بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

على بيعته ولام بعضهم بعضاً ، وهتفوا باسم الامام علي ولكنّه لم يوافقهم (١).

ومن المستحيل عادةً اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء في يوم واحد ، بل يعرب ذلك عن وجود جذور لها ، قبل رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤكد ذلك نداءاته التي ذكرها في حق عليّ وعترته في مواقف متعدّدة ، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفة ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى علي انّما هو لأجل مشايعتهم لعلي زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما هذا إلاّ اخلاص ووفاء منهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أين هو من تكوّن التشيّع يوم السقيفة.

ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق : انّه بعد ما استتبّ الأمر لأبي بكر اعترض عليه ( لفيف ) من الصحابة في مسجد النبي وكلّ يذكر وصايا النبي في حق علي بالوصاية من بعده ، وسيوافيك نصوصهم في فصل مأساة السقيفة على وجه موجز.

____________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٣ ـ ٤٤

١٢١
١٢٢

الافتراض الثاني :

التشيّع صنيع عبداللّه بن سبأ

« إنّ يهودياً باسم عبداللّه بن سبأ المكنّى بابن الأمة السوداء في ـ صنعاء ـ أظهر الإسلام في عصر عثمان واندسّ بين المسلمين ، وأخذ ينتقل في حواضرهم وعواصم بلادهم : الشام ، والكوفة ، والبصرة ، ومصر ، مبشّراً بأنّ للنبي الأكرم رجعة كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة ، وأنّ عليّاً هو وصي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان لكل نبي وصي ، وأنّ عليّاً خاتم الأوصياء كما كان محمّداً خاتم الأنبياء ، وأنّ عثمان غاصب حق هذا الوصي وظالمه ، فيجب مناهضته لارجاع الحق إلى أهله ».

« إنّ عبداللّه بن سبأ بثّ في البلاد الإسلامية دعاته ، وأشار عليهم أن يظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والطعن في الاُمراء ، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين ، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح من أمثال أبي ذر ، وعمار بن ياسر ،ومحمد بن حذيفة ،وعبدالرحمان بن عديس ،ومحمّد بن أبي بكر ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، ومالك الأشتر ، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم فكانت السبأية تثير الناس على ولاتهم ، تنفيذاً لخطة زعيمها ، وتضع كتباً في عيوب الاُمراء وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار ، فنتج عن ذلك قيام جماعات

١٢٣

من المسلمين بتحريض السبأيين ، وقدومهم إلى المدينة وحصرهم عثمان في داره ، حتّى قتل فيها ، كل ذلك كان بقيادة السبأيين ومباشرتهم ».

إنّ المسلمين بعدما بايعوا عليّاً ، ونكث طلحة والزبير بيعته ، وخرجا إلى البصرة رأى السبأيون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون ، وأنّه إن تمّ ذلك سيؤخذون بدم عثمان ، فاجتمعوا ليلا وقرّروا أن يندسّوا بين الجيشين ويثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم ، وانّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان ، فناوش المندسّون من السبأيين في جيش علي من كان بازائهم من جيش البصرة ففزع الجيشان وفزع رؤسائهما ، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً ، ثمّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق ، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم.

إلى هنا انتهت قصة السبأية ، ولا يذكر منهم شيء بعد ذلك في التواريخ هذا هو الذي يذكره الطبري في تاريخه ، ويقول :

فيما كتب به إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عطية ، عن يزيد الفقعسي قال : كان عبداللّه بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء اُمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول اضلالهم فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة ، ثمّ الكوفة ، ثمّ الشام ، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتّى أتى مصر فاعتمر فيهم ، فقال لهم فيما يقول : لعجب فمن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأنّ محمّداً يرجع ، وقد قال اللّه عزّوجلّ : ( إنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعاد ) (١) ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال : فَقُبِل ذلك عنه ، ووضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّه كان ألف نبي ولكل نبي وصي ،

__________________

١ ـ القصص / ٨٥.

