بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

سأمضي فما في الموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

وإن عشت لم اَنْدُم ، وإن مِتُّ لَمْ اُلم

كفى بك ذلاًّ أن تعيش وترغما (١)

ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين عليه‌السلام أثر كبير في ايقاظ شعور الاُمّة وتشجيعهم على الثورة ضدّ الحكومة الاموية التي اصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين ، ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز ، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الاموية بعد زمان.

ولقد أجاد من قال لولا نهضة الحسين عليه‌السلام وأصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ يوم الطف لما قام للاسلام عمود ولا اخضرّ له عود ، ولأماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة قيامه إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين عليه‌السلام وأصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ (٢) على ذلك الموقف ، يقال فيه انّ الإسلام محمّدي الحدوث حسيني البقاء والخلود.

وكيف يجوز لأبي الشهداء السكوت تجاه تسلّم يزيد مقاليد الخلافة وهو يقول : وعلى الإسلام السلام إذ بليت الاُمة براع مثل يزيد. ويزيد هو الذي أنشد ، حين حضر رأس الحسين بين يديه :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا قتيل بدر فاعتدل

فأهلّوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا : يا يزيد لاتشل

____________

١ ـ المفيد : الارشاد ٢٢٥ والطبري في تاريخه ٥ / ٢٠٤.

٢ ـ جنة المأوى ٢٠٨ للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

٤٦١

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر به جاء ولا وحي نزل (١)

وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً إلى العراق والحوادث التي واجههاً في المسير إلى أن نزل بأرض كربلا ، واستشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم ٧٢ شخصاً ، ظمآناً وعطشانا ، لهو خارج عن موضوع البحث وقد اُلّف فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات. فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيا.

__________________

١ ـ البيتان الأوّلان لابن الزبعرى ، والثلاثة الأخيرة ليزيد لاحظ تذكرة الخواص ٢٣٥.

٤٦٢

الإمام الرابع :

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام

زين العابدين

هو رابع أئمّة أهل البيت الطاهر. المشهور بزين العابدين أو سيّدهم ، والسجّاد ، وذو الثفنات. ولد في المدينة سنة ٣٨ أو ٣٧ وتوفّي بها عام ٩٥ أو ٩٤ يوم السبت ١٢ من محرّم.

قال ابن خلكان : هو أحد الأئمّة الإثني عشر ومن سادات التابعين قال الزهري : ما رأيت قرشياً أفضل منه ، وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصى وتذكر ، ولمّا توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس ـ رضي اللّه عنه ـ (١).

ومن أراد الاطّلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم ،

__________________

١ ـ وفيات الأعيان ٣ / ٢٦٧ ـ ٢٦٩.

٤٦٣

والحلم ، والصفح ، ومقابلة الاساءة بالاحسان ، والشجاعة ، وقوّة القلب ، وثبات الجنان ، والجرأة ، والكرم والسخاء ، وكثرة الصدقات ، وعتق العبيد ، والفصاحة والبلاغة ، والورع والتقوى والعبادة وتربية صفوة جليلة من الأعلام وايصالهم إلى القمّة في العلم والعمل من الذين يُسْتَدر بهم الغمام وكثرة البرّ باُمه والرفق بالحيوان وهيبته وعظمته في أعين الناس وغير ذلك فعليه الرجوع إلى الموسوعات.

ونكتفي باُمور :

١ ـ إيصاء الحسين إليه في أمر الامامة.

٢ ـ زهده وعبادته ومواساته للفقراء.

٣ ـ هيبته وعظمته.

٤ ـ ما تركه من الثروة العلمية من الأدعية والمناجاة.

أمّا إيصاء الحسين له ، فقد تكفّل لذكره كتب الحديث والعقائد ، وأخص بالذكر ، الكافي للكليني (١) وإثبات الهداة للحر العاملي (٢).

وأمّا هيبته ومكانته في القلوب ، فاستمع ما يلي :

لمّا حجّ هشام بن عبدالملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ، وجاء علي بن الحسين عليهما‌السلام فتوقّف له الناس ، وتنحّوا حتّى استلم فقال جماعة لهشام : من هذا؟ فقال : لا أعرفه ( مع أنّه كان يعرفه انّه علي بن الحسين عليهما‌السلام ) فسمعه الفرزدق ، فقال : لكنّي أعرفه ، هذا علي بن الحسين زين العابدين ، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات.

