المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المؤلف:


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-153-2
الصفحات: ٢٢١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

مضموناً أخلاقياً يريده ويتمنّاه ويبحث عنه في :

وطرزت المدى ألقاً كريماً

كأنّ النجم طلّ به وطافا

ويوردها متعلّقة بالسجية والسلوك والطباع في :

مشى مجداً وطاف هدىً وأسرى

كريم الطبع قد سلك اقتيافا

لنرى أنّ يقين البصري لا يفارق إطلالته الموشّاة بجمال الأخلاق ، ونرى أنّ نشوته وجذله عندما ينظم بيتاً تظهر فيه الأخلاق مذابة في محاكاته للنموذج ومضاهاته لعنفوان القصيدة العربية الكلاسيكية ، وقد أوشكنا أن ننتهي من تقرير هذا المنحى عنده بشكل قطعي ، إلّا أنّنا نضيف دليلاً من المستوى العروضي لكشف هذه المحاكاة.

قصيدة البصري من بحر الوافر ورويّها هو حرف الفاء المفتوح وتحوّلت الفتحة إلى ألف إطلاق ، ولو تأمّلنا في هذا البحر وفي تفعيلاته لرأينا أنّه كالآتي :

مفاعلتن مفاعلتن فعولن

مفاعلتن مفاعلتن فعولن

فلو قطعنا المجموع ( مفا ) من أوّل الصدر ومن أوّل العجز لبقي لدينا :

علتن مفاعلتن فعولن

علتن مفاعلتن فعولن

وهذه الصيغة الإيقاعية تقابل بالضبط صيغة مجزوء الكامل المرفل :

متفاعلن متفاعلاتن

متفاعلن متفاعلاتن

وللشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري قصيدة بعنوان ( رسالة مُملَّحة ) ، منظومة على هذا البحر وعلى روي قصيدة البصري نفسه ، وهذه القصيدة في ذاكرة البصري بلا أدنى شك ممّا يمنحه الفرصة للتقاطع معها كركيزة للمحاكاة والمضاهاة على المستوى النظمي ، ولا أقول التعكّز عليها لأنّ المضامين التي يطرحها البصري تفرز شاعريته الخصوصية غير المتداخلة مع نصّ الجواهري في مضامينه ، لكنّني أقول إنّ هناك تراسلاً لا شعورياً وتناصّاً لا يبرأ منه نصّ

٢٠١
 &

البصري وإن كان على مستوى نظام التقفية لديه ، مع كون المنحى الأخلاقي الذي يدعو إليه الجواهري في نصّه متدنّياً وداعياً إلى سلوك مضاد لما يدعو إليه يقين البصري في نصّه ، ومن هذا التضاد تتكشّف مقدرة يقين البصري على مقاربة أدوات الآخرين مع مسح الظلال الذاتية التي تعتورها ، وهذه كفاءة يفخر بها البصري بلا شك.

