المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المؤلف:


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-153-2
الصفحات: ٢٢١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ونشر الإسلام في أنحاء المعمورة ليتم بذلك عبادة الله حقّ عبادته.

والإمام الحسن عليه‌السلام صالح لأجل تحقيق الأهداف التي صالح من أجلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال : « إنّ علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله ... ».

والإمام الحسين عليه‌السلام حارب يزيد لأجل نفس الهدف الذي صالح من أجله الإمام الحسن عليه‌السلام ، وحارب وصالح من أجله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

فهل يقال بعد ذلك إنّ حركة الإمام الحسين عليه‌السلام بالحرب أولى من حركة الإمام الحسن عليه‌السلام بالسلم ؟ وهل يمكن للإمام الحسن عليه‌السلام أن يترك طلب الشهادة لولا انّ شهادته في المعركة تعني شهادة الدين والمتدينين ولذا ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام انّه لولا ما صنعه الإمام الحسن عليه‌السلام لكان أمر عظيم (٣٠).

وفي تعبير للإمام الحسن عليه‌السلام : لولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قُتِل (٣١). وبقتل أهل البيت وشيعتهم لا يبقى دين على وجه الأرض فلا تبقى في صفحة الوجود ولمُسِخَت وساخت.

والنتيجة : أنّه لا موضوعية للحرب في ذاته وكذا السلم ، بل هما وسيلتان لتحقيق الأهداف لا أكثر. فلا يمدح الإنسان لحربه أو سلمه إلّا إذا كان في محله وإلّا كان مذموماً.

وإذا عرفنا أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام حارب لنفس الهدف الذي صالح من أجله الإمام الحسن عليه‌السلام كانت حرب الحسين ممدوحةً وكذا صلح الحسن بلا فرق بينهما.

نعم هناك تفاضل من جهات اُخرى ، فيوم الحسين ليس كمثله يوم على حدّ تعبير الإمام الحسن عليه‌السلام حين قال : « لا يوم كيومك يا أبا عبد الله » ، ونستنتج من

٤١
 &

ذلك انّ معاوية لا يقاس بالإمام الحسن عليه‌السلام في حربه وسلمه.

الجيش المفكّك :

ذكرنا سابقاً انّ الإمام الحسن عليه‌السلام جيَّش الجيش ووضع الخطّة العسكرية لمجابهة معاوية ، إلّا إنّ هذا الجيش هو بقايا الجيش الذي خذل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأدمى قلبه ، فأكثر أفراد الجيش عبارة عن المتخاذلين الغدرة الذين يميلون إلى الدعة والراحة حيث تمتلىء بهم الساحات العامّة ويقلّ عددهم تحت الرايات.

وهم الأفراد الذين وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام بينهم قائلاً :

« كلّما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه وانجحر انجحار الضبة في جحرها ، والضبع في وجارها ، الذليل ـ والله ـ مَن نصرتموه ، ومَن رمى بكم فقدر رمى بأفوقَ ناصلٍ ، وإنّكم والله لكثير في الباحات قليل تحت الرايات » (٣٢).

ويقول في موقف آخر : « أحمد الله على ما قضى من أمر وقدَّر من فعل وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرتُ لم تطع ، وإذا دعوتُ لم تجب ، إن أهملتم خفتم ، وإن حوربتم خُرتم ، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم ، وإن اُجئتم إلى مشاقّةٍ نكصتم.

لله أنتم أما دينٌ يجمعكم ولا حميةٌ تشحذكم ، أوَ ليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتّبعونه على غير معونة ولا عطاء ، وأنا أدعوكم وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس إلى المعونة أو طائفة من العطاء فتفرقون عنّي وتختلفون علي » (٣٣).

ويقول أخيراً : « اللهم إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني

٤٢
 &

بهم خيراً منهم وأبدلهم شرّاً مني ».

هذا هو المجتمع الذي تكوّن منه جيش الإمام الحسن عليه‌السلام ، فماذا تراه يكون ؟

مضافاً إلى أنّهم في أنفسهم مفكّكون قبائلياً ومختلفون فكرياً وعقائدياً.

فمنهم الخوارج الذين رأوا التحاقهم بجيش الإمام الحسن عليه‌السلام قد يحقّق بعض أحلامهم ، وهي القضاء على الحكم في الشام ثم حكم الكوفة ، فهم استطاعوا القضاء على أمير المؤمنين عليه‌السلام لكنّهم لم ينجحوا سابقاً في القضاء على معاوية.

فلعل محاربتهم مع الإمام الحسن عليه‌السلام تتيح لهم فرصة القضاء على معاوية لتصل النوبة بعد ذلك إلى الإمام الحسن عليه‌السلام.

ومنهم الأفراد الطامعون في منصب أو مغنم وهم أكثر شخصيات الكوفة ، والمتحينون للفرصة للالتحاق بالمنتصر من الفريقين.