__________________

١ ـ الكافي ٣٠٣.

٢ ـ إثبات الهداة ٣ / ١ ـ ٥.

٤٦٤

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إنْ عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء اللّه قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

إلى آخر القصيدة التي حفظتها الاُمّة وشطرها جماعة من الشعراء وقد ثقل ذلك هشاماً فأمر بحبسه ، فحبسوه بين مكة والمدينة. فقال معترضاً على عمل هشام :

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيد

وعيناً له حولاء باد عيوبها

فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين عليهما‌السلام عشرة آلاف درهم وقال : اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به ، فردّها الفرزدق وقال : ما قلت ما كان إلاّ للّه ، فقال له علي عليه‌السلام : قد راى اللّه مكانك فشكرك ، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه وأقسم عليه فقبلها.

أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء ، وخوفه من اللّه فغني عن البيان كان علي ابن الحسين إذا توضّأ اصفّر لونه فيقال : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال : أتدرون بين يدي مَنْ اُريد أن أقف.

ومن كلماته : أنّ قوماً عبدوا اللّه رياضة فتلك عبادة العبيد ، وأنّ قوماً عبدوه رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار.

وكان إذا أتاه سائل يقول : مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة.

٤٦٥

وكان ينحل فلمّا مات وجدوه يعول مائة من أهل بيت المدينة. وفي رواية لا يدرون من يأتيهم بالرزق لأنّه كان يبعث به إليهم في الليل فلمّا مات علي فقدوه ، وفي رواية كان يحمل جراب الخُبز على ظهره بالليل فيتصدّق به ويقول : صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وفي رواية كان أهل المدينة يقولون : ما فقدنا صدقة السر حتّى مات علي بن الحسين عليه‌السلام (١).

وقال رجل لسعيد بن المسيب : ما رأيت رجلاً أورع من فلان ـ وسمّى رجلا ـ فقال له سعيد : أما رأيت علي بن الحسين؟ فقال : لا ، فقال : ما رايت أورع منه.

وقال الزهري : لم أر هاشمياً أفضل من علي بن الحسين عليه‌السلام.

وقال أبو حازم كذلك أيضا : ما رأيت هاشمياً افضل من علي بن الحسين.

وقال طاووس : رأيت علي بن الحسين عليهما‌السلام ساجداً في الحجر فقلت : رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول ، فأصغيت إليه فسمعته يقول : عبدك بفنائك ، مسكينك بفنائك ، سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك ، فواللّه ما دعوت بهنّ في كرب إلاّ كشف عنّي.

وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، فإذا أصبح سقط مغشياً عليه ، وكانت الريح تميله كالسنبلة ، وكان يوماً خارجا فلقيه رجل فسبّه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم علي : مهلا كفّوا ، ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحى الرجل فألقى إليه علي خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسل (٢).

__________________

١ ـ تذكرة الخواص ٢٩٤.

٢ ـ كشف الغمّة ٢ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

٤٦٦

الثروة العلمية للامام :

أمّا الثروة العلمية والعرفانية ، فهي أدعيته التي رواها المحدثون باسنادهم المتضافرة ، المعروفة بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم فهي زبور آل محمّد ، ومن الخسارة الفادحة ، أنّ اخواننا أهل السنّة إلاّ النادر القليل منهم غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.

وفصاحة ألفاظها ، وبلاغة معانيها ، وعلو مضامينها وما فيها من أنواع التذلل للّه تعالى والثناء عليه ، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل إليه ، أقوى شاهد على صحّة نسبتها إليه عليه‌السلام وانّ هذا الدر من ذلك البحر ، وهذا الجوهر من ذلك المعدن ، وهذا الثمر من ذلك الشجر ، مضافاً إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب وتعدّد أسانيدها المتّصلة إلى منشئها فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة ، إلى زين العابدين (١).

