بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

الفصل الرابع عشر

مصادر الاُصول والفروع عند الإماميّة

٦٤١
٦٤٢

إنّ بعض المتعصّبين يحاولون التشكيك في انتهاء الشيعة الامامية في مذهبهم إلى أئمّة أهل البيت وقد نقل هذه المحاولة السيد عبدالحسين شرف الدين في مراجعاته (١).

ولا شك أنّ هذه المحاولة فاشلة ، ولا نحتاج إلى بسط في الجواب وربّما يتّضح استناد مذهبهم إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ممّا مضى في الفصل الحادي والثاني عشر.

يقول السيد شرف الدين : إنّ الشيعة الامامية في الفروع والاُصول وسائر ما يؤخذ من الكتاب والسنّة أو يتعلّق بهما من جميع العلوم ، لا يعولون في شيء من ذلك إلاّ عليهم ولا يرجعون فيه إلاّ إليهم ، فهم يدينون اللّه تعالى ويتقرّبون إليه بمذهب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام لا يجدون عنه حولاً ولا يرتضون به بدلاً. على ذلك مضى سلفهم الصالح في عهد أميرالمؤمنين والحسن والحسين. والأئمّة التسعة من ذريّة الحسين عليهم‌السلام إلى زماننا هذا وقد أخذ الفروع والاُصول عن كل واحد منهم جمّ من ثقات الشيعة وحفّاظهم (٢).

__________________

١ ـ راجع المراجعات ١٠٩.

٢ ـ المراجعات ٣٠٣ المراجعة ١١٠.

٦٤٣

إنّ الشيعة يتّخذون الكتاب مصدراً رئيسياً في العقيدة والتشريع كما يتّخذون سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدراً رئيسياً ثانياً ويعملون بحكم العقل في المجال الذي له صلاحية القضاء ، ويتّخذون من الاجماع دليلاً فيما لو كشف عن الدليل الشرعي وهذا ممّا لا شك فيه.

ولكن انّ في الكتاب عمومات ومطلقات وقد خصّصت في السنّة كما أنّ فيه مجملات تطلب لنفسها بياناً من السنّة ، والشيعة ترجع إلى أئمّة أهل البيت في هاتيك الموارد لأجل أنّ كلامهم وقولهم هو كلام وقول النبي الأكرم وهناك مسائل مستحدثة واُمور طارئة لا يجد لها الفقيه حلولا في السنّة النبوية. لأنّها طرأت بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام أئمة أهل البيت بالاجابة عنها من غير فرق بين مجالي الالتزام والعمل.

هذا هو مذهب الامامية وعلى ذلك جرى سلفهم وخلفهم من عصر أميرالمؤمنين إلى يومنا هذا.

إنّ انتماء الشيعة الامامية إلى أئمّة أهل البيت أظهر من الشمس ، وقد تعرّفت على الرواة الثقات الذين أخذوا الاُصول والفروع عن الباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ، كما تعرّفت على الجوامع التي دوّنها أصحابهم في تلك العصور وكانت الجوامع مفزعاً للشيعة في عصر الأئمة ، حتّى عصر الغيبة لأنّها تحتوي علوم أهل البيت عليهم‌السلام.

ولمّا كانت هذه الجوامع غير خالية عن النقص الفنّي في التبويب وغير جامعة لما تركه أئمة أهل البيت من العلوم والمعارف قام المحمدون الثلاثة بتأليف جوامع ثانوية أحسن ترتيباً وتبويباً وأكثر شمولا.

١ ـ محمّد بن يعقوب الكليني ولد في عهد امامة العسكري ( ٢٥٤ ـ ٢٦٠ ) وتوفّي عام ٣٢٩ فهو أوثق الناس في الحديث وأعرفهم به ، صنّف كتاب الكافي

٦٤٤

وهذبه في عشرين سنة (١) ولقد حصروا أحاديثه في ستة عشر الف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثا (١٦١٩٩) والصحيح منها باصطلاح المتأخرين خمسة الآف واثنان وسبعون حديثاً ، والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً ، والموثّق مائة حديث وألف حديث وثمانية عشر حديثاً ، والقويّ منها اثنان وثلاثمائة ، والضعيف منها أربعمائة وتسعة آلاف وخمسة وثمانون حديثا (٢).

وقال الشهيد في الذكرى : « إنّ ما في الكافي يزيد على ما في مجموع الصحاح الستّة للجمهور وعدّة كتب الكافي اثنان وثلاثون كتاباً » (٣).

