٤ [١ / ٢٨٠] ، طبقات ابن سعد : ص ٢٠٠ [٣ / ٢١] ، الإمتاع : ص ١٥ ، ٢١. (المؤلف)

(٢) عدّهما المقريزي أحد الأقوال في أيّام فترة الوحي في الإمتاع : ص ١٤. (المؤلف)

(٣) الحجر : ٩٤.

(٤) الشعراء : ٢١٤.

٣٤٢

فكانا يخرجان ردحاً من الزمن إلى الشِّعْب ، وإلى حراء للعبادة ، ومكثا على هذا ما شاء الله أن يمكثا (١) ، حتى نزل قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ). وذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه الشريف ، فتظاهر عليه‌السلام بإجابة الدعوة في منتدى الهاشميّين المعقود لها ، ولم يلبِّها غيره ، ومن يوم ذاك اتّخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخاً ووصيّاً ، وخليفةً ، ووزيراً (٢) ثمَّ لم يُلبِّ الدعوة إلى مدّة إلاّ آحاد ، هم بالنسبة إلى عامّة قريش والناس المرتطمين في تمرّدهم في حيِّز العدم.

على أنَّ إيمان من آمن وقتئذٍ لم يكن معرفةً تامّةً بحدود العبادات حتى تدرّجوا في المعرفة والتهذيب ، وإنّما كان خضوعاً للإسلام ، وتلفّظاً بالشهادتين ، ورفضاً لعبادة الأوثان. لكن أمير المؤمنين خلال هذه المدّة كان مقتصّا أثر الرسول من أوّل يومه ، فيشاهده كيف يتعبّد ، ويتعلّم منه حدود الفرائض ، ويقيمها على ما هي عليه ، فمن الحقِّ الصحيح إذن توحيده في باب العبادة الكاملة ، والقول بأنّه عَبَدَ الله وصلّى قبل الناس بسبع سنين.

ويحتمل أن يراد السنين السبع الواردة في حديث ابن عبّاس ، قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام بمكّة خمس عشرة سنة ، سبع سنين يرى الضوء والنور ويسمع الصوت ، وثماني سنين يوحى إليه (٣) ، وأمير المؤمنين كان معه من أوّل يومه ، يرى ما يراه صلى الله عليه وسلم ويسمع ما يسمع ، إلاّ أنَّه ليس بنبيٍّ كما مرّ في (ص ٢٤٠). فإن تعجب فعجبٌ قول الذهبي في تلخيص المستدرك (٤) (٣ / ١١٢) : إنّ النبيّ من أوّل ما أوحي إليه آمن

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٢١٣ [٢ / ٣١٣] ، سيرة ابن هشام : ١ / ٢٦٥ [١ / ٢٦٣] ، راجع : ص ٢٣٥ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الثاني من كتابنا : ص ٢٧٨ ـ ٢٨٤. (المؤلف)

(٣) طبقات ابن سعد : ص ٢٠٩ طبع مصر [١ / ٢٢٤]. (المؤلف)

(٤) تلخيص المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٢١ ح ٤٥٨٥.

٣٤٣

به : خديجة ، وأبو بكر ، وبلال ، وزيد مع عليّ قبله بساعات أو بعده بساعات وعبدوا الله مع نبيِّه ، فأين السبع السنين؟

قال الأميني : هذه السنين السبع ، ولكن أين تلك الساعات المزعومة عند الذهبي؟ ومن ذا الذي يقولها؟ ومتى خُلق قائلها؟ وأين هو؟ وأيُّ مصدرٍ ينصُّ عليها؟ وأيُّ راوٍ رواها؟ بل نتنازل معه ونرضى بقصّيص يقصّها ، غير ما في علبة مفكّرة الذهبي أو عيبة أوهامه ، ومتى كان أبو بكر من تلك الطبقة؟ وقد مرّ في صحيحة الطبري (١) (ص ٢٤٠) : أنَّه أسلم بعد أكثر من خمسين رجلاً. فكأنّ الرجل قرويٌّ من البعداء عن تاريخ الإسلام ، أوأنَّه عارفٌ به غير أنَّه يروقه الإفك والزور.

وأمّا تسع سنين : فيمكن أن يُراد منها سنتا الفترة والسنين السبع من البعثة إلى فرض الصلوات المكتوبة. والمبنيُّ في هذه كلّها على التقريب لا على الدقّة والتحقيق كما هو المطّرد في المحاورات ، فالكلُّ صحيحٌ لا خلاف بينها ولا تعارض هناك.

٥ ـ ذكر (٢) في (٧ / ٣٥٧) حديث تصدّق أمير المؤمنين بخاتمه في الصلاة وهو راكعٌ ، ونزول آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية. من طريق أبي سعيد الأشجّ الذي أسلفناه (ص ١٥٧) ثمّ أردفه بقوله : وهذا لا يصحُّ بوجهٍ من الوجوه لضعف أسانيده ، ولم ينزل في عليٍّ شيءٌ من القرآن بخصوصيّته ، وكلّ ما يريدونه (٣) في قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٤) وقوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٥). وقوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٢ / ٣١٦.

(٢) البداية والنهاية : ٧ / ٣٩٥ حوادث سنة ٤٠ ه‍.

(٣) كذا في النسخة ولعلّه : يروونه. (المؤلف)

(٤) الرعد : ٧.

(٥) الإنسان : ٨.

٣٤٤

الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ) (١). وغير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في أنَّها نزلت في عليٍّ ، لا يصحُّ شيءٌ منها.