ومنهم الأفراد المؤيدون لحكومة الشام سرّاً ، والذين يرون في معاويـة تحقيق أحلامهم الطامعـة في مال أو منصب وهـم أكثر الطبقات الغنية في الكوفة.

ومنهم الأفراد الذين ينعقون مع كل ناعق ، والذين ليس لهم مبادىء يعتقدون بها ومنهم المتعصّبون التابعون لزعماء القبيلة ويقدّمونهم على أوامر الحاكم الشرعي. فإذا ما تحرك زعيمهم تحركوا ، وإذا ما قعد قعدوا لا يهمهم إلّا حفظ كيان قبيلتهم. فهذه هي عنـاصر الجيش الذي تكوّن لدى الإمام الحسن عليه‌السلام.

وقد ذكر التاريخ انّه دعاهم الإمام لحرب معاوية بعد مبايعته أطرق جميعهم الرؤوس ولم ينطق أحدهم ببنت شفة ، ولم يحرك أحدهم ساكناً كأنّما على رؤوسهم الطير.

نعم بعد أن توالت الخطباء عليهم لإثارتهم وتحريك حميتهم تحركوا كارهين غير راغبين في الحرب.

٤٣
 &

وقد اختبرهم الإمام الحسن عليه‌السلام في « ساباط » فألقى عليهم كلمة فهموا منها أنّه أراد الصلح. فقاموا عليه وكأنّهم لم يبايعوه على الطاعة ومسالمة من سالم ومحاربة من حارب. وقد كمن لهذا الجيش المفكّك غدر معاوية فهرب من هرب إلى الشام ورجع من رجع إلى الكوفة.

فهل ترى من الحكمة بعد معرفة هذا الجيش المفكّك أن يحارب به جيش معاوية الذي كان مطيعاً لمعاوية معتقداً فيه الإمامة المطلقة.

فانّه لو أقدم به لكان من غير البعيد أن يسلّم هذا الجيش الإمام الحسن عليه‌السلام حيّاً أو ميتاً من دون مقابل ، وبالتالي لن يبقى من أهل البيت وشيعتهم أحد.

ونتيجة ذلك انّ مسالمته لا تعد من السياسة الفاشلة أو الخاسرة حتى يُرجّح معاوية على الإمام الحسن عليه‌السلام في ذلك.

مواقف حاسمة :

بعد وفاة شهيد المحراب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقف الإمام الحسن عليه‌السلام وهو الرجل « الحديدي الذي لا تزيده النكبات المحيطة به إلّا لمعاناً في الإخلاص ، واتّقاداً في الرأي ، واستبسالاً في تلبية الواجب ، وتفانياً للمبدأ ، ولم يكن لتساوره الحيرة على كثرة ما كان في موقفه من البواعث عليها ، ولا وجد في صدره حرجاً ولا تلوّماً ولا ندماً ، ولكنّه وقف ليختار الرأي وليرسم الخطّة وليتخذ التدابير (٣٤). وقف هذا الفارس المهاب مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ، ومن أهداف هذه المواقف :

١ ـ خطبته في صبيحة اللّيلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد تضمّنت ـ على قصرها ـ اُموراً مهمة ، فكانت مُنعطفاً في تاريخ الإسلام ليس له مثيل قبله ولا مثيل بعده ، فمَن هو الإمام الذي تسلّم الإمامة بالنص والمبايعة من قِبَل جمهور المسلمين مباشرة ؟ ليس هناك إمام كذلك ، والإمام علي لم يبايعه

٤٤
 &

الناس مباشرة كما هو واضح.

ومن الاُمور التي تضمّنتها الخطبة : تعريف الناس بأمير المؤمنين عليه‌السلام وذكر فضائله العظيمة ، ليعرف الناس مدى عظمة المصاب بفقد هذا الرجل ومقدار الخسارة التي حلّت بالعالم ، ومنها تعريف الناس بشخصيته مشيراً بذلك إلى كونه من المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وممّن افترض الله على العباد مودتهم ، وينبّههم إلى ما يجب عليهم اتجاهه ، فكانت هذه الخطبة نداء الحقّ إلى المجتمع الإسلامي.

فقام عبد الله بن عباس يدعو الناس إلى بيعة الإمام عليه‌السلام فاستجابوا له مباشرة متبادرين إلى البيعة على الطاعة المطلقة ومحاربة مَن حارب ومسالمة من سالم ، وكانت هذه الصيغة التي اقترحها الإمام عليه‌السلام إشارة إلى ما يأتي من الأحداث ، ولهذا احتج بها في بعض خطبه قائلاً : « وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني » (٣٥).

