بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

سمعت أبابكر تلاها فدهشت. حتّى وقعت إلى الأرض ، وعرفت أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات (١).

نقاش مع الخليفة :

هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ ، يتفطّن للاجابة عنها وهي :

١ ـ انّ موت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن فُجائيّاً بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام فكانت القرائن والشواهد تدل على أنّه قد دنى فراقه للاُمّة وقد صرّح بذلك في غير واحد من أصحابه ، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة الوصية للاُمّة حتّى لا تضلّ الاُمّة من بعده وقد حال الخليفة الثاني بين النبي واُمنيته وقال ما قال (٢).

وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى وقد أصرّ على ذلك حتّى ازبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة. سوى نفسه.

فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة ( لساناً لا قلباً ) هدفاً سياسيّاً يخبّئ فيه مصالحه أو مصالح الاُمّة؟

٢ ـ هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في الحاقه بالنادر؟

____________

١ ـ السيرة النبوية : ابن هشام ٦٥٥ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

٢ ـ البخاري : الصحيح ، كتاب العلم ١ / ٢٢ وح ٢ / ١٤.

١٨١

٣ ـ نرى أنّ عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العباس ، واجهه بما واجه به أبوبكر وهو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين. مع أنّه لم يقتنع بكلامه بل اقتنع بما ذكره أبوبكر.

٤ ـ انّه كان مصرّاً على الغيبة مادام ابو بكر غائباً عن المدينة ، فلمّا نزل من السُنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه ، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها؟

٥ ـ كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه ( إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون ) وقوله سبحانه : ( وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل ) وغيرهما؟

هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون اطروحة الغيبة مناورة سياسية ، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للاُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذا موقفاً واحداً ، تجاه المسائل المصيرية.

مأساة السقيفة :

كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين في تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص.

١٨٢

فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم احساباً ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة.

ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعداً كانت سائدة في عصر الجاهلية فالأنصار ترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له ، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا يحتمل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريش أوسط داراً وأحسن نسباً.

ولم يكن هناك من يذكّر ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية (١)

فلو كان هناك مشورة اسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات اللّه وأسبقهم إلى الايمان والإسلام. كما هو الوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْاْ عَنِ المُنكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الاُمُورِ ) (٢).

وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث :

١ ـ ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

٢ ـ وحلم يملك به غضبه.

٣ ـ وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم (٣).

__________________

١ ـ لاحظ : في الوقوف على احتجاج الطائفتين ، السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٦٥٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٢٦٩ وتاريخ الطبري ٢ / ٤٤٢ ـ ٤٤٦.

٢ ـ الحج / ٤١.

٣ ـ الكافي للكليني ١ / ٤٠٧.

١٨٣

وقال الامام علي : « أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل » (١).

وقال ( صلوات اللّه عليه ) أيضاً عندما قال قال كلام « إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي (٢).

وقال الامام السبط الطاهر الحسين بن علي عليهما‌السلام فما الامام إلا الحاكم بالكتاب ، الدائن بدين الحق ، القائم بالقسط ، الحابس نفسه على ذات اللّه (٣).

وأين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه : ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون ) (٤).

ما سمعت من الكلمات ، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر منهم من الضرب والسباب ، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة ، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق فيه لأخذ كرة الخلافة بأي طريق حصل وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة.

هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال : « واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلا

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم ١٧٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم ١٧٢.

٣ ـ روضة الواعظين ٢٠٦.

٤ ـ الأنبياء / ١٠٥.

١٨٤

حطّمت أنفه بالسيف ، أنا جُذيلها المحكّك ( أصل الشجرة ) وعُذيقها المرجَّب ( النخلة المشتملة بالتمر ) أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، يعزي إلىّ الأسد » (١).

وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول اخراج القيادة من الأنصار وأقرارها لغيرهم.

وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي : « أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي واُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي » (٢).

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله : « إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم » (٣).

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام ، وينزي عليه وينادي عليه بغضب : « اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة » وقد قام عمر على رأسه ويقول : « لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك أو تندر عيونك » (٤).

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول : « واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة! أو لخفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة » (٥).

وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تكل المشاجرة بقوله : « كثر اللغط

__________________

١ ـ شرح ابن أبي الحديد ٢ / ١٦.

٢ ـ الغدير ٧ / ٧٦.

٣ ـ الامامة والسياسة ١ / ١١ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠.