الجواب : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (٢). كيف يحكم الرجل بعدم صحّة نزول آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) في عليّ عليه‌السلام ، ويستدلُّ بضعف أسانيده ، وهو بنفسه يرويه في تفسيره (٢ / ٧١) من طريق ابن مردويه ، عن الكلبي ويقول : قال : هذا إسنادٌ لا يُقدح به؟ ونحن أوقفناك (ص ١٥٧) : على أنّ حديث أبي سعيد الأشجّ الذي ذكره صحيح ، رجاله ثقات.

ثمّ إن كان ما ورد في هذه الآيات وغيرها من الآيات الكريمة المتكثِّرة من نزولها في مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو أنّها مؤوّلة به ، أو أنَّه عليه‌السلام أحد المصاديق الظاهرة لعمومها كما حسبه المغفّل ممّا لا يصحُّ شيءٌ منها ، فمن واجب الباحث أن يشطب على هذه التفاسير المعتمد عليها ، والصحاح والمسانيد ومدوّنات الحديث المعتبرة بقلمٍ عريضٍ يمحو ما سطّروه فيها ، وما تكون عندئذٍ قيمة هاتيك الكتب المشحونة بما لا يصحّ؟ وما غَناء هؤلاء العلماء الذين يعتمدون على الأب اطيل وهم يقضون أعمارهم في جمعها ، ويدّخرونها للأمّة لتعمل بها وتخبت إلى مفادها؟ وإذا ذهبت هذه ضحيّة هوى ابن كثير ، فأيُّ كتاب يحقُّ أن يكون مرجعاً لروّاد العلم ، ومَوئلاً يقصده الباحث؟

نعم هذه الكتب هي المصدر والمَوئل لا غيرها وابن كثير نفسه لا يرد إلاّ إليها ، ولا يصدر إلاّ منها في كلِّ مورد إلاّ في باب فضائل أمير المؤمنين ، فعندها تغلي مراجل حقده ، فيؤمّها بلسانٍ بذيّ وقلم جريء.

ونحن قد أوقفناك على مصادر نزول هذه الآيات الكريمة في كتابنا هذا (٢ / ٥٢ ـ ٥٥

__________________

(١) التوبة : ١٩.

(٢) الكهف : ٥.

٣٤٥

و ٣ / ١٠٦ ـ ١١١ ، ١٥٦ ـ ١٦٣) وسنوقفك على حقِّ القول في قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ). فإلى الملتقى.

٦ ـ ذكر (١) في (٧ / ٣٥٨) عن الإمام أحمد (٢) ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثيع ، عن أبي بكر حديث البراءة ثمَّ أردفه بقوله : وفيه نكارةٌ من جهة أمره بردِّ الصدِّيق ، فإنَّ الصدِّيق لم يرجع بل كان هو أمير الحجّ .. إلخ.

الجواب : إقرأ واضحك من هذا الاجتهاد البارد في مقابل النصِّ الثابت الصحيح المجمع على صحّته ، وسيوافيك الحديث بطرقه المتكثِّرة.

٧ ـ ذكر (٣) في (٧ / ٣٤٣) من طريق الإمام أحمد (٤) عن ابن نمير ، عن الأجلح الكندي ، عن عبد الله بن بريدة حديثاً فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقع في عليٍّ فإنَّه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي». ثمَ أردفه بقوله : هذه اللفظة منكرة والأجلح شيعيٌّ ، ومثله لا يُقبل إذا تفرّد بمثلها. وقد تابعه فيها من هو أضعف منه والله أعلم ، والمحفوظ في هذا رواية أحمد ، عن وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كنت مولاه ، فعليٌّ وليّه» (٥).

الجواب : هل يرى عربيٌّ غير أمويّ في هذه اللفظة نُكراً؟ وهو ذلك القول العربيُّ المبين السهل الممتنع.

أو هل يرى عربيٌّ لم تَشُبْهُ عوامل العصبيّة في معناه شيئاً منكراً؟ وهو ذلك المعنى الصحيح الثابت الصادر من مصدر الوحي بأسانيد صحيحة ، المدعوم بما في

__________________

(١) البداية والنهاية : ٧ / ٣٩٤ حوادث سنة ٤٠ ه‍.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٧ ح ٤.

(٣) البداية والنهاية : ٧ / ٣٨٠ حوادث سنة ٤٠ ه‍.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٤٨٩ ح ٢٢٥٠٣.

(٥) لم أهتدِ إلى الفرق بين الحديثين حتى يكون أحدهما منكراً والآخر محفوظاً ، لا في اللفظ ولا في المؤدّى. (الطباطبائي)

٣٤٦

معناه من الأحاديث الكثيرة الصحاح (١) ، وهل النكر الذي حسبه ابن كثير في إسناده إلى قائله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو لا يفتأ يشيد بأمثال هذا الذكر الحكيم؟ أم في المقول فيه صلوات الله عليه فيراه غير لائق بمثل هذه الكلمة؟ إذن فما ذا يصنع ابن كثير بأمثالها المتكثِّرة التي ملأت بين المشرق والمغرب ، وهي لا تُدفع بغمز في إسنادٍ أو بوقيعةٍ في دلالة؟

وهل سمعت أذناك من محدِّثٍ دينيٍّ ردَّ ما أخرجه أئمّة الحديث في الصحاح والمسانيد ، وفي مقدَّمها الصحيحان إذا تفرّد به شيعيٌّ؟ وما ذنب الشيعي إذا كان ثقةً عند أئمّة الحديث كالأجلح؟ فقد وثّقه مثل ابن معين (٢).

