بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

منها له (١).

فعند ذلك فسح المجال لمعاوية في قتل الشيعة واستئصالهم ، تحت كل حجر ومدر. وجاءت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأموية ، فلم يكن للشيعة في تلك الأيام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان. وهذا هو الذي يستعرضه في هذا الفصل على وجه الاجمال ، حتّى يقف القارئ على أنّ بقاء التشيّع في هذه العصور المظلمة ، كان معجزة من معاجز اللّه سبحانه كما يقف على أنّ الصمود والكفاح والرد على الظلمة وأعوانهم ، كان شعار الشيعة منذ عصر الامام إلى يومنا هذا. وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية.

١ ـ رسالة الامام الحسين إلى معاوية :

« أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها ، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ اللّه تعالى ، وأمّا ما ذكرت أنّه رمي إليك عنّي ، فإنّما رقّاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردن حرباً ولا خلافاً وانّي لأخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة جرأة على اللّه واستخافاً بعهده. أولست بقاتل عمرو بن الحمق الذي اختلقت وأبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من سقف الجبل.

____________

١ ـ الارشاد للشيخ المفيد ١٩١.

٢٢١

أو لست المدعي زياداً في الإسلام فزعمت أنّه ابن أبي سفيان ، وقد قضى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل؟

سبحان اللّه يا معاوية! لكأنّك لست من هذه الاُمّة ، وليسوا منك ، أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك في حقه زياد أنّه على دين علي كرم اللّه وجهه ، ودين علي هو دين ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولو لا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها اللّه عنكم بنا منَّةً عليكم ، وقلت فيما قلت : لا تردن هذه الاُمّة في فتنة وانّي لا أعلم لها فتنة أعظم من امارتك عليها ، وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد. وانّي واللّه ما أعرف فضلا من جهادك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي ، وإن لم أفعله فأستغفر اللّه لديني. وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى ، وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، تكدني يا معاوية ما بدا لك ، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون وانّي لأرجو أنّ لا تضر إلاّ نفسك ولا تمحق إلاّ عملك فكدني ما بدالك ، واتّق اللّه يا معاوية! واعلم انّ للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، واعلم أنّ اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنّة ، وأخذك بالتهمة ، وإمارتك صبيّاً يشرب الشرب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية ، والسلام » (١).

هذه رسالة أبي الشهداء ، الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وتكفيك بياناً

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٦٤ ، جمهرة الرسائل ٢ / ٦٧ ورواه الكشي في رجاله ٤٨ ـ ٥١ ، والمجلسي في البحار ٤٤ / ٢١٢ ـ ٢١٤.

٢٢٢

وبلاغاً لما جنت به يدا معاوية وعماله على شيعة أبيه ، من فتك وقتل ذريع ، للأبرياء وصحابة النبي الأكرم ونردفها بكلام حفيده الامام محمّد الباقر عليه‌السلام ، قال لبعض أصحابه :

إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا. ثمّ تداولتها قريش ، واحد بعد واحد ، حتّى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود ، حتّى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه ، ونهب عسكره ، وعولجت خلاخيل اُمّهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل. ثمّ بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمّ غدروا به ، وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم وقتلوه.

ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله ، ليبغّضونا إلى الناس ، وكان عُظم ذلك وكُبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه‌السلام فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين عليه‌السلام ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى انّ الرجل ليقال له : زنديق أو كافر ، أحبّ إليه من أن يقال : شيعة علي ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل

٢٢٣

بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع (١).

ولعلّ في رسالة الامام أبي الشهداء ، وما قاله حفيده الامام الباقر عليه‌السلام غنى وكفاية لمن أراد أن يعرف الأمر عن كثبٍ ويقف على مظالم الامويين في حق شيعة الامام ، غير أنّه ايضاحاً للحقيقة نؤكّد ذلك بكلام غيرهما لتتم الحجّة على الجميع.

كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة على بن أبي طالب ، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها ، طلبه وأخافه ، فأتى الحسن بن علي مستجيراً به ، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته ، فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره ، فكتب الحسن إلى زياد : « من الحسن بن علي إلى زياد ، أمّا بعد : فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين لخ له مالهم ، وعليه ما عليهم ، فهدمت داره وأخذت ماله ، وحبست أهله وعياله ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فابن له داره ، واردد عليه عياله وماله ، وشفّعني فيه فقد أجرته » فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة ، أمّا بعد : فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة ، كتبت إليّ في فاسق آويتَه إقامة منك على سوء الرأي ورضاً منك بذلك ، وأيم اللّه لا تسبقني به ، ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك ، فإنّ أحبَّ لحم إليّ أن آكل منه ، اللحم الذي أنت منه ، فسلّمه بحريرته إلى من هو أولى به منك ، فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه ، وإن قتلته لم

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٣ ـ ٤٤.

٢٢٤

أقتله إلا لحبّه أباك الفاسق ، والسلام (١).

« كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصر يحرّضهم على لعن عليّ أو البراءة منه ، فملأ منهم المسجد والرحبة ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف » (٢) ، وفي المنتظم لابن الجوزي : إنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهمّ أن يخرب دورهم ويحرق نخلهم ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من علي ، وعلم أنّهم سيمتنعون ، فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم (٣).

بيان معاوية إلى عماله :

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقام الخطباء ، وفي كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، كان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي عليه‌السلام فاستعمل عليها زياد ابن سميّة ، وضمّ إليه البرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيّام علي عليه‌السلام فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق :

__________________

١ ـ شرح ابن أبي الحديد ١٦ / ١٩٤.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٢٦.

٣ ـ المنتطم ٥ / ٢٦٣ طبع بيروت.

٢٢٥

ألّا يجيزو لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم : ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيئ أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرّبه وشفعه. فلبثوا بذلك حينا.

ثمّ كتب إلى عماله : أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجري حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، واُلقي إلى معلّمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة انّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة اُخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره.

٢٢٦

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى انّ الرجل من شيعة علي عليه‌السلام ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراؤون ، والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها.

وذكر ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه‌السلام فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه‌السلام ، وولّي عبد الملك بن مروان ، فاشتدّ على الشيعة ، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف ، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي عليه‌السلام وعيبه ، والطعن فيه ، والشنان له حتى انّ انساناً وقف للحجّاج ـ ويقال انّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير انّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً ، وانّي فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج ، وقال : للطف ما توسّلت به ، قد ولّيتك موضع كذا.

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين واعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في

٢٢٧

فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني اُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به اُنوف بني هاشم (١).

فمن أراد أن يفق على الضغط الشديد الذي تعرض له الشيعة في عصر الامويّين فليقرأ حياة الصحابة والتابعين الذين قًتلوا بسيف عمّال معاوية وآل مروان ، وهؤلاء الأبطال :

١ ـ حجر بن عدي الذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (٥١) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة ، وانّه يجتمع عليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه. يقول المسعودي :

« في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي ـ وهو أوّل من قتل صبراً في الاسلام ـ وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها فلمّا صار على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :

ترفَّع أيّها القمر المنير

لعلّك ان ترى حجراً يسير

يسير إلى معاوية بن حرب

ليقتله كذا زعم الأمير

و يصلبه على بابي دمشق

و تأكل من محاسنه النسور

فقتله مع أصحابه في مرج العذراء (٢).

٢ ـ عمرو بن الحمق ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الامام الحسين سيّد

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ ـ ٤٦.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٣ ـ ٤ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٦٢ ـ ٤٦٦ برقم ٩٥.

٢٢٨

الشهداء بأنّه : أبلت وجهه العبادة. قتله بعدما أعطاه الأمان (١).

٣ ـ مالك الأشتر ملك العرب ، أحد الأشراف والأبطال كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية قتله بالسم في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله (٢).

٤ ـ رشيد الهجري كان من تلاميذ الامام وخواصّه عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى ، فقطع يديه ورجليه ولسانه ، وصلبه خنقاً في عنقه (٣).

٥ ـ جويرية بن مهر العبدي أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة (٤).