١٢٤

وكان علي وصي محمّد. ثم قال : محمّد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء. ثمّ قال بعد ذلك : من أظلم ممّن لم يجز وصية رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووثب على وصي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتناول أمر الاُمّة ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّ عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه ، وابدأوا باللعن على اُمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر. فبثّ دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم ، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ، ويكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه اُولئك في أمصارهم ، وهؤلاء في أمصارهم ، حتّى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة ، وهم يريدون غير ما يظهرون ، ويسرّون غير ما يبدون ... إلى آخر ما يذكره الطبري في المقام ، وفي أحداث السنوات التالية إلى سنة ٣٦ التي وقعت فيها حرب الجمل. ولا يأتي بعد بشيء عن السبأية (١).

ثمّ إنّك قد تعرّفت على كبار السبأية وأنّهم كانوا من أكابر الصحابة والتابعين ، كأبي ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر ، ومحمّد بن أبي حذيفة ، الذين عرفهم المسلمون بالزهد والتقى والصدق والصفا ، وأمّا عبدالرحمان بن عديس البلوي فهو ممّن بايع النبي تحت الشجرة وشهد فتح مصر ، وكان رئيساً على من سار إلى عثمان من مصر (٢).

__________________

١ ـ الطبري ٣ / ٣٧٨.

٢ ـ اُسد الغابة ٣ / ٣٠٩ قال : وشهد بيعة الرضوان وبايع فيها وكان أمير الجيش القادمين من مصر لحصر عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه لمّا قتلوه روى عنه جماعة من التابعين بمصر ...

١٢٥

وأمّا محمّد بن أبي بكر ، فاُمّه أسماء بنت عميس الخثعمية تزوّجها أبوبكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمّداً في حجّة الوداع بطريق مكّة ، ثم نشأ في حجر علي بعد أبيه ، وشهد معه حرب الجمل ، كما شهد صفّين ، ثم ولي مصر عن علي ، إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها (١).

وأمّا صعصعة بن صوحان العبدي ، أسلم على عهد رسول اللّه ، كان خطيباً فصيحاً شهد صفّين مع علي. ولمّا استشهد علي ، واستولى معاوية على العراق ، نفاه إلى البحرين ومات فيها (٢).

وأمّا الأشتر ، فهو مالك بن الحرث النخعي ، وهو من ثقات التابعين ، شهد وقعة اليرموك ، صحب عليّاً في الجمل وصفّين ، ولاّه على مصر سنة (٣٨) ثم وصل إلى القلزم ، دسّ إليه معاوية عميلا له ، فتوفّي بالسم (٣).

هذا هو الذي يذكره الطبري وقد أخذه من جاء بعده من المؤرّخين وكتّاب المقالات حقيقة راهنة ، وبنوا عليه مابنوا من الأفكار والآراء فصارت الشيعة وليدة السبأية في زعم هؤلاء عبر القرون والأجيال ، وإليك من ذكرها مغمض العينين :

__________________

١ ـ كان أحد من توثّب على عثمان حتّى قتل ثم انضمّ إلى علي : اُسد الغابة ٤ / ٣٢٤ ، والاستيعاب ٣ / ٣٢٨ والجرح والتعديل ٧ / ٣٠١.

٢ ـ اُسد الغابة ٣ / ٣٢٠ قال : تقدم نسبه في أخيه زيد وكان صعصعة مسلماً على عهد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يره وصغر عن ذلك وكان سيّداً من سادات قومه عبد القيس وكان فصيحاً بليغاً لسناً ديّناً فاضلا يعد في أصحاب علي ـ رضي اللّه عنه ـ وشهد معه حروبه.

٣ ـ ملك العرب ، أحد الأشراف والأبطال : الطبقات الكبرى ٦ / ٢١٣ ، الاصابة ٣ / ٤٥٩ سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٤.

١٢٦

١ ـ ابن الأثير ( ت ٦٣٠ ) ، فقد أورد القصّة منبثة بين حوادث ( ٣٠ ـ ٣٦ ) وهو وإن لم يذكر المصدر في المقام ، لكنّه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاثة الأول (١).