والحديث أخرجه (٣) أحمد في المسند (٥ / ٣٥٥) بالإسناد المذكور ، والترمذي باختصار ، والنسائي في الخصائص (ص ٢٤) ، وابن أبي شيبة كما في كنز العمّال (٦ / ١٥٤) ، ومحبّ الدين الطبري في الرياض النضرة (٢ / ١٧١) ، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ١٢٨) وغيرهم ، وإسناد أحمد المذكور صحيح ، رجاله رجال الصحيح إلاّ الأجلح ، وهو ثقة كما سمعت.

وقول الرجل : والمحفوظ في هذا رواية أحمد. يكشف عن قصور باعه في الحديث ، وحسبانه الحديثين واحداً لانتهاء سندهما إلى بريدة ، وإفادة كليهما الولاية ، وعدم معرفته بأنّ حديث ـ لا تقع ـ قضيّةٌ في واقعة شخصيّة لدة قصّة عمران بن الحصين المذكورة (ص ٢١٥). وأمّا «من كنت مولاه» فهو لفظ حديث الغدير العامّ ، وليس هو محفوظ هذه القضيّة ، كما لا يخفى على النابه البصير.

__________________

(١) راجع حديث الغدير في الجزء الأوّل من كتابنا ، وفي هذا الجزء : ص ٢١٥ ، ٢١٦. (المؤلف)

(٢) التاريخ : ٣ / ٢٧٠ رقم ١٢٧٦.

(٣) مسند أحمد : ٦ / ٤٨٩ ح ٢٢٥٠٣ ، سنن الترمذي : ٥ / ٥٩١ ح ٣٧١٢ ، خصائص أمير المؤمنين : ص ١١٠ ح ٩٠ ، وفي السنن الكبرى : ٥ / ١٣٣ ح ٨٤٧٥ ، المصنّف : ١٢ / ٨٠ ح ١٢١٧٠ ، كنز العمّال : ١١ / ٦٠٨ ح ٣٢٩٤٢ ، الرياض النضرة : ٣ / ١١٥.

٣٤٧

٨ ـ يعزو إلى الشيعة (١) في (٨ / ١٩٦) مشفوعاً ذلك بالتكذيب منه أنَّ منهم من زعم أنَّ الإبل البخاتي إنَّما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم ـ يوم سبي عقائل بيت الوحي يوم كربلاء ـ لتستر عوراتهنَّ من قُبلهنَّ ودُبرهنّ.

الجواب : لا أحسب أنَّ في الشيعة معتوهاً يزعم أنَّ الأسنمة الموجودة في الإبل بخاتيّها وعرابيّها منذ كُوّنت ، حدثت بعد واقعة الطفّ. الشيعة لا تقول ذلك وإنَّما يأفك بهم من أفك ، وهو يريد الوقيعة فيهم بإسناد التافهات إليهم ، ولا يعتقد الشيعيُّ أنّ حرائر النبوّة وإن سُلِبْنَ الحليّ ، والحلل ، والأُزُر ، والأخمرة ، مضين في السبي عاريات ؛ واستقبلهنّ شيءٌ من مظاهر الخزي ، فإنَّ عطف المولى لهنَّ كان يأبى ذلك كلّه.

نعم ؛ انتابتهنّ محن ونوائب وكوارث وشدائد في سبيل جهادهنَّ ، كما انتابت رجالهنَّ في سبيل جهادهم ، وكلّ ما ينتاب المجاهد بعين الله وفي سبيله فهي مأثرة له لا مخزاة ؛ فإنَّهن شاركن الرجال في تلك النهضة المقدّسة التي أسفرت عن فضيحة الأمويِّين ومكائدهم ونواياهم السيِّئة على الدين والمسلمين ، وإضمارهم إرجاع الملأ الدينيِّ إلى الجاهليّة الأولى.

لكن حسين الدين والهدى المفوَّض إليه كلاءة دين جدِّه عن عادية أعدائه ، الناظر إلى هاتيك الأحوال من أَمَم ، وقف هو وآله وأصحابه ونساؤه ذلك الموقف الرهيب ، فأنهوا إلى الجامعة الدينيّة (٢) مقاصد القوم ، وأبصروهم المعاول الهدّامة لتدمير الشريعة في أيدي آل أميّة ، وإنَّ ذلك المقعي على أنقاض الخلافة الإسلاميّة لا صلة له برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا نصيب له من الخلافة عنه ، ولم يزل عليه‌السلام يتل وهاتيك الصحيفة السوداء لبني صخر ، حتى لفظ نفسه الأخير في مشهد يوم الطفّ ، وحتى انتهى السير بنسائه وذراريه إلى الشام.

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ٢١٣ حوادث سنة ٦١ ه‍.

(٢) يريد قدس‌سره بذلك المجتمع الإسلامي.

٣٤٨

هنالك مجّت النفوس آل حرب وأشياعهم ، وتعاقبت عليهم الثورات ، حتى اكتسح الله سبحانه معرّتهم عن أديم الأرض أيّام مروان الحمار ، ذلك بما كَسَبتْ أيديهم وما الله بظلاّمٍ للعبيد. وهذا مغزى ما يُقال من أنَّ دين الإسلام كما أنَّه محمديُّ الحدوث فهو حسينيُّ البقاء.

هذه حقيقةٌ راهنةٌ مدعمةٌ بالبراهين ، ولكنّ ابن كثير ونظراءه من حَمَلَة الروح الأمويّة لا ينقطعون عن تحاملهم على شيعة الحسين عليه‌السلام بنسبة الأكاذيب إليهم وقذفهم بالقوارص.

هذه نماذج يسيرة من جنايات ابن كثير على العلم وودائع الإسلام ، وتمويهه الحقائق ، ولا يسعنا استيعاب ما أودع في طيِّ كتابه من عُجره وبُجره. ولو أردنا أن نسرد كلّ ما فيه أو جلّه من المخاريق والتافهات والإضافات المفتعلة إلى الأبرياء ، والسباب المقذع لرجال الشيعة عند ذكر تاريخهم من دون أيِّ مبرِّر ، والتحامل عليهم بما يستقبحه الوجدان والعقل السليم ، لجاء منه كتاب حافل ، لكنّا نمرُّ عليها كراماً.

