الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

كما أنَّ ردّها خصوصية ، كذلك إدراك العصر أداء خصوصيّة.

٤١ ـ الشيخ محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين الدمشقي إمام الحنفيّة في عصره : المتوفّى (١٢٥٢). قال ـ في حاشيته (١) (١ / ٢٥٢) عند قول المصنّف : لو غربت الشمس ثمّ عادت هل يعود الوقت؟ الظاهر : نعم ـ : بحث لصاحب النهر حيث قال : ذكر الشافعيّة أنَّ الوقت يعود لأنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ نام في حجر عليّ رضى الله عنه حتى غربت الشمس ، فلمّا استيقظ ذكر له أنَّه فاتته العصر. فقال : «اللهمَّ إنَّه كان في طاعتك وطاعة رسولك فارددها عليه». فردّت حتى صلّى العصر ، وكان ذلك بخيبر. والحديث صحّحه الطحاوي وعياض ، وأخرجه جماعة منهم الطبراني بسند صحيح ، وأخطأ من جعله موضوعاً كابن الجوزي ، وقواعدنا لا تأباه.

ثمَّ قال : قلت : على أنَّ الشيخ إسماعيل ردّ ما بحث في النهر تبعاً للشافعيّة بأنَّ صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء ورجوعها لا يعيدها أداءً ، وما في الحديث خصوصيّةٌ لعليٍّ كما يعطيه قوله عليه‌السلام : «إنَّه كان في طاعتك وطاعة رسولك».

٤٢ ـ السيّد أحمد زيني دحلان الشافعي : المتوفّى (١٣٠٤) والمترجم (١ / ١٤٧). قال في السيرة النبويّة (٢) هامش السيرة الحلبيّة (٣ / ١٢٥) : ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ردّ الشمس له. روت أسماء بنت عميس ... وذكر الحديث ورواية الطحاوي وكلام أحمد ابن صالح المصري ، فقال : أحمد بن صالح من كبار أئمّة الحديث الثقات ، وحسبه أنّ البخاري روى عنه في صحيحه. ولا عبرة بإخراج ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات ، فقد أطبق العلماء على تساهله في كتاب الموضوعات حتى أدرج فيه كثيراً من الأحاديث الصحيحة ، قال السيوطي (٣) :

__________________

(١) تسمّى بردّ المحتار على الدرّ المختار ، شرح تنوير الأبصار في فقه الحنفية [١ / ٢٤١]. (المؤلف)

(٢) السيرة النبويّة : ٢ / ٢٠١.

(٣) ألفيّة السيوطي في علم الحديث : ص ٩٢.

٢٠١

ومن غريبِ ما تراهُ فاعلَمِ

فيه حديثٌ من صحيحِ مسلمِ

ثمّ ذكر كلام القسطلاني في المواهب اللدنيّة (١) ، وجملة من مقال الزرقاني في شرحه (٢) ، ومنها قصّة أبي منصور الواعظ وشعره ، ثمَّ حكى عن الحافظ ابن حجر نفي التنافي بين هذا الحديث وبين حديث : لم تُحبس الشمس على أحدٍ إلاّ ليوشع بن نون ؛ بأنَّ حبسها ليوشع كان قبل الغروب وفي قصّة عليّ كان حبسها بعد الغروب. ثمَّ قال : قيل : كان علم النجم صحيحاً قبل ذلك ، فلمّا وقفت الشمس ليوشع عليه‌السلام بطل أكثره ، ولمّا رُدّت لعليّ رضى الله عنه بطل جميعه.

٤٣ ـ السيّد محمد مؤمن الشبلنجي : عدّه في نور الأبصار (٣) (ص ٢٨) من معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لفظ الحديث

عن أسماء بنت عميس : أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى الظهر بالصهباء من أرض خيبر ، ثمّ أرسل عليّا في حاجة فجاء وقد صلّى رسول الله العصر ، فوضع رأسه في حجر عليّ ولم يحرِّكه حتى غربت الشمس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمَّ إنَّ عبدك عليّا احتبس نفسه على نبيِّه فرُدَّ عليه شرقها».

قالت أسماء : فطلعت الشمس حتى رفعت على الجبال ، فقام عليّ فتوضّأ وصلّى العصر ، ثمَّ غابت الشمس.

وهناك لفظٌ آخر نصفح عنه روماً للاختصار.

ويعرب عن شهرة هذه الأثارة بين الصحابة الأقدمين ، احتجاج الإمام

__________________

(١) المواهب اللدنيّة : ٢ / ٥٢٨ ـ ٥٣٠.

(٢) شرح المواهب : ٥ / ١١٦.

(٣) نور الأبصار : ص ٦٣.

٢٠٢

أمير المؤمنين بها على الملأ يوم الشورى بقوله : «أنشدكم الله أفيكم أحدٌ رُدّت عليه الشمس بعد غروبها حتى صلّى العصر غيري؟». قالوا : لا (١).

وأخرج الخوارزمي في المناقب (٢)) (ص ٢٦٠) عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ، قال : قيل له : ما تقول في عليِّ بن أبي طالب؟ فقال : ذكرت والله أحد الثقلين ، سبق بالشهادتين ، وصلّى بالق بلتين ، وبايع البيعتين ، وأُعطي السبطين ، وهو أبو السبطين الحسن والحسين ، ورُدّت عليه الشمس مرّتين بعد ما غابت عن الثقلين.

ووردت في شعر كثير من شعراء القرون الأولى حتى اليوم ، يوجد منه شطر مهمّ في غضون كتابنا. راجع (٢ / ٢٩٣ و ٣ / ٢٩ ، ٥٧).