٤ ـ مسند أحمد ١ / ٥٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠ ، وغيرهما.

٥ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠ ، السيرة الحلبية ٣ / ٣٨٧.

١٨٥

وارتفعت الاصوات حتى تخوّفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يديك يا أبابكر ، فبسط يده ، فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل اللّه سعد بن عبادة » (١).

إنّ الشورى الاسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية ، لا تنعقد إلا بدراسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية ، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر. ونزاهة في الكلام ، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأية بدليل وبرهان ، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتى يصل من خلالها المسلمون إلى ألامثل فالأمثل في موضوع القيادة ، وأمّا المجلس الذي تسل فيه السيوف على المخالف ، ويداس المقابل بالأقدام ، فهذا أشبه ، بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة ، بل أشبه ...

هذا حال السقيفة وأما ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج ، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلا وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له.

ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة ، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه اخلالاً بالبيعة ، بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة ، ليتهدّدوا اللائذين به ، الممتنعين عن مبايعته ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، وأتى عمر إلى بيت فاطمه وهو يقول : واللّه لنحرقنّ عليك أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية : « يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (٢).

__________________

١ ـ السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٦٦٠.

٢ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠ ، الامامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ١٣.

١٨٦

ثمّ بعد هنّ وهنات اُخرج الأمام من بيته ، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ، وسيق سوقاً عنيفاً ، وقالوا له : بايع ، فيقول : « إن أنا لم أفعل فمه؟ » فيقال : واللّه الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال علي : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسول اللّه » (١).

ولم يكن الضغط منحصراً في علي ، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفّة سلّ سيفه وقال : لا أغمده حتى يبايع علي ، فيقول عمر : عليكم الكلب ، فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر فيكسر (٢).

هذه صورة اجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى التي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل ، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين (٣) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة ، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه (٤).

وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله : كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت ، وانّها قد كانت كذلك إلا أنّ اللّه قد وقى شرّها ، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ، فانّه لا بيعة له (٥).

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٣.

٢ ـ تاريخ الطبري ٣ / ١٩٩ ، الامامة والسياسة ١ / ١١.

٣ ـ سيأتي مصدره.

٤ ـ سيأتي مصدره.

٥ ـ السيرة النبوية ٢ / ٦٥٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٦.

١٨٧

الخلفاء وتناسي الشورى :

قد درسنا كيفية انعقاد الامامة لأوّل الخلفاء ، هلمّ معي ندرس خلافة غيره ، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أيّ مشورة ولا أيّ استفتاء شعبي ، ولا أيّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرون.

روى المؤرّخون : انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان ، فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى عليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا ، نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ... (١).

والانسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ ، يقف على قيمة ما ذكره الامام ، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر ، فقال : « احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اُشدد له اليوم أمره ، ليردّه عليك غداً ، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا اُبايع » (٢) فو اللّه ، لقد تحقّق قول الامام حيث ردّ عليه الأمر من بعد ، كما عرفت.

وهذا عمر بن الخطّاب ، فبعد ما جرح ودنا أجله قال : سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض ، فأرسل إليهم فجمعهم وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وطلحة ، والزبير بن العوّام ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمان بن عوف ، وكان طلحة غائباً.

فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين ، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم فتشاوروا ثلاثة أيّام ، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلا فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتى

__________________

١ ـ الامام والسياسية لابن قتيبة ١٨ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٤٢٥.

٢ ـ الامامة والسياسة ٢٣ ، الكامل ٣ / ٣٥.

١٨٨

تستخلفوا أحدكم.

ثم قال لصهيب : « صلّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ... وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... فان رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبد اللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس » (١).

« فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار ، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثماناً ، وانّ الخلافة لا تخلص له وهما موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه‌السلام بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.

ولمّا رأي الزبير أنّ علياً قد ضعف ، وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حميّة النسب فوهب حقه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته. وهي صفية بنت عبد المطلب وأبو طالب خاله.

وقال سعد بن أبي وقاص : أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمان وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له.

فلما لم يبق إلا الثلاثة. علي وعثمان وعبد الرحمن ولكن واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري : بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبد الرحمان ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان ، ولأجل ذلك قام بلعبة اُخرى يريد بها

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٢٩٤.

١٨٩

حرمان علي.