٦ ـ قنبر مولى أمير المؤمنين إذ قال الحجّاج لبعض جلاوزته : اُحبّ أن اُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب ، فقالوا : ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من مولاه قنبر ، فبعث في طلبه ، فقال له : أنت قنبر؟ قال : نعم ، قال له : إبرأ من دين علي ، فقال له : هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟

قال : إنّي قاتلك فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك ، قال : أخبرني أمير المؤمنين : انّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة (٥).

٧ ـ كميل وهو من خيار اشيعة وخاصّة أمير المؤمنين طلبه الحجّاج فهرب منه ، فحرم قومه عطاءهم فلمّا رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي ، فاستسلم للحجّاج ، فلمّا رآه قال له : كنت اُحبُّ أن أجد عليك سبيلا ، فقال له كميل : لا تبرق ولا ترعد ، فو اللّه ما بقي من عمري

__________________

١ ـ سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٤ ـ ٣٥ برقم ٦.

٢ ـ شذرات الذهب ١ / ٩١.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

٤ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٥ ـ رجال الكشي ٦٨ ـ ٦٩ برقم ٢١ الشيعة والحاكمون ٩٥.

٢٢٩

إلاّ مثل الغبار ، فاقض فإنّ الموعد اللّه عزّوجلّ ، وبعد القتل الحساب. وقد أخبرني أميرالمؤمنين انّك قاتلي ، فقال الحجّاج : الحجّة عليك إذن ، فقال : ذلك إن كان القضاء لك ، قال : بلى ، اضربوا عنقه (١).

٨ ـ سعيد بن جبير التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة وكان يصلّي خلف الامام زين العابدين فلمّا رآه الحجّاج قال له : أنت شقي بن كسير ، فقال : اُمّي أعرف بإسمي منك ، ثم بعد رد وبدل أمر الحجّاج بقتله ، فقال سعيد : وجّهت وجهي للّذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فقال الحجاج : شدّوه إلى غير القبلة ، فقال : أينما تولّوا فثمّ وجه اللّه ، فقال : كبوه على وجهه ، قال : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اُخرى ، ثم ضربت عنقه (٢).

وسيوافيك ما جرى على زيد بن علي من الصلب أيّام خلافة هشام بن عبدالملك عام (١٢٢) عند الكلام عن فرق الزيدية فتربّص حتّى حين.

هذه صورة مصغّرة من جنايات البيت الأموي وقد جئنا بها كنموذج يوقفك على كثير وذكرناه لتقف على انّ بقاء التشيّع مع هذه المجازر أشبه بالمعجزة.

الشيعة في خلافة العباسيّين :

دار الزمان على بني اُميّة ، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم ، أثناء خلافتهم إلى أن قضت على آخر ملوكهم ( مروان الحمار ) ( فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُللّهِ رَبِّ العالَمِينَ ) (٣) وولي الأمر العباسيون ، وكان الأمر في القتل

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ / ١٤٩ ، الشيعة والحاكمون ٩٦.

٢ ـ سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٢١ ـ ٣٢٨ ، الجرح والتعديل ٤ / ٩ برقم ٢٩.

٣ ـ الأنعام / ٤٥.

٢٣٠

والتشريد والسفك والحبس في عهدهم نفس ما كان في عهد الامويين بل أسوأ بكثير. قال الشاعر :

واللّه ما فعلت اُميّة فيهم

معشار ما فعلت بنو العباس

١ ـ وأوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح بويع سنة ( ١٣٢ ) ومات سنة ( ١٣٦ ) ، قضى وقته في تتبّع الامويّين والقضاء عليهم ، وهو وإن لم يتعرّض للعلوّيين ، لكنّه تنكّر لهم وشيعتهم ويوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد علي ويمحوا عنهم حقّ الخلافة. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه « أبو العباس السفاح » : « إنّ أصل الدعوة كان لآل علي ، لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل علي لا آل العباس ، لذلك كان السفّاح ، ومن جاء بعده مفتّحة عيونهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل علي : ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم ، فيقدّمون لهم الجوائز ، وكان الشعراء يعرضون بأبناء علي وينفون عنهم حقّ الخلافة ، لأنّهم ينتسبون إلى النبىّ عن طريق ابنته فاطمة ، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة » (١).

