بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

المسألة الثالثة :

الإمام المنتظر

إنّ الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر عقيدة مشتركة بين جميع المسلمين ، إلا من أصمّه اللّه ، فكل من كان له إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة عن النبي وآله وأصحابه ، بظهور المهدي في آخر الزمان لازالة الجهل والظلم ، ونشر اعلام العلم والعدل ، واعلاء كلمة الحق واظهار الدين كلّه ، ولو كره المشركون ، وهو باذن اللّه ينجي العالم من ذُلِّ العبودية لغير اللّه ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أوامر التعصبات القومية والعنصرية ، ويميت أسباب العداء والبغضاء التي سارت سبباً لاختلاف الاُمّة واضظراب الكلمة ، واشتعال نيران الفتن والمنازعات ، ويحقق اللّه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :

( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وعمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وليُمَكَّنّنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ

٣٠١

وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ اَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَاُلئِكَ هُمُ الفَاسِقُون ) (١).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٢) هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأوّل والأزمنة اللاحقة ، وقد تضافر مضمون قول الرسول الأكرم : « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد ، لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي ، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجورا ».

ولو وجد هناك خلاف بين أكثر السنّة والشيعة ، فالاختلاف في ولادته ، فانّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان ، والشيعة بفضل هذه الروايات ، تذهب إلى أنّه ولد في « سرّمن رأى » عام ٢٥٥ ، وغاب بأمر اللّه سبحانه سنة وفاة والده ، عام ٢٦٠ ، وهو يحيى حياة طبيعية كسائر الناس ، غير أنّ الناس يرونه ولا يعرفونه ، وسوف يظهره اللّه سبحانه ليحقق عدله.

وهذا المقدار من الاختلاف لا يجعل العقيدة بالمهدي عقيدة خلافية ، ومن أراد أن يقف على عقيدة السنّة والشيعة في مسألة المهدي فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية لمحقّقي السنّة ومحدّيثهم :

١ ـ « صفة المهدي » للحافظ أبي نعيم الاصفهاني.

٢ ـ « البيان في أخبار صاحب الزمان » للكنجي الشافعي.

٣ ـ « البرهان في علامات مهدي آخر الزمان » لملّا علي المتقي.

٤ ـ « العرف الوردي في أخبار المهدي » للحافظ السيوطي.

__________________

١ ـ النور / ٥٥.

٢ ـ الأنبياء / ١٠٥.

٣٠٢

٥ ـ « القول المختصر في علامات المهدي المنتظر » لابن حجر.

٦ ـ « عقد الدرر في أخبار الامام المنتظر » للشيخ جمال الدين الدمشقي.

ومن أراد التفصيل فليرجع إلى « منتخب الأثر في الامام الثاني عشر » للعلّامة الصافي ـ دام ظلّه ـ.

ولم ير أحد الضعف في أخبار الامام المهدي ، إلا ابن خلدون في مقدّمته ، وقد فنّد مقالته محمّد صديق برسالة أسماها « إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون » وقد كتب أخيراً الدكتور عبد الباقي كتاباً قيّماً في الموضوع أسماه « بين يدي الساعة » فيقول في تضافر الأخبار الواردة في حق المهدي :

« إنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راو أو راويين ، انّها مجموعة من الأحاديث والأخبار تبلغ الثمانين تقريباً ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة ، وأكثر من صاحب كتاب صحيح.

فلماذا نرد كل هذه الكمّية؟ أكلّها فاسدة؟ لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين ـ والعياذ باللّه ـ تنيجة تطرق الشك والظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي ، أو حول حاجة العالم إليه ، وانّما الخلاف حول من هو ، حسني أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان ، أو موجود الآن ، خفي وسيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟ ولا عبرة بالمدّعين الكاذبين ، فليس لهم اعتبار.

ثمّ إنّي لا أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث ، والذي أجده ، إنّما هو مناقشة وخلاف حول السند ، واتّصاله وعدم اتّصاله ، ودرجة رواته ، ومن خرّجوه ، ومن قالوا فيه.

وإذا نظرنا إلى ظهور المهدي ، نظرة مجرّدة ، فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها

٣٠٣

وتصديقها ، أو على الأقل عدم رفضها. فإذا ما تؤيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة ، والأحاديث المتعددة ، ورواتها مسلمون مؤتمنون ، والكتب التي نقلتها إلينا كتب قيمة ، والترمذي من رجال التخريج والحكم ، بالاضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها ، ما يصح أن يكون سنداً لها في البخاري ومسلم ، كحديث جابر في مسلم الذي فيه : « فيقول أميرهم ( أي لعيسى ) : تعال صلّ بنا » (١) ، وحديث أبي هريرة في البخاري ، وفيه : « كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وأمامكم منكم » (٢) ، فلا مانع من أن يكون هذا الأمير ، وهذا الامام هو المهدي.