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ

نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١)

__________________

(١) النساء : ١١٥.

٣٤٩

قال الأميني :

هذه نماذج ممّا في الكتب من التافهات ، ولم نقصد استقصاءها ؛ لأنَّه يكلّفنا تأليف مجلّدات ضخمة ، وإنَّما أردنا إيقاظ شعور الأمّة إلى عوامل الحقد والإحن الممتزجَين بنفسيّات ناصبي العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم ، حتى لا تكبو بتلك المدوَّنات المزخرفة تجاه هذه الطائفة الكبيرة ـ شيعة آل الله ـ مثل ما كبا أولئك المهملجون إلى البهرجة والضلال.

وإذا عرف القارئ هذه النزعة منهم ففي وسعه أن يتفحّص عن بقيّة ما هنالك من المخازي والطامّات والقذائف ، والحريّ بنا الآن أن نوعز إلى شيءٍ ممّا جاء به متأخِّرو القوم من مؤلّفي اليوم ممّن اقتصّوا أثر قدمائهم في العصبيّة العمياء التي فرّقت الكَلِم ، وشتّتت جمع الأمم ، وأحدثت في القلوب ضغائن ، وأورثت في الأفئدة نار العداء ، وأثمرت الفتن ، وأوجدت الكوارث ، وجرّت على الأمّة كلّ سوء ، وفتحت عليها باب الضعة بمصراعيه ، وألبستها شية العار ووسمة الشنار ، فأصبحت والأخلاّء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلاّ المتّقين (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) (١) (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٣) (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٤).

__________________

(١) المائدة : ٩١.

(٢) يونس : ٢٥.

(٣) البقرة : ٢٠٨.

(٤) الأعراف : ٢٠١.

٣٥٠

٨ ـ

محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية

تأليف

الشيخ محمد الخضري

لقد أخرج الرجل هذا الكتاب بصفة التاريخ ، لكنه لم يجرِ على بساطته ، وإنّما أودع فيه نزعاته الأمويّة ، فترى في كلّ ثنية منه هملجة ، وفي كل فجوة منه تركاضاً ، فلا هو كتاب تاريخ يسكن إلى نقله ، ولا كتاب عقيدة ينظر في نقده ، وإنّما هو هياج ولغط يعكّر الصفو ، ويقلق الطمأنينة ، فكان الأحرى بنا الإعراض عنه وعن أغلاطه ، لكن لم نجد بُدّا من لفت القارئ إلى نزر من سقطاته.

١ ـ قال في (٢ / ٦٧) : وممّا يزيد الأسف أنّ هذه الحرب ـ صفِّين ـ لم يكن المراد منها الوصول إلى تقرير مبداً دينيٍّ ، أو رفع حيفٍ حلَّ بالأمّة ، وإنَّما كانت لنصرة شخص على شخص.

فشيعة عليٍّ تنصره لأنّه ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقُّ الناس بولاية الأمر ، وشيعة معاوية تنصره لأنّه وليُّ عثمان ، وأحقُّ الناس بطلب دمه المسفوك ظلماً ، ولا يرون أنَّه ينبغي لهم مبايعة من آوى إليه قتلته.

الجواب : ليت الرجل بيّن لنا المبادئ الدينية عنده حتى ننظر في انطباقها على هذه الحرب ، وحيث لم يبيِّن فنحن نقول :

أيُّ مبداً دينيٍّ هو أقوى من أن تكون الحرب والمناصرة لتنفيذ كلمة رسول الله يوم أمر أمير المؤمنين عليه‌السلام بقتال القاسطين وهم أصحاب معاوية وأمر أصحابه بمناصرته يومئذٍ (١) ، ورأى من واجبهم جهاد مقاتليه وقال : «سيكون بعدي قومٌ يقاتلون عليّا على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، فمن لم يستطع

__________________

(١) راجع : ص ١٨٨ ـ ١٩٥. (المؤلف)

٣٥١

بلسانه فبقلبه ، ليس وراء ذلك شيءٌ» (١)؟

وأيّ مبداً دينيٍّ هو أقوى من نصرة الرجل من يراه أولى الناس بالأمر ، كما يلهج به الخضري نفسه؟

وأيّ مبداً دينيٍّ هو أقوى من مناصرة أمير المؤمنين الذي قال رسول الله فيه وفي آله وذويه : «حربكم حربي» (٢) ، وقال له : «يا عليُّ ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحقِّ ، فمن لم ينصرك يومئذٍ فليس منّي» (٣)؟ وهل يسع المسلم التقاعد عن نصرته عليه‌السلام بعد ما سمع قول نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وأيّ مبداً دينيٍّ هو أقوى من مقاتلة الفئة الباغية بنصٍّ من الرسول الأمين يوم قال لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية» (٤) ، ويوم قال : «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار» (٥)؟

وأيّ مبداً دينيٍّ هو أقوى من المقاتلة تحت راية خليفة الوقت الذي انعقدت له بيعة أهل الحلِّ والعقد ، وتمّت شروطها عند من يرى الخلافة بالاختيار ، وثبت له النصُّ الجليُّ ، وتواتر عند من لا يختار إلاّ المنصوص عليه؟ وبطبع الحال أنَّ الخارج

__________________

(١) أخرجه الطبراني [في المعجم الكبير : ١ / ٣٢٠ ح ٩٥٥] وابن مردويه وأبو نعيم ، كما مرّ في : ص ١٩٠. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الأوّل من كتابنا : ص ٣٣٦. (المؤلف)