وقد أرسل أحد الأعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلاّمة الشيخ الطنطاوي ( ت ١٣٥٨ ) صاحب التفسير المعروف فكتب في جواب رسالته « ومن الشقاء إنّا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق ، دون كلام الخالق » (٢).

والمعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاُولى التي تتضمّن على أحد وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من اللّه سبحانه وهي تعلّم الإنسان كيف يلجأ إلى ربّه في الشدائد والمهمات ، وكيف يطلب منه حوائجه ، وكيف يتذلّل ويتضرّع له وكيف يحمد ويشكر له غير أنّ لفيفا من العلماء استدركوا عليها فجمعوا

__________________

١ ـ في رحاب أئمّة أهل البيت ٣ / ٤١٤.

٢ ـ مقدمة الصحيفة بقلم العلامة المرعشي قدس‌سره ٢٨.

٤٦٧

من شوارد أدعيته صحائف خمس أخيرتها ما جمعه العلاّمة السيد محسن الأمين العاملي قدس‌سره.

ولقد قام العلاّمة الحجة السيد محمّد باقر الأبطحي ـ دام ظله ـ بجمع جميع أدعية الامام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد وقال في مقدمته :

وحريّ بنا القول انّ أدعيته عليه‌السلام كانت ذات وجهين : وجهاً عبادياً ، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الامام عليه‌السلام في ذلك الظرف العصب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة أن يمنح أدعيته ـ إلى جانب روحها التعبّدية ـ محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب ، بما حملته من مفاهيم خصبة ، وأفكار نابضة بالحياة فهو عليه‌السلام صاحب مدرسة إلهية ، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد اللّه ويقدّسه ، وكيف يلج باب التوبة ، وكيف يناجيه وينقطع إليه ، واُخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البر بالوالدين ، ويشرح حقوق الوالد والولد ، والأهل ، والأصدقاء ، والجيران ، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي كل ذلك باسلوب تعليمي رائع وبليغ.

وصفوة القول انّها كانت اسلوبا مبتكراً في إيصال الفكر الاسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب الظمأى ، والأفئدة التي تهوي إليها لترتزق من ثمراتها ، وتنهل من معينها ، فكانت بحق علمية تربوية نموذجية من الطراز الأوّل ، لاُسس بناها الامام السجاد عليه‌السلام مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين (١).

__________________

١ ـ الصحيفة السجادية الجامعة ١٣.

٤٦٨

رسالة الحقوق :

إنّ للامام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق أوردها الصدوق في خصاله (١) بسند معتبر ، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول (٢) مرسلاً ، وبين النقلين اختلاف بالزيادة والنقيصة وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق ، فيذكر الامام فيها حقوق اللّه سبحانه على الإنسان وحقوق نفسه عليه وحقوق أعضائه من اللسان والسمع ، والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج ثمّ يذكر حقوق الأفعال ، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدى ... يبلغ خمسين حقّا ، آخرها حق الذمّة.

روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته أحاديث عنه أوردها الشيخ الحر العاملي في جامعه « وسائل الشيعة » كما انّ له عليه‌السلام حكماً في مختلف أبواب الفقه ، جمعها الشيخ الحسن الحراني في تحفه (٣) فلاحظ.

الراوون عنه :

ذكر الشيخ في رجاله الرواة عنه عليه‌السلام : ورتّبها على حروف المعجم فبلغ ١٧٥ ، شخصاً (٤) وهم بين صحابي وتابعي ـ رضي اللّه عنهم ـ.

قال ابن شهر آشوب : ومن رجاله من الصحابة جابر بن عبداللّه الأنصاري ، وعامر بن واثلة الكناني وسعد بن المسيب بن حزن ، وسعيد بن جهان الكناني مولى اُم هاني ... ومن التابعين أبو محمّد سعيد بن جبير مولى بني أسد ، ومحمّد

__________________

١ ـ الخصال ٥٦٤ ـ ٥٧٠ في أبواب الخمسين.

٢ ـ تحف العقول ١٨٤ ـ ١٩٥.

٣ ـ تحف العقول ١٨٠ ـ ٢٠٥.