يضاف إلى هذا انّ كثيراً من السلف رضي اللّه عنهم ، لم يعارضوا هذا القول ، بل حاءت شروحهم وتقريراتهم موافقة لاثبات هذه العقيدة عند المسلمين » (٣).

__________________

١ ـ صحيح مسلم ١ ( باب نزول عيسى ) ٥٩.

٢ ـ صحيح البخاري ١٤ / ٣٣٤.

٣ ـ بين يدي الساعة للدكتور عبد الباقي ١٢٣ ـ ١٢٥.

٣٠٤

المسألة الرابعة :

القول بالبداء

إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الامامية ، هو القول بالبداء ، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم انّ النسخ والبداء صنوان ، غير أنّ الأوّل في التشريع والثاني في التكوين ، وقد اشتهرت بالقول به ، كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء وصار القول بهذه الاُمور الثلاثة من خصائصهم وقد أنكرت عليهم السنّة أشد الانكار خصوصاً في مسألة البداء ولكنّهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على اللّه لتوقّفوا عن الاستنكار ، ولأعلنوا الوفاق ، وأقول عن جد : لو اُتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصب والأنحياز لتجلّى الحق بأجلى مظاهره ، ولاعترفوا بصحة مقالة الشيعة ، غير أنّ تلك اُمنية لا تتحقق إلاّ في فترات خاصة ، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء ، فأجبته باجمال ما أُفصّله في هذا المقام ، فتعجّب عن اتقان معناه ، غير أنّه زعم أنّ ما

٣٠٥

ذكرته نظرية شخصية لا صلة لها بنظرية الامامية في البداء فطلب منّي كتاباً لقدماء علماء الشيعة ، فدفعت إليه أوائل المقالات ، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الاُمّة محمّد بن النعمان المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ ) فقرأهما بدقة ، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال : لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً.

ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات :

الأولى : اتفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلّها غابرها وحاضرها ، ومستقبلها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فلا يتصوّر فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل ، بل الأشياء دقيقها وجليلها ، حاضرة لديه ويدل عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمّة أهل البيت ـ مضافاً إلى البراهين الفلسفية المقرّرة في محلها ـ أمّا الكتاب :

فقوله سبحانه : ( اِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيهِ شَىءٌ فِى الاَرْضِ وَلا فِى السَّماءِ ) (١).

وقوله تعالى ( وَمَا يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْ شَىء فِى الاَرْضِ وَلا فِى السَّماءِ ) (٢).

وقوله سبحانه : ( إنْ تُبْدُوا شيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَاِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىء عَلِيماً ) (٣) كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره ، ماديّه ومجرّده ، والأشياء كلها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين ويكفي في ذلك قوله سبحانه : ( مَا اَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِى الاَرْضِ وَلا فِى اَنْفُسِكُمْ اِلاّ فِى كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا اِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه يَسيرٌ ) (٤).

__________________

١ ـ آل عمران / ٥.

٢ ـ إبراهيم / ٣٨.

٣ ـ الأحزاب / ٥٤.

٤ ـ الحديد / ٢٢ ـ

٣٠٦

وقوله سبحانه : ( وَمَا مِنْ دَابَّة فِى الاَرْضِ اِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها ويعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتابٍ مُبينٍ ) (١).

وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل منها :

قال الامام موسى الكاظم عليه‌السلام : « لم يزل اللّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء » (٢).

وقال الامام علي عليه‌السلام : « كل سر عندك علانية ، وكل غيب عندك شهادة » (٣).

وقال عليه‌السلام : « لا يعزب عنه عدد قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذّرّ في الليلة الظلماء ، يعلم مساقط الأوراق ، وخفىّ طرف الأحداق » (٤).

إلى غير ذلك من الروايات (٥) التي تدل على احاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده ، وانّه لا يخفى عليه شيء ابداً.

وقال الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله : ( يمحوا اللّهُ ما يشاءُ ويثبتُ وعندَهُ اُمّ الكتاب ) :

« فكل أمر يريده اللّه ، فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه ، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل. وقال : من زعم أنّ اللّه عزّوجلّ يبدو له من

__________________

١ ـ هود / ٦.