وقال في كشف الظنون نقلاً عن الحافظ « ابن حجر » : إنّ جميع أحاديث صحيح البخاري بالمكرّر سوى المعلّقات والمتابعات على ما حرّرته وحقّقته سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديثاً ، والخالص من ذلك بلا تكرير الفا حديث وستمائة وحديثان ، وإذا انضمّ إليه المتون المعلّقة المرفوعة وهي مائة وخمسون حديثاً ، صار مجموع الخالص ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستون حديثا.

وروى ايضاً عن مسلم أنّ كتابه أربعة آلاف حديث دون المكررات وبالمكررات سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا.

وقال أبو داود في أوّل سننه : « وجمعت في كتابي هذا أربعة آلاف حديث وثمانية أحاديث في الصحيح وما يشبهه وما يقاربه » (٤).

٢ ـ محمّد بن علي بن الحسين الصدوق ( ٣٠٦ ـ ٣٨١ ) مؤلّف « من

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال برقم ١٠٢٧.

٢ ـ لؤلوة البحرين للمحدث البحراني وما ذكره عند الجمع ينقص ٧٨ حديثاً فلا حظ.

٣ ـ الذكرى ٦.

٤ ـ كشف الظنون كما في مستدرك الوسائل ٣ / ٥٤١ ، لاحظ فتح الباري في شرح أحاديث البخاري ١ / ٤٦٥.

٦٤٥

لا يحضره الفقيه » وهو الجامع الثاني للشيعة.

إنّ أحاديث كتاب الفقيه لا تتجاوز عن ٥٩٦٣ حديثاً منها ألفان وخمسون حديثاً مرسلاً.

٣ ـ محمّد بن الحسن الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) مؤلّف تهذيب الأحكام والاستبصار وعدد أحاديث الأوّل ١٣٥٩٠ (١) وعدد أحاديث الثاني ٥٥١١ حديثاً كما ذكره المؤلّف في آخر الكتاب.

هذه هي الكتب الأربعة ، المصادر المهمة عند الشيعة.

الجوامع الحديثية الأخيرة :

إنّ هناك لفيفاً من العلماء قاموا بجمع روايات الكتب الأربعة وإليك ايعاز إلى أسماء مؤلّفيها.

١ ـ محمّد بن الحسن الحر العاملي توفّي ١١٠٤ مؤلّف كتاب تفصيل وسائل الشيعة طبع في عشرين جزءاً في الفروع والأحكام فقط ، ولم يجمع ما يرجع إلى الاُصول والعقائد.

٢ ـ محمّد بن المرتضى المعروف بالفيض ١٠٩١ مؤلّف الوافي في ١٤ جزء في الفروع والاُصول والسنن والأحكام ولو طبع الكتاب طبعة حديثة لبلغ ٣٠ جزءاً.

٣ ـ المجلسي محمّد باقر ١٠٢٧ ـ ١١١٠ مؤلّف بحارالأنوار في ١١٠ أجزاء وهو من أبسط الجوامع وأكثرها شمولاً.

وهناك جوامع اُخرى طوينا الكلام عنها فمن أراد فليرجع إلى مظانّها.

__________________

١ ـ المستدرك ٣ / ٧٥٦.

٦٤٦

هذه هي المصادر التي تفزع إليها الشيعة في اُصولها وفروعها أتينا على ذكرها على وجه الاجمال ليكون القارئ على بصيرة.

هذا هو مذهب الشيعة وهؤلاء هم خلفهم وسلفهم ، ومبدأ نشوئهم ، وهذه آراؤهم وعقائدهم ، وهؤلاء أئمتهم ، وهذه بلدانهم ودولهم ، وعدد نفوسهم ، وهذه جامعاتهم وحوزاتهم ، فهم اُمّة منتشرة في العالم وبلادهم مفتوحة لكل قاصد ، وهذه كتبهم المعبّرة عن تاريخهم وعقائدهم وكيانهم وشرفهم وهذا تاريخهم المأساوي جزاءً للخدمات الجليلة التي قدموها للحضارة الإسلامية بأفكارهم وآرائهم وأقلامهم وكتبهم.

٦٤٧
٦٤٨

خاتمة المطاف :

بيان لكتّاب المقالات ومؤرخي العقائد

لقد حصحص الحق وبانت الحقيقة لذوي النصفة ونختم الكتاب بذكر اُمور مهمة ربّما مضى البحث عن بعضها في الفصول السابقة وإليك البيان.

