بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

إنّك إذا تتّبعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها ، كلّها تعرب عن اتّفاق الأمّة على إمامته في العلم والقيادة الروحية وإن اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل اللّه عزّوجلّ ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظراً إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها (١).

إنّ الامام قام بهداية الاُمّة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار ، واشتعلت فيه نار الحرب بين الامويين ومعارضيهم من العباسيين ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغلّ الامام الفرصة فنشر من أحاديث جدّه ، وعلوم آبائه ما سارت إليه الركبان وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء. ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف آرائهم ومقالاتهم فكانوا أربعة آلاف رجل (٢) وهذه فضيلة رابية لم تكتب لأحد من الأئمّة قبله ولا بعده.

إنّ الامام عليه‌السلام قام بالتحديث عن جدّه وآبائه عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الغفلة التي استمرّت إلى عام ١٤٣ (٣) وقد اختلط الصحيح بالضعيف وتسرّب إلى السنّة الاسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات بالاضافة إلى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الاموي. وبالامام عرفوا الصحيح من الزائف ، والحقيقة من الباطل فأخذوا عنه الحكم والأحاديث النبويّة ولو نهلت الاُمّة من مناهل علمه وتركوا الروايات التي رواها الوضّاعون والكذّابون. لما ابتلت الاُمة بمصائب الحديث التي تركها الرواة على جبين الدهر وترى كثيراً من هذه المصائب في الصحاح والمسانيد

____________

١ ـ لاحظ الكافي ١ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧ وإثبات الهداة للحر العاملي ٥ / ٣٢٢ ـ ٣٣٠.

٢ ـ الارشاد ٢٧٠ والمناقب لابن شهر آشوب ٤ / ٢٤٧.

٣ ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، خلافة المنصور الدوانيقي فقد حدّد تاريخ التدوين بسنة ١٤٣.

٤٨١

خصوصاً في صحيح البخاري.

والعجب انّ الامام البخاري ، احتجّ بمثل مروان بن الحكم ، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ولم يرو عن الامام الصادق عليه‌السلام.

أمّا الأوّل فهو الوزغ ابن الوزغ ، اللعين ابن اللعين على لسان رسول اللّه ، وأمّا الثاني فهو الخارجي المعروف الذي أثنى على ابن ملجم بشعره لا بشعوره ، وأمّا الثالث فكان ينتقص عليّاً وينال منه ومع ذلك لم نجد رواية للبخاري عن الامام الصادق ونعم ما قال القائل :

قضية أشبه بالمرزئة

هذا البخاري إمام الفئة

بالصادق الصدّيق ما احتجّ في

صحيحه واحتجّ بالمرجئة

ومثل عمران بن حطان أو

مروان وابن المرأة المخطئة

مشكلة ذات عوار إلى

حيرة أرباب النهى ملجئة

انّ الامام الصادق المجتبى

بفضله الآي أتت منبئة

أجلّ من في عصره رتبة

لم يقترف في عمره سيّئة

قلامة من ظفر ابهامه

تعدل من مثل ... مئة (١)

إنّ للامام الصادق وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام التي تتجاوز عشرات آلاف ، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره والمتقشفين من الصوفية ضبط المحققون كثيراً منها وهي في حد ذاتها ثروة علمية تركها الامام عليه‌السلام أمّا الرواية عنه في الأحكام فقد روى عنه أبان بن تغلب ٣٠ ألف حديث.

حتّى انّ الحسن بن علي الوشاء قال : أدركت في هذا المسجد ( مسجد الكوفة )

__________________

١ ـ النصايح الكافية لمن يتولى معاوية ، كما في أعيان الشيعة ١ / ٦٦٧.

٤٨٢

تسعمائة شيخ كل يقول حدّثني جعفر بن محمّد. ( كان عليه‌السلام يقول : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديث رسول اللّه قول اللّه عزّوجلّ ) (١).

وأمّا ما اثر عنه في المعارف والعقائد فحدّث عنه ولا حرج ولا يسعنا نقل حتّى القليل منه ومن اراد فليرجع إلى مظانّه (٢).

وأمّا حكمه وقصار كلمه. فلاحظ تحف العقول. وأمّا رسائله فكثيرة منها رسالته الي النجاشي ، والي الأهواز ، ومنها رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال ، ومنها ما أملاه في التوحيد للمفضل بن عمر إلى غير ذلك من الرسائل التي رسمها بخطّه (٣).