فقال عبد الرحمان لعلي وعثمان : أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الأختيار في الأثنين الباقيين؟ فلم يتكلّم منهما أحد ، فقال عبد الرحمان : اشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما ، فامسكا فبدأ بعلي عليه‌السلام وقال له : اُبايعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الشيخين : أبي بكر وعمر ، فقال : بل على كتاب اللّه وسنّة الرسول واجتهاد رأيي ، فعدل عنه الى عثمان فعرض عليه ذلك ، فقال : نعم فعاد إلى علي عليه‌السلام فأعاد قوله ، وفعل ذلك عبد الرحمان ثلاثاً ، فلمّا رأى أنّ علياً غير راحع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالاجابة صفّق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إنّ عليّاً عليه‌السلام قال له : واللّه ما فعلتها إلا لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه دقَّ اللّه بينكما عطر « منشم ».

قيل : ففسد ذلك بين عثمان وعبد الرحمان فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمان (١).

شورى سداسية أو لعبة سياسية؟ :

إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الايصاء به صريحاً. فدقّ الخليفة باب الشورى

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ ، الجزري : الكامل ٣ وشرح بن أبي الحديد ١ / ١٨٨ ، و« منشم » اسم امرأة عطَّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا بطيبها وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فكان يقال أشأم من عطر منشم ، لاحظ الصحاح للجوهري.

١٩٠

حتى يسّد به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الاُمور. منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث قال لعمّه العباس : عُدل بالأمر عنّي يا عم قال : وما عيبك ، قال : قرن بي عثمان ، وقال عمر : كونوا مع الأكثر فان رضى رجلان رجلاً ، ورجلان ورجلاً ، فكونوا مع عبد الرحمان بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه ( عبد الرحمان بن عوف ) وعبد الرحمان صهر عثمان لا يختلفان (١).

وقال ابن عباس : الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان (٢).

وقد نال الخليفة بغيته من خلال الاُمور التالية :

١ ـ إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة وقد احتكر ذلك الحق لنفسه وسلبه عن الاُمة ـ ولو كان الانتخاب بيد الاُمة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده. فأدخل في الشورى رجالاً يسيرون على الخط الذي رسمه الخليفة في نفسه.

وبرّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عنهم وهو تبرير تافه ، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وأبي أيوب مضيّفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحققون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد.

٢ ـ انتخب رجالاً لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن

____________

١ ـ شرح النهج ١ / ١٩١.

٢ ـ شرح النهج ١ / ١٨٩.

١٩١

الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي عليه‌السلام واضمار العداء له. فعند ذلك أصبح اقصاء عليّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً وذلك لأنّ طلحة بن عبيد اللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحارفه عنه. فلأجل ذلك وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي.

إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبد الرحمان بن عوف وكلاهما من بني زهرة فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته.

وعبد الرحمان بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي اُخت عثمان من اُمّه.

على هذا كانت تشهد القرائن على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان ، فطبع الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الذي سيأخذ بمقاليد الحكم. إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه.

٣ ـ انّه لما كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة التي فيها عبد الرحمان بن عوف فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبد الرحمان بن عوف ( وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها ) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع.

وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب بل افسده على علي بعد رحيل عثمان حيث إنّ ادخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بانّهم مؤهّلين لها وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الامام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثأر لعثمان.

١٩٢

إنّ الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى ، فقال في بعض خطبه : « فيا للّه والشورى ، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل حتى صرت اُقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفّوا. وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن » (١).

وهذا كلام علي في أواخر أيامه. فقد اعترض هو أيضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه فروى الطبري أنّ عبد الرحمان قال : أيّها الناس أشيروا عليّ في هذين الرجلين؟ فقال عمّار بن ياسر : إنّ أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً. فقال المقداد : صدق عمّار ، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا ، فقال عبد اللّه بن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ، وقال عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي : صدق ، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا ، فشتم عمّار بن أبي سرح وقال له : متى كنت تنصح الاسلام؟!

فتكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة وقام عمّار وقال : أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم. فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد : يا عبد الرحمان أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمان على علي عليه‌السلام العمل بسيرة الشيخين.

فقال : بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال : نعم ، فقال علي عليه‌السلام : ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب / الخطبة ٣.

١٩٣

تصفون واللّه ما ولّيته الأمر إلا ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن (١).

وبهذا تبين أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق وكانت اسماً بلا مسمى.

إجابه عن سؤال :

إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الاسلام ، فماذا يعني الامام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول : إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً (٢).