الأوّل : إنّ التشيّع لم يكن فكرة سياسية ابتدعتها الأهواء ، وطبعته بطابع الدين ، ولا عقيدة دينية لاتمتُّ إلى الإسلام بصلة ، بل هو نفس الإسلام في مجالي العقيدة والتشريع ، جاء به النبي الأكرم في كتابه وسنّته ، وليس التشيّع إلاّ تعبيراً آخر عن الإسلام ، في إطار ولاء أهل بيته الطاهرين وتتبّع آثارهم وأقوالهم وآرائهم.

الثاني : إنّ كلّما تدين به الشيعة التزاماً وعملاً ، له مصدر متسالم على صحّته عند أهل السنّة ، وأنّهم لو نظروا إليه بعين الانصاف وطلب الحقيقة ، وابتعدوا عن كل رأي مسبق ، لوجدوا الفوارق الموجودة بين الطائفتين اُموراً واقعية لها دليل في الكتاب والسنّة ، حتّى في الاُمور التي يستنكرونها في بدء الأمر ، كالقول بالبداء ،

٦٤٩

وعصمة الامام وميلاد المهدي المنتظر ، وحياته فعلاً وكون الأئمة محصورين في اثني عشر.

الثالث : إنّ الشيعة ليست من الفرق البائدة التي خيّم الظلام عليها ، وعلى آثارهم وصارت مستورة تحت أطباق الثرى ، حتّى لا يعاب فيه التقوّل والحدس والتخمين ، وانّما هي فرقة حيّة منتشرة في العالم ولهم بلاد واسعة ، وحكومات قائمة ، وجامعات وكليات ، ومعاهد وحلقات ، ومكتبات غاصة بالكتب ، فعلى طالب الحقيقة ومؤرّخ العقائد أن يتّصل بعلمائهم عن كتب أو أن يرجع إلى الكتب المؤلّفة بايدي علمائهم الذين اجتمعت كلمتهم على وثاقته وعلمه ومعرفته ويجتنب عن الرجوع إلى كتب المتطفّلين على موائد العربية من مستشرق حاقد ، أو كاتب متحامل ، بل يجتنب عن الرجوع إلى كتاب عالم من الشيعة إذا لم تجتمع كلمتهم على وثاقته وعلمه أو صحة نظريته ، إذ في كل طائفة غال متنكّب عن الصراط ، خابط خبطة عشواء ، رفض العلماء كتابه وكلامه.

إنّ بين كل طائفة ومنهم الشيعة كاتب غال خلط الغث بالسمين ، والصحيح بالزائف ، وربّما تكون له مكانة علمية و ـ مع ذلك ـ لا يصحّ الاستناد إلى مثل ذلك الكاتب ولا إلى كتابه ، بل يطرح الشاذ ، ويؤخذ بالمجمع عليه أو المشهور بينهم.

إنّ المستند لرمي التشيّع بالاعتقاد بالتحريف في هذه الأيام هو كتاب « فصل الخطاب » الذي ألّفه الشيخ المحدّث النوري ، وجمع مواده من هنا وهناك من غير تحقيق في السند ولا تحليل في الدلالة ، ولكن الاستناد إلى هذا الكتاب ورمي طائفة كبيرة بهذه التهمة الشائنة تقوّل بالباطل ، لأنّ علماء الشيعة أنكروا هذا الكتاب

٦٥٠

على المؤلّف من أوّل يوم نشره ، وأخذوا بالردّ عليه ردّاً عنيفا (١) ولو كان تأليف ذلك الكتاب دليلاً على قول الشيعة بالتحريف فليكن كتاب « الفرقان » الذي عرّفه أحد الأزهرين المعاصرين دليلا على قول السنّة بها.

الرابع : التعرّف الصحيح على المبادئ التي تعتمد عليها كل طائفة في مجال الالتزام القلبي يحصل من خلال السبر في الكتب العقائدية الكلامية المؤلّفة بيد عمالقة الفكر منهم ، وأمّا الكتب الحديثية المعتبرة فبما أنّ فيه الصحيح والسقيم ، والمشهور والشاذ ، والمحكم والمتشابه ، فلا يصحّ الاستناد إلى رواية رويت في كتب الحديث في مجال تبيين عقائد الفرقة ، فلو وجد في الكافي الذي هو من أتقن الكتب الحديثية عند الشيعة ما يضاد المشهور بين العلماء ، لما صحّ لنا الاعتماد عليه وترك ما ذهب إليه المشهور من علمائهم ، فليس معنى كون الكتاب معتبراً انّ جميع ما ورد فيه قابل للالتزام والعمل ، وهذا أمر واضح لدى الشيعة عامة ، وإن غفل عنه كتاب تاريخ الفرق.

