بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

به عزّا. قد ألبسناه اللّه وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتّى كفى اللّه المهم من ذلك ، وأضافوا : انّه صبي لا معرفة له فامهلة حتى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ماترى.

قال المأمون : ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى والهامه. ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله ، قالوا : رضينا فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك ، واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر عليه‌السلام فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال : إستأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال : سل إن شئت.

فقال : ما تقول جعلت فداك في مُحْرم قتل صيدا؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبدا؟ صغيراً كان أو كبيرا؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادما؟ ليلا كان قتله للصيد أم نهارا؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟ فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.

فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ قال لأبي جعفر عليه‌السلام : اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وانا مزوّجك

٥٠١

اُم الفضل ابنتي (١).

ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن اصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً ، فإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبيا فعليه شاة ، فان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكّة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون : أحسنت يا أبا جعفر ... (٢).

رجوع الجواد إلى المدينة :

ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن اقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم ، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي

__________________

١ ـ الارشاد ٣١٩ ـ ٣٢١ وإعلام الورى ٣٥٢ وللقصّة صلة فراجع.

٢ ـ المفيد : الارشاد ٣٢٢.

٥٠٢

مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدمه إلى بغداد سنة ٢٢٠ (١) وتوفّي في بغداد آخر ذي القعدة من تلك السنة وله من العمر ٢٥ سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش.

وأمّا الرواة عنه فقد ذكرهم ابن شهر آشوب في مناقبه فقال : من ثقاته أيوب ابن نوح بن دراج الكوفي ، وجعفر بن محمّد بن يونس الأحول ، والحسين ابن مسلم بن الحسن ، والمختار بن زياد العبدي البصري ، ومحمّد بن الحسين أبي الخطاب الكوفي.

ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري ، ونوح بن شعيب البغدادي ، ومحمّد بن أحمد المحمودي ، وأبو يحيى الجرجاني ، وأبوالقاسم إدريس القمّي ، وعلي بن محمّد بن هارون بن الحسن بن محبوب ، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ، وأبو علي بن بلال وعبداللّه بن محمّد الحضيني ، ومحمّد بن الحسن بن شمعون البصري وقال في موضع آخر : وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره ، ومحمّد بن منده بن مهربذ في كتابه (٢).

هذا فقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عن الامام الجواد عليه‌السلام أسماه « مسند الامام الجواد » وقد ذكر أسماء الرواة عنه من

__________________

١ ـ وفي الارشاد ٣٢٦ وفي إعلام الهدى ٣٠٤ : وكان سبب ورود الامام إلى بغداد وإشخاص المعتصم له من المدينة فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة ٢٢٥ ... ثمّ يقول : وكان له يوم قبض ٢٥ سنة.

ولا يخفى انّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة ٢٢٥ يكون له يوم وفاته ٣٠ سنة من العمر لأنّه ولد عام ١٩٥.

٢ ـ ابن شهر آشوب : المناقب ٤ / ٢٥٨.

٥٠٣

المحدّثين والفقهاء الذين يربو عددهم على ١٢١ شخصا. شكر اللّه مساعيه.

وسلام اللّه على إمامنا الجواد يوم ولد ويوم مات أو استشهد بالسم ويوم يبعث حيّا.

٥٠٤

الامام العاشر :

أبوالحسن علي بن محمّد الجواد بن علي الرضا عليهم‌السلام

الهادي

الامام علي الهادي ، هو الامام العاشر ، والنور الزاهر ، ولد عام ٢١٢ هـ وتوفّي بسامراء سنة ٢٥٤ هـ وهو من بيت الرسالة والامامة ومقر الوصاية والخلافة ، وثمرّة من شجرة النبوّة ، قام بأمر الامامة بعد والده الامام الجواد ، وقد عاصر خلافة المعتصم فالواثق ، فالمتوكل فالمنتصر ، والمستعين ، والمعتز ، وله مع هؤلاء قضايا لا يقتضي المقام ذكر البعض فكيف الكل.

قال ابن شهر آشوب : كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمَت ، عَلتْه هيبة الوقار ، وإذا تكلّم سماه البهاء (١)!

__________________

١ ـ مناقب آل أبي طالب ٤ / ٤٠١ طبع قم.

٥٠٥

وقال عماد الدين الحنبلي : كان فقيهاً إماماً متعبّداً (١).

وقال المفيد : تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن علي بن محمّد ، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالامامة ، والاشارة إليه من أبيه بالخلافة (٢).

وقدتضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا ، فمن اراد فليرجع إلى الكافي واثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك (٣).