ولمّا توفّي الامام شيّعه عامّة الناس في المدينة وحمل إلى البقيع وقد أنشد فيه أبو هريرة العجلي قوله :

أقول وقد راحوا به يحملونه

على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى

ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه

ترابا وأولى كان فوق المفارق

فسلام اللّه عليه يوم يولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.

__________________

١ ـ الرجال للنجاشي ١٣٩ برقم ٧٩.

٢ ـ الاحتجاج ٢ / ٦٩ ـ ١٥٥ والتوحيد للصدوق وقد بسطها على أبواب مختلفة.

٣ ـ ولقد جمع أسماء هذه الرسائل السيد الأمين في أعيانه ١ / ٦٦٨.

٤٨٣
٤٨٤

الإمام السابع :

أبوالحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام

الكاظم

سابع أئمّة أهل البيت الطاهر. ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في ٧ صفر سنة ١٢٨ واستشهد بالسم في سجن الرشيد عام ١٨٣ ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية.

يعرف بالعبد الصالح ، وبالكاظم ، والصابر ، والأمين.

هو الإمام الكبير القدر والأوحد الحجة الحبر ، الساهر ليله قائما ، القاطع نهاره صائما ، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظما.

قال الشيخ المفيد : هو الإمام بعد أبيه ، والمقدّم على جميع بنيه لاجتماع خصال الفضل فيه ، وورود صحيح النصوص وجلي الأقوال عليه من أبيه بأنّه ولي

٤٨٥

عهده والإمام القائم من بعده (١).

إنّ الكلام في خلقه ، وحلمه ، وكظمه الغيظ ، وفي مناقبه وفضائله ، وفي تواضعه ومكارم أخلاقه ، وكرمه وسخائه ، وشدّة خوفه من اللّه سبحانه ، وكثرة صدقاته ، وأخباره مع الرشيد وأخيراً في القاء القبض عليه من قبله ، وحبسه في ظُلم السجون قرابة سبع سنين واستشهاده ، يحتاج إلى تأليف مفرد قام به المحققون ونحن نترك البحث في جميع ذلك ونشير إلى بعض الجوانب خصوصاً في ما يتعلق بعلمه والذين تخرّجوا على يده من الشيعة والسنّة حتّى يقف القارئ على انّه إمام الكل.

١ ـ روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال : حجّ هارون الرشيد فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زائراً وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر ولمّا انتهى إلى القبر قال : السلام عليك يا رسول اللّه يابن عمّي ـ افتخاراً على من حوله ـ ، فدنى موسى بن جعفر فقال : السلام عليك يا أبة ، فتغيّر وجه الرشيد وقال : هذا الفخريا أبا الحسن حقّاً (٢).

٢ ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أنّ هارون كان يقول لموسى بن جعفر : خذ فدكاً ـ وهو يمتنع عليه ـ ، فلمّا ألحّ عليه قال : ما آخذها إلاّ بحدودها قال : وما حدودها؟ قال : الحد الأوّل عدن ـ فتغيّر وجه الرشيد ـ قال : والحد الثاني؟ قال : بسمرقند ـ فأربد وجهه ـ قال : والحد الثالث؟ قال : أفريقيا قال : والحد الرابع؟ قال : سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينيا فقال هارون : فلم يبق لنا شيء فتحوّل من

__________________

١ ـ لاحظ للوقوف على تلك النصوص الكافي ١ / ٣٠٧ ـ ٣١١ ، إثبات الهداة ٣ / ١٥٦ ـ ١٧٠ فقد نقل في الأخير ٦٠ نصّاً على إمامته.

٢ ـ وفيات الأعيان ٥ / ٣٠٩.

٤٨٦

مجلسي فقال موسى : قد أعلمتك انّي إن حدّدتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله واستكفى أمره (١).

٣ ـ كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس ويخرّ للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس وكان يدعو كثيرا. فيقول : اللّهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرّر ذلك ، وكان من دعائه عليه‌السلام : عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضل لحيته بالدموع وكان أوصل الناس لأهله ورحمه وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والادقة والتمور فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو (٢).