٢ ـ الكافي ج ١ ، باب صفات الذات ، الحديث ٤.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٥.

٤ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٣ ، طبعة عبده.

٥ ـ لاحظ في العثور على الروايات حول علمه سبحانه ، البحار ٤ / ١٢١ والكافي ١ / ١١١.

٣٠٧

شيء لم يعلمه أمس ، فابرأ وامنه » (١) إلى غير ذلك من الروايات التي تدل على إحاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده وانّه لا يخفى عليه شيء أبداً.

وأمّا العقل فقد دلّ على تنزّهه من وصمة الحدوث والتغيير ، وانّه تقدّست أسماؤه ، أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات ، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل ، لاستلزامه كون ذاته محلاّ للتغير والتبدل ، المستلزم للتركيب والحدوث ، إلى غير ذلك ممّا يستحيل عليه سبحانه.

فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمّة الشيعة عليهم‌السلام تشهد على علمه الذي لا يشوبه جهل ، وعلى سعته لكل شيء قبل الخلق وبعده ، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء ، والعلم بعد الجهل.

وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشم منه خلاف ما دلّت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذباً ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة ، أو التزلّف إلى حكّام الوقت الحاقدين لهم أو التعصّب المقيت.

وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والاثبات حيث يقول : قالت الرافضة : البداء جائز على اللّه تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسّكوا فيه بقوله ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت ) : ثمّ قال : إنّ هذا باطل لأنّ علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك ، كان دخول التغيّر والتبدّل فيه باطلاً (٢).

وما حكاه الرازي عن « الرافضة » كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة وإنّما سمعه

__________________

١ ـ البحار ٤ / ١١١ باب البداء ، الحديث ٣٠ ، والبرهان ٢ / ٣٠٠ حديث ٢١.

٢ ـ تفسير الرازي ٤ / ٢١٦ تفسير سورة الرعد.

٣٠٨

عن بعض الكذّابين الأفّاكين الذين يفتعلون الكذب لغايات فاسدة ، وقد قبله من دون امعان ودقّة ، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه ( بلدة ري ) كانت مزدحم الشيعة ومركزهم وكان الشيخ محمود بن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي ، علاّمة زمانه في الاُصولين معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلّف كتاب « المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد » (١) ولو كان الفخر الرازي رجلاً منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة ، ولما تهاجم عليهم بسباب مقذع ، وربّما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره.

وليس الرازي فريداً في التقوّل في هذا المجال بل سبقه البلخي ( ت ٣١٩ ) في هذه النسبة (٢) ، ونقله الشيخ الأشعري ( ٢٦٠ ـ ٣٢٤ ) في مقالات الاسلاميين (٣) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية (٤).

الثانية : كما دلّت الآيات وألأحاديث (٥) على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق وألايجاد ، وألتدبير وألتربية ، دلّت على أنّ مصير العباد يتغيّر ، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم من الصدقة وألاحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين ، وألاستغفار وألتوبة وشكر النعمة وأداء حقّها إلى غير ذلك من الاُمور التي تغيّر المصير وتبدّل القضاء وتفرّج الهموم وألغموم وتزيد في الأرزاق ، وألأمطار ، وألأعمار

__________________

١ ـ الطهراني آغا بزرگ : الثقات العيون في سادس القرون ٢٩٥ وطبع الكتاب أخيراً.

٢ ـ الطوسي : التبيان ١ / ١٣.

٣ ـ مقالات الاسلاميين ١٠٧.

٤ ـ فرق الشيعة ٧٦ نقله عن سليمان بن جرير الذي كفّره أهل السنّة أيضاً لتكفيره عثمان فهل يصحّ الاعتماد على قول مثله.

٥ ـ البحار ٤ / ١٠٤ الحديث ١٧ وغيره.

٣٠٩

والآجال كما أنّ لمحرّم الأعمال وسيّئها من قبيل البخل والتقصير ، وسوء الخلق ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، والطيش ، وعدم الانابة ، وكفران النعمة وماشابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم بعكس ذلك من اكثار الهموم ، والقلق ، ونقصان الأرزاق ، والأمطار ، والأعمار ، والآجال ، وما شاكلها.

فليس للانسان مصير واحد ، ومقدر فارد ، يصيبه على وجه القطع والبت ، ويناله ، شاء أو لم يشأ ، بل المصير أو المقدر يتغيّر ويتبدّل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها ، وبالايمان والتقوى ، والكفر والفسوق. وهذا ممّا لا يمكن ( لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة ) انكاره إلاّ من كان مؤمناً بالقلب ، ومنكراً باللسان.