فبهذه كلّها نعرف قيمة ابن حزم وقيمة كتابه ، ونحن لا يسعنا إيقاف القارئ على كلِّ ما في الفِصَل من الطامّات ولا على شطرٍ مهمٍّ منه ، إذ جميع أجزائه ـ ولا سيّما الجزء الرابع ـ مشحونٌ بالتحكّم والتقوّل والتحريف والتدجيل والإفك والزور ، وهناك مذاهب مختلقة لا وجود لها إلاّ في عالم خيال مؤلِّفه.

وأمّا ما فيه من القذف والسباب المقذع فلا نهاية له ، بحيث لو أردنا استيفاءه لكلّفنا ذلك جزءاً ، ولا يسلم أحدٌ من لدغ لسانه لا في فِصَله ولا في بقيّة تآليفه حتى نبيُّ العظمة ، قال في الإحكام (٣) (٥ / ١٧١) : قد غاب عنهم ـ يعني الشيعة ـ أنّ سيِّد الأنبياء هو ولد كافر وكافرة.

أيساعده في هذه القارصة أدب الدين ، أدب التأليف ، أدب العلم ، أدب العفّة؟ (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ* سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٤)

__________________

(١) مرّ الإيعاز إلى حديث المناشدة يوم الشورى : ١ / ١٥٩ ـ ١٦٣. (المؤلف)

(٢) المناقب : ص ٣٢٩ ح ٣٤٩.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام : ٥ / ١٦٠.

(٤) القمر : ٢٥ ـ ٢٦.

٢٠٣

٥ ـ

الملل والنحل (١)

هذا الكتاب وإن لم يكن يضاهي الفِصَل في بذاءة المنطق ، غير أنّ في غضونه نسباً مفتعلة ، وآراء مختلقة ، وأكاذيب جمّة ، لا يجد القارئ ملتحداً عن تفنيدها ، فإليك نماذج منها :

١ ـ قال : قال هشام بن الحكم متكلّم الشيعة : إنّ الله جسم ذو أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه ، في مكان مخصوص وجهة مخصوصة (٢).

٢ ـ قال في حقِّ عليٍّ : إنّه إله واجب الطاعة (٣).

٣ ـ وقال هشام بن سالم : إنّ الله على صورة إنسان ، أعلاه مجوّف ، وأسفله مصمت ، وهو نور ساطع يتلألأ ، وله حواسّ خمس ويد ورجل وأنف وأُذن وعين وفم ، وله وفرة سوداء ، وهو نور أسود لكنّه ليس بلحم ولا دم ، وإنّ هشاماً هذا أجاز المعصية على الأنبياء مع قوله بعصمة الأئمّة (٤).

٤ ـ وقال زرارة بن أعين : لم يكن الله قبل خلق الصفات عالماً ، ولا قادراً ، ولا حيّا ، ولا بصيراً ، ولا مريداً ، ولا متكلّماً (٥).

٥ ـ قال أبو جعفر محمد بن النعمان : إنّ الله نور على صورة إنسان ، ويأبى أن يكون جسماً (٦).

٦ ـ وزعم يونس بن عبد الرحمن القمّي أنَّ الملائكة تحمل العرش ، والعرش يحمل الربّ ، وهو من مشبِّهة الشيعة وصنّف لهم في ذلك كتباً (٧).

__________________

(١) تأليف الفيلسوف الأشعري أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني : المتوفّى ٥٤٨. (المؤلف)

(٢) في المطبوع في هامش الفِصَل : ٢ / ٢٥ [الملل والنحل : ١ / ١٦٤]. (المؤلف)

(٣) الملل والنحل : ١ / ١٦٥.

(٤) الملل والنحل : ١ / ١٦٥.

(٥) الملل والنحل : ١ / ١٦٥.

(٦) الملل والنحل : ١ / ١٦٧.

(٧) الملل والنحل : ١ / ١٦٨.

٢٠٤

الجواب : هذه عقائد باطلة ، عزاها إلى رجالات الشيعة المقتصّين أثر أئمّتهم عليهم‌السلام اقتصاص الظلِّ لذيه ، فلا يعتنقون عقيدة ، ولا ينشرون تعليماً ، ولا يبثّون حكماً ، ولا يرون رأياً إلاّ ومن ساداتهم الأئمّة على ذلك برهنة دامغة ، أو بيانٍ شافٍ ، أو فتوىً سديدة ، أو نظر ثاقب.

على أنَّ أحاديث هؤلاء كلّهم في العقائد والأحكام والمعارف الإلهيّة مبثوثة في كتب الشيعة ، تتداولها الأيدي ، وتشخص إليها الأبصار ، وتهشّ إليها الأفئدة ، فهي وما نسب إليهم من الأقاويل على طرفي نقيض ، وهاتيك كتبهم وآثارهم الخالدة لا ترتبط بشيء من هذه المقالات ، بل إنَّما هي تدحرها وتضادُّها بألسنة حداد.

وإطراء أئمّة الدين عليهم‌السلام لهم بلغ حدَّ الاستفاضة ، ولو كانوا يعرفون من أحدهم شيئاً من تلكم النسب لشنّوا عليهم الغارات ، كلاءةً لمَلَئهم عن الاغترار بها ، كما فعلوا ذلك في أهل البدع والضلالات.

وهؤلاء علماء الرجال من الشيعة بسطوا القول في تراجمهم ، وهم بقول واحد ينزِّهونهم عن كلِّ شائنة معزوَّة إليهم ، وهم أعرف بالقوم من أضدادهم البعداء عنهم ، الجهلاء بهم وبترجمتهم ، غير مجتمعين معهم في حلّ أو مرتحل.