٤ ـ في تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة : قال أبو حنيفة : حججت في ايام أبي عبداللّه الصادق عليه‌السلام فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت : يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم؟ قال : على رسلك. ثمّ جلس مستنداً إلى الحائط ، ثمّ قال : توقَّ شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية المساجد ، وقارعة الطريق ، وتوار خلف جدار ، وشل ثوبك ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها وضع حيث شئت ، فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له : ما اسمك؟ فقال : أنا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقلت له : يا غلام ممّن المعصية؟ فقال : إنّ السيّئات لاتخلو من احدى ثلاث : إمّا أن تكون من اللّه وليست من العبد فلا ينبغي للرب أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب ، وإمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي

__________________

١ ـ الزمخشري : ربيع الأبرار ، كما في أعيان الشيعة ٢ / ٨.

٢ ـ المفيد : الارشاد ٢٩٦.

٤٨٧

للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه ، فإن عفا فكرمه وجوده وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته ، قال أبو حنيفة : فانصرفت ولم ألق أبا عبداللّه واستغنيت بما سمعت. ورواه ابن شهر آشوب في المناقب نحوه إلاّ أنّه قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار وقال : فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني ، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث : فقلت : ذرّية بعضها من بعض (١).

٥ ـ روى أبو الفرج الاصفهاني : حدثنا يحيى بن الحسن قال : كان موسى من جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير. وكان صراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلا.

وقال : إنّ رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب إذا رأى موسى بن جعفر ، ويؤذيه إذا لقيه ، فقال له بعض مواليه وشيعته : دعنا نقتله ، فقال : لا ، ثمّ مضى راكباً حتّى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره ، فصاح : لا تدس زرعنا.

فلم يصغ إليه وأقبل حتّى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا؟ قال : مائة درهم ، قال : فكم ترجو أن تربح؟ قال : لا أدري ، قال : إنّما سألتك كم ترجو. قال : مائة اُخرى. قال : فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له فقام فقبّل رأسه ، فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

وكان بعد ذلك كلّما دخل موسى خرج وسلّم عليه ويقوم له. فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله : أيّما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت؟ (٢).

__________________

١ ـ تحف العقول ٣٠٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ / ٣١٤.

٢ ـ مقاتل الطالبيين ٤٩٩ ـ ٥٠٠ ، تاريخ بغداد ١٣ / ٢٨.

٤٨٨

٦ ـ حكي انّ الرشيد سأله يوماً : كيف قلتم نحن ذرّية رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنتم بنو علي وانّما ينسب الرجل إلى جدّه لأبيه دون جدّه لاُمّه؟ فقال الكاظم عليه‌السلام : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بِسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم : ( ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسلَيْمانَ وأيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهرون وَكَذلكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ * وَزكريّا وَيحْيى وعيسى وألْياسَ ... ) وليس لعيسى أب إنّما اُلحق بذريّة الأنبياء من قبل اُمّه وكذلك اُلحقنا بذريّة النبي من قبل اُمّنا فاطمة الزهراء ، وزيادة اُخرى يا أميرالمؤمنين : قال اللّه عزّوجلّ : ( فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ جاءكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأنْفُسَنا وأنفُسَكُمْ ثمَّ نَبْتَهِلْ ... ) ولم يدع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء (١).

٧ ـ أمّا علمه واحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب وكان يعرف بين الرواة بالعالم. وقد روى الناس عنه فأكثروا وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه (٢).

وقد ذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم مائتين واثنين وستين شخصاً وقام الزميل المتتبّع الشيخ العطاردي بجمع اسماء من رووا عنه الأحاديث في مجالات شتّى فبلغ ستمائة وثمانية وثلاثين رجلا وأسماه بمسند الامام موسى الكاظم فجاء جميع ذلك في أجزاء ثلاثة.

ولقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّه استشهد مسموماً في سجن السندي ابن شاهك بأمر من الرشيد وكان الخليفة يخاف من أن ينتشر خبر شهادته في بغداد

__________________

١ ـ الفصول المهمة ٢٣٨ ، والآيتان من سورتي الأنعام ٨٤ وآل عمران ٦١.

٢ ـ المفيد : الارشاد ٢٩٨.

٤٨٩

ولأجل ذلك لمّا مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه بغداد وفيهم الهيثم بن علي وغيره حتّى يشهدوا على أنّه مات بأجله ، واُخرج ووضع على الجسر ببغداد فنودي هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت (١).