٤ ـ الشيخ الطوسي الرجال ٨١ ـ ١٠٢.

٤٦٩

ابن جبير بن مطعم ، وأبو خالد الكابلي ، والقاسم بن عوف ، وإسماعيل بن عبداللّه بن جعفر ، وإبراهيم والحسن ابنا محمّد بن الحنفية ، وحبيب بن أبي ثابت ، وأبو يحيى الأسدي وأبو حازم الأعرج وسلمة بن دينار المدني الاقرن القاص.

ومن أصحابه أبو حمزة الثمالي بقي إلى أيام موسى بن جعفر ، وفرات بن أحنف بقي إلى زمان الصادق وجابر بن محمّد بن أبي بكر ، وأيوب بن الحسن ، وعلي بن رافع ، وحميد بن موسى الكوفي ، وأبان بن تغلب ، وأبو الفضل سدير ابن حكيم بن صهيب الصيرفي ، وقيس بن رمانة ، وعبداللّه البرقي ... (١).

قال الشيخ أبو زهرة : « في بيت الامام زين العابدين نشأ زيد وتكوّنت ميوله ، ومنازعه في الحياة ، واتّجاهاته وكان زين العابدين فقيهاً كما كان محدثا ، وكان له شبه بجدّه علي بن أبي طالب في قدرته على الاحاطة بالمسائل الفقهية من كل جوانبها والتفريع عليها ، وكان إذا رأى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، وقال : مرحباً بكم أنتم ودائع العلم ، ويوشك ـ إذ أنتم صغار قوم ـ أن تكونوا كبار قوم آخرين ، وإذا جاءه طالب علم ، رحّب به وقال : أنت وصيّة رسول اللّه. إنّ طالب العلم لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلاّ سبّحت له الأرض إلى السابعة (٢).

يقول الكاتب محمّد جواد مغنيه : « وكان يحسن إلى من يسئ إليه ، من ذلك أنّ هشام بن إسماعيل كان أميراً على المدينة وكان يتعمّد الإساءة إلى الامام وأهل بيته ، ولمّا عزله الوليد ، أمر أن يوقف للناس : في الطريق العام ليقتصوا منه ،

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ١٧٤ طبع قم.

٢ ـ المقرّم : الامام زيد ٣١.

٤٧٠

وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الامام السجاد ، ولكن الامام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه ، وذهب إليه بنفسه ، وقال له : لا بأس عليك منّا ، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها (١).

____________

١ ـ محمّد جواد مغنيه : الشيعة والتشيّع ٢٤٤.

٤٧١
٤٧٢

الامام الخامس :

أبوجعفر محمّد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام

الباقر

هو خامس أئمّة أهل البيت ، الطاهر ، المعروف بالباقر ، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب : لقّب به لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسّع فيه (١) وقال ابن حجر : سمّي بذلك لأنّه من بقر الأرض أي شقّها ، وإثارة مخبآتها ، ومكامنها. فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام ، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة. ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه (٢).

__________________

١ ـ لسان العرب ٤ / ٧٤.

٢ ـ الصواعق المحرقة ٢٠١.

٤٧٣

قال ابن خلكان : أبو جعفر محمّد بن زين العابدين ، الملقّب بالباقر أحد الأئمّة الاثني عشر في اعتقاد الامامية وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً وانّما قيل له الباقر لأنّه تبقّر في العلم أي توسّع وفيه يقول الشاعر :

يا باقر العلم لأهل التُّقى

وخير من لبّى على الأجبل (١)

ولد بالمدينة غرة رجب سنة ٥٧ وقيل ٥٦ وتوفّي في السابع من ذي الحجّة سنة ١١٤ وعمره الشريف ٥٧ سنة. عاش مع جدّه الحسين عليه‌السلام ٤ سنين ومع أبيه عليه‌السلام بعد جدّه عليه‌السلام تسعاً وثلاثين سنة وكانت مدة إمامته عليه‌السلام ١٨ سنة (٢).

وأمّا النصوص الدالّة على إمامته من أبيه وأجداده التي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الأعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني وغيره (٣).