٢٠٢
 &

البوح المشتهى

الاستاذ فرات الأسدي

نضّر الأرضَ أيّها الحسنُ

يدهشِ الخلد تنبهرْ عدَنُ

ويمدّ الورد الخطى ولهاً

والينابيع تُروَ والمُزن

ويُرقْ دورقُ الفتون شذىً

أخضر الرُّوح جسمه الفنن

والربيع البهيُّ أغنيةٌ

والعناقيدُ لحنُها وطن

كم تثنّى نبضُ الأسى فرحاً

في يديها وأورق الشجن

في جدار البقيع في مدنٍ

حيثُ لا غير حزنها مدن

وغفا الحلم أو صحا الوسنُ

وانطوى الزمنُ

نضّر الحسن مرّةً

يشتعلْ عالم الترابْ

بالمواويل غضّة

وحكايا اللظى العذاب

وبقايا خبيئةٍ

دونها سُدَّ ألف باب

ليفيق الثرى على

وجعٍ جامح الرِّغاب

أيُّها المترف الخطى

أيُّها الفتنة العُجاب

٢٠٣
 &

يا أخ النهر مولداً

يا رؤى البحر والعبابْ

دونك الزمنُ

والمدى سفنُ

أطلق الخصب فهو مرتهنُ

يولَد النوء يختزنُ

يا رائع المجتلى بي للهوى ظمأُ

يكاد لولا ولاك العذب ينطفىءُ

تَلهُّفُ الرملِ للأمطار قافيتي

تَتوهُ ثم إلى لقياك تلتجىء

سفحتَ جمري واستبقيت صبوتَهُ

يا ليتها دون نار الوجد تختبىء

الحبّ وجهك يندى كبرياء هوىً

ولي من الخوف وجهٌ رشّه الصدأ

ولي من العمُرِ المجدورِ اُمنيةٌ

خرساءُ قبل صداها الصمتُ مُهترىء

تكاد لو لا ولاكَ العذب تنطفىء

وفي متيه الزمان المسخ تنكفىء

احمل الشمسَ في مقلتيك فإنّ الشتاء يكاد يضيق بليل الضياع المجدّر وجه المصابيح والعتمات تمزّق تاريخنا

احمل البحرَ في شفتيك ومرّ على الماء زنبقةً ومدى دون جنحين من زهرات الفراشات في يثرب الشاحبة

احمل الحبَّ بين يديك ورُشّ به تلعاتِ الضغينة وٱرتدْ بزهوك ذلّ حقول قريش اليبيسة أطلق ينابيعك الفرحة

احمل الطفلَ في وجهك النبويّ البريء وباركْ به النظرات وأيقظْ لغاتِ العيون الكسيرة أطلقْ حروف القناديل من كلّ معنى دنيء

إبتكرْ حُلمنا أيُّهذا الفتون الوضيءْ

أيّها الماثلُ الآن في الرُّوح يا مبدأ الحبّ والمنتهى

أيّها الرائع المشتهى

٢٠٤
 &

أيّها البوح في دمنا العلويّ المرقرَقِ بين المياه ونيرانها أيّها الجرح يا سيّد العنفوانْ

لك في مقلتيّ بريقُ الكلام وفي سرّي الهمس والاُغنيات الحِسان

صمتتْ بعد أن راود الشوك أجفانها بنعاس الضغينهْ

خرستْ بعد أن سرّبتها الحرائق خلف جدار البقيع الأصمّْ

آهِ يا سيّد الحزن يا وجهنا الأبديَّ الذي يصلُ النبعَ بالدمع والموت بالفرح المستبدّْ

آهِ يا ذاهل الشدو يا رائع الخطوات الشهيده

آه يا موتنا المتشظّي المؤرّخ عصر الرمادْ

لم يكن غير أن تحمل الشمس في اُفقيك وأن تتهاوى النهارات خلف حصاد السيوفْ

لم يكن غير أن تُودِع النهر في قدميك وأن تتوضّأ منك التواريخُ بالعشب واللّهفة اليانعهْ

لم يكُنْ غير أن تحمل الخصب ما بين يوميك ثمّ تسرّبُه للشهاده

لم يكن غير أن تمنح الأرض ميلادها ..

لم يكن غير أن :

أوقظَ اللّغة المستعادهْ

٢٠٥
 &

الاستاذ فرات الأسدي

فرات الأسدي ـ شاعراً ـ مشغول بالكثافة على حساب كلّ الأبعاد والإمكانات الاُخرى ، وهذه الكثافة داخلة في كلّ مستويات النصّ صوتاً ونحواً وصرفاً وتركيباً ودلالة وترميزاً ، ممّا يعسّر على المحاولة النقدية المختصرة أن تنصفه وتعطيه حقّه ، وكذا الحال بالنسبة إلى القراءة المتعجّلة والتلقّي السريع.

ولأنّه يسحب هذا المفهوم المكاني ( الكثافة ) إلى أرضيّة الشعر الذي لا يتعاطى مع المكان إلّا تجوّزاً فستبدو الصعوبة شاخصة في الاقتراب من نصّه ، ففرات الأسدي مشغوف بفنّ العمارة وهو أكثر الفنون التصاقاً بالمكان ، فنرى الحسّ المعماري يطغى على نصوصه ومن هنا تبدو المفارقة ، فمعظم الأدوات الشعرية زمانية ـ فعلاً وأداءاً وتأثُّراً ـ فينتج من هذا التضادّ حاجز سميك في عملية توصيل النص.