(٣) راجع ص ١٩٣ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٤) راجع الجزء الأوّل : ص ٣٢٩ ، ٣٣١. قال السيوطي في الخصائص : ٢ / ١٤٠ [٢ / ٢٣٩] : هذا الحديث متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر ، كما بيّنت ذلك في الأحاديث المتواترة. وستوافيك في الجزء التاسع من كتابنا هذا ألفاظه وطرقه ، وهي خمسة وعشرون طريقاً. (المؤلف)

(٥) قال العلاّمة الزرقاني في شرح المواهب : ١ / ٣٦٦ : رواه البخاري [في صحيحه : ١ / ١٧٢ ح ٤٣٦] في بعض نسخه ، ومسلم [في صحيحه : ٥ / ٤٣١ ح ٧٣ كتاب الفتن] ، والترمذي [في السنن : ٦ / ٦٢٨ ح ٣٨٠٠] وغيرهم. ويوجد في تاريخ الطبري : ١١ / ٣٥٧ [١٠ / ٥٩ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍]. (المؤلف)

٣٥٢

عليه خارج على إمام الوقت ، باغٍ عليه ، يجب مقاتلته بنصٍّ من الكتاب المبين ، حيث قال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١).

وليت شعري أيّ حيف يحلّ بالأمّة أعظم من تغلّب مثل معاوية على بيضة الإسلام ورئاسة أهله واستحوازه الخلافة التي ليست له ، لا بنصٍّ ولا بيعة ممّن تقرِّر بيعتُهُ الخليفة؟ فلم يُعقد له إجماعٌ ، ولا أثبتته شورى أو وصيّة ، ولا هو وليُّ دم عثمان حتى ينهض بثاره إن لم نقل هو المثبِّط جند الشام ، والمتثاقل عن نصره حتى قُتل ، ولم يكن له سابقة في الإسلام تشرِّفه ، ولا علم يسدّده ، ولا تقوى تكبحه عن مساقط الشهوات ، وإنّما هي ملوكيّةٌ ارتادها ليملك الأزمّة وتُلقى عنده الأعنّة ، ويحتنك أمر الأمّة ، وفي الأخير تمَّ له ذلك تحت رواعد الإرهاب ولوائح الأطماع في منتأىً عن الدين والإصلاح ، فثبّت عرش ملوكيّته بين مهراق الدماء ، ومنتهك الشرائع ، ومضلاّت الفتن ، ولو لم يكن له بائقةٌ إلاّ استخلاف يزيد الفجور على الأمّة بالترهيب والإطماع ، لكفاه حيفاً يجب أن يكتسح عن مستوى الإسلام وبلاد المسلمين.

٢ ـ قال : أمّا معاوية فإنَّه بدون ريب يرى نفسه عظيماً من عظماء قريش ؛ لأنّه ابن شيخها أبي سفيان بن حرب ، وأكبر ولد أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف ، كما أنَّ عليّا أكبر ولد هاشم بن عبد مناف ، فهما سيّان في الرفعة النسبيّة (٢ / ٦٧).

الجواب : ما ذا أقول لمغفَّل يرى عنصر النبوّة وآصرة القداسة المنتقلة بين أصلاب طاهرة وأرحامٍ زكيّة من نبيٍّ إلى وصيٍّ إلى وليٍّ إلى حكيمٍ إلى عظيمٍ إلى شريفٍ ، إلى خاتم الرسالة ، إلى وصيِّه صاحب الولاية الكبرى ، لدة العنصر العبشمي (٢) ، ويراهما في الرفعة والشرف سيّان؟ وشتّان بين الشجرتين : شجرة طيّبة

__________________

(١) الحجرات : ٨.

(٢) نسبةً إلى عبد شمس بن عبد مناف الجدّ الأعلى لمعاوية بن أبي سفيان.

٣٥٣

أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وشجرة خبيثة اجتُثّت من فوق الأرض مالها من قرار. وما أبعد ما بين الشجرتين! شجرة مباركة زيتونة ، والشجرة الملعونة في القرآن (١) بتأويل من النبيِّ الأعظم (٢) ، بلا اختلاف بين اثنين في أنَّهم هم المراد من الشجرة الملعونة كما في تاريخ الطبري (١١ / ٣٥٦).

وكيف يراهما الرجل سيّان؟ والنبيُّ الأعظم يقول : «إنَّ الله اختار من بني آدم العرب ، واختار من العرب مضر ، واختار من مضر قريشاً ، واختار من قريش بني هاشم ، واختارني من بني هاشم» (٣).

وكيف يراهما سيّان؟ وقد استاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ثمار هذه الشجرة الملعونة طيلة حياته ، فما رؤي ضاحكاً من يوم رأى في منامه أنَّهم ينزون على منبره نزو القردة والخنازير (٤). فأنزل الله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (٥).

وكيف يراهما سيّان؟ وبنو أميّة هم الذين اتّخذوا عباد الله خِوَلا ، ومال الله

__________________

(١) الإسراء : ٦٠.