الخامس : إنّ هناك فرقاً بين الجوامع الحديثية عند الشيعة والصحاح عند السنّة ، فانّ الاُولى لديهم كتب معتبرة بمعنى أنّها صالحة للرجوع إليها بعد تمحيصها وتمييز الجيّد من الرديء فيها. وعلى ضوء ذلك لا يكون وجود الحديث فيها دليلاً على كون مضمونه حجّة في مفاده. وأمّا الصحاح الستّة عند السنّة فبما أنّ أكثرهم أضفى على الجميع وصف الصحة فلقائل أن يتصوّر أنّ وجود الحديث فيها دليل على كون مضمونه مذهباً لأهل السنّة.

__________________

١ ـ ردّ عليه في حياته وبعده لفيف من العلماء أخص بالذكر العلامة الحجة : الشيخ محمد هادي معرفة بكتاب أسماه صيانة القرآن عن التحريف وقد طبع وانتشر.

٦٥١

السادس : إنّ المطلوب في العقائد ، غير المطلوب في الأحكام فالغاية من الثانية هي العمل وإن لم يكن اذعان بصحّته وكونه مطابقاً للواقع ، بل يكفي قيام الدليل على جواز تطبيق العمل عليه. بخلاف الاُولى فانّ الغرض المنشود منها هو الاعتقاد والايمان ، ومن المعلوم أنّ اليقين رهن مقدّمات مفيدة لليقين ومجرّد وجود خبر حتّى الصحيح في الجوامع الحديثية لا يؤدّي إلى اليقين فلا يمكن أن يحتجّ بها في مجال العقيدة إلاّ إذا كانت مفضية إلى اليقين ، والاذعان ، والخبر الواحد ، وإن صحّ ، خال من هذا الشأن.

السابع : عرفت الشيعة بالتقيّة وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض المشاغبين والمغالطين فيقولون : بما أنّ التقيّة من مبادئ التشيّع فلا يصحّ الاعتماد بكل ما يقولون ويكتبون وينشرون إذ من المحتمل جدّاً أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرة ، ويكرّره الكاتب الباكستاني « إحسان إلهي ظهير » في كتبه الردية على الشيعة.

ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقيّة انّما هي القضايا الشخصية الجزئية أي عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في اظهار العقيدة أو تطبيق العمل عل مذهب إمام من أئمّة أهل البيت احتمال توجّه الضرر ، يصير المورد من مواردها ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتّقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الاُمور الكليّة الخارجة عن إطار الخوف فلا يتصوّر فيها التقيّة ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في النوع الثاني إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد ، بل لا ملزم للكتابة أصلاً فله أن يسكت ولا يكتب شيئا.

٦٥٢

فما يدّعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناش عن عدم عرفانهم لحقيقة التقية عند الشيعة.

والحاصل : انّ الشيعة انّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم ، ولا قدرة ومنعة تدفع عنهم ، وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلاّ في موارد خاصة.

إنّ الشيعة منذ أن تعرضوا للضغط ، عاشت عندهم التقية على مستوى الفتاوى ، ولم تعش على المستوى العملى ، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الامويين ، والحكام العباسيين ، كحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية (١).

إنّ القول بالتقية ليس شيئاً مختصّاً بالشيعة ، بل يقول به المسلمون جميعاً هذا أبو الهذيل العلاف رئيس المعتزلة يقول : إنّ المكره إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما اُكره عليه فله أن يكذب ويكون وزر الكذب موضوعاً عنه (٢).

بل يقول به كل مسلم واع ، وكل كاتب قدير وناطق مصقع ، يعيش في بلاد يسود عليه الاستبداد وسلب الحريات الاجتماعية والسياسية بمختلف اشكاله وصوره.

الثامن : لم يزل أهل السنّة يصفون المسانيد والسنن بالصحاح وربّما يغالون في حق بعض الصحاح كالبخاري بأنّه أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه. أو ليس هذا مغالاة

__________________

١ ـ الدكتور أحمد الوائلي : هوية التشيّع ٢٠٣.