وقد مارس المتوكّل نفس الاسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثم أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الاقامة في مقرّ الخلافة وجعل العيون والحرّاس عليهم حتّى يطلعوا على دقيق حياتهم وجليلها ، وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين وأشدّهم عداءً لعليّ فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة ومكانته هناك ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ، فدعى يحيى بن هرثمة ، وقال : إذهب إلى المدينة ، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.

قال يحيى : فذهبت إلى المدينة. فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله ، خوفاً على علي الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ، لأنّه كان مُحْسِنا اليهم ، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. قال يحيى : فجعلت اُسكِّنهم وأحْلِف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه ، وانّه لا بأس عليه ، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته ، فلمّا قدمت به بغداد ، بدأت بإسحاق بن

__________________

١ ـ شذرات الذهب ٢ / ١٢٨ في حوادث سنة ٢٥٤.

٢ ـ الارشاد ٣٢٧.

٣ ـ الكليني ، الكافي ١ / ٣٢٣ ـ ٣٢٥ ، الشيخ الحر العاملي : اثبات الهداة ٣ / ٣٥٥ ـ ٣٥٨.

٥٠٦

إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللّه ، والمتوكل مَنْ تَعْلَم ، فإن حرّضته عليه قتله ، وكان رسول اللّه خصمك يوم القيامة. فقلت له : واللّه ما وقعت منه إلاّ على كلّ أمر جميل ، ثمّ صرت به إلى « سرّ من راى » ، فبدأت بـ « وصيف » التركي ، فأخبرته بوصوله ، فقال : واللّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك ، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلاّ المصاحف وكتب العلم وأنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه سامراء (١).

ومع انّ الامام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكل ، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب ، وشي إلى المتوكل بعلي بن محمّد أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم وأنّه عازم بالوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهاجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ، ووجدوه في بيت مغلق عليه وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك ، إلى المتوكل ، قالوا للمتوكل : لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشراب فاُدخل عليه والكأس في يد المتوكل ، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فقال : واللّه ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني ، فأعفاه ، فقال له : أنشدني شعراً ، فقال علي : أنا قليل الرواية للشعر ، فقال : لابد ، فأنشده وهو جالس عنده :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنلزوا بعد عزّ من معاقلهم

واُسْكِنُوا حُفراً يابئس ما نزلوا

__________________

١ ـ سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص ٣٢٢.

٥٠٧

ناداهم صارخ من بعد دفنهم

أين الأسرّة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعّمة

من دونها تضرب الأستار والكل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل (١)

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكِلوا

فبكى المتوكّل حتّى بلّتْ لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون ورفع إلى علي أربعة آلاف دينار ثم ردّه إلى منزله مكرماً (٢).

آثاره العلمية :

روى الحفّاظ والرواة عن الامام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة ، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم وبثّها الحرّ العاملي في وسائل الشيعة على أبواب مختلفة ، وممّا نلفت إليه النظر انّ للإمام رسائل.

١ ـ رسالته في الرد على الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في كتابه (٣).

٢ ـ أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله ، وهذه أيضا أوردها في تحف العقول.

٣ ـ قطعة من أحكام الدين ، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب.

ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاص من تفسير الامام نأتي بنموذج من تفسيره :

__________________

١ ـ ربما يروى « ينتقل ».

٢ ـ المسعودي : مروج الذهب ٤ / ١١.

٣ ـ تحف العقول ٣٣٨ ـ ٣٥٢.

٥٠٨

قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الايمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الامام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يضرب حتّى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ( فَلمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشركينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعْهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بأسنا سُنَّة اللّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ في عبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ ) (١) ، فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات (٢).

وفاته :

توفّي أبوالحسن عليه‌السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّ من رأى ، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه هو الإمام من بعده والحسين ومحمّد وجعفر وابنته عايشة ، وكان مقامه بسرّ من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر ، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة (٣).

وقد ذكر المسعودي في اثبات الوصيّة ، تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري. فمن أراد فليراجع.

__________________

١ ـ غافر / ٨٤ ـ ٨٥.

٢ ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب ٤ / ٤٠٣ ـ ٤٠٥.

٣ ـ الإرشاد ٣٢٧.

٥٠٩

الرواة عن الامام الهادي :

ذكر ابن شهر آشوب في المناقب مشاهير الرواة عنه (١) ، وذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم ١٨٥ شخصاً (٢) ثمّ إنّ الشيخ المعاصر العطاردي قام بجمع ما روي عنه في مجالات شتى فأسماه « مسند الإمام الهادي » شكر اللّه سعيه.

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ٤٠٢.

٢ ـ رجال الشيخ الطوسي ٤٠٩ ـ ٤٢٧.