(٢) تاريخ الطبري ١١ / ٣٥٦ [١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍] ، تاريخ الخطيب : ٣ / ٣٤٣ [رقم ١٤٥١] ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٨٦ [١٠ / ١٨٣] ، تفسير النيسابوري : ١٥ / ٥٥ هامش تفسير الطبري. (المؤلف)

(٣) أخرجه البيهقي [في سننه : ٧ / ١٣٤] ، ابن عدي [الكامل في ضعفاء الرجال : ٧ / ٢٤٦ رقم ٢١٤٦] ، الحكيم [سنن الترمذي : ٥ / ٥٥٤٤ ح ٣٦٠٥] ، الطبراني ، ابن عساكر [تاريخ مدينة دمشق ٥ / ٤٥ ، وفي ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام : رقم ١٧١] ، راجع كنز العمّال : ٦ / ٢٠٤ [١٢ / ٤٣ ح ٣٣٩١٨]. (المؤلف)

(٤) تفسير الطبري : ١٥ / ٧٧ [مج ٩ / ج ١٥ / ١١٢] ، تاريخ الطبري : ١١ / ٣٥٦ [١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍] ، تاريخ الخطيب : ٩ / ٤٤ [رقم ٤٦٢٧] و ٨ / ٢٨٠ [رقم ٤٣٧٧] ، تفسير النيسابوري هامش الطبري : ١٥ / ٥٥ ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٨٣ [١٠ / ١٨٣] ، النزاع والتخاصم : ص ٥٢ [ص ٧٩] ، أُسد الغابة : ٢ / ١٤ [رقم ١١٦٥] من طريق الترمذي ، الخصائص الكبرى : ٢ / ١١٨ [٢ / ٢٠٠] عن الترمذي والحاكم والبيهقي ، تفسير الخازن : ٣ / ١٧٧ [٣ / ١٦٩]. (المؤلف)

(٥) الإسراء : ٦٠.

٣٥٤

نحلا ، وكتاب الله دغلا (١) ، كما أخبر به النبيُّ الصادق الأمين (٢).

وكيف يرى أبا سفيان شيخ قريش؟ وهو عارها وشنارها ، وهو الملعون بنصِّ النبيِّ الأعظم بقوله : «اللهمَّ العن التابع والمتبوع ، اللهمَّ عليك بالأقيعس» (٣) يوم رأى أبا سفيان ومعه معاوية. وبقوله : «اللهمَّ العن القائد والسائق والراكب» يوم نظر إليه وهو راكب ومعه معاوية وأخوه ، أحدهما قائد والآخر سائق (٤).

وكيف يراه شيخ قريش لدة شيخ الأبطح؟! وفيه قال علقمة :

إنَّ أبا سفيانَ من قبلِهِ

لم يكُ مثلَ العُصبة المسلمهْ

لكنَّه نافقَ في دينِهِ

من خشيةِ القتلِ على المرغمهْ

بُعداً لصخرٍ مَعَ أشياعِهِ

في جاحمِ النارِ لدى المضرمهْ (٥)

وليت الخضري يقرأ كلمة المقريزي في النزاع والتخاصم (٦) (ص ٢٨) وهي :

أبو سفيان قائد الأحزاب ، الذي قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وقتل من خيار أصحابه سبعين ما بين مهاجريٍّ وأنصاريٍّ ، منهم : أسد الله حمزة بن عبد المطّلب بن هاشم ، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق أيضاً ، وكتب إليه : باسمك اللهمّ أحلف باللاّت والعزّى وساف ونائلة وهُبَل ، لقد سرت إليك أريد استئصالكم ، فأراك قد اعتصمت بالخندق ، فكرهت لقائي ، ولك منّي كيوم أحد.

وبعث بالكتاب مع أبي سلمة الجشمي ، فقرأه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أُبيّ بن كعب رضى الله عنه فكتب

__________________

(١) أي يخدعون الناس ، من قولهم : أدغلت في الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالطه ويفسده.

(٢) النزاع والتخاصم : ص ٥٢ ، ٥٤ [ص ٨١] ، الخصائص الكبرى : ٢ / ١١٨ [٢ / ٢٠٠]. (المؤلف)

(٣) قال البراء بن عازب : يعني معاوية. (المؤلف)

(٤) كتاب نصر بن مزاحم في حرب صفّين : ص ٢٤٤ ، ٢٤٨ [ص ٢١٨ ، ٢٢٠] ، تاريخ الطبري : ١١ / ٣٥٧ [١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍]. (المؤلف)

(٥) كتاب نصر : ص ٢١٩ [ص ١٩٥]. (المؤلف)

(٦) النزاع والتخاصم : ص ٥٢.

٣٥٥

إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قد أتاني كتابك ، وقديماً غرّك ـ يا أحمق بني غالب وسفيههم ـ بالله الغرور ، وسيحول الله بينك وبين ما تريد ، ويجعل لنا العاقبة ، وليأتينَّ عليك يوم أكسر فيه اللاّت والعزّى وساف ونائلة وهبل يا سفيه بني غالب».

ولم يزل يُحادُّ الله ورسوله ، حتى سار رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكّة ، فأتى به العبّاس ابن عبد المطّلب رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أردفه ، وذلك أنَّه كان صديقه ونديمه في الجاهليّة ، فلمّا دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يؤمّنه ، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «ويلك يا أبا سفيان ألم يأنِ لك أن تعلمَ أن لا إله إلاّ الله؟» ، فقال : بأبي أنت وأمّي ما أوصلك وأجملك وأكرمك! والله لقد ظننت أنّه لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنّي شيئاً. فقال : «يا أبا سفيان ألم يأنِ لك أن تعلم أنّي رسول الله؟» ، فقال : بأبي أنت وأمّي ما أوصلك وأجملك وأكرمك ، أمّا هذه ففي النفس منها شيءٌ! فقال له العبّاس : ويلك اشهد بشهادة الحقّ قبل أن تُضرب عنقك ، فشهد وأسلم.