وأمّا الكلام في شهادته وأخباره ممّا يطول بنا الكلام إذا أردناه ذكره فليرجع إلى محلها.

ومن أحسن كلماته ما وصّى به هشام بن الحكم (٢).

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٥٠٤.

٢ ـ لاحظ الكافي ١ / ١٣ ـ ٢٠ وتحف العقول ٢٨٣ ـ ٢٩٧.

٤٩٠

الإمام الثامن :

علي بن موسى بن جعفر عليهم‌السلام

الرضا

هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت القائم بالإمامة بعد أبيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام وقد اجتمع أهل البيت في عصره على علمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة مضافاً إلى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته (١).

ولد في المدينة سنة ١٤٨ واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر ٢٠٣ وله يومئذ ٥٥ سنة وكانت مدّة إمامته بعد أبيه ٢٠ سنة (٢).

قال الواقدي : علي بن موسى سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم وكان ثقة يفتي بمسجد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة وهو

____________

١ ـ لاحظ للوقوف على النصوص : الكافي ١ / ٣١١ ـ ٣١٩ والارشاد ٣٠٤ ـ ٣٠٥ واثبات الهداة ٣ / ٢٢٨ ، وروي فيه ٦٨ نصاً على إمامته.

٢ ـ الارشاد ٣٠٤.

٤٩١

من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة (١).

قال الشيخ كمال الدين بن طلحة : ومن أمعن نظره وفكره ، وجده في الحقيقة وارثهما ( المراد علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين عليهم‌السلام ) نمى إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانته ، وكثر أعوانه ، وظهر برهانه ، حتّى أدخله الخليفة المأمون ، محل مهجته ، وأشركه في مملكته ، وفوّض إليه أمر خلافته ، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته ، وكانت مناقبه علية ، وصفاته ثنية ، ونفسه الشريفة زكية هاشمية ، وارومته النبوية كريمة (٢).

وقد عاش الامام في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم وازداد التشكيك في الاُصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود ، وبطارقة النصارى ومجسّمة أهل الحديث.

وفي تلك الأزمة اُتيحت له عليه‌السلام الفرصة للمناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء (٣).

ولأجل ايقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي :

دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فقال : روينا أنّ اللّه قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين ، فقسم لموسى عليه‌السلام الكلام ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرؤية. فقال أبو الحسن عليه‌السلام فمن المبلِّغ عن اللّه إلى الثقلين الجنّ والإنس : انّه ( لا تدركه الأبصار ) و ( لا يحيطون به علما ) و ( ليس

__________________

١ ـ تذكرة الخواص ابن الحوزي ٣١٥.

٢ ـ الفصول المهمة ٢٤٣ نقلا عن مطالب السؤول.

٣ ـ لقد جمع الشيخ الطبرسي قسماً من هذه الاحتجاجات في كتابه الاحتجاج ٢ / ١٧٠ ـ ٢٣٧ طبع النجف.

٤٩٢

كمثله شي ) أليس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلف جميعا فيخبرهم انّه جاء من عنداللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : ( لا تدركه الأبصار ) و ( ولا يحيطون به علما ) و ( ليس كمثله شئ ).

ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني واُحطت به علما ، وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عنداللّه بشيئ ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة : فانّه يقول : ( ولَقَدْ رَآهُ نزلةً اُخْرى ) فقال أبو الحسن عليه‌السلام إنّ بعده هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤادُ ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال : ( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى ) فآيات اللّه غير اللّه. وقال ( لا يُحيطون بِهِ عِلْما ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة : فتكذب الروايات؟ فقال أبو الحسن : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها وما أجمع المسلمون عليه انّه لا يحاط به علما ، ولاتدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء (١).

انتشر علم الامام وفضله فأخذت الأفئدة والقلوب تشدّ إليه وفي الاُمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل ، فكانت تأتي الأخبار المرعبة إلى مركز الخلافة العباسية بمرو. فحاول المأمون الرشيد القاء القبض على الامام من خلال لعبة سياسية لقتل الثورة في مهدها ، فأنفذ رجالا إلى المدينة حتّى يحملوا الطالبيين وفيهم علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى مرو. فساروا بالامام عن طريق البصرة حتّى وصلوا به إلى مرو. فأنزلوه داراً وأكرموه.