وليس في الشيعة منذ القدم حتى اليوم من يعترف أو يعرف بوجود هذه الفرق : هشامية ، زراريّة ، يونسيّة ، المنتمية عند الشهرستاني ونظرائه إليهم ككثير من الفرق التي ذكرها للشيعة ، وقد نفاها الشيخ العلاّمة أبو بكر بن العتايقي الحلّي في رسالة له في النحل الموجودة بخطّ يمينه ، وحكم سيّدنا الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي (١) ، والسيّد العلاّمة المرتضى الرازي في تبصرة العوام (٢) ، بكذب ما عزوه إلى القوم جميعاً ، وأنَّها لا توجد إلاّ في كتب المخالفين لهم في المبدأ إهباطاً لمكانتهم عند الملأ ، لكنّ

__________________

(١) الشافي في الإمامة : ١ / ٨٣ ـ ٨٧.

(٢) تبصرة العوام : ص ٤٦ ـ ٥٤.

٢٠٥

الشيعة الذين هم ذووهم وأعرف الناس بمبادئهم لا يعرفون هاتيك المفتريات ، ولا يعترفون بها ، ولا يوجد شيءٌ منها في كتبهم ، وإنَّما الثابت فيها خلاف ذلك كلّه ، كما لا يعتمد على تحقيق شيء من هاتيك الفرق آية الله العلاّمة الحلّي في مناهج اليقين ، وغيرهم من أعلام الشيعة.

فهل في وسع الرجل أن يخصم الإماميّة بحجّة مثبتة لتلكم الدعاوي؟ لاها الله.

وهل نُسب في كتب الكلام والتاريخ قبل خلق الشهرستاني إلى هشام القول بأُلوهية عليّ؟ لاها الله.

وهل رأت عين بشر أو سمعت أُذناه شيئاً ، ولو كلمة ، من تلكم الكتب المعزوّة إلى يونس بن عبد الرحمن المصنّفة في التشبيه؟ لاها الله. والشهرستاني أيضاً لم يره ولم يسمعه ، وإن تعجب فعجبٌ قوله :

٧ ـ اختلف الشيعة بعد موت عليّ بن محمد العسكري أيضاً ، فقال قوم بإمامة جعفر بن عليّ ، وقال قوم بإمامة الحسن بن عليّ ، وكان لهم رئيس يقال له عليّ بن فلان الطاحن ، وكان من أهل الكلام قوّى أسباب جعفر بن عليّ وأمال الناس إليه ، وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه ، وذلك أنَّ محمداً قد مات وخلّف الحسن العسكريّ ، قالوا : امتحنّا الحسن ولم نجد عنده علماً. ولقّبوا من قال بإمامة الحسن (الحمارية) ، وقوّوا أمر جعفر بعد موت الحسن ، واحتجّوا بأنَّ الحسن مات بلا خلف ، فبطلت إمامته لأنَّه لم يعقب ، والإمام لا يكون إلاّ ويكون له خلف وعقب ، وحاز جعفر ميراث الحسن بعد دعوى ادّعاها عليه أنَّه فعل ذلك من حبل في جواريه وغيره ، وانكشف أمرهم عند السلطان والرعيّة وخواصّ الناس وعوامّهم ، وتشتّتت كلمة من قال بإمامة الحسن وتفرّقوا أصنافاً كثيرة ، فثبتت هذه الفرقة على إمامة جعفر ، ورجع إليهم كثير ممّن قال بإمامة الحسن ، منهم : الحسن بن عليّ بن فضّال ، وهو من أجلّ أصحابهم وفقهائهم ، كثير الفقه والحديث. ثمّ قالوا بعد جعفر بعليّ

٢٠٦

ابن جعفر ، وفاطمة بنت عليّ أخت جعفر ، وقال قومٌ بإمامة عليّ بن جعفر دون فاطمة السيّدة. ثمَّ اختلفوا بعد موت عليّ وفاطمة اختلافاً كثيراً (١).

الجواب : إنَّ الرجل يدخل المراقص والمسارح لينظر إلى المفرحات والمضحكات ، أو يسمع أشياء سارّة ولو من بعض النواحي ، وقد غفل عن أنَّ كتاب الشهرستاني أوفى بمقصده من تلك المنتديات.

غير أنَّه إن كان مضحكاً بجهل صاحبه فهو مُبكٍ من ناحية أن يوجد في بحّاثة المسلمين من تروقه الوقيعة في أممٍ من قومه ، لكنَّه لا يعرف كيف يقع ، فيثبت ما يتراوح بين جهلٍ شائنٍ ، وإفك مفترىً ، وليته قبل أن يكتب فحص عن أحوال القوم وعقائدهم وتاريخ رجالهم ، فلا يتحمّل إثم ما افتعله ، ولا يخبط في ذلك خبط عشواء ، ولا يُثبت ما لا يعرف.

فإن كان لا يدري فتلك مصيبةٌ

وإن كان يدري فالمصيبة أعظمُ

ليت شعري متى وقع الخلاف في الإمامة بين الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام وبين أخيه جعفر الذي ادّعى الإمامة بعد وفاة أخيه؟

ومن هو عليّ بن فلان الطاحن الذي قوّى أسباب جعفر وأمال الناس إليه؟ ومتى خُلق؟ ومتى مات؟ ولست أدري أيّ هَيّ بن بَيّ هو (٢)؟ وهل وجد لنفسه مقيلاً في مستوى الوجود؟ أنا لا أدري ، والشهرستاني لا يدري ، والمنجّم أيضاً لا يدري!

وكيف أعان جعفراً فارس بن حاتم بن ماهويه ، وقد قتله جُنيد بأمر والده الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام؟

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ١٥١.

(٢) يقال : هيّ بن بيّ وهيّان بن بيّان : أي لا يعرف هو ولا يعرف أبوه.