٢ ـ ابن كثير الشامي ( ت ٧٧٤ ) فقد ذكر القصّة في تاريخه « البداية والنهاية » وأسندها عند ما انتهى من سرد واقعة الجمل ، إلى تاريخ الطبري ، وقال : هذا ملخّص ما ذكر أبو جعفر بن جرير (٢).

٣ ـ ابن خلدون ( ت ٨٠٨ ) ، في تاريخه « المبتدأ والخبر » أورد القصّة في حادثة الدار والجمل وقال : هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبري (٣).

وأمّا المتأخّرون ، وأخصّ الكتّاب الجدد فإنّهم يذكرون القصّة ، فنذكر منهم مايلي :

٤ ـ محمّد رشيد رضا ، منشئ مجلة المنار ( ت ١٣٥٤ ) ، ذكره في كتابه

__________________

١ ـ لاحظ مقدمة تاريخ الكامل يقول فيه : فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الامام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه جميع تراجمه ، لم أخل بترجمة واحدة منها لاحظ ١ / ٣ طبع دار صادر.

٢ ـ البداية والنهاية ٧ / ٢٤٦ طبع دار الفكر بيروت.

٣ ـ تاريخ ابن خلدون يقول : « وبعث ( عثمان ) إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر : محمد ابن مسلمة إلى الكوفة ، واُسامة بن زيد إلى البصرة ، وعبداللّه بن عمر إلى الشام وعمار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه ، فرجعوا إليه فقالوا : ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامّهم إلاّ عماراً فانّه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه ، منهم عبداللّه بن سبأ ويعرف بابن السوداء كان يهوديّاً وهاجر أيّام عثمان فلم يحسن اسلامه واُخرج من البصرة ... تاريخ ابن خلدون أو كتاب العبر ٢ / ١٣٩ ، وقال ١٦٦ : هذا أمر الجمل ملخّص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء.

١٢٧

« السنّة والشيعة » وقال : وكان مبتدع اُصوله ( التشيّع ) يهودي اسمه عبداللّه بن سبأ ، أظهر الإسلام خداعا ، ودعا إلى الغلوّ في علي كرم اللّه وجهه ، لأجل تفريق هذه الاُمّة ، وافساد دينها ودنياها عليها ، ثمّ سرد القصّة وقال : ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير افساد السبأيين دون ما كاد يقع من الصلح (١).

٥ ـ أحمد أمين ( ت ١٣٧٢ ) ، وهو الذي استبطل عبداللّه بن سبأ في كتابه « فجر الإسلام وقال : إنّ ابن السوداء كان يهوديّاً من صنعاء أظهر الإسلام في عهد عثمان ، وحاول أن يُفسد على المسلمين دينهم وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة ، وقد طاف في بلاد كثيرة ، في الحجاز ، والبصرة ، والكوفة ، والشام ، ومصر ، ثمّ ذكر أنّ أباذر تلقّى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي ، وهو تلقّى هذه الفكرة من مزدكيّي العراق أو اليمن. وقد كان لكتاب « فجر الإسلام » عام انتشاره ( ١٩٥٢ م ) دويّ واسع النطاق في الأوساط الإسلامية ، فإنّه أوّل من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع ، وقد ردّ عليه أعلام العصر بأنواع الردود ، فألّف الشيخ المصلح كاشف الغطاء « أصل الشيعة واُصولها » ردّاً عليه ، كما ردّ عليه العلاّمة الشيخ عبداللّه السبيتي بكتاب أسماه « تحت راية الحق ».

٦ ـ فريد وجدي مؤلّف دائرة المعارف ( ت ١٣٧٠ ) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (٢).

٧ ـ حسن إبراهيم حسن ، وذكره في كتابه ( تاريخ الإسلام السياسي ) وقد ذكر في اُخريات خلافة عثمان قوله : « فكان هذا الجوّ ملائماً تمام الملائمة ومهيّئاً لقبول دعوة ( عبداللّه بن سبأ ) ومن لفّ لفّه والتأثّر بها إلى أبعد حد « وقد أذكى نيران هذه

__________________

١ ـ السنّة والشيعة ٤ ـ ٦ ـ ٤٥ ـ ٤٩ ـ ١٠٣.