ونحن نأتي في المقام بقليل من كثير ممّا يدل على ذلك من الآيات والروايات. منها :

قوله سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء : ( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِاَمْوال وَبَنينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَلْ لَكُم اَنْهاراً ) (١).

ترى أنّه عليه‌السلام ، يجعل الاستغفار ، علّة مؤثرة ، في نزول المطر ، وكثرة الأموال والبنين ، وجريان الأنهار إلى غير ذلك. وأمّا بيان كيفية تأثير عمل العبد في الكائنات الطبيعية ، فيطلب عن محلّه.

وقوله سبحانه : ( اِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ ) (٢).

وقوله تعالى : ( ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْم حَتّى

__________________

١ ـ نوح / ١٠ ـ ١٢.

٢ ـ الرعد / ١١.

٣١٠

يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِم ). (١)

وقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقُوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ والأرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأخَذْناهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (٢)

وقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ). (٣)

وقوله تعالى : ( وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ). (٤)

وقوله سبحانه : ( وَنُوحاً إِذْ نَادى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظيمِ ). (٥)

وقال تعالى : ( وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنَّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَاَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مَن ضُرٍّ ). (٦)

وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ). (٧)

وقال تعالى : ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ اِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأنبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرةً مِن يَقْطِين ). (٨)

وقال تعالى : ( فَاستَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وَكذلِكَ نُنْجِى المُؤْمِنِينَ ). (٩)

وقال سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا

____________

١ ـ الأنفال ٥٣.

٢ ـ الأعراف ٩٦.

٣ ـ الطلاق ٢ ـ ٣.

٤ ـ إبراهيم ٧.

٥ و ٦ ـ الأنبياء ٧٦ و ٨٣ ـ ٨٤.

٧ ـ الأنفال ٣٣.

٨ ـ الصافات ١٤٣ ـ ١٤٦.

٩ ـ الأنبياء ٨٨.

٣١١

آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَيوةِ الدُّنْيا وَمتَّعْناهُمْ إِلى حِين ) (١).

وهذه الآيات بالاضافة إلى كثير من الأحاديث التي سيوافيك بيان نزر منها تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان وانّه يقدر بعمله الصالح على تغيير القدر ، وتبديل القضاء وليس هناك مقدر محتوم فيما يرجع إلى أفعاله الاختيارية حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.

وأمّا الأحاديث التي تدل على هذا المطلب فكثيرة جدّاً ، مبعثرة في كتب الحديث تحت عناوين مختلفة من قبيل الصدقة ، والاستغفار ، والدعاء ، وصلة الرحم ، وما أشبه ذلك ، وسنذكر فيما يلي نموذجاً من الأحاديث لكل من الاُمور الآنفة.

الف ـ الصدقة وأثرها في دفع البلاء :

روى الصدوق في الخصال عن أنس : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أكثر من صدقة السر ، فإنّها تطفئ غضب الرب جلّ جلاله ».

وروى في عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه ، قال : قال رسول اللّه : « باكروا بالصدقة فمن باكر بها لم يتخطاها البلاء ».

وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر عليه‌السلام قال : قال أميرالمؤمنين : « أفضل ما توسّل به المتوسّلون الإيمان باللّه ... وصدقة السر ، فإنّها تذهب الخطيئة وتطفئ غضب الرب ، وصنائع المعروف فإنّها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان ».

وروى الصدوق في ثواب الأعمال عن الصادق عليه‌السلام : قال : « الصدقة

__________________

١ ـ يونس / ٩٨ ، وقد استشهد الامام أمير المؤمنين ببعض هذه الآيات عند الاستسقاء ، فقال : « إنّ اللّه يَبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات ... » نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٣.

٣١٢

باليد تدفع ميتة السوء ، وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء ».

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها العلاّمة المجلسي في كتاب الزكاة والصدقة (١).

ب ـ أثر الاستغفار في الرزق :

روى الصدوق في الخصال عن أميرالمؤمنين قال : « الاستغفار يزيد في الرزق ». وروى أيضاً فيها عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « أكثروا الاستغفار ، تجلبوا الرزق » (٢).

ج ـ الدعاء وآثاره :

روى الحميري في قرب الاسناد عن الصادق عليه‌السلام : « انّ الدعاء يرد القضاء وانّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق ».

وروى أيضاً عنه عليه‌السلام : قال رسول اللّه : « داووا مرضاكم بالصدقة ، وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء ».