٢ ـ أبو الحسن الخياط : الانتصار ١٢٨.

٦٥٣

في القول؟ وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما نتلوه عليك عن ذلك الكتاب الذي هو الأصحّ في زعمهم بعد كتاب اللّه.

١ ـ روى في تفسير سورة الاسراء انّ جبرائيل ليلة اُسري بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين ، أحدهما من لبن وآخر من خمر ، وخيّره بين شرب واحد منهما (١).

أفيصح في منطق العقل أن يأتي جبرئيل في تلك الليلة بقدح من الخمر التي وصفها رسول اللّه باُمّ الخبائث ووصفه الكتاب العزيز بأنّه من عمل الشيطان؟! ولا يصحّ لمتقوّل أن يفسّرها بخمر الجنّة التي لا سكر فيها وهو بعد في الدنيا؟

٢ ـ روى عن عائشة أنّها قالت : سحر النبي حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما يفعله (٢).

فعلى ذلك لا يحصل أي ثقة بكلام النبي وقوله ، ولأجل ذلك نرى انّ الجصاص يقول في حقّ هذه الروايات : ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين (٣).

٣ ـ وأخرج في صحيحه في كتاب الغسل باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة في الليل والنهار وهنّ إحدى عشرة ، قال : قلت لأنس : أو كان يطيقه؟ قال : كنّا نتحدّث أنّه اُعطي قوّة ثلاثين (٤).

إنّ النبي الأكرم كان يقضي ليلة بالتهجّد والعبادة ، قال سبحانه : ( إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثَىِ الَّيْلِ أو نِصْفَهُ وثُلُثَهُ وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) (٥)

__________________

١ ـ البخاري ج ٤ باب صفة إبليس وجنوده.

٢ ـ أحمد بن حنبل : المسند ٦ / ٥.

٣ ـ الجصاص : احكام القرآن ١ / ٥٥.

٤ ـ البخاري : الصحيح ٦ / ١٣.

٥ ـ المزّمّل / ٢٠.

٦٥٤

وما جاء في الرواية انّما يلائم حال الخلفاء الامويين والعباسيين الذين كانت قصورهم تزخر بالجواري والنساء وحاشا النبي الأكرم الذي عبداللّه سبحانه حتّى تورّمت قدماه ونزل قوله سبحانه : ( طه * ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى إلاّ تَذْكِرَهً لِمَنْ يَخْشى ) (١).

إنّ الرواية وضعت لتبرير أعمال هؤلاء الذين يعرّفهم الامام في كتابه إلى عامله بالبصرة ، عثمان بن حنيف ويقول : « كالبهيمة المربوطة ، همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها » (٢) ولا يهمهم سوى ارضاء البطن والفرج.

٤ ـ والعجب أنّه روي عن عائشة خلاف ذلك وأنّه لم يكن للنبي الأكرم الطروقة وقوة النكاح وكثرة الجماع قالت : إنّ رجلاً سأل رسول اللّه ، عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل ( لا ينزل منه المني ) هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل (٣).

حاشا نبيّ العظمة والقداسة أن يتفوّه بحضرة زوجته ما لا يتكلّم به إلاّ الإنسان الماجن ، المنهمك في الشهوات البهيمية ، واللّه سبحانه يصف حياءه بقوله : ( فَإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ولا مُسْتَأْنِسينَ لِحَديثٍ إنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْيِى مِنْكُمْ واللّهُ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الحَقِّ ) (٤).

هذه نماذج من الأحاديث الواردة في أصح الكتب عند أهل السنّة ، لا أظن أنّ من يملك شيئاً من الدراية يحتمل صحّتها ، وهذا يدفع كلّ مسلم واع إلى دراسة هذه الكتب من جديد ، وتنزيه الحديث النبوي عن هذه الأباطيل ، ولعلّك إذا رجعت إلى

__________________

١ ـ طه / ١ ـ ٢.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، قسم الكتب ٤٥.

٣ ـ مسلم : الصحيح ١ / ١٨٦ باب وجوب الغسل بالتقاء الختانين.

٤ ـ الأحزاب / ٥٣.

٦٥٥

الجزء الأوّل من موسوعتنا في مجال التوحيد والتنزيه تجد هناك أحاديث لا يصدقها العقل ولا النقل.