وسنلاحظ في هذه القصيدة ( البوح المشتهى ) أنّ فرات الأسدي قد أعمل حسّه المعماري المكاني على الإيقاع الشعري الزماني ، وقبل هذا لنشرح العلاقة بين الكثافة ـ كمفهوم فيزيائي ـ وبين المكان ـ كمفهوم فلسفي ـ وكيف يلتقيان عند فرات الأسدي في معالجته الجمالية لهذا الالتحام كأداة تتمثّل في الكتلة التي يقاربها الشاعر ـ تنظيماً وترتيباً وتوحيداً ـ فتتجلّى عنده كحسّ معماري يعامل المواد التعبيرية الأوّليّة على أساسه في تجربته الشعرية ، فينبري للتصدّي للبنية الإيقاعية من خلال استخدامه لخمسة أوزان شعرية هي ( الخفيف المهذّب ـ هذا المصطلح أطلقه العلّامة الدكتور مصطفى جمال الدين في كتابه الإيقاع في الشعر العربي لصيغة : فاعلاتن مستفعلن فعلن من بحر الخفيف ـ الخفيف المجزوء ، المتدارك المنهوك ، المتدارك المجزوء ، البسيط ) ليصل بعدها إلى كتابة بقية القصيدة شعراً حرّاً مدوّراً على بحر المتدارك.

٢٠٦
 &

ولو نظرنا إلى هذا التراسل بين الأوزان الخمسة التي نظّم عليها الشاعر عمودياً لرأينا ما يلي :

١ ـ من :

نضّر الأرض أيّها الحسن

يُدهش الخلد تنبهر عدنُ

إلى :

في جدار البقيع في مدن

حيث لا غير حزنها مدن

تنتظم تفعيلاتها على بحر الخفيف المهذّب :

فاعلاتن مستفعلن فعلن

فاعلاتن مستفعلن فعلن

مع خبن ( فاعلاتن ) لتصبح ( فَعِلاتن ) أحياناً وكثرة خبن ( مستفعلن ) لتصبح ( مَفاعِلُن ).

والخبن كما هو معروف زحاف يحذف به الحرف الثاني الساكن من التفعيلة فتصبح ( مستفعلن = مُتَفْعِلُنْ ) وتتحوّل للتسهيل إلى ( مَفاعِلُنْ ) وكذلك ( فاعلاتن = فَعِلاتُنْ ، فَاعِلُنْ = فَعِلُنْ ).

٢ ـ إفراد شطر ( وغفا الحلمُ أو صحا الوسنُ ) بخبن ( فاعلاتن ومستفعلن ) ليصبح وزن الشطر :

فَعِلاتن مَفاعِلُن فَعِلُنْ

من بحر الخفيف المهذّب أيضاً.

٣ ـ الإتيان ببحر المتدارك المنهوك مع خبن ( فاعِلُنْ ) لتصبح ( فَعِلُنْ ) هكذا : وانطوى الزمنُ : فاعِلُنْ فَعِلُنْ.

ليكون البناء الإيقاعي متوافقاً على وحدة ( فاعلن فعلن ) الموجودة أيضاً في نهاية بحر الخفيف المهذّب بالشكل الآتي :

فاعلاتن مـ ( فاعلن فعلن ).

٢٠٧
 &

ومع الالتفات لوحدة حرف الروي في التركيبين وهو حرف النون المضموم ، تتراسل البنيتان إيقاعاً ولحناً تحت إشراف الحسّ المعماري الذي يشغل الشاعر آلياته بكثافة أيضاً ، وكأنّها كتل كونكريتية أو قطع من الآجر المتساوية الأحجام يبني بها الشاعر هيكل القصيدة وواجهاتها المطلّة على ساحة التلقّي.

٤ ـ بعد أن أحدث الشاعر توافقاً على نهايات الأجزاء أو الأبيات أو الأشطر يعود ثانية إلى بداياتها ليورد من بحر الخفيف المجزوء المذيّل مقطوعة بستّة أبيات تبدأ :

نضّر الحسن مرّة

يشتعل عالم التراب

ووزنها :

فاعلاتُنْ مَفَاعَلُنْ

فاعِلاتُنْ مَفَاعِلَانْ

وهي صيغة تتفق مع ما ورد أوّلاً من بحر الخفيف المهذّب ( فاعلاتن مفاعلن فعلن ) في التفعيلتين الأوّليتين ( فاعلاتن ، مفاعلن ).