قال ابن سعد : محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من المدينة كان عالماً عابداً ثقة وروى عنه الأئمّة أبو حنيفة وغيره.

قال أبو يوسف : قلت لأبي حنيفة : لقيت محمّد بن علي الباقر؟ فقال : نعم وسألته يوماً فقلت له : أراد اللّه المعاصي؟ فقال : أفيعصى قهراً؟ قال أبو حنيفة : فما رأيت جوابا أفحم منه.

وقال عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر ، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب ويعني الحكم بن عيينة ، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه.

وذكر المدائني : عن جابر بن عبداللّه انّه أتى أبا جعفر محمّد بن علي إلى

__________________

١ ـ وفيات الأعيان ٤ / ١٠٧٤.

٢ ـ إعلام الورى بأعلام الهدى ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٣ ـ الكافي ١ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ، اثبات الهداة ٣ / ٣٣ ـ ٣٥.

٤٧٤

الكتاب وهو صغير فقال له : رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلّم عليك ، فقيل لجابر : وكيف هذا؟ فقال : كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره وهو يداعبه فقال : يا جابر يولد مولود اسمه عليّ ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين فيقوم ولده ، ثمّ يولد له ولد ، اسمه محمّد ، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام.

وذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد نقل القصّة قوله : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجابر : وإن لاقيته فاعلم انّ بقاءك في الدنيا قليل فلم يعش جابر بعد ذلك إلاّ ثلاثة أيّام. ثمّ قال : هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيّام وفضيلة شهد له بها الخاص والعام (١).

وقال عبداللّه بن عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر لقد رايت الحكم عنده كأنّه متعلّم (٢).

وقال المفيد : لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (٣).

وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين وسارت بذكر كلامه الأخبار واُنشدت في مدائحه الأشعار ... (٤).

قال ابن حجر : صفا قلبه ، وزكاه علمه وعمله ، وطهرت نفسه ، وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة اللّه وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة

__________________

١ ـ تذكرة الخواص لابن الجوزي ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، الفصول المهمّة ٢١٥ ـ ٢١٦.

٢ ـ كشف الغمة ٢ / ٣٢٩.

٣ ـ الارشاد ٢٦١.

٤ ـ الفصول المهمّة ٢١٠ نقله عن ارشاد الشيخ المفيد : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٤٧٥

الواصفين وله كلمات كثرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة (١).

وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنها ولا حرج فقد جمعها العلاّمة الطبرسي في كتاب الاحتجاج (٢).

قال الشيخ المفيد في الارشاد : وجاءت الأخبار : انّ نافع بن الأزرق (٣) جاء إلى محمّد بن علي فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر في عرض كلامه : قل لهذه المارقة بم استحللتم فراق أميرالمؤمنين ، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى اللّه بنصرته ، فسيقولون له أنّه حكم في دين اللّه فقل لهم قد حكّم اللّه تعالى في شريعة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلين من خلقه فقال : ( فَابَعثوا حَكَماً مِن أهلِهِ وحَكَماً مِن أهلِها إن يُرِيدا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَينَهُما ) (٤). وحكّم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم فيهم بما أمضاه اللّه. أو ما علمتم انّ أميرالمؤمنين انّما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّياه ، واشترط رد ما خالف القرآن في أحكام الرجال وقال حين قالوا له حكّمت على نفسك من حكم عليك ، فقال : ما حكّمت مخلوقاً وانّما حكّمت كتاب اللّه فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن ، واشترط رد ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان؟ فقال : نافع بن الأزرق هذا واللّه كلام ما مرّ بسمعي قط ولا خطر منّي ببال وهو الحق إن شاء اللّه (٥).

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة ٣٠١.

٢ ـ الاحتجاج ٢ / ٥٤ ـ ٦٩ طبع النجف.

٣ ـ ولعلّ المناظر هو عبداللّه بن نافع بن الأزرق ، لأنّ نافع قتل عام ٦٥ من الهجرة وللإمام عندئذ من العمر دون العشرة وقد نقل ابن شهر آشوب بعض مناظرات الإمام مع عبداللّه بن نافع فلاحظ المناقب ٤ / ٢٠١.