٢٠٧

ومن هو محمد الذي خلف الإمام الحسن العسكري؟ أهو الإمام محمد الجواد ولم يخلّف إلاّ ابنه الإمام الهادي ـ سلام الله عليه ـ؟ أو هو أبو جعفر محمد بن عليّ صاحب البقعة المعظّمة بمقربة من بلد وقد مات بحياة أبيه الطاهر ، والإمامة مستقرّة لوالده؟ ومتى كان إماماً أو مدّعياً للإمامة حتى يخلّف غيره عليها؟

ومن هؤلاء الذين امتحنوا الحسن الزكيّ العسكريّ فلم يجدوا عنده علماً؟ ثمَّ وجدوه في جعفر الذي لم يُعرف منه شيء غير أنَّه ادّعى الإمامة باطلاً بعد أخيه وقصارى ما عندنا أنَّه أدركته التوبة ، ولم يوجد له ذكر بعلم أو ترجمة فيها فضيلة في أيٍّ من الكتب ، ولا نشرت عنه كتب الأحاديث شيئاً من علومه المدّعاة له عند الشهرستاني لو صدقت الأحلام ، وهذا الحسن العسكري عليه‌السلام تجده في التراجم والمعاجم من الفريقين مذكوراً بالعلم والثقة ، وملء كتب العلم والحديث تعاليمه ومعارفه.

ومن هم الذين لقّبوا أتباع الحسن عليه‌السلام بالحماريّة؟ نعم أهل بيت النبوّة محسودون في كلِّ وقت ، فكان يحصل لكلّ منهم في وقته من يسبّه حسداً ويسبُّ أتباعه ، لكن لا يذهب ذلك لقباً له أو لأشياعه ، وإنَّما يتدهور في مهوى الضعة.

ومتى كان الحسن بن عليّ بن فضّال في عهد الإمام الحسن العسكري؟ حتى يرجع عنه إلى جعفر ، وقد توفّي ابن فضّال سنة (٢٢١) ونطفة الحسن وجعفر بعدُ لم تنعقد ، وقبل أن يبلغ الحلم والدهما الطاهر الإمام الهادي المتولّد سنة (٢١٢).

ومن ذا الذي ذكر للإمام عليّ الهادي بنتاً اسمها فاطمة حتى يقول أحدٌ بإمامتها؟ فإنَّ الإمام عليه‌السلام لم يخلّف من الذكور إلاّ الحسن والحسين وجعفراً ، ومن الإناث إلاّ عليّة ، باتّفاق المؤرخين.

هذا كلّ ما في علبة الشهرستاني من جهل وفرية سوّد بهما صحيفة من كتابه

٢٠٨

أو صحيفة من تاريخ حياته ، وكم له من لداتها صحائف ، ولم يُدهوره إلى تلك الهوّة إلاّ عدم معرفته بما يقول ، حتى إنّه يقول في الإمام الهادي الذي خبط فيه وفي ولده هذا الخبط العظيم : إنَّ مشهده بقم (١) ، وهذه سامرّاء المشرّفة تزدهي بمرقده الأطهر ، وإلى جنبه ولده الإمام الزكيّ منذ دُفنا فيه قبل الشهرستاني وبعده ، وتلك قبّته الذهبية تحكّ السماء بذخاً ، وتفوق ذُكاء سناءً ، وهذه المعاجم والتواريخ مفعمة بتعيين هذا المرقد الأقدس له ولولده ، لكنّ الشهرستاني يجهل ذلك كلّه.

٨ ـ خاصّة الشيعة عند الشهرستاني.

قال : ومن خصائص الشيعة : القول بالتناسخ ، والحلول ، والتشبيه (٢ / ٢٥) (٢).

الجواب : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٣).

ليس بينك وبين عقائد الشيعة حجز وهي مدوّنة في مؤلّفاتهم الكلاميّة قديماً وحديثاً ، فلن تجد من يضرب على يدك إذا مددتها إلى أيٍّ منها ، أو من يغشي على بصرك إذا نظرت فيها ، فأمعن فيها بصرك وبصيرتك ، أو سل من شئت من علماء الشيعة وعارفيها ، وأتنازل معك إلى جهّالها عن هذه العقائد المعزوَّة إلى الشيعة على لسان الشهرستاني في القرون الوسطى ، وعلى لسان طه حسين وأمثاله في القرن الأخير ، وسلْهم : أنَّهم هل يرون لمعتنقي هاتيك العقائد مقيلاً في مستوى الدين؟ أو مُبوَّأً على باحة الإسلام؟ أما وإنَّك لا تجد فرداً من أفراد الشيعة إلاّ وهو يقول بكفر من يكون هذا معتقده ، إذن فاعرف قيمة كتاب الشهرستاني ومحلّه من الأمانة في النقل.

__________________

(١) هامش الفِصَل : ٢ / ٥ [الملل والنحل : ١ / ١٥٠]. (المؤلف)

(٢) الملل والنحل : ١ / ١٤٧.

(٣) الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٣.

٢٠٩

أنا لم أجد في قاموس البيان ما يعرب عن حقيقة الشهرستاني وكتابه ، وكلّ ما ذكر من تقوّلاته وتحكّماته يقصر عن استكناه بُجره وعُجره (١)) ، غير أنَّ لمعاصره أبي محمد الخوارزمي كما في معجم البلدان (٢) (٥ / ٣١٥) كلاماً ينمُّ عن روحيّاته وإليك نصّه. قال بعد ذكر مشايخه في الفقه وأصوله والحديث :

ولولا تخبّطه في الاعتقاد وميله إلى هذا الإلحاد لكان هو الإمام ، وكثيراً ما كنّا نتعجّب من وفور فضله وكمال عقله ، وكيف مال إلى شيءٍ لا أصل له ، واختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً ، ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان ، وليس ذلك إلاّ لإعراضه عن نور الشريعة ، واشتغاله بظلمات الفلسفة ، وقد كان بيننا محاورات ومفاوضات ، فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذبِّ عنهم ، وقد حضرت عدّة مجالس من وعظه فلم يكن فيها لفظ : قال الله ، ولا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جواب من المسائل الشرعيّة ، والله أعلم بحاله.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ)

(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

__________________

(١) أي أموره كلّها باديها وخافيها. وأصل العُجرة نفخة في الظهر ، فإذا كانت في السرّة فهي بُجرة.