فهذا حديث إسلامه كما ترى ، واختلف في حسن إسلامه فقيل : إنَّه شهد حنيناً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأزلام معه يستقسم بها ، وكان كهفاً للمنافقين ، وإنّه كان في الجاهليّة زنديقاً ، وفي خبر عبد الله بن الزبير : إنَّه رآه يوم اليرموك ، قال : فكانت الروم إذا ظهرت ، قال أبو سفيان : إيهٍ بني الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان :

وبنو الأصفر الملوك ملوك الر

وم لم يبق منهمُ مذكورُ (١)

فحدّث به ابن الزبير أباه ، فلمّا فتح الله على المسلمين ، قال الزبير : قاتله الله يأبى إلاّ نفاقاً ، أوَلَسنا خيراً من بني الأصفر؟

وذكر المدائني ، عن أبي زكريّا العجلاني ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال :

__________________

(١) هذا البيت من جملة أبيات النعمان بن امرئ القيس. (المؤلف)

٣٥٦

حجَّ أبو بكر رضى الله عنه ومعه أبو سفيان بن حرب ، فكلّم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته ، فقال أبو قحافة : اخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب. فقال أبو بكر : يا أبا قحافة إنَّ الله بنى بالاسلام بيوتاً كانت غير مبنيّة ، وهدم به بيوتاً كانت في الجاهليّة مبنيّة ، وبيت أبي سفيان ممّا هدم. انتهى.

وكان يوم بويع أبو بكر يثير الفتن ، ويقول : إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم ، يا آل عبد مناف فيمَ أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلاّن عليٌّ وعبّاسٌ؟ ما بالُ هذا الأمر في أقلِّ حيٍّ من قريش؟ ثمَّ قال لعليّ : ابسط يدك أبايعك ، فو الله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجلاً. فأبى عليٌّ عليه‌السلام عليه ، فتمثّل بشعر المتلمّس (١) :

ولن يقيمَ على خَسْفٍ يُراد بهِ

إلاّ الأذلاّنِ عيرُ الحيِّ والوتدُ

هذا على الخَسْفِ مربوطٌ برمّتِهِ

وذا يُشَجُّ فلا يبكي له أحدُ

فزجره عليٌّ ، وقال : «والله ما أردتَ بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّا ، لا حاجة لنا في نصحك» (٢). وجعل يطوف في أزقّة المدينة ، ويقول :

بني هاشمٍ لا تُطْمِعوا الناس فيكمُ

ولا سيّما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكمُ وإليكمُ

وليس لها إلاّ أبو حسنٍ علي

فقال عمر لأبي بكر : إنَّ هذا قد قدم وهو فاعلٌ شرّا ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستألفه على الإسلام فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل ، فرضي أبو سفيان وبايعه (٣).

وقد سبق الخضري في رأيه هذا معاوية ، فقال فيما كتب إلى عليٍّ أمير المؤمنين :

__________________

(١) هو جرير بن عبد المسيح من بني ضبيعة ، توجد ترجمته في الشعر والشعراء لابن قتيبة [ص ٩٩] ، ومعجم الشعراء. (المؤلف)

(٢) الكامل لابن الأثير : ٢ / ١٣٥ [٢ / ١١ حوادث سنة ١١ ه‍]. (المؤلف)

(٣) العقد الفريد : ٢ / ٢٤٩ [٤ / ٨٥]. (المؤلف)

٣٥٧

نحن بنو عبد مناف ، ليس لبعضنا على بعض فضل. فأجاب عنه أمير المؤمنين ، بقوله : «لعمري إنّا بنو أبٍ واحدٍ ، ولكن ليس أميّة كهاشم ، ولا حربٌ كعبد المطّلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجرُ كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحقُّ كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ، ولبئس الخلف خلَفٌ يتبع سلفاً هوى في نار جهنّم ، وفي أيدينا بعدُ فضل النبوّة» (١).

قال الأميني :

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢) (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٣).

٣ ـ قال : نقول إنَّ فكر معاوية في اختيار الخليفة بعده حسن جميل ، وإنَّه ما دام لم توضع قاعدة لانتخاب الخلفاء ، ولم يعيِّن أهل الحلِّ والعقد الذين يُرجع إليهم ، فأحسن ما يُفعل هو أن يختار الخليفة وليَّ عهده قبل أن يموت ؛ لأنَّ ذلك يبعد الاختلاف الذي هو شرٌّ على الأمّة من جور إمامها (٢ / ١١٩).

وقال : وممّا انتقد الناس معاوية أنّه اختار ابنه للخلافة ، وبذلك سنَّ في الإسلام سنّة الملك المنحصرة في أسرة معيّنة ، بعد أن كان أساسه الشورى ويختار من عامّة قريش ، وقالوا : إنَّ هذه الطريقة التي سنّها معاوية تدعو في الغالب إلى انتخاب غير الأفضل الأليق من الأمّة ، وتجعل في أسرة الخلافة الترف ، والانغماس في الشهوات والملاذ ، والرفعة على سائر الناس.

أمّا رأينا في ذلك فإنَّ هذا الانحصار كان أمراً حتماً لا بُدَّ منه لصلاح أمر

__________________

(١) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ٥٣٨ ، ٥٣٩ [ص ٤٧١] ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٠٠ [١ / ١٠٤] ، مروج الذهب : ٢ / ٦١ [٣ / ٢٣] ، نهج البلاغة : ٢ / ١٢ [ص ٣٧٥ كتاب ١٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤٢٤ [١٥ / ١١٧ كتاب ١٧] ، ربيع الأبرار للزمخشري : باب ٦٦ [٣ / ٤٧٠]. (المؤلف)

(٢) التوبة : ٧٠.

(٣) سورة ص : ٦٧ ـ ٦٨.