واجتمع المأمون معه في مجلس ليس فيه غيرهما وقال له : إنّي اُريد أن أخلع

__________________

١ ـ الاحتجاج للطبرسي ٢ / ١٨٤ ، البحراني : البرهان ٤ / ٢٢٨.

٤٩٣

نفسي من الخلافة واُقلّدك إيّاها فما رأيك؟ فأنكر الرضا عليه‌السلام هذا الأمر وقال له : اُعيذك باللّه يا أميرالمؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد ، فرد عليه الرسالة فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي فرد عليه الرضا اباءً شديداً ، ثمّ استدعاه إليه ثانياً وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين ليس في المجلس غيرهم وقال له : إنّي قد رايت أن اُقلّدك أمر المسلمين وافسخ ما في رقبتي واضعه في رقبتك فقال له الرضا عليه‌السلام : اللّه اللّه يا أميرالمؤمنين انّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه قال له : فانّي موليك العهد من بعدي فقال له : اعفني من ذلك يا أميرالمؤمنين فقال له المأمون كلاما فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه : انّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أميرالمؤمنين عليه‌السلام وشرط في من خالف منهم أن يضرب عنقه ولابد من قبولك ما اُريد منك فإنّي لا أجد محيصاً عنه فقال له الرضا عليه‌السلام : فإنّي اُجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على انّني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا اقضي ولا اُولي ولا أعزل ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه (١).

بعد قبول علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بولاية العهد قامَ بين يديه الخطباء والشعراء فخفقت الألوية على رأسه وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل ابن علي الخزاعي فلمّا دخل عليه قال : قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك فأمره بالجلوس حتّى خف مجلسه ثم قال له : هاتها. فأنشد قصيدته المعروفة :

ذكرت محل الربع من عرفات

فأجريت دمع العين على الوجنات

__________________

١ ـ الارشاد للمفيد ٣١٠.

٤٩٤

وقد خانني صبري وهاجت صبابتي

رسوم ديار اقفرت وعرات

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

حتّى أتى على آخرها. فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا عليه‌السلام فدخل إلى حجرته وأنفذ إليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه فردّها دعبل وقال : واللّه ما لهذا جئت وانّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر إلى وجهك الميمون وانّي لفي غنى فإن رأيت أن تعطيني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرة (١).

كان الامام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشر صيته في بقاع الأرض وعند ذلك أحسَّ المأمون أنّ اعطاءه ولاية العهد ربّما يؤدّي إلى الاطاحة بخلافته ، وقوّى ذلك الظن أنّ المأمون بعث إليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا عليه‌السلام : إنّك قد علمت ما كان بيني وبينك ما كان من الشروط في دخول الأمر فاعفني في الصلاة بالناس فقال له المأمون : إنَّما اُريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ، ويعرفوا فضلك ، ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك حتّى ألحّ عليه المأمون. فارسل إليه الرضا : إن أعفيتني فهو أحبّ إلىّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأميرالمؤمنين عليه‌السلام فقال له المأمون : اُخرج كيف شئت وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا قال : فعقد الناس لأبي الحسن عليه‌السلام في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه فاغتسل أبو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامة بيضاء من قطنٍ ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه ومسّ

__________________

١ ـ ابن الصباغ : الفصول المهمة ٢٤٦ والمفيد : الارشاد ٣١٦ وللقصة صلة ومن أراد فليرجع إلى المصدرين المذكورين.

٤٩٥

شيئاً من الطيب وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه : افعلوا ما فعلت فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه ، فلمّا رآه الجند والقواد سقطوا كلّهم عن الدواب إلى الأرض ثمّ كبّر وكبر الناس فخيل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوه فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل : إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل فتن به الناس ، وخفنا كلّنا على دمائنا ، فأنفذ إليه أن يرجع فرجع الرضا عليه‌السلام واختلف أمر الناس في ذلك اليوم (١).