ومع إيراد فعل الأمر نفسه ( نضّر ) يريد الشاعر أن يلفت انتباهنا لما يقصد ، ومع استخدام للفظة ( الحسن ) التي ناداها في المقطع الأوّل ( نضّر الأرض أيّها الحسن ) جاءت هنا ( نضّر الحسن ) وكلّ هذا التكثيف لمحاولة شدّنا وجلب اهتمامنا إلى صراع الاشتقاقات لنفهم انّه يعتني بلفظة ( الحسن ) وهو اسم الإمام المعصوم عليه‌السلام الذي كُتِبَت في مولده القصيدة.

٥ ـ سيرجعنا الشاعر إلى بحر المتدارك المنهوك والمخبون ضرباً وعروضاً في :

دونك الزمنُ

والمدى سفنُ

فاعلن فعلن

٢٠٨
 &

فاعلن فعلن

كل هذا استحضار وتهيئة للمقطع الختامي فهو يبني لنا بحسّه المعماري المكثّف بناءه هيكلاً من الداخل ، وواجهات من الخارج ليجعلنا نستأنس بهذه القفزات أو التنويعات الإيقاعية.

٦ ـ إرجاع آخر إلى بحر الخفيف المهذّب بشطر واحد يحمل نفس القافية النونيّة ونفس حركة حرف الروي المضموم :

فاعلاتن مفاعلن فعلن

أطلق الخصب فهو مرتهنُ

٧ ـ تهيئة اُخرى واستبذار لبحر المتدارك بصيغة مجزوءة :

يولد النوء يختزنُ

فاعلن فاعلن فعلن

ويحافظ الشاعر على القافية النونية وحركة حرف الروي المضمومة ليخمِّن التراسل المطلوب بين الصيغ الوزنية الإيقاعية التي انشأها وبناها.

٨ ـ ستة أبيات من بحر البسيط جاء بها الشاعر ليفاجأنا ببناء مشتمل صغير قرب البناية الأصلية ، داخل نفس المساحة لكنّه مغاير لها طولاً وعرضاً وارتفاعاً.

وإمعاناً في الإدهاش والمفاجأة نظمت المقطوعة على قافية همزية مضمومة الرَّوي غريبة على النّظم المتعارف ، لقلّة المفردات التي تنتظم في سياقها ، وهنا يحقّ لنا أن نتساءل : لِمَ لمْ يأت الشاعر بقافية المقطوعات الاُخرى ( حرف النون المضموم ) ليحدث توافقاً موسيقياً قائماً على ما يُسمّى في الموسيقى ( الطباق كونتربوينت ) ؟

والجواب هنا هو أنّ الشاعر لا يريد ان يستفيد من الإمكانات الفنية ذات الطابع الزماني مثل الموسيقى إلّا بعد ان تحلّى بحسّه المعماري المكاني ،

٢٠٩
 &

فدحرج علينا كتلة سرعان ما كبرت بالانحدار ليضرب انتشاءنا الإيقاعي في الصميم ، لكنّه لا يعدم وسيلة لتبرير هذا الخرق وله الحقّ في هذا التبرير لأنّ نهايات بحر البسيط هنا تنتهي بنفس القفلة الإيقاعية ( فاعِلُن فَعِلُنْ ) وسنراها هكذا :

يا رائع المجتلى بي للهوى ظمأ

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن

ويمكن كتابته :

مستفعلن فاعلاتن فاعلن فعلن

ولدعم هذا التبرير نرى الشاعر قد أورد في الشطر الأوّل هذين التركيبين ( رائع المجتلى ، للهوى ظمأ ) وهما تركيبان من منهوك المتدارك بلا شكّ ليهذّب الكتلة وفقاً للنسب المعمارية والوحدات البنائية التي استخدمها في هيكلية النصّ وواجهاته.

٩ ـ المقطع الختامي منسوج بقماش شعر التفعيلة بتدوير تفعيلتي المتدارك ؛ الصحيحة ( فاعلن ) والمخبونة ( فَعِلن ) مع وقوف على تذييل ( التذييل إضافة حرف ساكن إلى نهاية التفعيلة فتصبح فاعلن : فاعلن ن وتحوّر إلى : فاعلان ) أو ترفيل ( الترفيل إضافة سبب خفيف إلى نهاية التفعيلة والسبب الخفيف حرفان الأوّل منهما متحرّك والثاني ساكن فتصبح فاعلن : فاعلن تن وتحور تسهيلاً إلى : فاعلاتن ) في نهايات بعض الأشطر مع احتفاء ومراعاة للقوافي المزدوجة في بعض الأشطر.