٢ ـ ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور ، وقد شيّد مجد الاُسرة العباسيّة ، وكانت خلافته مزيجاً من الخير والشرّ وصار في اُخريات أيّامه شرّاً كلّه ، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد قال : إنّ المنصور كان يجلس ويجلس إلى جانبه واعظاً ، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس ، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه ، يلتفت إلى الواعظ ويقول : عظني! فإذا ذكّره الواعظ باللّه ، أطرق المنصور كالمنكسر ، ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق ، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً ، قال لواعظه :

____________

١ ـ أبو العباس السفاح ٤٨ ، كما في الشيعة والحاكمون ١٣٩.

٢٣١

عظني!! (١).

فماذا يريد المنصور من قوله للواعظ ، وهل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء أو يريد شيئاً آخر واللّه العالم.

وأمّا ما جرى منه على العلويّين ، فنذكر ما يلي حتّى يكون كنموذج لأعماله : يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين ، ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، واُشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزَّأوا القرآن خسمة أجزاء ، فكانوا يصلّون على فراغ كل واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدّت عليهم الرائحة ، وتورّمت أجسادهم ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعا (٢).

وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمّد بن عبداللّه العثماني ، وكان أخاً لأبناء الحسن من اُمّهم ، فأمر بشقّ ثيابه ، حتّى بانت عورته ، ثم ضرب مائة وخسمون سوطاً ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك اكفف عن وجهي ، فقال المنصور للجلاّد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً ، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه ، ثم قتله ـ ثم ذكر ـ وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحسن الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لاُقتلنّك قتلة لم أقتلها أحداً ، ثمّ أمر به ، فبنى عليه اسطوانة ، وهو حي ، فمات فيها (٣).

__________________

١ ـ العقد الفريد ١ / ٤١.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٣١٠ طبع ١٩٤٨.

٣ ـ الكامل ٤ / ٣٧٥.

٢٣٢

٣ ـ ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور ، وبقى في الحكم من سنة (١٥٨) إلى سنة (١٦٩) وكفى في ظلمه للعلويّين ، انّه أخذ علي بن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فسجنه فدسّ إليه السم فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه.

٤ ـ ولمّا توفّي المهدي بويع ولده الهادي ، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر ، وكفى فيه ظلمه ـ بالرغم من قصر أيّامه ـ ما يذكره أبو الفرج الأصفهاني : انّ اُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتل المنصور ، أباها واخوتها ومومتها وزوجها علي بن الحسن ، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ، ابنها الحسين ن وكانت تلبس المسوح على جسدها ، لا تجعل بينا وبينه شيئا حتى لحقت باللّه عزّ وجلّ (١).

٥ ـ ثم تولّى بعده الرشيد سنة (١٧٠) ومات (١٩٣) ونذكر من جرائمه شيئاً واحداً ، ما نقله صاحب مقاتل الطالبيين عن إبراهيم بن رباح ، قال : إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد اللّه بن الحسن ، بني عليه اسطوانة وهو حي ، وكان هذا العمل الاجرامي موروثاً من جدّه المنصور (٢) وأمّا ماجرى منه في حقّ الامام الكاظم فنذكره في المفصل الحادي عشر عند ذكر أئمّة الشيعة.

٦ ـ ثمّ جاء بعده ابنه الأمين ، فكان على الحكم أربع سنين وأشهرا ، يقول أبو الفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللّهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون ، حتى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث.

٧ ـ وتولّى الحكم بعده المأمون ، فقد كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٢٨٥ طبع النجف.

٢ ـ مقاتل الطالبيين ٣٢٠ طبع النجف ، وروى في مقتله أمراً آخر.

٢٣٣

أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا ، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثمّ دسّ السمّ للإمام الرضا ، وسيوافيك تفصيله.

٨ ـ مات المأمون سنة (٢١٨) وجاء إلى الحكم النه المعتصم فسجن محمّد ابن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب فتغلّب عليه وسجنه ثمّ فرّ من السجن.