٢ ـ ترتيب الحكومة في نفس اليوم ، فقد جاء في التاريخ أنّه بعد مبايعته مباشرة ، رتّب العمال وأمّر الاُمراء وجنّد الجنود وفرّق العطيات وخصّ الجنود بعطية خاصّة فكان أوّل من سنّ ذلك وتبعه من بعده.

٣ ـ الكشف عن جاسوسين أرسلهما معاوية إلى البصرة والكوفة وقتلهما ، ثم أرساله كتاباً إلى معاوية أعلمه فيه بالجاسوسين وكانت ضربة غير محتملة لمعاوية ؛ إذ كيف كشف هذين الجاسوسين بهذه السرعة وقتلهما مع كون أحدهما في الكوفة والآخر في البصرة. والمستفاد من الروايات انّه لم يعلمه أحد بذلك وهذه هي أوّل صفعة تلقاها معاوية من الإمام الحسن عليه‌السلام ولذا لم يتحمّل فأرسل إلى ولاة البلاد المسيطر عليها بإرسال الجيوش إليه ليقاتل الإمام الحسن عليه‌السلام.

٤ ـ التحرّك لحرب معاوية بمجرّد سماعه بحركة معاوية للحرب ، فوضع

٤٥
 &

الخطّة العسكرية اللّازمة لمجابهة جيش معاوية ، فقدّم للجيش مقدّمة في اثني عشر ألفاً ، وولّى عليهم عبيد الله بن العباس ثم قيس بن سعد ، والأمارة المترتّبة التي جعلها الإمام الحسن عليه‌السلام كاشفة عن مدى حنكته العسكرية والسياسية. فلو أمّر عليهم واحداً فبمجرّد سقوطه ضاع الجيش وتفلل.

وأمّا الإمام الحسن عليه‌السلام فقد نزل في بلاد ساباط ينتظر التحاق بقية الجيش من هنا وهناك ويتطلّع إلى أخبار المقدّمة المرسلة. وأبقى في الكوفة من يثير بقية من يقدر على حمل السلاح ليلتحق بجيش الإمام الحسن عليه‌السلام.

٥ ـ اختبار أصحابه في نفس ساباط ليعرف مقدار طاعتهم له ، وليعرّفهم أنفسهم وليلقي الحجّة عليهم ، فألقى عليهم خطبة قصيرة تضمّنت الحث على طاعته وعدم مخالفة أمره وانّه ناظر لما فيه الخير والصلاح لهم.

فنظر الناس بعضهم إلى بعض معتقدين أنّه يريد بذلك المصالحة لمعاوية ، فشدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلّاه من تحته ورداءه من عاتقه ، وجرحه رجل بخنجر في فخذه فشقّه حتّى بلغ العظم.

فلاحظ اولئك الذين تبادروا إلى مبايعته بالطاعة والسلم لمَن سالمه والحرب لمَن حاربه ، كيف سوّغوا لأنفسهم مهاجمة الإمام عليه‌السلام ولم يمض على بيعتهم إلّا أيام قلائل ، فكشفوا عن أنفسهم الخبيثة وأزالوا النقاب عن وجوههم السوداء.

وفي هذه الأثناء تسلّل الكثير من جيش الإمام الحسن عليه‌السلام إلى صفوف معاوية أو إلى الكوفة ، بل هناك مَن كتب إلى معاوية بالطاعة وهم من الشخصيات الذين نقضوا بيعة الإمام الحسن عليه‌السلام سرّاً واتفقوا على قتله إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

٦ ـ قبول الإمام الحسن عليه‌السلام الصلح بعد عرض معاوية عليه ذلك ، فمعاوية

٤٦
 &

هو الذي طلب الصلح من الإمام الحسن لدوافع كثيرة أهمّها :

أ ـ إنّ الصلح بنظره يعطيه الشرعية في تسلّطه.

ب ـ إسكات الإمام الحسن عليه‌السلام عن حقّه.

ج ـ خوفه من نتائج الحرب التي قد تودي بحياة الكثير من أنصاره بل بحياته ، وهو خلاف غرضه كما أشار إلى ذلك هو في جواب عمرو بن العاص بقوله : « لا نخلص من قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام » (٣٦).

د ـ خوفه من أن قتل الإمام الحسن عليه‌السلام في الحرب يوجب قيام العالم الإسلامي عليه حيث قتل سيّد شباب أهل الجنة وابن النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقَبِلَ الإمام الحسن عليه‌السلام الصلح بشروط دقيقة ، وبمقتضاها يعمل على طبق الضوابط الشرعية ويحافظ على أهل بيت النبوة وشيعتهم في أنحاء الدولة الإسلامية ، وسدّ احتياجاتهم المالية والأمنية ورفع السبّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وانّ الحكم يكون للإمام الحسن بعده ، فإن لم يكن فلأخيه الإمام الحسين عليه‌السلام ، وإن لم يكن فليس له تنصيب من قِبَله بل يكون ذلك بيد المسلمين.