نقول : إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة ، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّ هو نظام الشورى ، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد ، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام ، وما صدَّر به الامام رسالته ، أعني قوله : « انّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان » تدل بوضوح على أنّ الامام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم ـ أعني معاوية ـ ، على قاعدة « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » ، فإنّه خرج عن طاعة الامام مع اعتناقه إمامة من تقدّم ، فالامام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي عليّ والطاعة لهم ، ولو لم يكن في مقام الجدل وافحام الخصم ، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر الرسالة وجه ، مع أنّ للامام كلمات في تخطئة الشورى التي تمّت بها ، أو بادّعائها خلافة الخلفاء ، ومن تصفّح نهج البلاغة يقف عليها.

__________________

١ ـ شرح النهج : لابن أبي الحديد ١ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

٢ ـ الامامة والسياسة ٢٣ ، ونهج البلاغة قسم الرسائل ، برقم ٤٥.

١٩٤

والعجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة ، إلى نظام الشورى بل استند كل من اللفيفين باُمور لا تمت إلى هذا الأصل ، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبيّ وعشيرته ، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول ، وضّحوا بأنفسهم ونفايسهم لحراسته وحفظه ، فانظر ماذا ترى قاتل اللّه الأنانية ، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.

١٩٥
١٩٦

الفصل الثامن

نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع

١٩٧
١٩٨

دلّت نصوص الخلافة الماضية ، بوضوح على أنّ الامام علياً كان هو الخليفة الشرعي والقائم بالأمر بعد الرسول وانّه كان من واجب المسلمين الرجوع إليه فيما يمت إلى حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية ، غير أنّ رجالاً بعد النبيّ تناسوا النصّ بعد تلبية النبيّ نداء ربّه ، وانثالوا على أبي بكر ، وبعده على عمر وعثمان ، إلى أن عاد الحق إلى نصابه ، ودار الأمر على مداره. وهناك سؤال يطرحه كل من يؤمن بتواتر النصوص ووضوح دلالتها ، لما يشاهد المعارضة بينها وبين الأمر الواقع في السقيفة وما بعدها ، وانثيال كثير من المهاجرين والأنصار إلى غير علي ، فيقع في الحيرة والتعجّب ، فيقول : لو كانت النصوص النبويّة على هذا المستوى ، فلماذا أعرض عنها المسلمون؟ ولماذا لم يطلب الامام حقّه الشرعي؟ ولماذا رضي بالأمر الواقع ، ولم ينبس فيه ببنت شفة؟ وهذا هو الذي نجيب عنه في المقام ، فنقول :

إنّ المهم هو بيان السرّ الذي دفع الامام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقدرة والعنف ، وأمّا إعراض المهاجرين والأنصار ، أو في الحقيقة ـ إعراض الرؤوس منهم عن النص ، وانثيال غيرهم إليهم ، فليس هذا أمراً عجبا ، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص ، واجتهدوا تجاهها كما تقدّم البحث عن موارده ـ. وإليك تشريح ما هم المهم :

١٩٩

إن الامام لم يسكت طول حياته عن بيان حقّه وارشاد الناس إليه ، بل أظهر عدم رضاه بالأمر الواقع وانّه تعبير آخر عن غصب حقّه ، يقف عليه كل من قرأ ماساة السقيفة في كتب التاريخ ، فلا يفوتنّك قراءة طبقات ابن سعد ، وتاريخ الطبري ، والسيرة النبوّية لابن هشام ، ولا العقد الفريد ، ولا الامامة والسياسة لابن قتيبة ، فكلّها مفعمة بشكوى الامام وعدم قبوله بالأمر الواقع ، غير انّ التكليف حسب القدرة ، ـ وبعدها ـ في ظلّ المصالح العامّة ، فلم يكن للامام قدرة على المطالبة بحقّه ، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في ادلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة ، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة التاريخ.

١ ـ هذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة ، وما فيه من مآسي ، يقول : إنّ علياً كرّم اللّه وجهه اُتي به إلى أبي بكر وهو يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه » فقيل له : بايع ، فقال : « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ ، وتأخذوه من أهل البيت غصبا! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة ، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار. نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً ، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوءوا بالظظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : « احلب حلباً لك شطره ، وشُدَّ له اليوم ، يردده عليك غداً ـ ثمّ قال : ـ واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا اُبايعه » فقال له أبوبكر : فإن لم تبايع فلا اُكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعلي كرم اللّه وجهه : يا ابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور ولا أرى أبابكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالاً واستطلاعا ، فسلِّم لأبي بكر فإنّك إن تعش ويطل لك بقاء ،

٢٠٠