بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم اللّه وجهه : « اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره ، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس ، وحقّه ، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المتطلّع لأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، واللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا » (١).

فأي بيان أروع من هذا البيان ، وأيّ بلاغ أصرح منه ، فقد فنَّد خلافة المتقمّص ببيان فقده مؤهّلاتها وهي الاُمور التالية : « ١ ـ ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، ٢ ـ الفقيه في دين اللّه ، ٣ ـ العالم بسنن رسول اللّه ، ٤ ـ المتطلّع لأمر الرعيّة ، ٥ ـ الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، ٦ ـ القاسم بينهم بالسويّة » : ومعني ذلك انّ المتقمّص ومؤيديه فاقدون لهذه الصلاحيات.

٢ ـ لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين أنباء السقيفة قال ( ع ) : « ما قالت الأنصار؟ » قالوا : قالت منّا أمير ومنكم أمير ، فقال : « فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئتهم؟ » قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم؟! فقال عليه‌السلام : « لو كانت الامامة فيهم ، لم تكن الوصيّة بهم ـ ثم قال : ـ فماذا قالت قريش؟ » قالوا : « احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة » (٢).

__________________

١ ـ الامة والسياسة ١ / ١١ ـ ١٢.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٦٧.

٢٠١

وروى الرضي في المقام شعراً للإمام :

فإن كنت بالشورى ملكت اُمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقرب (١)

٣ ـ الامام لم يكتف بهذه الجمل في بادئ الأمر ، بل استمر على بيان الحق بأساليب مختلفة منها أحتجاجه بحديث الغدير في يوم الشورى سنة ٢٣ ، قال عمر بن واثلة : كنت على الباب يوم الشورى مع علي عليه‌السلام في البيت ، فسمعته يقول : « لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك ـ ثمّ قال : ـ أنشدكم اللّه ، أفيكم من وحّد اللّه قبلي؟ » قالوا : لا ... ـ إلى أن قال : ـ « فأنشدكم باللّه ، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري؟ » قالوا : اللّهمّ لا (٢).

٤ ـ كما ناشد يوم الرحبة سنة ٣٥ ، روى الأصبغ قال : نشد علي الناس في الرحبة : « من سمع النبيّ يوم غدير خم ما قال ، إلا قام ولا يقوم إلا من سمع رسول اللّه » يقول : فقام بضعة عشر رجلاً ، فيهم أبو أيّوب الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد اللّه بن ثابت الأنصاري ... فقالوا : نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه يقول : « ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وأعن من أعانه » (٣).

ولم تكن المناشدة ، منحصرة بهذين الموردين ، بل ناشد الامام في غير واحد من المواقف الاُخرى كما ناشدت زوجة الصدّيقة الطاهرة بحديث الغدير ، وبعده

__________________

١ ـ نهج البلاغة ( قسم الحكم ) برقم ١٩٠.

٢ ـ الصواعق لابن حجر ٧٥ ، المناقب للخوارزمي ١٣٥ برقم ١٥٢ طبع النشر الاسلامي.

٣ ـ اُسد الغابة ٣ / ٣٠٧ و٥ / ٢٠٥.

٢٠٢

الحسنان السبطان ، وعبد اللّه بن جعفر وعمّار بن ياسر ، حتى ناشد به عدوّه عمرو بن العاص عند احتجاجه على معاوية (١).

وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا رضاه ، بالأمر الواقع بل استمرّ على هذا إلى اُخريات حياته ، ويتّضح هذا بالرجوع إلى خطبته المعروفة الشقشقية التي ألقاها في آخر خلافته.

وأمّا عدم القيام بأخذ الحقّ بالقوة ، فلأجل أنّ القيام فرع القدرة ، ولم يكن يومذاك أيّ منعة وقدرة للإمام ، ويكفي في ذلك كلامه في خطبته الأخيرة : « فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه » (٢).

ولو افترضنا وجود القدرة ، لكن مصالح الاسلام كانت تكمن في المسالمة وادلاء الأمر إليهم ، يشير إليه الامام تارة بالكناية واُخرى بالتصريح ، أمّا الأوّل فيقول : « أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرِّجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة ، أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن ، ولقمة يغصّ بها آكلها ، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه.