(٢) معجم البلدان : ٣ / ٣٧٦.

(٣) الجاثية : ٢٣.

٢١٠

٦ ـ

منهاج السنّة (١)

إذا أردت أن تنظر إلى كتاب سمّي بضدّ معناه فانظر إلى هذا الكتاب الذي استعير له اسم منهاج السنّة وهو الحريّ بأن يسمّى : منهاج البدعة. وهو كتاب حشوه ضلالات وأكاذيب وتحكّمات ، وإنكار المسلّمات ، وتكفير المسلمين ، وأخذ بناصر المبدعين ، ونصب وعداء محتدم على أهل بيت الوحي : ، فليس فيه إلاّ تدجيل محض ، وتمويه على الحقائق ، وتحريف الكلم عن مواضعه ، وقول بالبذاء ، ورمي بالمقذِعات ، وقذف بالفواحش ، وتحكّك بالوقيعة ، وتحرّش بالسباب. وإليك نماذج منها :

١ ـ قال : من حماقات الشيعة أنَّهم يكرهون التكلّم بلفظ العشرة أو فعل شيء يكون عشرة ، حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك لبغضهم العشرة المبشّرة إلاّ عليَّ بن أبي طالب ، ومن العجب أنَّهم يوالون لفظ التسعة وهم يبغضون التسعة من العشرة (١ / ٩).

وقال في (٢ / ١٤٣) : من تعصّب الرافضة أنَّهم لا يذكرون اسم العشرة بل يقولون : تسعةٌ وواحدٌ ، وإذا بنوا أعمدة أو غيرها لا يجعلونها عشرة ، وهم يتحرَّون ذلك في كثير من أمورهم.

الجواب : أوليس عاراً على من يسمّي نفسه شيخ الإسلام أن ينشر بين المسلمين في كتابه مثل هذه الخزاية ويكرِّرها في طيّه؟ كأنَّه جاء بتحقيق أنيق ، أو فلسفة راقية ، أو حكمة بالغة تحيي الأمّة!

وإن تعجب فعجبٌ أنَّ رجلاً ينسب نفسه إلى العلم والفضيلة ثمَّ إذا قال قولاً كذب ، أو إذا نسب إلى أحد شيئاً مان ، وكان ما يقوله أشبه شيء بأقاويل رعاة

__________________

(١) تأليف ابن تيميّة أحمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبلي : المتوفّى في محبس مراكش ٧٢٨. (المؤلف)

٢١١

المعزى ، لا بل هو دونهم وقوله دون ما يقولون ، وكأنَّ الرجل ينقل عن الشيعة شيئاً يحدّث به عن أمّة بائدة لم تُبقِ منها صروف العبر من يعرف نواميسها ، ويدافع عنها ، ويدرأ عنها القول المختلق.

هذا وأديم الأرض يزدهي بملايين من هذه الفرقة ، والمكتبات مفعمةٌ بكتبهم ، فعند أيِّ رجل منهم ، وفي أيٍّ من هاتيك الكتب تجد هذه المهزأة؟ نعم في قرآن الشيعة (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (١) (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٢) (وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٣) (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) (٤) وأمثالها ، وهي ترتّلها عند تلاوته في آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا دعاء العشرات يقرأه الشيعة في كلّ جمعة ، وهذه الصلوات المندوبة التي تكرَّر فيها السورة عشر مرّات ، وهذه الأذكار المستحبّة التي تُقرأ بالعشرات ، وهذه مباحث العقول العشرة ومباحث الجواهر والأعراض العشرة في كتبهم.

وهذا قولهم : إنّ أسماء النبيّ عشرة.

وقولهم : إنّ الله قوّى العقل بعشرة.

وقولهم : عشر خصال من صفات الإمام.

وقولهم : كانت لعليٍّ من رسول الله عشر خصال.

وقولهم : بُشِّر شيعة عليّ بعشر خصال.

وقولهم : عشر خصال من مكارم الأخلاق.

وقولهم : لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات.

وقولهم : لا يكون المؤمن عاقلاً إلاّ بعشر خصال.

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) الأنعام : ١٦٠.

(٣) الفجر : ١ ـ ٢.

(٤) هود : ١٣.

٢١٢

وقولهم : لا يُؤكل عشرة أشياء.

وقولهم : عشرة أشياء من الميتة ذكيّة.

وقولهم : عشرة مواضع لا يُصلّى فيها.

وقولهم : الإيمان عشر درجات.

وقولهم : العافية عشرة أجزاء.

وقولهم : الزهد عشرة أجزاء.

وقولهم : الشهوة عشرة أجزاء.

وقولهم : البركة عشرة أجزاء.

وقولهم : الحياء عشرة أجزاء.

وقولهم : في الشيعة عشر خصال.

وقولهم : الإسلام عشرة أسهم.

وقولهم : في السواك عشر خصال.

وهذه قصور الشيعة المشيّدة ، وأبنيتهم العامرة ، وحصونهم المنيعة كلّها تكذِّب ابن تيميّة ، ولا يخطر على قلب أحدٍ من بانيها ما لفّقه ابن تيميّة من المخاريق.

هذا والشيعة لا ترى للعدد قيمة بمجرّده ، ولا يوسم أحدٌ منهم بحبّه وبغضه مهما كان المعدود مبغوضاً له أو محبوباً ، ولم تسمع أذن الدنيا من أحدهم في العشرة : تسعةٌ وواحد. نعوذ بالله من هذه المجهلة.