٢ ـ دائرة المعارف ٦ / ٦٣٧.

١٢٨

الثورة صحابي قديم اشتهر بالورع والتقوى ـ وكان من كبار أئمّة الحديث ـ وهو أبوذر الغفاري الذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء وهو عبداللّه بن سبأ ، وكان يهوديّاً فأسلم ، ثمّ أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية ، فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة فالكوفة والشام ومصر ... الخ (١).

هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين ، وأمّا المستشرقون المتطفّلون على موائد المسلمين فحدّث عنهم ولا حرج ، فقد اتبعوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية التي تؤلّف لغايات خاصّة ، فم أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألّفه الباحث الكبير السيد مرتضى العسكري في ذلك المجال ، فإنّه ـ دام ظلّه ـ حقّق المقال ولم يبق في القوس منزعاً (٢).

نظر المحقّقين في الموضوع

١ ـ إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصّة ، على وجه لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن ، إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء وأسلم في عصر عثمان ،واستطاع أن يُغري كبار الصحابة والتابعين ، ويخدعهم ويطوف بين البلاد واستطاع أن يكوّن خلايا ضدّ عثمان ويستقدمهم على المدينة ويؤلِّبهم على الخلافة الإسلامية ، فيهاجموا داره ويقتلوه ، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم باحسان ، هذا شيء لا يحتمله العقل وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب.

إنّ هذه القصّة تمس كرامة المسلمين والصحابة والتابعين ، وتصوّرهم اُمّة

__________________

١ ـ تاريخ الإسلام السياسي ٣٤٧.

٢ ـ عبداللّه بن سبأ١ / ٤٦ ـ ٥٠ ، وكتابه هذا من أنفس الكتب وحسنات الزمان.

١٢٩

ساذجة يغترّون بفكر يهودي وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكّرون.

٢ ـ إنّ القراءة الموضوعية للسيرة والتاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم ، وينفون المخالفين ويضربونهم ، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته ، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر حتّى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من أضلاعه (١). إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم التي يقف عليها المتتبّع ، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمّالها يغضّون الطرف عمّن يُؤلِّب الصحابة والتابعين على اخماد حكمهم ، وقتل خليفتهم في عقر داره ، ويجر الويل والويلات على كيانهم. وهذا شيء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة وسيرة معاوية.

يقول العلاّمة الأميني : لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يبلغه القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة والتأديب بالضرب والاهانة ، والزج إلى أعماق السجون؟ ولا آل أمره إلى الاعدام المريح للاُمّة من شرّه وفساده كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهتاف القرآن الكريم يرنُّ في مسامع الملأ الديني : ( إِنَّما جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُواْ أو تُقَطِّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِن خِلاف أوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٢)

__________________

١ ـ الاستيعاب ٢ / ٤٢٢.

٢ ـ المائدة / ٣٣.

١٣٠

فهّلا اجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله؟ وهل كان تجهّمه وغلظته قصراً على الأبرار من اُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففعل بهم ما فعل (١).

وهناك لفيف من الكتّاب ممّن حضر أو غبر ، بدل أن يفتحوا عيونهم على الواقع المرير ، ليقفوا على الأسباب المؤدّية التي قتل الخليفة حاولوا التخلّص من أوزار الحقيقة ، فنحتوا فروضاً وهمّية سببت قتل الخليفة وأودت به.

وفي حق هؤلاء يقول الكاتب المعاصر :

« وفي الشرق كتَّابٌ لا يعنيهم من التاريخ واقعٌ ولا من الحياة حال أو ظرف ، فإذا بهم يعلّلون ثورة المظلومين على أيام عثمان ، ويحصرون أحداث عصر بل عصور ، بإرادةِ فردٍ يطوّفُ في الأمصار والأقطار ويؤلّبُ الناس على خليفةٍ ودولة!