وانّما اشترط هذه الشروط ليكشف بذلك عن حقيقة معاوية الخبيثة وكلامه المزيّف ، وليثبت للتاريخ أنّ معاوية هو عدو الله ورسوله وأهل بيته الذي لا يخاف من الله فنقض العهد وقال بعد ذلك : انّ كل شرط اشترطته للحسن فهو تحت قدميّ.

ومع ذلك لم يتخلّ الإمام الحسن عليه‌السلام عن الصلح لأنّه ليس للدنيا وإنّما هو لصلاح الاُمّة وكفّ بعضهم عن بعض على حدّ تعبير الإمام عليه‌السلام.

لماذا الصلح ؟

اتضح من خلال ما تقدّم مجمل أسباب الصلح وأهدافه الحقيقية ، وقد خفي ذلك على الكثير من أصحابه المخلصين فضلاً عن غيرهم فتعجّبوا وانتقدوا وسألوا

٤٧
 &

فقام الإمام الحسن عليه‌السلام بدور المجيب الهادىء ، وبين لهم عدّة أسباب في مجالس متعدّدة وإن كانت كلها ترجع إلى ما ذكرناه من الهدف الحقيقي ، ونلخّص هذه الأسباب فيما يلي :

١ ـ عدم ثقته بأفراد الجيش ، فان مَن يدّعي أنّه من شيعته هو الذي ابتغى قتله وانتهب ثقله قائلاً : « أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون انّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي » (٣٧).

٢ ـ بيان أنّ الصلح فيه حقن دمه ودم أهل بيته قائلاً : « والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وأؤمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي ، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما » (٣٨).

بل انّ الصلح فيه حقن لدم الشيعة كلهم كما قال : « لولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قُتِل » (٣٩).

٣ ـ بيان أنّ مسالمته وهو عزيز خير من قتله وهو أسير أو المنّ عليه فيكون عاراً على أهل البيت مدى الحياة.

قال : « والله لئن اسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أو يمنّ عليّ فيكون سنّة على بني هاشم آخر الدهر لمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت » (٤٠).

٤ ـ انّ مسالمته لعدم وجدانه الأنصار اللازمين للقيام ، يقول : « والله ما سلّمت الأمر إليه إلّا إنّي لم أجد أنصاراً ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه » (٤١).

٥ ـ انّ مصالحته لأجل صلاح الاُمّة وكفّ بعضهم عن بعض والإبقاء على المؤمنين.

قال : « لكنّي أردتُ صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض » وقوله في جواب

٤٨
 &

حجر بن عدي : « وما فعلتُ ما فعلتُ إلّا إبقاء عليك والله كلُّ يوم في شأن » (٤٢).

٦ ـ خوفه من حصول مجزرة كبيرة من المسلمين قد تبلغ سبعين ألفاً أو ثمانين ألفاً.

قال : « ولكنّي خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً أو ثمانون ألفاً تشخب أوداجهم دماً ، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمُه » (٤٣).

٧ ـ قياس مصالحته بمصالحة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني ضمرة وبني أشجع وأهل مكة حين انصرف من الحديبية كما قال : « يا أبا سعيد علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله لبني ضمرة و . . . أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفروا بالتأويل » (٤٤).

وقد عبّر الإمام الباقر عليه‌السلام بقوله : « لولا ما صنع لكان أمر عظيم » (٤٥).

وقد بيّنا في ما سبق هذا الأمر العظيم.

احتجاجات حسنية :

إنّ من مواقف الإمام الحسن عليه‌السلام الصارمة بعد الصلح احتجاجاته المتكرّرة على بني اُميّة ومع أهل الكوفة ، وهي تتضمن اُموراً كثيرة تحتاج إلى دراسة مستقلة إلّا انّنا نعرضها هنا باختصار :

١ ـ بيان فضائل أهل بيت النبوة ولا سيما أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ تفريقه بين الخلافة والملك ، وانّ حكم معاوية انّما هو ملك ، وهو يعطيه الله البر والفاجر.

ونشير هنا إلى أنّ هناك بعض الروايات ذكرت أنّ الخلافة إلى ثلاثين سنة ثم يكون مُلكاً عضوضاً ولم أرَ هذه الرواية عن طريق أهل البيت. بل هي في كتب أهل السنة.

٤٩
 &

ولنا علامات استفهام على هذه الرواية لا يقتضيها المقام وإن كان صاحب كتاب صلح الحسن اعتقد بمضمونها فقال : « مرحلة الفصل بين الخلافة الحقيقية والملك وبين الإمامة الدينية وبين السلطان » (٤٦) وأين الخلافة الحقيقية والإمامة الدينية في غير عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام. مع أنّ الخلافة الحقيقية والإمامة الدينية لم تنقطع أبداً فليتأمّل.