٥١٠

الإمام الحادي عشر :

أبو محمّد الحسن بن علي الهادي عليهما‌السلام

العسكري

أبو محمّد : الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد ، أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر ، الملقّب بالعسكري ولد عام ٢٣٢ (١) ، وقال الخطيب في تاريخه (٢) وابن الجوزي في تذكرته (٣) أنّه ولد عام ٢٣١ ، وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة ٢٣٦ ، وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور وقام بأمر الامامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز تقدّمه

____________

١ ـ الكليني : الكافي ١ / ٥٠٣.

٢ ـ الخطيب : تاريخ بغداد ٧ / ٣٦٦.

٣ ـ سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ٣٢٢.

٥١١

على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة (١) روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين ما يربو على ١٥٠ شخصاً (٢) وتوفّي عام ٢٦٠ ، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء.

وخلّف إبنه المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت ، وشدّة طلب السلطة ، واجتهادها في البحث عن أمره ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم ، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.

وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر ويراد به سرّ من رأى الذي بناها المعتصم ، وانتقل إليها بعسكره ، وأمّا نسبة الإمام إليه لأنّ المتوكّل أشخص اباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنسب هو وولده إليها (٣).

وقال السبط ابن الجوزي : كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز.

ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزىّ في كتابه المسمّى بتحريم الخمر ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى ابائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول : اشهد باللّه لقد سمعت محمّداً رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أشهد باللّه لقد سمعت جبرائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت ميكائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت إسرافيل يقول : أشهد باللّه على اللوح المحفوظ انّه قال : سمعت اللّه يقول « شارب الخمر كعابد الوثن » (٤).

__________________

١ ـ المفيد : الارشاد ٣٣٥.

٢ ـ العطاردي : مسند الامام العسكري وقد جمع فيه كل ما روي عنه وأسند إليه.

٣ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٢ / ٩٤.

٤ ـ تذكرة الخواص ٣٢٤.

٥١٢

إنّ الإمام أسند الحديث إلى النبيّ الأكرم ولعلّ السبط ابن الجوزي زعم انّه مختص بهذا المورد ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فإنّ أحاديث أئمّة أهل البيت مروية كلها عن النبىّ الأكرم ، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلاّ ما وصل إليهم عن النبىّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق آبائهم وأجدادهم ، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية ، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممّن يعتمدون على آرائهم الشخصية وهو في قياسه خاطئ ، فهم منذ نعومة أظفار هم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول اللّه وراثة غيبية لا يعلم كنهه إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم.

وهذا جابر الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه‌السلام : إذا حدّثتني بحديث فأسنده لك؟ فقال : حدّثني أبي عن جدّي عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى ، فكل ما اُحدثك بهذا الإسناد. ثمّ قال : لحديث واحد تأخذه من صادق عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها (١).

وروى حفص ابن البختري ، قال : قلت لأبي عبداللّه الصادق عليه‌السلام : أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك؟ فقال : ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

فأئمة المسلمين على حد قول القائل :

__________________

١ ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة ج ١٨ ، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي الحديث ٦٧.

٢ ـ المصدر نفسه ، الحديث ٨٦.

٥١٣

ووال اناسا نقلهم وحديثهم

روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ولقد عاتب الامام الباقر عليه‌السلام سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : شرقّا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ أشياء خرج من عندنا أهل البيت.

رغم أنّ الخلفاء وضعوا الامام تحت الاقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيساً ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحاديث جمّة في شتى المجالات نذكر أسماء الرواة عنه :

قال ابن شهرآشوب : من ثقاته علي بن جعفر ، وأبو هاشم ، داود بن القاسم الجعفري وقد أدرك خمسة من الأئمّة عليهم‌السلام وداود بن أبي يزيد النيسابوري ، ومحمّد بن علي بن بلال ، وعبداللّه بن جعفر الحميري القمّي ، وأبو عمر عثمان ابن سعيد العمري ، وإسحاق بن ربيع الكوفي ، وأبو القاسم جابر بن اليزيد الفارسي ، وإبراهيم بن عبدة بن إبراهيم النيسابوري و ... (١).

ثمّ إنّ الكلام في أخلاقه وأطواره ، ومناقبه وفضائله ، وكرمه وسخائه ، وهيبته ، وعظمته ، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة. وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب ، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماءنا الأبرابر بيد أنّا نشير هنا إلى لمحة من علومه :

١ ـ لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً ويساراً وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولا ، ولكن الامام عليه‌السلام يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله.

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ٤٢٣.

٥١٤

فقال اللّه : ( الم ذلِك الكتابُ ) ( فقل ) يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها « الف » ، « لام » ، « ميم » وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن انّه لا يقدرون عليه بقوله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا ) ـ الإسراء / ٨٨ ـ (١).

وقد روي هذا المعنى عن أبيه الامام الهادي عليه‌السلام (٢).