ننتهي إلى أنّ هذا النص حمل مبرّرات خروجه على البنى الإيقاعية السائدة والمتعارفة ليحقّق إخلاصه بتوجّه جمالي من موقف آخر يصعب تناوله إلّا من خلال حقيقة نفسية سيكولوجية هي تراسل الحواس ، تقابل المرئي والمسموع ، ممّا يحدث إعاقة ظاهرة على مستوى التلقّي غير المدرّب.

٢١٠
 &

صوفيّة جرح

الشيخ علي الفرج

( ١ )

حينما يقرأ الناس كفَّكَ خطاً فخطاً ..

يقولون : تعشقكَ امرأةٌ من دخانٍ تسمّى سماءْ

يقولون : إنّك يوماً

ستصبح والبحر شيئاً

فحيناً يسمّى الزكيَّ

وحيناً يسمّى محيطات ماءْ

يقولون : إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً ..

وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي .. إلى أن يموت

وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً .. وتتركه .. ثمّ تمضى مع الأنبياءْ

وأمّا أنا ..

سوف أقرأ كلّ أكفّ الحياة جميعاً

٢١١
 &

وسوف أراك بها شاخصاً من بعيدٍ

وجوداً .. وجوداً

وغيرُكَ حتى أكفّ الحياة

فناءٌ .. فناءْ

( ٢ )

كان وجهاً ممزّقا

كيف غنّى وصفّقا

كان نهراً محاصَراً

وحريقاً تدفّقا

بين ألف انكسارةٍ

تتدلّى ليشنقا

كان جرحاً وأعمقا

وجحيماً وأحرقا

لمستْه من البتول غصونٌ فأورقا

فتمشّى به الجحيم شفيفاً وأزرقا

يتمطّى على الشقاء ولا يعرف الشقا

أنا شيءٌ على يديك ترامى ليغرقا

فإذا ما رأى سناك على السحب حدّقا

وإذا ما رأى سناك جبالاً تسلَّقا

وسيصحو بك الشروقُ ويهواكَ مَشرقا

وستغدو إلى السماءِ ويغدو مُحلّقا

غير أنّي إلى الفناءِ ومسراك للبَقا

* * * *

أنا شيءٌ من الرمادِ صريعٌ بأحرفي

أتلوّى على يديك وأحيا وأنطفي

وتلهّفتُ فانسكبتُ أنا في تلهُّفي

٢١٢
 &

أنتَ شيءٌ أراك تسكن حتّى تصوّفي

أنت صوفيّتي نمَتْ بين كهفي ومُصحفي

في دمي يختفي الورى وأنا فيك أختفي

أنتَ تحتلُّ من صلاتي خفايا تزلّفي

وبرؤياي مالكٌ تتشهّى وتصطفي

أنتَ من أنتَ يا هوىً عسليّاً لمدنفِ

مات قيسٌ على هواه وليلاه لم تَفِ

وأنا أنهل الحياة بذكراكَ يا وفي

* * * *

حدّثتْني رؤاي أنّك شيءٌ قد انتثرْ

فغدا هذه النجوم الجميلات والقمر

وارتمى بعض ضوئه في يد الاُفق وانهمر

فغدا يصنع الصباح الذي يشربُ السّحر

ثمّ غنّى على التراب لحوناً من القدر

فمشى يفرش التراب أفانينَ من شجر

حدّثتني رؤاي أنّك في رحلة السفر

سكنتْ فيك آهةٌ آه ما أظلمَ البشر

أنت تُغضي ويظلمون وتعفو وتؤتسر

عجباً يقطع الخميلةَ من يأكل الثَّمر

* * * *

أنا شيءٌ على البقيع هيامٌ على هيامْ

واُسمّى جنازةً وقفت فوقها الحمام

٢١٣
 &

صُلِبَتْ ألفُ شمعةٍ ها هنا تحمل السّلام

وهنا الكون ينحني ومجرّاته تنام

وأنا جاثم هناك حريقاً من الغرام

طفتُ لوناً على الترابِ ولوناً على الغمام

أهنا أنتَ أم على السحب أم أنتَ لا ترام

مَن أنا يا ترى تناثر وجهي مع الحطام

أأنا ذلك الهشيم تناءى به الظلام

فتذكرتُ أن نعشي قد غيلَ بالسهام

من بقاياك طينةٌ أنا لا أعشق انقسام

* * * *

٢١٤
 &

الشيخ علي الفرج :

يبدأ علي الفرج باستخدام حدث فلكلوري شعبي هو ( قراءة الكفّ ) ليقول لنا : إنّ أبسط طرق الناس للمعرفة ستوصلنا إلى علاقة الإمام المعصوم عليه‌السلام بالسماء حتماً.