٣ ـ بيان وضع المسلمين آنذاك ، وانّ أساس اختلافهم في الولاية وتقسيم الناس آنذاك إلى ثلاثة أصناف :

المؤمنين العارفين ، المؤمنين غير العارفين لحقّهم ، والناصبي العداوة لهم.

٤ ـ بيان علّة مصالحته لمعاوية كما لاحظنا سابقاً.

٥ ـ تفنيد ما زعمه معاوية من أنّه أحقّ بالخلافة من الإمام عليه‌السلام.

٦ ـ تفنيد الدواعي التي طرحها بنو اُميّة تبريراً لقيامهم ضد أهل البيت عليهم‌السلام.

٧ ـ بيان المعارف الإسلامية وعلوم أهل البيت عليهم‌السلام.

٨ ـ التبشير بخروج القائم ـ عجّل الله فرجه ـ آخر الزمان وانّه من ولد الحسين ، وتكرّر ذكر مدينتي جابلقا وجابرسا الخارجتين عن حدود الأرض اللّتين ستنصران الإمام المهدي عليه‌السلام.

٩ ـ فضح الهيئة الحاكمة بما يستحقون.

وقد تجلّتْ في هذه الموجهات عظمة شجاعة الإمام الحسن عليه‌السلام في نفس مجالس بني اُمية ، فلم يترك لأحدٍ نقداً على أهل البيت ، فتصدّى لفضح معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم.

وغيرهم من بني اُميّة.

فذكر في حقّهم ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر معايبهم في الجاهلية وأنسابهم

٥٠
 &

ومعاصيهم ، بل كفرهم في الإسلام.

فلاحظ كتاب الاحتجاج وشرح نهج البلاغة : ج ١٦ ، ص ٢٨ لتجد ذلك واضحاً.

ولم يتق الإمام الحسن في ذلك بل جابههم بكل قوته ، وقد لاحظنا سابقاً إنّ الإمام الحسن عليه‌السلام في وسط المسجد الجامع كيف عرّف نفسه وعرّف معاوية بآبائه وأجداده فلعن أخملهما ذكراً ، وأمن على ذلك من في المسجد بل الملايين ممّن سمع تلك المقالة.

هذه خلاصة ما تضمّنته احتجاجاته في مجالس بني اُميّة ومجالس أهل الكوفة ، والتي تكشف بوضوح فعاليات الإمام الحسن عليه‌السلام وعدم تقاعسه عن الحق وسياسته المهدية الحقّة.

نتائج السياسة النكراء :

هناك حركات قام بها معاوية نتيجة دهائه الماكر لأجل السيطرة على جميع بلاد المسلمين وإدخالهم تحت سلطنته ، ونحن نذكر بعض التحرّكات التي قام بها معاوية أثناء جلوسه على كرسي ملكه :

١ ـ عقد المجالس الخاصّة والعامّة للنيل من أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبنائه وجميع البيت الهاشمي ، حتى يبرزهم بصورة غير صورتهم ، وقد استخدم في ذلك صورتين :

المواجهة : فانّه إذا اجتمع بأحد من البيت الهاشمي طرح عليه ما كان هو أولى به.

والإشاعة : وذلك بأن يشيع عن أحدهم مذمّة حتى تنتشر بين الناس لتكون بعد ذلك من المسلّمات.

٥١
 &

٢ ـ تقريب الفسقة العصاة والذين لا دين لهم ، وإبعاد جميع الملتزمين العارفين حتى يتسنّى له ارتكاب ما يريده من دون مانع.

٣ ـ القيام برشوة زعماء القبائل وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلية القوم ، لكي يقلل من أفراد الاتجاه المقابل وحتى يضمن لنفسه عدم معارضتهم له.

٤ ـ القيام بإرسال الدسائس إلى كلّ مَن يراه مخالفاً له فيقوم بقتله بالسمّ أو غيره وذلك للخلاص من المعارضة.

٥ ـ إرجاع العنصرية التي كانت قبل زمن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتفضيله في العطاء بعضاً على بعض مستغلّاً بذلك سخط الكثير من الشخصيات على أمير المؤمنين عليه‌السلام في العطاء.

٦ ـ سياسة التجهيل ولا سيما لأهل الشام ، وقد حدّث التاريخ عن قصصهم الكثيرة التي تكشف مدى جهلهم حتى انّ بعضهم لم يفرّق بين الناقة والجمل ، وبعض كان يعتقد أنّ علي بن أبي طالب لصّ عصابة. وهذه السياسة انتفع بها معاوية للتغطية على ما يقوم به من الأعمال الشرّيرة فيحسبون ما كان شرّاً هو خير ، وقد صلّى بهم صلاة الجمعة يوم الأربعاء ولم يعترض عليه أحد منهم.