٢ ـ قال : ومن حماقاتهم ـ يعني الشيعة ـ أنّهم يجعلون للمنتظر عدّة مشاهد ينتظرونه فيها ، كالسرداب الذي بسامرّاء يزعمون أنَّه غائبٌ فيه ، ومشاهد أُخر ، وقد يقيمون هناك دابّة إمّا بغلةً وإمّا فرساً وإمّا غير ذلك ليركبها إذا خرج ، ويقيمون هناك إمّا في طرفي النهار وإمّا في أوقات أُخر من ينادي عليه بالخروج : يا مولانا اخرج ، ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم ، وفيهم من يقوم في أوقاته دائماً لا يصلّي

٢١٣

خشية أن يخرج وهو في الصلاة ، فيشتغل بها عن خروجه وخدمته ، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده كمدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إمّا في العشرة الأواخر من شهر رمضان ، وإمّا غير ذلك يتوجّهون إلى المشرق وينادونه بأصوات عالية يطلبون خروجه (١).

٣ ـ قال : ومن حماقاتهم : اتّخاذهم نعجةً ، وقد تكون نعجة حمراء لكون عائشة تُسمّى حميراء ، يجعلونها عائشة ، ويعذّبونها بنتف شعرها وغير ذلك ، ويرون أنَّ ذلك عقوبة لعائشة (٢).

٤ ـ واتّخاذهم حَيْساً (٣) مملوءً سمناً ، ثمَّ يشقّون بطنه فيخرجون السمن فيشربونه ، ويقولون : هذا مثل ضرب عمر وشرب دمه.

٥ ـ ومثل تسمية بعضهم لحمارين من حمر الرحى أحدهما بأبي بكر والآخر بعمر ، ثمّ عقوبة الحمارين جعلاً منهم تلك العقوبة عقوبةً لأبي بكر وعمر. وكرّر هذه النسب الثلاث في (٢ / ١٤٥).

٦ ـ قال : وتارهً يكتبون أسماءهم على أسفل أرجلهم ، حتى إنَّ بعض الولاة جعل يضرب رِجل من فعل ذلك ويقول : إنّما ضربت أبا بكر وعمر ، ولا أزال أضربهما حتى أعدمهما.

٧ ـ ومنهم من يسمِّي كلابه باسم أبي بكر وعمر ، ويلعنهما (١ / ١١).

الجواب : كنّا نُربئ بكتابنا هذا عن أن نسوِّد شيئاً من صحائفه بمثل هذه الخزايات التي سوّد بها ابن تيميّة جبهة كتابه وسوّد بها صحيفة تاريخه بل صحيفة تاريخ قومه. لكنّي ، خشية أن تنطلي على أناس من السذّج ، آثرت نقلها وإردافها بأنَّ أمثالها ممّا هو خارج عن الأبحاث العلميّة ومباحث العلماء ، وإنّما هي قذائف تترامى

__________________

(١) منهاج السنّة : ١ / ٢٤ ـ ٣٠.

(٢) منهاج السنّة : ٢ / ١٤٥.

(٣) حلوى تتّخذ من التمر المخلوط بالسويق والسمن.

٢١٤

بها ساقة الناس وأوباشهم ، ولعلَّ في الساقة من تندى جبهة إنسانيّته عند التلفّظ بها ، لأنّها مخاريق مقيلها قاعة الفرية ، ليس لها وجود ماثل إلاّ في مخيّلة ابن تيميّة وأوهامه.

يختلق هذه النسب المفتعلة ، ويتعمّد في تلفيق هذه الأكاذيب المحضة ، ثمَّ جاء يسبّ ويشتم ويكفِّر ويكثر من البذاء على الشيعة ، ولا يراعي أدب الدين ، أدب العلم ، أدب التأليف ، أدب الأمانة في النقل ، أدب النزاهة في الكتابة ، أدب العفّة في البيان.

ولا يحسب القارئ أنَّ هذه النسب المختلقة كانت في القرون البائدة ربّما تنشأ عن الجهل بمعتقدات الفرق للتباعد بين أهليها ، وذهبت كحديث أمس الدابر ، وأمّا اليوم فالعقول على الرقيّ والتكامل ، والمواصلات في البلاد أكيدة جدّا ، ومعتقدات كلِّ قوم شاعت وذاعت في الملأ ، فالحريُّ أن لا يوجد هناك في هذا العصر ـ الذي يسمّيه المغفَّل عصر النور ـ من يرمي الشيعة بهذه الخزايات أو يرى رأي السلف.

نعم : إنّ أقلام كتّاب مصر اليوم تنشر في صحائف تآليفها هذه المخاريق نفسها ، وتزيد عليها تافهات شائنة أخرى أهلك من تُرَّهات البسابس (١)) أخذاً بناصر سلفهم ، وسنوقفك على نصِّ تلكم الكلم ، ونعرِّفك بأنَّ كاتب اليوم أكثر في الباطل تحوّراً ، وأقبح آثاراً ، وأكذب لساناً ، وأقول بالزور والفحشاء من سلفه الصلف وشيخه المجازف ، وهم مع ذلك يدعون الأمّة إلى كلمة التوحيد ووحدة الكلمة!

٨ ـ قال : إنَّ العلماء كلّهم متّفقون على أنَّ الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة ، حتى إنّ أصحاب الصحيح كالبخاري لم يروِ عن أحد من قدماء الشيعة مثل : عاصم بن ضمرة ، والحارث الأعور ، وعبد الله بن سلمة وأمثالهم ، مع أنّ هؤلاء من خيار الشيعة (١ / ١٥).

__________________

(١) البسابس : جمع بسبس ، وهو القفر ، وترّهات البسابس : الكذب والباطل.

٢١٥

الجواب : إنّ هذه الفتوى المشفوعة بنقل اتِّفاق العلماء تعطي خُبراً عن أنَّ للعلماء بحثاً ضافياً في كتبهم حول مسألة : أنّ أيّ طوائف أهل القبلة أكذب؟ فكانت نتيجة ذلك البحث والتنقيب : أنّ الكذب في الرافضة ... وعليه حصل إجماع العلماء ، فطفق ابن تيميّة يرقص ويزمّر لما هنالك من مُكاءٍ وتصدية ، وعليه فكلٌّ من كتب القوم شاهدُ صدقٍ على كذب الرجل فيما يقول ، وإنَّ مراجعة كتاب منهاج السنّة والفِصَل وما يجري مجراهما في المخزى تعطينا برهنةً صادقةً على : أيّ الفريقين أكذب.