فإن أقل ، يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت ، يقولوا : جزع من الموت ، هيهات بعد اللّتيَّا والتي. واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدث اُمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحْتُ به ، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويِّ

__________________

١ ـ راجع للوقوف على هذه المناشدات كتاب الغدير ١ / ١٥٩ ـ ٢١٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

٢٠٣

البعيدة » (١).

وقد خطب بها الامام لمّا قبض رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة. وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة ، فيشير الامام إلى ما لديه من العلم المكنون ، وهو إشارة إلى الوصيّة التي خصّ بها عليه‌السلام وانّه كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه (٢).

وقد أوضح ما ذكره مجملاً في هذه الخطبة التي ألقاها بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخطبته التي ألقاها بعد رجوع الناس إليه وصرّح ـ بأنّ لمسالمته الخلفاء لأجل أخطار كانت تحدق بالمسلمين بعد موت النبيّ ، فقال عليه‌السلام : « إنّ اللّه سبحانه بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمّا مضى عليه‌السلام ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي ، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولا يتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٥.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ٢١٥.

٢٠٤

وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (١).

ورواه أبو الحسن علي بن محمّد المدائني عن عبد اللّه بن جنادة ، قال : قدمت من الحجاز اُريد الطريق في أوّل إمارة علي عليه‌السلام فمررت بمكّة فاعتمرت ، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه ، إذ نودي : الصلاة جامعة ؛ فاجتمع الناس وخرج علي عليه‌السلام متقلّداً سيفه ، فشخصت الأبصار نحوه ، فحمد اللّه وصلّى على رسوله ، ثم قال : أمّا بعد ، فلمّا قبض اللّه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلنا : نحن أهله وورثته ، وعترته ، وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا ، فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الإمرة لغيرنا ـ إلى أن قال : ـ وأيم اللّه ، لو لا مخافة الفرقة بين السلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه فوليَ الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا » (٢).

كان الامام عليه‌السلام يرى انّ الدعوة إلى نفسه تؤدّي إلى تعرّض الاسلام إلى الأخطار المهلكة.

روى الزبير بن بكار ، قال : روى محمد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة ، قال : وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال بعض بني هاشم شعراً مدح فيه الامام وعاب المتقمّصين وقال :

ما كنت أحسِب أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعلم الناس بالقرآن والسنن؟

وأقرب الناس عهداً بالنبيّ وَمن

جبريل عون له في الغسل والكفن

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قصم الكتب ٦٢.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٧ ، والكلمتان متقاربتان.

٢٠٥

ما فيه ما فيهم لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن

ماذا الذي ردّهم عنه فنعلمه؟

ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن!

قال الزبير : فبعث إليه علي فنهاه ، أمراً لا يعود وقال : لسلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره.

فهذه الكلم والخطب عن عليٍّ تعرب عن إخلاصه للدين وحبّه لحفظ الوثام والسلام بين المسلمين وانّه لو لا خوف محق الدين لما ترك الأمر إلى الغير ، ولقام بالسلاح والكراع على أخذ حقّه.

« ولو لا مراعاة عليّ للأوضاع والظروف التي أحاطت بالاسلام في تلك الفترة من تاريخه ، لحدثت تطوّرات في تاريخ الاسلام لا نستطيع أن نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصي والمخلصين من الصحابة ، ولكنّه أدركت ذلك ، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين أضمروا الدمار للاسلام » (١).

كان الامام ينطر إلى أنّ طوائف من العرب على عتبة الارتداد عن الاسلام ، وانّ بين المسلمين في المدينة طابور خامس يتحيّن الفرص للقضاء على الاسلام وإحياء الجاهلية ، فلم ير بدّاً من التسليم للأمر الواقع ومماشاة الخلفاء ، ورفع مشاكل المسلمين في المسائل المستجدّة والمستعصية والاجابة على أسئلة الوافدين إلى غير ذلك من الاُمور التي استغرقت قرابة خمس وعشرين سنة من حياته ، إلى عام ٣٥ الذي قتل فيه عثمان بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار. وقد أحدث في الاسلام اُموراً أدَّت إلى الفتك به ، وكان

__________________

١ ـ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ٢٨.

٢٠٦

الخليفة الثاني متنبّئاً به ، فقال له : لئن وليتها ( الخلافة ) لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس فحمل بني أبيه على رقابهم ، يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع ، فأدّى ذلك وغيره إلى قتله في عقر داره.