٧ ـ محاولة طمس الأحاديث التي وردت في حقّ أهل البيت عليهم‌السلام والتغطية على الوقائع التاريخية ذات الفضائل لأهل البيت عليهم‌السلام.

وقد ورد في بعض كلمات معاوية : ( اخفوا هذا الكتاب لا يقرأ أهل الشام فيميلون إلى علي بن أبي طالب ).

وقد منع رواية الحديث الذي لا يجيزه هو والمنع من كتابته والقيام بحرق ما كتبه الصحابة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٧).

٨ ـ اختلاق الأحاديث على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمدح الصحابة الذين يرتضيهم هو وذم غيرهم لخدمة أغراضه ، وكان يستدعي أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

٥٢
 &

ويجعل لهم جعلاً يرغب في مثله ( فاختلقوا ما أرضاه منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير ) (٤٨). وقال المدائني عن عصر معاوية : ( وظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القرّاء والمراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجلسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها وردّدوها ) (٤٩).

وهناك النصوص التاريخية الكثيرة التي تثبت هذه الأعمال فكيف يثق المحقّق بالأحاديث المتفرقة في كتب العامّة ، وكيف تعتمد تلك الروايات في التاريخ والعقيدة والمعارف الإسلامية.

هذه بعض نتائج السياسة الخادعة لمعاوية التي كان يهدف بها ضرب الدين من جذوره ، وما عليك إلّا أن تقرأ كتب التاريخ ولا سيما شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد لتجد ذلك واضحاً ، ولو أردنا استقصاء ذلك لخرجنا عن حجم هذا المقال ، إلّا انّ النقاط التي سلطتُ الضوء عليها كافية لمعرفة كل من الإمام الحسن عليه‌السلام ومعاوية وسياستهما ، وبذلك تبطل جميع الإستفهامات التي طرحت على حركة الإمام الحسن عليه‌السلام وصلحه.

وقد لاحظنا ما فعله الإمام الحسن عليه‌السلام ، وما اتخذ من مواقف اتجاه تلك السياسات ، بل كل الأئمة عليهم‌السلام وقفوا ضدها وقاموا بالدور بأحسن صورة.

وكانت النتيجة أنّ دولة معاوية لم تعمّر مائة سنة وبقي أهل البيت وبقي التشيّع وبقي الإسلام وسيبقى إلى آخر إنسان على سطح الأرض ، وما حركات وسكنات الأئمة عليهم‌السلام إلّا حلقات للسلسلة الذهبية الممتدة عبر التاريخ والتي

٥٣
 &

تنتهي بقيام الحجّة ـ عجّل الله فرجه الشَّريف ـ وسهل مخرجه ، وجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه انّه على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين.



الهوامش

(١) شرح نهج البلاغة : ج ١ ، ص ٢١٢.

(٢) جلاء العيون : ج ١ ، ص ٢٩٧.

(٣) الكافي : ج ١ ، ص ٤٦١.

(٤) البحار : ج ٣ ، ص ٢٣٨ ، ج ٣.

(٥) الفصول المهمة : ١٥٣.

(٦) البحار : ج ٤٣ ، ص ٢٦٣.

(٧) جلاء العيون : ج ١ ، ص ٣١٨ ، عن أمالي الصدوق.

(٨) صلح الحسن لآل ياسين : ص ٣١.

(٩) جلاء العيون : ج ١ ، ص ٣١٨ ، عن أمالي الصدوق.

(١٠) صلح الحسن لآل ياسين : ص ٢٦٩ ، عن شرح نهج البلاغة.

(١١) صلح الحسن : ص ٢٦٨.

(١٢) مروج الذهب : ٢ / ٥٩ ، وشرح بن أبي الحديد : ١ / ٢٨٣ كما عن الغدير : ١٠ / ١٥٩.

(١٣) يراجع معاوية والخمر من الغدير : ١٠ / ١٧٩.

(١٤) الغدير : ١٠ / ٣٥٠.

(١٥) تاريخ الطبري : ١١ / ٣٥٧ كما عن الغدير :

١٠ / ١٤٢.

(١٦) السبعة في السلف : ص ١٨٣.

(١٧) الاحتجاج : ج ٢ ، ص ٩.

(١٨) تاريخ الطبري : ٦ / ١٤١ ، والاغاني : ١٦ / ٥ ، والكامل لابن الأثير : ٣/ ٢٠٢ ، والغدير ١١ / ٥٣.

(١٩) مروج الذهب : ٢ / ٧٢.

(٢٠) صلح الحسن : ص ٢٨٨.

(٢١) الميزان : ج ٩ ، ص ١٩.

(٢٢) سورة الأعلى.

(٢٣) الميزان : ج ١٩ ، ص ٩٠.

(٢٤) الاحتجاج : ج ٢ ، ص ١١.

(٢٥) شرح نهج البلاغة : ج ١٦ ، ص ١٥.