إنّ النتيجة العملية لمثل هذا الزعم وهذا الافتراء هي أنّ الدولة في عهد عثمان ووزيره مروان إنّما كانت دولةً مثاليَّة ، وأنَّ الأمويّين والولاة والأرستقراطيين إنَّما كانوا رُسُلَ العدالة الاجتماعية والإخاء البشري في أرض العرب. غير أنّ رجلاً فرداً هو عبداللّه بن سبأ أفسدَ على الأمويين والولاة والأرستقراطيين صلاحَهم وبرّهم إذ جعل يطوف الأمصارَ والأقطارَ مؤلِّبا على عثمان واُمرائه وولاته الصالحين المُصلحين. ولولا هذا الرجل الفرد وطوافُه في الأمصار والأقطار لعاش الناس في نعيم مروان وعدل الوليد وحلم معاوية عيشاً هو الرغادة وهو الرخاء.

وفي مثل هذا الزعم افتراءٌ على الواقع واعتداءٌ على الخَلق ومسايرةٌ ضئيلة الشأن لبعض الآراء ، يلفّ ذلك جميعاً منطقٌ ساذج وحجَّةٌ مصطنعة واهية. وفيه ما هو أخطر من ذلك : فيه تضليلٌ عن حقائق أساسية في بناء التاريخ ، إذ يحاول صاحب هذا المسعى الفاشل أنْ يحصر أحداثَ عصرٍ بكامله ، بل عصورٍ كثيرة ، بإرادة فردٍ يطوف

____________

١ ـ الغدير ٩ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

١٣١

في الأمصار ويؤلِّب الناسَ على دولةٍ فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشيء إلاّ لأنّ هذا الفرد طاف بهم وأثارهم!

أمّا طبيعة الحكم وسياسة الحاكم وفساد النظام الاقتصادي والمالي والعمراني ، وطغيان الأثرة على ذوي السلطان ، واستبداد الولاة بالأرزاق ، وحمل بني اُميَّة على الأعناق ، والميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية ، وإذلال من يضمر لهم الشعبُ التقدير والاحترام الكثيرين أمثال أبي ذرّ وعمّار بن ياسر وغيرهما ، أمّا هذه الاُمور وما إليها جميعاً من ظروف الحياة الاجتماعية ، فليست بذات شأن في تحريك الأمصار وإثارتها على الاُسرة الاُمويّة الحاكمة ومن هم في ركابها ، في نظر هؤلاء! بل الشأن كلّ الشأن في الثورة على عثمان لعبداللّه بن سبأ الذي يلفت الناس عن طاعة الأئمة ويلقي بينهم الشر.

أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق ، من يعلّلون الحوادث العامة الكبرى ، المتصلة اتّصالا وثيقاً بطبيعة الجماعة واُسس الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية ، بارادة فرد من عامة الناس يطوف في البلاد باذراً للضلالات والنساء في هذا المجتمع السليم.

أليس من الخطر على التفكير أن نعلّل الثورات الاصلاحية في التاريخ تعليلا صبيانياً نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن يحدثوا شغباً فطافوا الأمصار وأحدثوه (١).

٣ ـ إنّ رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم :

أ : السريّ : إنّ السريّ الذي يروي عنه الطبري ، إنّما هو أحد رجلين :

__________________

١ ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ٤ / ٨٩٤ ـ ٨٩٦ وللكلام صلة من أراد فليرجع إليه.

١٣٢

١ ـ السريّ بن إسماعيل الهمداني الذي كذّبه يحيى بن سعيد ، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ (١).

٢ ـ السريّ بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفّى عام (٢٥٨) وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة ، كذّبه ابن خراش ، ووهاه ابن عدي ، وقال : يسرق الحديث ، وزاد ابن حبان : ويرفع الموقوفات ، لا يحل الاحتجاج به ، وقال النقاش في حديث وضعه السريّ (٢) فالاسم مشترك بين كذّابين لايهمّنا تعيين أحدهما. واحتمال كونه السريّ بن يحيى الثقة غير صحيح ، لأنّه توفّي عام (١٦٧) مع أنّ الطبري من مواليد عام (٢٣٤) فالفرق بينهما (٥٧) عاماً ، فلا مناص أن يكون السريّ ، أحد الرجلين الكذابين.