٤ ـ النساء / ٣٥.

٥ ـ الارشاد : ٢٦٥.

٤٧٦

الراوون عنه :

وقد روى بعض الصحابة وأكثر التابعين عنه عليه‌السلام وقد نهلوا من معين علمه ، وقدجمع الشيخ الطوسي أسماء من روى عنه من العلماء والحفّاظ مبتدئاً بإبراهيم بن مناف الأسدي ومنتهيا بحبابة الوالبية بلغ عددهم ٤٦٦ شخصاً.

وقال ابن شهر آشوب بعد نقل كلام المفيد : فمن الصحابة نحو جابر بن عبداللّه الأنصاري ومن التابعين جابر بن يزيد الجعفي ، وكيسان السختياني صاحب العوفية. ومن الفقهاء نحو ابن مبارك ، والزهري ، والأوزاعي وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وزياد ابن منذر النهري. ومن المصنّفين نحو الطبري والبلاذري ... (١).

ثمّ إنّ الشيعة الامامية أخذت كثيراً من الأحكام الشرعية عنه وعن ولده البار جعفر الصادق وحسب الترتيب المتداول في الكتب الفقهية وأمّا ما روي عنه في الحكم والمواعظ فقد نقلها أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء والحسن بن شعبة الحرّاني في تحفه (٢).

ثمّ إنّ الامام محمّد الباقر توفّي عام ١١٤ ودفن في جنب قبر أبيه في البقيع ومن أراد البحث عن فصول حياته في شتى المجالات فليراجع الموسوعات.

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ١٩٥ ومن المعلوم أنّ المقصود هو الأعم ممّن روى عن الإمام مباشرة أو مع الواسطة ولاحظ حلية الأولياء ٣ / ١٩٨.

٢ ـ حلية الأولياء ٣ / ١٨٠ ـ ٢٣٥ وفي بعض ما نقل عنه تأمّل ونظر. والحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول ٢٨٤ ـ ٣٠٠.

٤٧٧
٤٧٨

الامام السادس :

جعفر بن محمّد عليهما‌السلام

الصادق

هو الإمام السادس من أئمّة أهل البيت الطاهر ـ رضي اللّه عنه ـ أجمعين ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله ، وفضله أشهر من أن يذكر. ولد عام ٨٠ وتوفّي عام ١٤٨ ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمّد الباقر وجدّه علىّ زين العابدين وعمّ جدّه الحسن بن عليّ ـ رضي اللّه عنهم أجمعين ـ فللّه درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه (١).

وقال محمّد بن طلحة : هو من عظماء أهل البيت وساداتهم وذو علوم جمّة ، وعبادة موفورة ، وزهادة بيّنة ، وتلاوة كثيرة ، يتبع معاني القران الكريم ،

__________________

١ ـ وفيات الأعيان ١ / ٣٢٧ رقم الترجمة ٣١.

٤٧٩

ويستخرج من بحره ، جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليه نفسه ، رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع كلامه يزهّد في الدنيا ، والاقتداء بهداه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع أنّه من ذرّية الرسالة. نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم. مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبي حنيفة ، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني (١) وغيرهم وعدّوا أخذهم عنه منقبه شرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها.

وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر ، ويُحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر حتّى انّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى ، صارت الأحكام التي لا تدرك عللها ، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها ، تضاف إليها وتروى عنه (٢).

وقال ابن الصباغ المالكي : كان جعفر الصادق عليه‌السلام من بين اخوته ، خليفة أبيه ، ووصيّه والقائم بالامامة من بعده ، برزعلى جماعة بالفضل ، وكان أنبههم ذكراً ، وأجلّهم قدراً ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في البلدان ، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث.

وروى عنه جماعة. من أعيان الأمّة مثل يحيى بن سعيد ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وأبو عيينة ، وأبو حنيفة ، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم (٣).

__________________

١ ـ وفي الأصل أيّوب السختياني والصحيح ما ذكرناه.

٢ ـ كشف الغمة ٢ / ٣٦٨.

٣ ـ الفصول المهمة ٢٢٢.

٤٨٠