(٢٦) شرح نهج البلاغة : ج ١٠ ، ص ٢١٢.

(٢٧) الحياة السياسية للإمام الحسن عليه‌السلام : ص ٥٠.

(٢٨) شرح نهج البلاغة : ج ١ ، ص ٢١٢.

(٢٩) نهج البلاغة : الخطبة ٢٠٠.

(٣٠) علل الشرائع : ٢١١.

(٣١) نفس المصدر.

(٣٢) نهج البلاغة : خطبة ٦٩.

(٣٣) نهج البلاغة : خطبة ١٨٠.

٥٤
 &

(٣٤) صلح الحسن :

(٣٥) الفصول المهمة : ص ١٦٤.

(٣٦) صلح الإمام الحسن عليه‌السلام أسبابه ، نتائجه : ١١٠.

(٣٧) الاحتجاج : ج ٢ ، ص ٢٠.

(٣٨) نفس المصدر.

(٣٩) علل الشرائع : ص ٢١١.

(٤٠) نفس المصدر.

(٤١) نفس المصدر : ص ١٢.

(٤٢) شرح نهج البلاغة : ج ١٦ ، ص ١٥.

(٤٣) نفس المصدر.

(٤٤) نفس المصدر.

(٤٥) نفس المصدر.

(٤٦) صلح الحسن : ص ١٩٧.

(٤٧) الحياة السياسية : ص ٧٨.

(٤٨) صلح الحسن عن شرح نهج البلاغة.

(٤٩) المصدر السابق.

٥٥
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMojtaba-Wamidh-Harf-Wahj-Ghafiehimagesrafed.jpg

٥٦
 &



حديث الطائفتين من المسلمين بين القبول والرفض

السيد علي الجرّاش

تمهيد :

يروق للبعض أن يقصر لفظ الجهاد على الجهاد بالسيف والسلاح فقط بحيث لا يطلق لفظ المجاهد إلّا على مَن حمل السلاح ، ولا يخفى أنّ هذا غفلة من معنى الجهاد ، فانّ مفهوم الجهاد مفهوم أوسع من ذلك ؛ إذ انّ كل ما فيه إعلاء لكلمة الإسلام وكل ما كان في سبيل الله فهو جهاد ، أكان ذلك بالسلاح أم لا ، فكما يُطلَق الجهاد على حمل السلاح كذلك يُطلَق على حمل القلم ، وكما يكون بالفعل يكون بالقول ، بل وكذلك يكون بالسكوت والصبر إذا كان في ذلك حفظ الدين ؛ إذ لا يخفى أنّ أمير المؤمنين هو أمير المجاهدين في حربه وسلمه ، ولعل فترة جهاده التي استمرت خمساً وعشرين عاماً ليست أقل شأناً من حروبه ، بل لعلها تكون أشد جهاداً ، وهو كذلك فأنّها أقسى مراحل جهاد الأمير عليه‌السلام.

٥٧
 &

ومثل ذلك من قصر حياته أو قلمه على التبليغ ونشر التشيّع والإسلام وعلى الدفاع عن الحق ، فإن كل ذلك جهاد في سبيل الله ، طبعاً يكون ذلك جهاداً إذا كان في موضعه فالسيف في موضع القلم وبالعكس ليس جهاداً.

فإنّ من حمل السلاح في غير مورده لا يُسمّى مجاهداً إذ لا يكون في عمله إعلاء لكلمة الإسلام ، ومن ذلك يظهر جليّاً أنّ الإمام الحسن عليه‌السلام بصلحه لم يترك الجهاد ، بل انتقل من جهاد إلى آخر.

وجهاده بالصلح أقسى مرارة وأشدّ من جهاده بالسيف ، فكلا موقفيه ـ يوم وقف في الميدان مصالحاً ، ويوم وقف في حومة الوغى محارباً ـ جهاد في سبيل الله.

ولا يخفى أنّ أسباب صلحه ـ كما هي أسباب حربه ـ ليست أسباباً ناشئة عن مصالح شخصية ، وأنّما هي بحسب ما أملته عليه الوظيفة الإلهية ليس غير ، ولهذا لم يتبيّن لنا المراد ممّا جاء في كتاب صلح الحسن في قوله : « فليكن الحسن ابن رسول الله هو ذلك المخلوق الذي ادّخره الله للإصلاح لا للحرب ، وللسلام لا للخصام » (١) وقوله : « والحسن رسول السلام في الإسلام » (٢) ، فسواء كان لذلك مفهوم ـ كما يقول الأصوليون ـ أم لا ، لم يتبيّن مراده قدس‌سره فإنّ الإصلاح والحرب والسلام والخصام إذا كان في سبيل الله ولإعلاء كلمة الإسلام لا فرق بينهما أصلاً.