٢ ـ كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون : إنّكم تقولون في صلواتكم : ( اهدِنا الصِّراط المُسْتقيم ) أولستم فيه؟

فما معنى هذه الدعوة؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال : « أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا ».

ثمّ فسّر الصراط بقوله : الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة (٣).

وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الامام العسكري ونسبوا إلى الأئمّة الهداة اُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركّز الامام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير.

__________________

١ ـ الصدوق : معاني الأخبار ٢٤ ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.

٢ ـ الكليني : الكافي ج ١ كتاب العقل والجهل الحديث ٢٠ / ٢٤ ـ ٢٥.

٣ ـ الصدوق : معاني الأخبار ٣٣.

٥١٥

٣ ـ ربّما يغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه : ( صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم ) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كل هذا نعمة من اللّه ، ولكن المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم ولا الضّالِّين ) هو نعمة التوفيق والهداية.

ولأجل ذلك نرى انّ الامام يفسّر الأنعام بقوله : « قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّقينَ والشُّهَداءِ والصّالِحينَ وحَسُنَ اُولئِكَ رفيقاً ) ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة » (١).

٤ ـ لقد تفشّت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء ، قبل أن تخلق استلهاماً من بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتابِ ) (٢) فقال : هل يمحو إلاّ ما كان وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. إنّه لا يعلم الشيء حتّى يكون ، فنظر إلىَّ شزرا ، وقال :

« تعالى اللّه الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه » (٣).

__________________

١ ـ الصدوق : معاني الأخبار ٣٦.

٢ ـ الرعد / ٣٩.

٣ ـ المسعودي : اثبات الوصية ٢٤١.

٥١٦

حصيلة البحث :

هولاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم بل أئمة المسلمين جميعاً ، وكيف لا يكونون كذلك؟ وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الاُمّة على التمسّك بهما وقال : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً (١).

ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين وإنّما استعانوا في تفسيره باُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقون غبارهم ، نظراء مجاهد بن جبر ( ت ١٠٤ ) وعكرمة البربري ( ت ١٠٤ ) وطاووس بن كيسان اليماني ( ت ١٠٦ ) وعطاء بن أبي رباح ( ت ١١٤ ) ومحمّد بن كعب القرظي ( ت ١١٨ ) إلى غير ذلك من اُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت ـ صلوات اللّه عليهم ـ ...

فالإسلام عقيدة وشريعة ، فالنجاة عن الضلال ـ حسب مفاد حديث الثقلين هو الرجوع إليهما وأمّا غيرهما فإن رجع إليهما فنعم المطلوب وإلاّ فلا قيمة له ـ أمّا الصحابة والتابعون ، فلا يعتد برأيهم إلاّ إذا كان مأخوذاً عن كتابه سبحانه أو سنّة نبيّه ، وليس حديث أئمّة أهل البيت إلاّ إشراقاً خالداً لحديث جدّهم الأكرم وسنّته.

__________________

١ ـ رواه غير واحد من أصحاب الصحاح والمسانيد وهو من الأحاديث المتواترة ، ( لاحظ نشرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. حول هذا الحديث ، ترى اسنادها موصولة إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥١٧
٥١٨

الإمام الثاني عشر :

الخلف الصالح

المهدي صاحب الزمان ( عجل اللّه تعالى فرجه)

هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة ، الخلف الصالح ، ولد عليه‌السلام بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين ، آتاه اللّه الحكم صبيّا كما حدث ليحيى قال سبحانه : ( يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّة وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّا ) (١) وجعله إماماً وهو طفل ، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه : ( إنِّى عَبْدُ اللّهِ آتانِىَ الكِتابَ وَجَعَلنِى نَبِّيا ) (٢) وقد تواتر النص عليه من النبيّ الأكرم وآبائه

__________________

١ ـ مريم / ١٢.

٢ ـ مريم / ٣٠.

٥١٩

الكرام.

اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ، والجور ، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق ، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون ، فهو بإذن اللّه ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللّه ، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية ، ويمحي أسباب العداء ، والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الاُمّة ، وافتراق الكلمة ، ويحقق به سبحانه بظهوره ، وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :

١ ـ ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْركُونَ بِى شَيْئاً وَمنْ كَفَرَ بَعَدَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) (١).

٢ ـ ( وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثِينَ ) (٢).

٣ ـ ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ ) (٣).

ويأتي عصر ذهبي لا يبقى فيه على الأرض بيت إلاّ ودخلته كلمة الإسلام ولا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها بشهادة « لا إله إلاّ اللّه » بكرة وعشيا.

__________________

١ ـ النور / ٥٥.

٢ ـ القصص / ٥.

٣ ـ الأنبياء / ١٠٥.

٥٢٠