ب ـ شعيب ، والمراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول ، قال ابن عدي : ليس بالمعروف ، وقال الذهبي : راوية ، كتب سيف عنه : فيه جهالة (٣).

ت ـ سيف بن عمر ، قال ابن حبان : كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات ، وقال : قالوا : إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم : اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط ، وقال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة ، وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي : عامّة حديثه منكر. وقال البرقاني عن الدار قطني : متروك. وقال ابن معين : ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي : ضعيف ، وقال السيوطي : وضّاع ، وذكر حديثاً من طريق السريّ بن

__________________

١ ـ قال يحيى القطان : استبان لي كذبه في مجلس واحد ، وقال النسائي : متروك ، وقال غيره : ليس بشيء ، وقال أحمد : ترك الناس حديثه لاحظ ميزان الاعتدال ٢ / ١١٧.

٢ ـ تاريخ الخطيب ٩٩٣ ، ميزان الاعتدال ٢ / ١١٧ ، لسان الميزان ٣ / ١٢.

٣ ـ ميزان الاعتدال ٢ / ٢٧٥ ، لسان الميزان ٣ / ١٤٥.

١٣٣

يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال : موضوع ، فيه ضعفاء أشدّهم سيف (١).

ج ـ فإذا كان هذا حال السند ، فكيف نعتمد في تحليل تكوّن طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تشكّل خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية مع أنّ هذا هو حال سندها ومتنها ، فالاعتماد عليها خداع وضلال.

٤ ـ عبداللّه بن سبأ ، اُسطورة تاريخية :

إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده ، وزمن إسلامه ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول ، بأنّ مثل عبداللّه بن سبأ مثل مجنون بني عامر وبني هلال وأمثال هؤلاء الرجال والأبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر والمجون ، فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين : الأموية والعباسية ، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو ، اتسع المجال للوضع وراج سوق الخيال وجعلت القصص والأمثال كي تأنس بها ربات الحجال ، وأبناء الترف والنعمة (٢).

هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء ، ولعلّ ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر ، فذهبوا إلى أنّ عبداللّه بن سبأ أقرب ما يكون إلى الاُسطورة منه إلى الواقع. وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين ، يدعم كون الرجل اُسطورة تاريخية استبطلها أعداء الشيعة نكاية بالشيعة ، ولا بأس في الوقوف على كلامه حيث قال :

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال ١ / ٤٣٨ ، تهذيب التهذيب ٤ / ٢٩٥ ، اللئالي المصنوعة ١ / ١٥٧ ـ ١٩٩ ـ ٤٢٩.

٢ ـ أصل الشيعة واُصولها ٧٣.

١٣٤

وأكبر الظن أنّ عبداللّه بن سبأ هذا ـ إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً ـ إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، وعظم الخلاف ، فهو قد استغلّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأمويين والعبّاسيين قد بالغوا في أمر عبداللّه بن سبأ هذا ، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان ، وولاته من ناحية ، وليشنّعوا على علي وشيعته من ناحية اُخرى ، فيردّوا بعض اُمور الشيعة إلى يهودي اسلم كيداً للمسلمين ، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة؟ وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط ، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت اُمّه سوداء ، وكان هو يهوديّاً ثمّ أسلم لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً ، ثمّ اُتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حيث قتلوه ، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها اُمور لاتستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي أن تقام عليها اُمور التاريخ ، وإنما الشيء الواضح الذي ليس فيه شك هو أنّ ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الراي ، وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة ، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنّة النبي وسيرة صاحبيه كانوا يروون اُموراً تطرأ ، ينكرونها ولا يعرفونها ، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية ، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الاُمور الجديدة بنفوس جديدة ، فيها الطمع ، وفيها الطموح ، وفيها الاثرة ، وفيها الأمل البعيد ، وفيها الهمَّ الذي لا يعرب حدّاً يقف عنده ، وفيها من أجل هذا كلّه التنافس والتزاحم لا على