وروى الصدوق عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء » (٣).

__________________

١ ـ بحارالأنوار : الجزء ٩٣ الباب ٢١ ، الأحاديث ٤ ـ ٧ ـ ٩ ـ ٢٦ ( وروى هناك أحاديث اُخرى ).

٢ ـ المصدر نفسه كتاب الذكر والدعاء باب الاستغفار وفضله وأنواعه ، الحديث ٤ ـ ١٧ ( وروى أحاديث حول الاستغفار من الفريقين ).

٣ ـ البحار الجزء ٩٣ كتاب الذكر والدعاء ، أبواب الدعاء. الباب ١٦ ـ الحديث ٢ ـ ٣ ـ ٥ ( وروى أحاديث من الفريقين ).

٣١٣

وقد عقد الكليني في الكافي باباً أسماه « انّ الدعاء يرد البلاء والقضاء » ومن جملة أحاديث هذا الباب عن حماد بن عثمان قال : سمعته يقول : « انّ الدعاء يردّ القضاء ينقضه كما ينقض السلك وقد اُبرم إبراماً » (١).

وروى عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام : « عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء للّه والطلب إلى اللّه يرد البلاء وقد قدر وقضى ولم يبق إلاّ امضاؤه فإذا دعى اللّه عزّوجلّ وسئل ، صرف البلاء صرفة » (٢).

وأخرج الحاكم عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ ، قال : لا ينفع الحذر عن القدر ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.

قال : وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ قال : ما دعا عبد بهذه الدعوات إلاّ وسع اللّه له في معيشته : « يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه ، يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الطول ، لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب شقياً فامح عنّي اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً ، وإن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب محروماً مقتراً على رزقي ، فامح حرماني ويسّر رزقي واثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير فإنّك تقول في كتابك الّذي أنزلت : ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب ) (٣).

وروى أيضاً في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : ( يسأله من في

__________________

١ ـ الكافي ج ٢ باب انّ الدعاء يرد القضاء ص ٤٦٩ الحديث ١.

٢ ـ المصدر نفسه ص ٤٧٠ الحديث ٨.

٣ ـ السيوطي ، الدر المنثور ٤ / ٦٦.

٣١٤

السموات ) ما يقرب من هذا ، فلاحظ (١).

د ـ أثر صلة الرحم :

روى الكليني عن أبي الحسن الرضا قال : « يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقى من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة ويفعل اللّه ما يشاء » (٢).

روى أيضاً عن أبي جعفر قال : « صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسّر الحساب وتنسئ في الآجال » (٣).

وروى أهل السنة نظير هذه الروايات فنكتفي بما رواه السيوطي في الدر المنثور عن علي ـ رضي اللّه عنه ـ : انّه سأل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية ( يَمْحُوا اللّه )؟ فقال له : « لأقرّن عينيك بتفسيرها ولأقرّن عين اُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، وتقي مصارع السوء ».

وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة ، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق ، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات في الأفعال فإنّ لها تأثيراً ضد اثر الأعمال الحسنة.

ويدل على ذلك من الآيات قوله سبحانه :

( وضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كانُوا

__________________

١ ـ الدر المنثور ٦ / ١٤٣.

٢ ـ الكافي ج ٢ ، باب صلة الرحم ، الحديث ٣.

٣ ـ المصدر نفسه ، الحديث ٤ ولاحظ البحار ج ٤ باب البداء ، الحديث ٦٦.

٣١٥

يَصْنَعُونَ ) (١).

وقال سبحانه : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ ) (٣).

وأمّا الروايات في ذلك فحدّث عنها ولا حرج فنكتفي بما عن أميرالمؤمنين أنّه قال في خطبة : « أعوذ باللّه من الذنوب التي تعجّل الفناء » فقام إليه عبداللّه بن الكواء اليشكرى ، فقال : يا أميرالمؤمنين أو تكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال : « نعم ، ويلك قطيعة الرحم ». وقال أيضا : « إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار » (٤).

وقد وردت في الآثار الوضعية للأعمال ، روايات يطول الكلام بنقلها. فلاحظ ما ورد في الزنا من أنّ فيها ست خصال ثلاث منها في الدنيا وثلاث منها في الآخرة أمّا التي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرزق (٥).

أيضاً ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ما روي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام انّه قال : « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو لتستعملن عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم » (٦) وعن أمير المؤمنين

__________________

١ ـ النحل / ١١٢.

٢ ـ الأنفال / ٥٣.