٩ ـ ولى الحكم بعده الواثق وقد سجن الإمام الجواد بن الإمام الرضا عليه‌السلام ، ودسّ له السم بيد زوجته الأثيمة اُمّ الفضل بنت المأمون.

١٠ ـ وولى الحكم بعد الواثق ، المتوكّل وإليك نموذجاً من حقده علي آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتّفق له أنّ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسيئ الرأي فيهم ، فحسن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب (١) قبر الحسين وعفّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق ، مسالح له لا يجدرون أحداً زاره إلا أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة.

وقال : : بعث برجل من أصحابه ( يقال له « الديزج » وكان يهودياً فأسلم ) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله ، فمضى ذلك ، فخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مأتي جريب ، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح ، بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه.

وقال : حدثني محمّد بن الحسين الأشناني : بعد عهدي بالزيارة في تلك

__________________

١ ـ الكرب : إثارة الأرض للزرع.

٢٣٤

الأيّام خوفاً ، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك ، فخرجنا زائرين ، نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضريّة ، وخرجنا نصف الليل فصرنا بين مسلحتين ، وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نشمّه ( نتسمه ) ونتحرّى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه ، واُحرق واُجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه .. فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع ، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.

وقال : واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء ، وإنّ قلّ إلا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عوارى حواسر إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم ، كان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه (١). وولى بعده المنتصر ابنه وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه ـ كما عرفت ـ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا. وأوّل ما أحدثه انّه لمّا ولى الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة ، وبعث علي بن الحسين مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا علي : إنّي اُجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ ، فقلت : أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين ـ أيّده اللّه ـ فيهم ، إن شاء اللّه. قال : إذاً تسعد

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٢٣٥

بذلك عندي (١).

وقام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلّما عزله المنتصر من االبرّ والإحسان ، ومن جرائمه انّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج : وكان ـ رضي اللّه عنه ـ رجلاً فارساً شجاعاً شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله ، ولمّا اُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبد اللّه بن طاهر ، فقال : أيّها الأمير جئتك مهنّا بما لو كان رسول اللّه حيّاً يعزّي به.

واُدخل الاُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن روي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال ، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً ، فمن تأخّر ضربت عنقه.

قال أبو الفرج : وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه.

هذا قليل من كثير من المجازر الدامية ، التي قام بها بنو العباس وأتوا بجرائم لم يسبقهم أحد من الامويين ولا من جاء بعدهم إليها وهم كما قال الشاعر :

تا للّه إن كانت بنو اُميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا

في قتله فتتّبعوه رميما

و من أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين ( الاموية والعباسية ) وملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون ، عرضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ :

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٦٣٦.

٢٣٦

١ ـ تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام ٢٤٦ هـ ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت عليه‌السلام ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا ، فبكى وبكت معه النسوة.

أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضا ـ رضي اللّه عنه ـ :

مدارس آيات خلت من ثلاوةٍ

ومنزل وحي مقفر العرصات

قال دعبل : ثمّ قرأت باقي القصيدة ، فلمّا انتهيت إلى قولي :

خروج إمام لا محالة واقع

يقوم على اسم اللّه والبركات

وبكى الرضا بكاءً شديداً من هذه القصيدة قوله :

هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه

وما حكمه بالزور والشبهات

تراث بلا قربى وملك بلا هدى

وحكم بلا شورى بغير هدات

و فيها أيضاً قوله :

لآل الرسول بالخيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجّاد ذي الثفنات

ديار عفاها جور كل منابذ

ولم تعف للايّام والسنوات

ودار لعبد اللّه والفض صنوه

سليل رسول اللّه ذي الدعوات

منازل كانت للصلاة وللتقى

وللصوم والتطهير والحسنات

منازل وحي اللّه معدن علمه

سبيل رشاد واضح الطرقات

منازل وحي اللّه ينزل حولها

على أحمد الروحات والغدوات

إلى أن قال :

ديار رسول اللّه أصبحن بلقعا

ودار زياد أصبحت عمرات

٢٣٧

وآل رسول اللّه غُلَّتْ رقابهم

وآل زياد غلّظِ القصرات

وآل رسول اللّه تُدْمى نحورهم

وآل زياد زيّنوا الحجلات

و فيها أيضا :