ومن أعجب الأكاذيب قوله : حتى إنَّ أصحاب الصحيح ... فإنَّك تجد الصحاح الستّ مفعمةً بالرواية عن قدماء الشيعة : من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وممّن بعدهم من مشايخهم ، كما فصّلناها في هذا الجزء (ص ٩٢ ـ ٩٤).

٩ ـ قال : أصول الدين عند الإماميّة أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوّة ، والإمامة هي آخر المراتب ، والتوحيد والعدل والنبوّة قبل ذلك ، وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات والقول بأنَّ القرآن مخلوقٌ ، وأنَّ الله لا يُرى في الآخرة ، ويدخلون في العدل التكذيب بالقدرة ، وأنَّ الله لا يقدر أن يهدي من يشاء ، ولا يقدر أن يضلَّ من يشاء ، وأنَّه قد يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء ، وغير ذلك ، فلا يقولون : إنَّه خالق كلّ شيء ، ولا إنَّه على كلِّ شيء قدير ، ولا إنَّه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. (١ / ٢٣).

الجواب : بلغ من جهل الرجل أنَّه لم يفرِّق بين أصول الدين وأصول المذهب ، فيعدّ الإمامة التي هي من تالي القسمين في الأوّل ، وأنَّه لا يعرف عقائد قوم هو يبحث عنها ، ولذلك أسقط المعاد من أصول الدين ، ولا يختلف من الشيعة اثنان في عدِّه منها.

على أنّ أحداً لو عدَّ الإمامة من أصول الدين فليس بذلك البعيد عن مقاييس البرهنة ، بعد أن قرن الله سبحانه ولاية مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بولايته وولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا). الآية. وخصَ

٢١٦

المؤمنين بعليّ عليه‌السلام ، كما مرَّ الايعاز إليه في الجزء الثاني صفحة (٥٢) وسيوافيك حديثه مفصّلاً بُعيد هذا.

وفي آية كريمة أخرى جعل المولى سبحانه بولايته كمال الدين ، بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). ولا معنى لذلك إلاّ كونها أصلاً من أصول الدين لولاها بقي الدين مخدجاً (١) ، ونعم الله على عباده ناقصة ، وبها تمام الإسلام الذي رضيه ربّ المسلمين لهم ديناً.

وجعل هذه الولاية بحيث إذا لم تُبلَّغ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بلّغ رسالته ، فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). ولعلّك تزداد بصيرةً فيما قلناه لو راجعت الأحاديث الواردة من عشرات الطرق في الآيات الثلاث ، كما فصّلناها في الجزء الأوّل (ص ٢١٤ ـ ٢٢٣ و ٢٣٠ ـ ٢٣٨) وفي هذا الجزء.

وبمقربة من هذه كلّها ما مرَّ في الجزء الثاني (ص ٣٠١ ، ٣٠٢) من إناطة الأعمال كلّها بصحّة الولاية ، وقد أُخذت شرطاً فيها ، وهذا هو معنى الأصل ، كما أنَّه كذلك بالنسبة إلى التوحيد والنبوّة ، وليس في فروع الدين حكمٌ هو هكذا.

ولعلَّ هذا الذي ذكرناه كان مسلّماً عند الصحابة الأوّلين ، ولذلك يقول عمر بن الخطّاب لمّا جاءه رجلان يتخاصمان عنده : هذا مولاي ومولى كلِّ مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن. راجع الجزء الأوّل صفحة (٣٨٢).

وستوافيك في هذا الجزء زرافةٌ من الأحاديث المستفيضة الدالّة على أنَّ بغضه ـ صلوات الله عليه ـ سمة النفاق وشارة الإلحاد ، ولولاه عليه‌السلام لما عُرف المؤمنون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يبغضه أحد إلاّ وهو خارجٌ من الإيمان ، فهي تدلّ على تنكّب الحائد عن الولاية عن سويِّ الصراط كمن حاد عن التوحيد والنبوّة ، فلترتّب كثير

__________________

(١) مخدج : ناقص.

٢١٧

من أحكام الأصلين على الولاية يقرب عدُّها من الأصول ، ولا ينافي ذلك شذوذها عن بعض أحكامها لما هنالك من الحِكم والمصالح الاجتماعيّة كما لا يخفى.

وأمّا نفي الصفات فإن كان بالمعنى الذي تحاوله الشيعة من نفيها زائدة على الذات بل هي عينها فهو عين التوحيد ، والبحث في ذلك تتضمنه كتب الكلام ، وإن كان بالمعنى الذي ترمي إليه المعطّلة فالشيعة منه برآء.

وكذلك القول بأنَّ القرآن مخلوق ، فإنَّه ليس مع الله سبحانه أزليٌّ يضاهيه في القِدَم ، كما أثبتته البرهنة الصادقة المفصّلة في كتب العقائد. وأمّا نفي الرؤية فلنفي الجسميّة عنه ، والمنطق الصحيح معتضداً بالكتاب والسنّة يشهد بذلك ، فراجع مظانَّ البحث فيه. وأمّا بقيّة ما عزاه إليهم فهي أكاذيب محضة ، لا تشكُّ الشيعة قديماً وحديثاً في ضلالة القائل بها.