١٣٥

المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها. وهذا الاُمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه ، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم ، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة ، والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد اُخرى لم تفتح ، وكل شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها ، فمالهم لا يستبقون إلى الفتح؟ ومالهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاّب الدنيا ، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاّب الآخرة. ثمّ ما لهم جميعاً لا يختلفون في سياسة هذا المُلك الضخم وهذا الثراء العريض؟ واي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ واي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الاُخرى من العرب؟ وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظاً إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة ، ويؤثر قريشاً بعظائم الاُمور ، ويؤثر بني اُميّة بأعظم هذه العظائم من الاُمور خطراً وأجلّها شأناً.

والشيء الذي ليس فيه شك هو أنّ عثمان قد ولّى الوليد وسعيداً على الكوفة بعد أن عزل سعداً ، وولّى عبداللّه بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى. وجمع الشام كلّها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في ادارتها قريش وغيرها من أحياء العرب ، وولّى عبداللّه بن أبي سرح مصر ، بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص ، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان ، منهم أخوه لاُمّه ، ومنهم أخوه في الرضاعة ، ومنهم خاله ، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى اُميّة بن عبد شمس.

كل هذه حقائق لا سبيل إلى انكارها ، وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان

١٣٦

بتولية من ولّى وعزل من عزل ، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والاُمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعاً من الناس ، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور (١).

إنّ الجهات التي استنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهمية خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الاُمور التالية :

١ ـ إنّ كل المؤرّخين الثقات لم يشيروا إلى قصّة عبداللّه بن سبأ ، كابن سعد في طبقاته ، والبلاذري في فتوحاته.

٢ ـ إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر ، وهو رجل معلوم الكذب ، ومقطوع بأنّه وضّاع.

٣ ـ إنّ الاُمور التي اُسندت إلى عبداللّه بن سبأ ، تستلزم معجزات خارقة لفرد عادي كما تستلزم أن يكون المسلمون الذي خدعهم عبداللّه بن سبأ ، وسخّرهم لمآربه ، وهم ينفّذون أهدافه بدون اعتراض ، في منتهى البلاهة والسخف.

٤ ـ عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّاله عنه ، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة ، ومحمّد بن أبي بكر ، وغيرهم.

٥ ـ قصة الاحراق ، إحراق علي إيّاه وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة ، ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.

٦ ـ عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في واقعة صفّين وفي حرب النهروان.

__________________

١ ـ الفتنة الكبرى ١٣٤ لاحظ الغدير أيضا ٩ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.

١٣٧

وقد انتهى الدكتور بهذه الاُمور إلى القول : بأنّه شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج (١).

وقد تبعه غير واحد من المستشرقين ، وقد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمود صبحي في نظرية الإمامة (٢).

إلى أن وصل الدور إلى المحقّق البارع السيد مرتضى العسكري ـ دام ظلّه ـ فألّف كتابه « عبداللّه بن سبأ » ودرس الموضوع دراسة عميقة ، وهو الكتاب الذي يحلّل التاريخ على أساس العلم ، وقد أدّى المؤلّف كما ذكر الشيخ محمّد جواد مغنيه : « إلى الدين والعلم وبخاصّة إلى مبدأ التشيّع خدمة لا يعادلها أي عمل في هذا العصر ، الذي كثرت فيه التهجّمات والافتراءات على الشيعة والتشيّع ، وأقفل الباب في وجوه السماسرة والدسّاسين الذين يتشبّثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين واضعاف قوّتهم » (٣).

ولنفترض أنّ للرجل حقيقة وليس اُسطورة تاريخية لكن لا شك أنّ ما نقل عنه في ذلك المجال سراب وخداع ، يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : وليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان ، ليحدت فتنة وليزيدها اشتعالا ، وليؤلّب الناس على عثمان ، بل أن ينادي بأفكار غريبة ، ولكن السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق ، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين

__________________

١ ـ طه حسين : الفتنة الكبرى : فصل ابن سبأ ، وقد لخّص ما ذكرنا من الاُمور من ذلك الفصل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه « هوية التشيّع » ١٤٦.