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده

وأجريت دمع العين والوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلات (١)

٢ ـ ميميّة الأمير أبي الفراس الحمداني ( ٣٢٠ ـ ٣٥٧ هـ ) ، هذه القصيدة تعرف بالشافية وهي من القصائد الخالدة ، وعليها مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ، وجودة السرد ، وقوّة الحجّة ، وفخامة المعنى ، انشدها ناظمها لمّا وقف على قصيدة ابن سكره العباسي التي مستهلّها :

بني علي دعوا مقالتكم

لا ينقض الدر وضع من وضعه

فقال الأمير في يجوابه ميميّته المعروفة وهي :

الحق مهتضم والدين مخترم

وفيئ آل رسول اللّه مقتسم

إلى أن قال :

يا للرجال أما للّه منتصر

من الطغاة؟ أما للّه منتقم؟

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدم! (٢)

٣ ـ جيميّة ابن الرومي التي رثا بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ، وهي :

__________________

١ ـ لاحظ للوقوف على هذه القصيدة : المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٣٩٤ ، وروضة الواعظين للقتال النيسابوري ١٩٤ ، وكشف الغمة للاربلي ٣ / ١١٢ ـ ١١٧ ، وقد ذكرها أكثر المؤرخين.

٢ ـ نقلها في الغدير برمتها وأخرج مصادرها ، لاحظ ٣ ، ٣٩٩ ـ ٤٠٢.

٢٣٨

أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج

طريقان شتّى مستقيم وأعوج

ألا أيّ هذا الناس طال ضريركم

بآل رسول اللّه فاخشوا أو ارتجوا

أكلّ أوانٍ للنبي محمّد

قتيل زكيّ بالدماء مضرّج (١)

« واللّه لا يعرف التاريخ اُسرة كاُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة ، وطيب النجار ، ضلّ عنها حقّها ، وجاهدت في سبيل الله حقَّ الجهاد من الاعصار ثم لم تظفر من جهادها المرير إلا بالحسرات ولم تعقب من جهادها إلا العبرات ، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى ، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم ، وصافحوا لاموت في بسالة فائقة وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الاعجاب والاكبار ويشيع فيها ألوان التقدير والاعظام.

وقد أسرف خصوم هذه الاُسرة الطاهرة في محاربتها وأذاقوها ضروب النكال ، وصبّوا عليها صنوف العذاب ، ولم يرقبوا فيها إلاً ولا ذمّةً ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال ، والرجال جميعاً في عنف لا يشوبه لين ، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال ، في فظاعة النكال ، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا ، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروي وخبراً يتناقل ، وقصصاً يقص ، يجد فيه الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم فتطلبوه وحرصوا عليه » (٢).

كانت الشيعة حليف الضغط والكبت ، لم ير الامويّون والعباسيّون ولا الملوك

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٦٣٩ ـ ٦٤٦.

٢ ـ مقدّمة مقاتل الطالبيين ، بقلم السيد أحمد صفر : الصفحة ي ـ ك ، طبع دار المعرفة.

٢٣٩

الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم واعراضهم وعلومهم ومكتباتهم ، وكانت اليهود والنصارى أحراراً في الرقعة الاسلامية وكانت الشيعة تعيش في التقيّة ولا يتوجّه أي ذنب على الشيعة في أن يتقي أخاه المسلم ، ويظهر له خلاف ما يعتقده. إنّما التقصير على من حملهم على التقيّة ، وأباح دمهم وعرضهم وأموالهم فلم ير بدّاً ، لصيانة نفسه ونفيسه من التقيّة.

هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من السلاجقة ورد بغداد سنة ٤٤٧ وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، كما قاله محمد كرد علي ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين (١).

قال ياقوت الحموي : وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة واُصولهم المحرّرة (٢).

وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير (٣).

وحيث كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب ، أخذ العلماء يهدون إليه

__________________

١ ـ خطط الشام ٣ / ١٨٥.

٢ معجم البلدان ٢ / ٣٤٢.

٣ ـ الكامل في التاريخ ١٠ / ٣.

٢٤٠