١٠ ـ قال : تجد الرافضة يعطِّلون المساجد التي أمر الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، فلا يصلّون فيها جمعةً ولا جماعةً ، وليس لها عندهم كبير حرمة ، وإن صلّوا فيها صلّوا فيها وُحداناً ، ويعظِّمون المشاهد المبنيّة على القبور ، فيعكفون عليها مشابهةً للمشركين ، ويحجّون إليها كما يحجُّ الحاجُّ إلى البيت العتيق ، ومنهم من يجعل الحجّ إليها أعظم من الحجِّ إلى الكعبة ، بل يسبّون من لا يستغني بالحجّ إليها عن الحجّ الذي فرضه الله تعالى على عباده ، ومن لا يستغني بها عن الجمعة والجماعة ، وهذا من جنس دين النصارى والمشركين (١ / ١٣٠).

وقال في (٢ / ٣٩) : الرافضة يعمرون المشاهد التي حرّم الله ورسوله بناءها ، ويجعلونها بمنزلة دور الأوثان ، ومنهم من يجعل زيارتها كالحجِّ ، كما صنّف المفيد كتاباً سمّاه مناسك حجِّ المشاهد ، وفيه من الكذب والشرك ما هو جنس شرك النصارى وكذبهم.

الجواب : إنَّ المساجد العامرة ماثلةٌ بين ظهرانيِّ الشيعة في أوساطها

٢١٨

وحواضرها ومدنها وحتى في القرى والرساتيق ، تحتفي بها الشيعة ، وترى حرمتها من واجبها ، وتقول بحرمة تنجيسها وبوجوب إزالة النجاسة عنها ، وبعدم صحّة الصلاة بعد العلم بها وقبل تطهيرها ، وعدم جواز مكث الجنب والحائض والنفساء فيها ، وعدم جواز إدخال النجس فيها إن كان هتكاً ، وتكره فيها المعاملة والكلام بغير الذِّكر والعبادة من أمور الدنيا ، ومن فعل ذلك يُضرب على رأسه ويقال له : فضَّ الله فاك.

وتروي عن النبيّ وأئمّتها أنَّه لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد. إلى غيرها من الحرمات التي يتضمّنها فقه الشيعة ، وينوءُ بها عملهم ، وما يقام فيها من الجماعات ، وهذه كلّها أظهر من أن تخفى على من جاسَ خلال ديارهم أو عرف شيئاً من أنبائهم.

وأمّا تعظيمهم المشاهد فليس تشبّهاً منهم بالمشركين فإنَّهم لا يعبدون من فيها ، وإنّما يتقرّبون إلى المولى سبحانه بزيارتهم والثناء عليهم والتأبين لهم ، لأنَّهم أولياء الله وأحبّاؤه ، ويروون في ذلك أحاديث عن أئمتهم ، وفيما يُتلى هنالك من ألفاظ الزيارات شهادة واعتراف بأنَّهم (... عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١).

وأمّا السبُّ على ما ذكر فهو من أكذب تقوّلاته ؛ فإنَّ الشيعة على بكرة أبيها تروي عن أئمّتها عليهم‌السلام أنَّ الإسلام بُني على خمس : الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية ، وأحاديثهم بذلك متضافرة. وتعتقد بأنَّ تأخير حجّة الإسلام عن سنتها كبيرة موبقة ، وإنّه يُقال لتاركها عند الموت : مُت إن شئت يهوديّا وإن شئت نصرانيّا.

أفمن المعقول أن تسبَّ الشيعة ، مع هذه العقائد والأحاديث وفتاوى العلماء المطابقة لها المستنبطة من الكتاب والسنّة ، من لا يستغني عن الحجِّ بالزيارة؟

__________________

(١) الأنبياء : ٢٦ ، ٢٧.

٢١٩

وأمّا كتاب الشيخ المفيد فليس فيه إلاّ أنَّه أسماه ـ منسك الزيارات ـ وما المنسك إلاّ العبادة وما يؤدّى به حقّ الله تعالى ، وليست له حقيقة شرعيّة مخصوصة بأعمال الحجِّ وإن تخصّص بها في العرف والمصطلح ، فكلُّ عبادةٍ مرضيّةٍ لله سبحانه في أيِّ محلٍّ وفي أيّ وقت يجوز إطلاقه عليها ، وإذا كانت زيارة المشاهد والآداب الواردة والأدعية والصلوات المأثورة فيها من تلكم النسك المشروعة من غير سجود على قبرٍ ، أو صلاة إليه ، ولا مسألةٍ من صاحبه أوّلاً وبالذات ، وإنَّما هو توسّل به إلى الله تعالى لزلفته عنده وقربه منه ، فما المانع من إطلاق لفظ المنسك عليه؟

وقوله عمّا فيه من كذب وشرك فهو لدة سائر ما يتقوّل غير مكترث لِوَباله ، والكتاب لم يعدم بعدُ وهو بين ظهرانينا ، وليس فيه إلاّ ما يضاهيه ما في غيره من كتب المزار ، ممّا ينزِّل الأئمّة الطاهرين عمّا ليس لهم من المراتب ، ويثبت لهم العبّاس بوديّة والخضوع لسلطان المولى سبحانه ، مع ما لهم من أقرب الزلف إليه ، فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثاً؟

١١ ـ قال : قد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفترىً : أنّ هذه الآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) نزلت في عليّ لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة ، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل (١ / ١٥٥). ثمَّ استدلَّ على كذب القول به بأوهام وتافهات طالما يكرِّر أمثالها تجاه النصوص ، كما سبق منه في حديث ردِّ الشمس ويأتي عنه في آية التطهير و (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وفي حديث المؤاخاة وأمثالها من الصحاح التي تأتي.

الجواب : ما كنت أدري أنَّ القحّة تبلغ بالإنسان إلى أن ينكر الحقائق الثابتة ، ويزعم أنَّ ما خرّجته الأئمّة والحفّاظ وأنهوا أسانيده إلى مثل أمير المؤمنين ، وابن عبّاس ، وأبي ذرّ ، وعمّار ، وجابر الأنصاري ، وأبي رافع ، وأنس بن مالك ، وسلمة

٢٢٠