إنّ المهم أن يكون الإصلاح والحرب في سبيل الله ليس غير ، وأنّ تقديم الحرب في مواطن على السلم لا يعني أن مَن قاد الحرب لا يحب ـ أو لا يتفاعل ـ مع الإصلاح والسلام ، بل حربه في سبيل الله هي إصلاح وسلام.

فليس عندنا في الإسلام صنفان ـ مصلحون ومحاربون ، مسالمون ومخاصمون ـ وليس عندنا رسول للسلام ورسول للحرب في الإسلام.

فإنّ المحارب هو المسالم والمصالح وانّ رسول الحرب ـ إن صحّ التعبير ـ

٥٨
 &

هو رسول السلام.

فالمنهج الذي يجب اتّباعه والطريق الذي ينبغي السير عليه هو أن يكون العمل في سبيل الله حرباً أو سلماً وصلحاً.

وإنّ من صالح فيما يفرضه الواجب الشرعي عليه من الحرب فقد خرج عن منهج الحق والهدى وكذلك العكس.

فالإمام الحسن انّما صالح لأجل الظروف والأسباب التي أوجبت عليه الصلح حسب ما أملاه عليه الواجب الإلٰهي ، لا ـ كما قيل ـ « لأنّ طابع سياسة الحسن عليه‌السلام هو حقن الدماء في سائر مراحله » (٣) فإنّ طابع الحسن عليه‌السلام هو العمل بالوظيفة الإلٰهية ـ على السواء ـ موجبة حرباً أو حقناً للدماء.

وليس قوله : « لا تهرق فيّ ملء محجمة دماً » إلّا لذلك ، فان إراقة الدماء ـ في مثل ذلك الموقف وفي مثل موقفه في الصلح ـ ليس فيه صلاح للإسلام ولا نفع للمسلمين ، ولسنا بصدد الخوض في أسباب الصلح ها هنا ، إلّا أنّ البعض حاول أن يسند صلح الإمام الحسن عليه‌السلام إلى سبب ـ غير تلك الأسباب التي أوجبت الصلح ـ وهو أنّ الإمام عليه‌السلام استند في صلحه إلى الخبر المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال : « انّ بنيَّ سيد عسى الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين » ، ولكن هذا بعيد عن الحق ، فإنّ هذا الخبر على فرض صحّته لا يفرض الصلح على الإمام الحسن عليه‌السلام وصدور ذلك ليس سبباً للصلح ، مضافاً إلى أنّ هذا الخبر قد وقع الخلاف في صدوره.

ألفاظ الخبر الواردة :

وقد شاع هذا الخبر فيما روي عن الرسول عليه‌السلام في الكتب الحديثية والتاريخية ، وقد ورد بألفاظ متقاربة المضمون فقد ورد ـ إن ابني هذا سيّد ـ في

٥٩
 &

بعض الروايات ، وورد عسى ان يصلح به ـ لعل ـ ان يصلح على يديه ـ إن الله سيصلح به ـ بين فئتين ـ فئتين عظيمتين ـ فئتين من اُمّتي ـ فئتين من المسلمين ـ من المؤمنين ـ.

رواة الخبر

وكاد ينحصر سند هذه المرويات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة شقيق زياد من اُمّه سمية ، وإن كان قد روي عن جابر بن عبد الله وابن الزبير وابن عباس وأبي هريرة وبريدة ، إلّا أنّ الملاحظ أنّ رواية ابن عباس ليست إلّا في كتاب إعلام الورى والمناقب ، ولعل إعلام الورى نقلها عن المناقب ، إذن هي من مصدر واحد ، مع أنّه قد رواها مرسلة ، ولم يذكر مصدرها.

وأمّا رواية أبي هريرة وبريدة فهي في المناقب عن المحاضرات للراغب ، إذن هي ليست إلّا في مصدر واحد ، مع أنّها مرسلة أيضاً.

وأمّا رواية ابن الزبير فقد رواها ابن عساكر ورواها ابن كثير.

وأمّا رواية جابر فقد رواها في مجمع الزوائد ، وابن كثير في البداية والنهاية ، وابن عساكر ، وفي تاريخ بغداد ، فالملاحظ أنّ رواية هؤلاء لم تذكر إلّا في هذه الكتب.

وأمّا رواية أبي بكرة فهي المشهورة والمعتمدة عندهم ، فإنّ ما رواه البخاري لهذا الخبر في أربعة موارد كله عن الحسن عن أبي بكرة ، ومثله ما رواه أحمد وسنن أبي داود والترمذي والسنن الكبرى للنسائي ومسند الحميدي والطيالسي والفتن لابن حماد والمصنف لعبد الرزاق والمصنف لابن أبي شيبة وفضائل الصحابة ومعرفة الرجال والمستدرك وكنز العمّال وسنن البيهقي وفرائد السمطين وحلية الأولياء والذخائر والطبقات الكبرى لابن سعد ، إلى غير ذلك من

٦٠