تسنّم الامام مقاليد الحكم بعد ربع قرن :

كان الامام قرابة ربع قرن جليس بيته ، يشتغل ببعض الاُمور لما فيه صلاح الاسلام والمسلمين ، إلى أن قُتِل عثمان وانثال الناس على الامام من كل جانب هاتفين : لا يصلح للخلافة إلا علي. فقال لهم : « دعوني والتمسوا غيري ».

روى الطبري نقلاً عن محمّد بن الحنفية : كنت مع أبي ، حين قتل عثمان فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول اللّه ، فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك ، ولا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا » فقالوا : « واللّه ما نحن فاعلين حتى نبايعك » فقال : « ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين » ، قال سالم بن أبي الجعد : فقال عبد اللّه بن عباس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، وأبى هو إلا المسجد. فلمّا دخل ، دخل المهاجرون والأنصار ، فبايعوه ، ثم بايعه الناس (١).

وفي رواية اُخرى : غشى الناس عليّاً ، فقالوا : نبايعك ، فقد ترى ما نزل بالاسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى ، فقال علي : « دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه ، وله ألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول » فقالوا : ننشدك اللّه ، ألا ترى ما نرى ، ألا ترى الاسلام ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف اللّه ،

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٠.

٢٠٧

فقال : « قد أجبتكم لما أرى ، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني ، فانّما أنا كأحدكم ، إلا أنّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم » (١).

هذا ما يذكره الطبري ، وأمّا الامام فهو يصف كيفية هجوم الناس على بيته لمبايعته فيقول : « فتداكّوا عليّ ، تداكّ الإبل اليهم يوم وِرْدِها ، وقد أرسلها راعيها ، وخُلعت مثانيها ، حتى ظننت أنّهم قاتلي ، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ » (٢).

وفي خطبة اُخرى : « فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » (٣).

ولم تشهد ساحة الخلافة احتشاداً جماهيرياً إلى يومنا هذا ، مثلما شهدته في ذلك الزمان ، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار ، والتابعون لهم ئإحسان على المبايعة ، ولم يتخلّف إلا قليل من الناس لا يتجاوز عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول : بايعت الأنصار علياً إلا نفراً يسيراً ، منهم حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمّد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ورافع بن خُديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية. فقال رجل لعبد اللّه بن حسن : كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية ، فقال : أمّا حسّان ، فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٦.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٥٣ ، تداكوا : ازدحموا ، والهيم : العطاش ، يوم رودها : يوم شربها ، والمثاني : الحبال.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٣ ، عُرْف الضبع : ما كثر على عنقها من الشعر ، يضرب به المثل الكثرة ، ينثالون : يتتابعون ، شقّ عطفاي : خدش جانباه من الاصطكاك.

٢٠٨

ثابت فولّاه عثمان الديوان وبيت المال ، فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار اللّه ـ مرتين ـ فقال أبو أيّوب : ما تنصروه إلا إنّه كثر لك من العضدان (١) فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة « مُزِينة » وترك ما أخذ منهم له (٢).

قام الامام بواجبه ، وهمَّ بالاصلاح ، وحوله حُسّاد حاقدون ، وأعداء يترقّبون الفرص ، وعمّال للخليفة يسألونه البقاء على مناصبهم ، فعند ذلك حاقت به الأزمات والشدائد ، وهو يصف ذلك بقوله : « فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ ) (٣) بلى! واللّه لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حَلِيتْ الدنيا في أعينهم ، وراقهم زِبْرجها. أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة (٤) ظالم ، ولا سغب (٥) مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز » (٦).

فقد أشار الامام بكلامه هذا إلى حروبه الثلاثة مع طوائف ثلاث ، فالناكثون هم أصحاب الجمل ، الذين لم يجدوا عند الاما إلا الحقّ ، فطلبوا منه من المناصب ما كان فوق شأنهم وأمانتهم فاجتمعوا في مكّة وأمانتهم في مكّة تحت غطاء المطالبة بدم عثمان مع

__________________

١ ـ العضاد : كل ما يحيط بالعضد من حلي وغيرها.

٢ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٢.

٣ ـ القصص / ٨٣.

٤ ـ الكظّة : البِطْنَة ( ما يعتري الآكل عند امتلاءه بالطعام ) والمراد : استئثار الظالم بالحقوق.