٣ ـ الأعراف / ١٣٠.

٤ ـ الكافي ج ٢ كتاب الايمان والكفر ، باب قطيعة الرحم ، الحديث ٧ ـ ٨.

٥ ـ سفينة البحار ١ / ٥٦٠ مادة ( زنا ).

٦ ـ الوسائل ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ١ الحديث ٤.

٣١٦

عليه‌السلام : « إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار نزلت بهم العقوبات » (١) وورد : « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (٢) إلى غير ذلك من درر الكلمات التي نقلت عن معادنها.

فقد تحصل ممّا ذكرنا :

أوّلا : إنّ علمه سبحانه يعم كل الأشياء ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

وثانياً : إنّه سبحانه كل يوم هو في شأن.

وثالثاً : إنّ لأفعال العباد ، تأثيراً في حسن العاقبة وسوئها ، ونزول الرحمة والبركة ، أو العقاب والنقمة.

إذا وقفت على هذه المقدّمات الثلاث فاعلم أنّه يقع الكلام في البداء في مقامين :

١ ـ البداء في مقام الثبوت : أي تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

٢ ـ البداء في مقام الاثبات : أي الاخبار عن تحقق الشيء علماً بالمقتضى مع خفاء المانع.

__________________

١ ـ الوسائل ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ١ الحديث ٧.

٢ ـ المصدر نفسه ، الحديث ١٨.

٣١٧
٣١٨

البداء في مقام الثبوت والاثبات

حقيقة البداء هو انّه سبحانه ( على خلاف ما اعتقده اليهود والنصارى في حقّه من فراغه عن أمر الخلق والتدبير ، والاحياء والاماتة ، والتوسيع والتقدير في الرزق ، والتعمير والتنقيص إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى الكون والإنسان ) هو القائم دائماً بالأمر ، والتدبير ، وهو القيوم على كل شيء ، وكل يوم في شأن وليست يداه مغلولتان ، بل يداه مبسوطتان ( في كل شيء ) يمحو ويثبت حسب مشيئته الحكيمة وارادته النافذة فهو المتجلّي في كل زمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا كالخالقية والرازقية والاحياء والاماتة إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.

ومن شعب هذا الأمر ، هو أنّه سبحانه : يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما ، وينزل الرحمة والبركة ، كما ينزل البلاء والنقمة ، حسب مشيئته الحكيمة ، النافذة ، ولا تصدر عنه الاُمور جزافاً واعتباطاً بل حسب ما تقتضيها حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها. فربّما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء ، ثمّ يُمحى فيكتب من السعداء أو على العكس بسبب ما يقوم به من أعمال.

٣١٩

وبالجملة : فالبداء في عالم الثبوت يضاد مزعمة اليهود والنصارى المشار إليها في قوله سبحانه : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) (١) ، وقد رد سبحانه تلك العقيدة اليهودية الباطلة في هذه الآية كما هو واضح.

ولأجل أنّ يديه سبحانه مبسوطتان ، يزيد في الخلق ما يشاء ، وفي العمر ، وينقص منه ، حسب مشيئته الحكيمة قال سبحانه : ( الحَمْدُ لِلّهِ فَاطِرِ السَّماواتِ والأَرْضِ ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلٍّ شَيء قَدِيرٌ ) (٢) وقال سبحانه : ( وَمَا تُحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمِّرُ مِن مُعَمِّر ولا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتاب إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (٣).

وبناء على ذلك فالبداء بهذا المعنى ، ممّا يشترك فيه كل المسلمين ، على مذاهبهم المختلفة من دون اختصاص بالشيعة ، فليس أحد من المسلمين ينكر أنّه سبحانه كل يوم هو في شأن ، وانّه جلّ وعلا. يبدئ ويعيد ، ويحيي ويميت ، كما أنّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص إلى غير ذلك حسب المشيئة الحكيمة والمصالح الكامنة في أفعاله.

وكما أنّه سبحانه : يداه مبسوطتان ، كذلك العبد مختار ، في أفعاله لا مسيّر ، وحر في تصرفاته (٤) لا مجبور ، له أن يغيّر مصيره ومقدّره بحسن فعله ، وجودة عمله ،

__________________

١ ـ المائدة / ٦٤.

٢ ـ فاطر / ١.

٣ ـ فاطر / ١١.

٤ ـ لا يخفى أنّ المقصود من أفعال الإنسان التي نثبت اختياره فيها هي الأفعال التي تتعلق بها التكاليف لا الأفعال القهرية التي تصدر من جهازه الهضمي مثلا.

٣٢٠