وقد أشار الشاعر البحتري إلى تلك القصّة بأبيات :

ذكروا بطلعتك النبي (ص) فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتّى انتهيت إلى المصلى لابساً

نور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع

للّه لا يزهى ولا يتكبر (٢)

إنّ هذا وأمثاله وبالأخص خروج أخ المأمون زيد بن موسى بالبصرة على المأمون. لأنّه فوض ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا وبالتالي سيؤدي إلى خروج الأمر من بيت العباسيين ـ كل ذلك ـ دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ إليه السم على النحو المذكور في التاريخ.

ومن لطيف ما نقل عن أبي نواس انّه كان ينشد الشعر في كل جليل وطفيف ولم يمدح الامام فاعتذر عنه بالأبيات التالية.

قيل لي أنت أحسن الناس طرّاً

في فنون من الكلام النبيه

لك من جوهر الكلام بديع

يثمر الدر في يدي مجتنيه

فعلام تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعن فيه

__________________

١ ـ المفيد : الارشاد ٣١٢.

٢ ـ أعيان الشيعة ٢ / ٢١ ـ ٢٢.

٤٩٦

قلت لا أستطيع مدح إمام

كان جبرئيل خادماً لأبيه

ولمّا لم يقبل هذا العذر منه أنشد قصيدة مطوّلة فيها مايلي :

مطهّرون نقيّات جيوبهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

من لم يكن علويا حين تنسبه

فما له في قديم الدهر مفتخر

اللّه لمّا برأ خلقاً فأتقنه فأنتم

صفاكم واصطفاكم أيّها البشر

الملأ الأعلى وعندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور (١)

وأمّا من روى عن الرضا عليه‌السلام فحدّث عنه ولا حرج فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله (٢) والسيد الأمين في أعيانه أسماء من رووا عنه. وقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عنه من الأحاديث والخطب والمواعظ والمناظرات وأسماه مسند الامام الرضا عليه‌السلام ورتّب أسماء الراوين عنه حسب حروف المعجم فجاء ٣١٢ رجلا.

فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

__________________

١ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٣ / ٢٧٠.

٢ ـ رجال الشيخ ٣٦٦ ـ ٣٩٧ ذكر فيه ٣١٥ رجلا.

٤٩٧
٤٩٨

الإمام التاسع :

محمّد بن علي بن موسى عليهم‌السلام

الجواد

هو من أئمّة أهل البيت ، تاسع الأئمّة عند الشيعة ، ولد عام ١٩٥. ورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة وارتوت شجرته من منهل الرسالة.

قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا عليه‌السلام عام ٢٠٣ واستشهد ببغداد عام ٢٢٠. أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.

أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة (١).

لمّا توفّي الرضا عليه‌السلام كان الامام الجواد في المدينة وقام بأمر الامامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين غير انّ المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه عليه‌السلام خلافاً لأسلافه من العباسيين ،

__________________

١ ـ الكافي ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢٣ ، اثبات الهداة ٣ / ٣٢١ ـ ٣٢٨.

٤٩٩

حيث انّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لأهل البيت وبغضا للخلفاء ، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الاسلوب باسلوب آخر وهو استقدام أئمة أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم ، وقد استمرت هذه السياسة في حقّهم إلى الامام الحادي عشر كما ستعرف.

ولمّا جيئ بالامام الجواد إلى مركز الخلافة ، شغف به المأمون ، لما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان ، فزوّجه ابنته اُم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان حريصاً على اكرامه وتعظيمه واجلال قدره ، ونكتفي في المقام بذكر أمرين :

١ ـ لمّا توفّي الامام الرضا عليه‌السلام وقدم المأمون بغداد. اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد وعمره آنذاك تسع سنين. فلمّا قرب منه الخليفة فقال له : يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك؟! فقال له محمّد الجواد مسرعا : يا أميرالمؤمنين فرّ أصحابي فرقا والظن بك حسن انّه لا يفر منك من لا ذنب له ، ولم يكن بالطريق ضيق فأنتحي. فأعجب المأمون كلامه. وحسن صورته قال : ما اسمك يا غلام؟ قال : محمّد بن علي الرضا عليه‌السلام فترحّم على أبيه (١).

٢ ـ لمّا أراد المأمون تزويج ابنته اُم الفضل من الامام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له : ننشدك اللّه أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا عليه‌السلام فانّا نخاف أن يخرج به عنّا أمرا ، قد ملّكناه اللّه وينزع عنّا

__________________

١ ـ الفصول المهمة ٢٦٦.

٥٠٠