٢ ـ نظرية الإمامة لأحمد محمود صبحي ٣٧.

٣ ـ عبداللّه بن سبأ ١ / ١١ ، والكتاب يقع في جزأين وصل فيهما إلى النتيجة التي تقدّمت ، وقد استفدنا من هذا الكتاب في هذا الفصل.

١٣٨

طائفة كبيرة من المسلمين (١).

إلى هنا تبيّن أنّ تحليل تكوّن الشيعة عن هذا الطريق تحليل خيالي خادع ، وسراب لا ماء ويتّضح الحق إنّا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أنّ أئمّتهم وعلمائهم يتبرّأون منه أشدّ التبرّؤ.

١ ـ قال الكشي ، وهو من علماء القرن الرابع : عبداللّه بن سبأ كان يدّعي النبوّة وانّ عليّاً هو اللّه فاستتابه ثلاثة أيّام فلم يرجع ، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا (٢).

٢ ـ قال الشيخ الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) في رجاله في باب أصحاب أميرالمؤمنين : عبداللّه بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (٣).

٣ ـ وقال العلاّمة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ) : غال ملعون ، حرقه أميرالمؤمنين بالنار ، كان يزعم أنّ عليّاً إله وأنّه نبي ، لعنه اللّه (٤).

٤ ـ وقال ابن داود ( ٦٤٧ ـ ٧٠٧ ) : عبداللّه بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (٥).

٥ ـ وذكر الشيخ حسن ( ت ١٠١١ ) في التحرير الطاووسي : غال ملعون حرقه أميرالمؤمنين عليه‌السلام بالنار (٦).

ومن أراد أن يقف على كلمات أئمّة الشيعة في حق الرجل ، فعليه أن يرجع

__________________

١ ـ نظرية الامامة ٣٧.

٢ ـ رجال الكشي ٩٨ برقم ٤٨.

٣ ـ رجال الطوسي : باب أصحاب علي برقم ٧٦ / ٥١.

٤ ـ الخلاصة للعلاّمة : القسم الثاني الباب الثاني : عبداللّه ٢٣٦.

٥ ـ رجال ابن داود : القسم الثاني ٢٥٤ برقم ٢٧٨.

٦ ـ التحرير الطاووسي ١٧٣ برقم ٢٣٤.

١٣٩

إلى رجال الكشي فقد روى في حقّه روايات كلّها ترجع إلى غلوّه في حق علي ، وأمّا ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات ، فأقضى ما يمكن التصديق به أنّ الرجل ظهر غالياً فقتل أو اُحرق ، والقول بذلك لا يضر بشي ، وأمّا ما يذكره الطبري عن الطريق المتقدم فلا يليق أن يؤمن ويعتقد به من يملك أدنى إلمام بالتاريخ والسير.

وأخيراً فلنفترض أنّ كل ما ساقوه في القصة صحيح ولكن السؤال الذي نطرحه هو أنّه لا ملازمة بين التصديق بها وبين أنّ ذلك الحدث هو منشأ مذهب الشيعة فإنّ التشيّع حدث في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتنقته اُمّة مسلمة ورعة من الصحابة والتابعين ، وأمّا ما قام به ابن سبأ على فرض صحة وقوعه فإنّه يعبّر عن موقف فردي وتصرّف شخصي خارج عن إطار المذهب ومن تبعه ، فقد أدخل نفسه دار البوار ، وأين هؤلاء من الذين لا يخالفون اللّه ورسوله واُولي الأمر ولا يتخلّفون عن أوامرهم قيد أنملة كالمقداد وسلمان وحجر بن عدي ورشيد الهجري ومالك الأشتر وصعصعة وأخيه وعمر بن الحمق ممّن يستدر بهم الغمام وتنزل بهم البركات.

إلى هنا تمّ تحليل النظرية الثانية في تكوّن الشيعة فلنرجع إلى تحليل النظرية الثالثة.

١٤٠