٥ ـ السغب : شدة الجوع.

٦ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

٢٠٩

أنّهم هم المحرّضون على قتله ، وموَّلهم جماعة من بني اُميّة ولم يكتفوا بذلك ، وإنّما غرّوا باُمّ المؤمنين عائشة ، وأركبوها على الجمل يقطعون بها الفيافي والقفار ، حتى نزلوا البصرة ، فقتلوا من شيعة علي ومحبّيه ما استطاعوا. فلمّا لاقوا عليّاً بجيوشهم أبوا إلا الحرب فدارت الدوائر على الناكثين ، فقتل رؤوس الفتنة ، واُرسلت اُمّ المؤمنين إلى المدينة بتكريم واحترام.

ولكن لم يقف الأمر على هذا الحد ، فقام ابن آكلة الأكباد ، الطليق ابن الطليق الذي خَذَلَ هثمان ، ولم ينصره ، ثم انتحل دمه وطلب ثأره ، فجمع حوله الهمج والرعاع ، وتحالف مع عمرو بن العاص الذي عزله عثمان عن ولاية مصر ، فألّب عليه كل راع رآه في البادية ، وساومه معاوية على ولاية مصر ، فقابلهم الامام في أرض صفين ، وقد كادت الحرب تنتهي لصالح الحق والمسلمين لو لا أنّهم رفعوا المصاحف على الرماح ، وانطلت الحيلة على عسكر الامام ، وقالوا : له أجب القوم ، فحذّرهم الامام بأنّه مكر وخداع ، والقوم ليسوا أهل قرآن وسنّة ، فطلب منهم المهلة فما أجابوه ، بل هدّدوا بإراقة دمه وقتاله إن لم يُوقف الحرب ، ولم يسترجع قائده من ساحة القتال ، حتى أنّ الأشتر قائد القوات طلب منهم المهلة ولو بقدر فواق ناقة أو عدوة فرس ، فما وافقوه ، فاضطرّ الامام إلى إيقاف الحرب ، وادلاء الأمر إلى الحكمين بشرط أن لا يخرجوا عن حكم الكتاب والسنّة ، وكانت نهاية الأمر ، عزل مندوب الامام ( أبو موسى الأشعري ) خليفة المسلمين ، ونصب عمرو ابن العاص معاوية للخلافة ، كل ذلك بمكر وخداع واحتيال على أبي موسى ، فقام الحكمان ومن حولهما يشتتمان ويتسابّان.

ثمّ اُولئك الذين فرضوا قبول التحكيم على علي ، ندموا على ذلك ، وطفقوا يطالبونه بنقض الميثاق قبل حكم الحكمين ، فخرجوا عن طاعة علي ، وعن جيشه ، فنزلوا حروراء ولم يرجعوا إلى الطاعة حتى بعد ما دعاهم الامام لاعادة الحرب على

٢١٠

معاوية ، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة ، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره ، كما هم تابوا من كفرهم ، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين ، ولم يكتفوا بذلك ، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء ، ويسفكون الدماء ، فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين ، فلم يجد الامام بدّاً من قتالهم ، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود ، يصومون النهار ، ويقومون الليل ، وفي الوقت نفسه هم المارقون ، والمعاندون لله ورسوله ، وفي حقّهم يقول الامام :

« إنّي فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها (١) ، واشتدّ كلبها (٢) » (٣).

هذه حياة الامام على وجه الاجمال ، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبيّ منذ صباه في موطنه ومهجره ، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلا غزوة تبوك ، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه.

ومع الأزمات التي خلّفت عثمان وعمّاله ، وسوّدوا وجه التاريخ وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس « استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة التي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه ، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب ، التجسيد الكامل للشريعة الاسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه ، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف ، وثبّت للاسلام دعائمه ، وأعاد إلى النفوس

__________________

١ ـ الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها.

٢ ـ الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عظه اُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٩٣.

٢١١

المؤمنة أمنها ويقينها بالرسالة الاسلامية الخالدة » (١).