٣٥٨

المسلمين وأُلفتهم ولَمِّ شعثهم ، فإنّه كلّما اتّسعت الدائرة التي منها يُختار الخليفة كثر الذين يرشِّحون أنفسهم لنيل الخلافة ، وإذا انضمَّ إلى ذلك اتِّساع المملكة الإسلاميّة ، وصعوبة المواصلات بين أطرافها ، وعدم وجود قوم معيَّنين يرجع إليهم الانتخاب ، فإنّ الاختلاف لا بُدَّ واقع. ونحن نشاهد أنَّه مع تفوّق بني عبد مناف على سائر قريش ، واعتراف الناس لهم بذلك وهم جزء صغير من قريش ، فإنَّهم تنافسوا الأمر وأهلكوا الأمّة بينهم ، فلو رضي الناس عن أسرةٍ ودانوا لها بالطاعة ، واعترفوا باستحقاق الولاية ، لكان هذا خير ما يُفعل لضمِّ شعث المسلمين.

إنَّ أعظم من ينتقد معاوية في تولية ابنه هم الشيعة ، مع أنّهم يرون انحصار ولاية الأمر في آل عليّ ، ويسوقون الخلافة في بنيه ، يتركها الأب منهم للابن ، وبنو العبّاس أنفسهم ساروا على هذه الخطّة (٢ / ١٢٠).

الجواب : لم ينتقد معاوية من ينتقده لمحض اختياره ، وإنّما انتقده من ناحيتين :

الأولى : عدم لياقته للتفرّد ، وهو كما قال أمير المؤمنين في كلام له : «لم يجعل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق ابن طليق ، حزبٌ من هذه الأحزاب ، لم يزل لله ـ عزَّ وجلَّ ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين عدوّا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين» (١) ، وفي الأمّة أهل الحلِّ والعقد الذين اختاروا خلافة أبي بكر ، ثمَ وافقوا على الوصيّة إلى عمر وأقرّوها ، وأصفقوا مع أهل الشورى على خلافة عثمان ، وأطبقوا على البيعة طوعاً ورغبةً لمولانا أمير المؤمنين ، فثبتت خلافته ، ووجبت طاعته ، ولزمت معاوية بيعته ، فكان هؤلاء موجودين بأعيانهم أو بنظرائهم وهم الذين نقموا على معاوية ذلك العقد المشؤوم.

الثانية : عدم لياقة من عيّنه من بعده ، وهو ذلك الماجن المتخلّع المتظاهر بالفجور ، إن لم نقل بالكفر والإلحاد.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٦ / ٤ [٥ / ٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍]. (المؤلف)

٣٥٩

أمّا عدم تعيين أهل الاختيار ، فإن أراد عدم تعيّنهم فذلك بهتان عظيم ؛ لأنَّ الموجودين في الصدر الأوّل في عاصمة الإسلام المدينة المنوّرة الذين تصدَّوا لتعيين الخليفة هم أهل الحلِّ والعقد ، وكان أكثرهم موجودين إلى ذلك العهد ، وأمّا من توفّي منهم فقد قيّضت الظروف من بعدهم من يسدُّ مسدّهم ، فإن يكن هؤلاء مفوَّضاً إليهم أمر الخلافة بادئ بدء ، فهم المفوَّض إليهم أمرها مهما تناقلت الخلافة ، فليس لأحد أن يختار من دون رضاً منهم ، وإنَّ هؤلاء القوم تعيِّنهم الظروف والأحوال والمقتضيات المكتنفة بهم ، ولا يعيِّنهم نصٌّ من الكتاب أو السنّة.

وإن أراد عدم تعيين هؤلاء الخليفة من بعد معاوية ، فإنَّ ظرف التعيين ساعة موت الخليفة لا قبله. نعم ؛ قد تنعقد الضمائر على انتخاب من يرون له الأهليّة في إبّان الانتخاب ، وما أدرى معاوية أنَّهم سوف يهملون أمر الأمّة ساعة هلاكه؟ ولما ذا تفرّد بالانتخاب من دون رضاً منهم؟ ولما ذا خضّع أفراداً من القوم بالتخويف وآخرين بالتطميع؟ ومتى أبعد انتخابه الاختلاف الذي هو شرٌّ على الأمّة؟ وفي الملأ الدينيِّ أممٌ ينقمون منه ذلك ، وجموعٌ ينتقدونه ، وشراذم يضمرون السخط ولا يتظاهرون به حذار بادرته. نعم ؛ هناك زعانفةٌ اشتروا رضا المخلوق بسخط الخالق ، وأعمتهم الصرر والبِدر ، فأبدوا الرضا.

ولو كانت هذه الفكرة حسنةً جميلةً ، فلما ذا فاتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين دنت منه الوفاة؟ فلم يرحض عن أمّته معرّة الخلاف ، وترك المراجل تغلي حتى اليوم. وهل تُرى لو كان أوصى إلى معيَّن من أمّته بالخلافة يوجد هناك لأحد مطمع غير المنصوص عليه؟ ودعا سعد بن عبادة إلى نفسه؟ وقال قائل الأنصار : منّا أميرٌ ، ومنكم أميرٌ؟ وهتف هاتفٌ : أنا جُذيلها المحكّك (١) وعُذيقها المرجّب (٢)؟ وازدلف

__________________

(١) الجُذَيل : الأصل من الشجرة تحتكّ به الإبل فتشتفي به ، وعنى بذلك أنّ له رأياً وعلماً يشتفى بهما.

(٢) عُذيقها المرجّب : العذيق مصغّر عذق وهو النخلة بحملها. والمرجّب : ما يسند بالخشب ونحوه ليمنعه من السقوط. وهذا القول هو للحباب بن المنذر قاله يوم السقيفة ، وهو يريد أنّ له عشيرةً تمنعه وتحميه.

٣٦٠