التاسع : لقد ذكر أبو زهرة سبب نمو المذهب الامامي ، وقال :

« لقد نما هذا المذهب وانتشر لأسباب :

١ ـ إنّ باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة ، وهذا يفتح باب الدراسة لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والننفسية.

٢ ـ كثرة الأقوال في المذهب ـ أي في المسائل الفقهية النظرية ـ واتّساع الصدر للاختلاف مادام كل مجتهد يلتزم المنهاج المسنون ، ويطلب الغاية التي يبتغيها من يريد محص الشرع الاسلامي ، خالصاً غير مشوب باية شائبة من هوى.

٣ ـ إنّ المذهب الجعفري قد انتشر في أقاليم مختلفة الألوان من الصين إلى بحر الظلمات حيث اوربا وما حولها ، وتفريق الأقاليم التي تتباين عاداتهم وتفكيرهم وبيئاتهم الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. إنّ هذا يجعل المذهب كالنهر الجاري في الأرضين المختلفة الألوان ، يحمل في سيره ، ألوانها وأشكالها من غير أن تتغير في الجملة عذوبته.

٤ ـ كثرة علماء المذهب الذين يتصدّون للبحث والدراسة وعلاج المشاكل المختلفة ، وقد آتى اللّه ذلك المذهب من هؤلاء العلماء عدداً وفيراً عكفوا على دراسة وعلاج المشاكل على مقتضاه (١).

العاشر : نجد بعض المشاغبين يتّهمون الشيعة بالقول بالتحريف ، بحجة أنّ لدى الشيعة مصحفاً باسم « مصحف فاطمة » واختصاصه بها كاشف عن مغايرته مع المصحف الرائج.

__________________

١ ـ أبو زهرة : الامام الصادق ، بتلخيص محمّد جواد مغنية في كتابه الشيعة والتشيّع ٢٢٥.

٦٥٦

إنّ هذا المشاغب ، لم يقرأ تاريخ الشيعة ولم يقف على كلمات أئمتهم حول هذا المصحف. وزعم أنّ المصحف بمعنى القرآن ، وغفل عن أنّ المقصود منه ، هو الكتاب قال سبحانه : ( وأذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) (١) وقد أملى النبيّ الأكرم في مجالي العقيدة والتشريع والملاحم اُموراً على ابنته وزوجها فجمعت في « صحف مكرمة » ، سميت مصحف فاطمة. وهذا هو الامام الصادق حفيد فاطمة الطاهرة وهو من أهل البيت ، وهم أدرى بما في البيت ، يحدّثنا عن هذا المصحف ويقول : عندنا مصحف فاطمة أما واللّه ما فيه حرف من القرآن ولكنّه املاء من رسول اللّه.

روى الكليني انّ المنصور سأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة فما أجابه عنها إلاّ الإمام الصادق ولمّا سَئِل من أين أخذ هذا؟ قال : من كتاب فاطمة (٣).

نرى انّ الامام يعبّر عن مصحف فاطمة بكتاب ، مشيراً إلى أنّه كتاب لا قرآن يختص به.

فإذا كان الغرض هو التعرّف على الواقع فهذا هو الواقع. وإن كان الهدف هو الشغب فالاُولى بهذه النسبة هي عائشة ، روى السيوطي أنّه قالت حميدة بنت أبي يونس : قرأ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة : انّ اللّه وملائكته يصلّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما وعلى الذين يصلّون في الصفوف الاُولى (٢).

__________________

١ ـ التكوير / ١٠.

٢ ـ الكليني الكافي ٣ / ٥٠٧ ط طهران.

٣ ـ الاتقان ٢ / ٢٥.

٦٥٧

هذه من الشيعة الامامية وهذا تاريخها المشرق وهؤلاء أئمتها أئمة أهل البيت وهذه عقائدها الوضّاءة ، وهؤلاء علماؤها وأبطالها المشاركون في بناء الحضارة الإسلامية وهذه وهذه وهذه.

فماذا بعد الحق إلاّ الضلال. نسأله سبحانه أن يتفضّل علينا بتوحيد الكلمة كما أولانا بكلمة التوحيد إنّه خير مدعو وخير مجيب وصلّى اللّه على سيدنا محمّد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

وآخر دعوانا أن الحمد اللّه رب العالمين.

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

جعفر السبحاني

٦٥٨

الفهارس

٦٥٩

٦٦٠