قام الامام بالخلافة ، وتقلّدها بعد مقتل عثمان ، وقد ترك ولاة يمتصّون دماء الناس ، ولم يكن الامام ممّن يساوم ويداهن ويترك الحق جانباً ، وأوّل ما قام به ، هو أنّه أزال الظلم عن الناس بازالة العمّال والولاة الظالمين ، الذين اكتنزوا الذهب والفضّة ، وملكوا العقارات والمواشي ، فعند ذلك قامت قيامة هؤلاء فهم بين ناكث وقاسط ، وضمّ إليهم أعداء يترقّبون الفرص للوثوب ، والانتقام ، لأنّه قتل آباءهم واستأصل شافتهم في الحروب والغزوات ، كل ذلك صار سبباً لانشغال الامام بالحروب الداخلية. ولو كان الامام آخذاً مقاليد الخلافة بعد الرسول ، بل حتى بعد خلافة الشيخين لما وجد الانحراف عن الدين وتعاليمه في الحياة مجالاً ولكنّه ـ يا للأسف ـ أخذ بها والمجتمع مثقّل بالأزمات والانحرافات.

إغارة معاوية على البلاد الآمنة :

هذا ابن أبي سفيان ، لمّا رأى انّ الأمصار الاسلامية عامدا الشام في طاعة الامام ، جمع حوله الأشقياء والبغاة ، يغيرون على البلاد الآمنة ، وينشرون الفوضى والفساد واحداً بعد واحد.

١ ـ فأرسل سفيان عوف الغامدي ، وقال : إنّي موجّهك في جيش كثيف ، ذي أداة وجلادة فالزم لي جانب الفرات ، حتى تمر بهيت (٢) فتقطعها ، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليها ، وامض ، حتى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جنداً ، فامض حتى توغل المدائن ، فكأنّك غرت على الكوفة ، إنّ هذه الغارة يا سفيان على أهل العراق

__________________

١ ـ الزيدية نظرية وتطبيق ١٩.

٢ ـ هيت : بلد على الفرات فوق الأنبار.

٢١٢

ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له فينا هوى منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل من لقيته ممّن ليس على مثل رأيك ، وأخرب كل ما مررت به من القرى ، واحرب الأموال فإنّ حرب الأموال ـ أي سلبها ـ شبيهة بالقتل ، وهو أوجع للقلب » (١).

ولمّا بلغ عليّاً جنايات الرجل ، خطب خطبته المعروفة وقال :

« فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة ـ إلى أن قال : ـ وهذا أخو غامد ، وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسّان بن حسّان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاُخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورُعُثها ، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ، ثمّ انسرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ، ولا اُريق لهم دم ، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفا ، ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا » (٢).

٢ ـ هذا بسر بن أرطاة ، بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي عليه‌السلام فقتل خلقاً كثيراً ، وقتل فيمن قتل ابني عبيى اللّه بن العباس بن عبد المطلب ، وكانا غلامين صغيرين ، فقالت اُمّهما ترثيهما :

يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما

كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف (٣)

وقد خطب الامام بعدما بلغه النبأ بقوله : « اُنبئتُ بسراً قد اطّلع اليمن ، وانّي واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ٨٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٧.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ٣٤٠ ، تشظّا : تفرّق شظايا ، راجع للوقوف على بقية الأبيات الكامل للمبرد وقد ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ٢ / ١٣.

٢١٣

عن حقّكم ، وبمعصيتكم أمامكم بالحق ، وطاعتهم إمامهم بالباطل ، وبأَدائهم الأمانة إلى صاجهم ، وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم ، وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب ، لخشيت أن يذهب بعلاقته » (١).

٣ ـ دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري ، وقال له : « سر حتى تمر بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي ، فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا ، فأغر عليها ، وإذا أصبحت في بلد فامس في اُخرى ، ولا تقيمن لخلي بلغك أنّها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها » ثم جهّزه بثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف.

فأقبل الضحاك ، فنهب الأموال ، وقتل من لقي من الأعراب ، حتى مرّ بالثعلبية (٢) ، فأغار على الحاج ، فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن مسعود الهذلي ، وهو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود ، صاحب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقتله في طريقه الحاج عند القطقطانة (٣). وقتل معه ناساً من أصحابه (٤).

٤ ـ ولم يكتف معاوية بهذه الهجمات العنيفة على البلاد الآمنة ، بل جهّز بسر بن أرطاة مرّة ثانية ، لإراقة الدماء في حرم الرسول. ويقول ابن أبي الحديد : كان بسر بن أرطاة قاسي القلب فظّاً سفّاكاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة ، وقد جهّزه معاوية في ثلاثة آلاف ، قال له : سر حتى تمرّ بالمدينة ، فاطرد الناس ، وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أحصيت له مالا ، فمن لم يكن دخل في طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم ، وأخبرهم انّه لا براءة لهم عندك

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٥.

٢ ـ الثعلبية : من منازل طريق مكّة إلى الكوفة.

٣ ـ بالضم ثم السكون : موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف.

٤ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ١١٦ ـ ١١٧.

٢١٤

ولا عذر. ووصل بسر إلى المدينة المنوّرة ، فشتم أهلها وتهدّدهم وتوعّدهم وأحرق دوراً كثيراً ، منها دار زرارة بن حرون ، ودار عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الرزقي ، ودار أبي أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وقال المسعودي : قتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها ، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان ، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً. ولمّا بلغ الخبر عليّاً أنفذ جارية بن قدامة في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، وحين علم بسر بخبر حارثة فرّ هاربا (٢).

وكانت هذه العصابات الاجرامية ، تأتي إلى العراق فتقتل وتحرق وتدمّر ، إلى آخر حياة الامام ، الذي قضى نحبه في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة ٤٠. وأصبحت شيعته كغنم غاب عنها راعيها. يفترسهم أعداؤهم عندما استتبّ الأمر لآل أبي سفيان وآل مروان وهذا هو الذي نطرحه في الفصل التالي :

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ١٠ ، وما ذكرناه ملخّص ما ذكره مفصّلا.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٣١ طبعة ١٩٤٨.

٢١٥
٢١٦

الفصل التاسع

الشيعة في العصرين الأموي والعباسي

٢١٧
٢١٨

لبّى الامام دعوة ربّه في ليلة الحادي والعشرين من رمضان على يد أشقى الأوّلين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، وهو يصلّي في محراب عبادته ، فلمّا بلغ عائشة قتل علي ، فرحت وقالت :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عيناً بالاباب المسافر

ثم قالت : من قتله؟ فقيل : رجلٌ من مراد ، فقالت :

فان يك نائيا فلقد نعاه

نعي ليس في فيه التراب

فقالت زينب بنت أبي سلمة : أتقولين هذا لعلي؟ فقالت : إنّي أنسى ، فإذا نسيت فذكّروني ...!! (١).

ولمّا بلغ خبر قتله إلى معاوية قال : إنّ الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه. ثمّ أنشد :

قل للأرانب ترعى أينما سرحت وللظبأ بلا خوف ولا وجل (٢)

فلمّا مات الامام ، خطب الحسن في مسجد الكوفة ، وقال : « ألا انّه قد مضى ، في هذه الليلة ، رجل لم يدركه الأوّلون ، ولن ير مثله الآخرون. من كان يقاتل

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير ٣ / ٣٩٤ طبع دار صادر.

٢ ـ ناسخ التواريخ ، القسم المختص بحياة الامام ٦٩٢.

٢١٩

وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. واللّه لقد توفي في هذه الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران ، ورفع فيها عيسى بن مريم واُنزل القرآن. الا وانّه ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله » (١).

ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته ، وأوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري ، ثمّ تتابع الناس على بيعته وكان أميرالمؤمنين بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت. فبينما هو يتجهّز للمسير قُتل عليه‌السلام. وبايع هؤلاء ولده الحسن ، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه ، تجهّز هو والجيش الذين كانوا قد بايعوا عليّاً. وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية (٢).

وهل وفى هؤلاء للحسن عليه‌السلام وكانوا صادقين في بيعتهم؟ كلاّ بل خانوه كما خانوا أباه فلم ير الامام بدّاً عن التصالح ، لأجل تخاذل أهل العراق أولا وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً والتفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم والمناصب ، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلاّ ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً. وانّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين ، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً ، وانّ لفيفاً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً ، إلى غير ذلك من الأسباب التي دفعت الامام إلى قبول الصلح مع معاوية ، تحت شروط خاصة تضمن لشيعة علىّ الأمن والأمان ولكنّه بعد ما وافق معاوية على الصلح ووقّع عليه ، قام وخطب : إنّي واللّه ما قاتلتكم لنصّلوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، وانّكم لتفعلون ذلك ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وأنّي قد كنت منيت الحسن أشياء ، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٣.

٢ ـ الكامل ٣ / ٤٠٤ طبع دار صادر.

٢٢٠