فنراه يستخدم ( يقولون ) فعل حكاية ليسرد بطريقة القصص الشعبية الفلكلورية تصوّرات البسطاء من الناس على ثلاث مراحل.

سنتناول المرحلتين الاُولى والثانية أوّلاً :

يقولون : تعشقك امرأةٌ من دخان تسمّى سماء

يقولون : إنّك يوماً ستُصبح والبحر شيئاً

فالإمام المعصوم عليه‌السلام يُلبسه الناس البسطاء حلّة غرائبية هي بالتالي حلّة البطل المقدّس المخلّص من الآلام والشقاء والعذاب الدنيوي.

ونلاحظ انّ علي الفرج قد استبقى التصوّرات تلك بتراكيبها الغرائبية ذاتها ، فهناك عشقٌ يحدّد العلاقة ، وصاحبته امرأة من دخان هي الجزء السحري والمدهش من الكون والوجود وهي السماء .. أمّا على الأرض فيختار علي الفرج من أجزائها البحر ليواصل الإدهاش بالغامض والمستتر فيصبح الإمام المعصوم عليه‌السلام والبحر شيئاً واحداً من جهات عدّة يمكننا شرحها وتفصيلها ، فالإمام والبحر هما العمق والإحاطة والعطاء المستمر والسعة اللامتناهية والطهارة وهذه الأخيرة هي الجهة التي اختارها الشاعر ليقول :

فحيناً يُسمى الزكيّ ...

ولا يخفى هنا استمرار علي الفرج في احتفائه الدائب بالصور المائية وخصوصاً البحرية منها ، ممّا يطبع شاعريته بهذا الحسّ الذي سبق لنا أن أشرنا إليه في أكثر من دراسة لشعره.

٢١٥
 &

يقولون : إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً ..

وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي .. إلى أن يموت

وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً .. وتتركه .. ثمّ تمضى مع الأنبياءْ

هنا يسرد الشاعر قصّة مختصرة كاملة وبنفس الطريقة الفلكلورية العجائبية الغرائبية حيث يتدخّل الزمان ـ وهو القدر والمصير في التصوّر الشعبي ـ ليحفر شقوقاً في أيّام المعصوم عليه‌السلام الهانئة الحالمة ـ وهذا أيضاً وفقاً للتصوّرات الشعبية ـ وتأتي أحداث القصّة حيث يتعرّض ثوب البطل إلى نهش الذئب الذي سيعوي بعد النهش ويستمر في العواء الجائع إلى أن يموت ، وكأنّ نهشه للثوب كان سبباً لموته ، ثم يتدخّل الشاعر ليضفي على هذا الجو الاُسطوري مسحة رمزية شفّافة حين يقول :

وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً وتتركه

ونلاحظ أنّ عملية دفن الذئب في ظلمة العار هي ترميز لاندثار الخطّ المعادي للمعصوم عليه‌السلام لأنّ هذا الخط يصبح وجهاً غريباً عن حركة الحياة بحقائقها الساطعة حينما يمضي الإمام المعصوم عليه‌السلام مع الانبياء في خطّهم ومنهجهم الإلٰهي.

وبمقابل عملية قراءة الكفّ الشعبية الفلكلورية ستكون هناك عملية قراءة من نوع آخر عندما يبدأ الشاعر نفسه بقراءة أكفّ الحياة جميعها ، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أكفّ الحياة وقراءتها ليستا من النوع الأوّل ، بل هما يقابلان ـ تجوّزاً ـ كل النشاطات الحياتية العملية والفكرية.

والقراءة هنا قراءة تقصّ واكتشاف بعيدة عن الغرائبية والتصوّرات المندهشة بالمغيبات بدون تصنيف علمي وبدون فرز إدراكي عقائدي سليم.

ويحلو لي ان اسمّيها قراءة شاعرية ، وأظنّها كذلك فهي مستندة إلى التصوّر

٢١٦
 &

العقائدي الواضح لحالة الإمام المعصوم عليه‌السلام لكنّها تحاوره ببديلٍ شعري هو معادل وجداني للفكرة يقرّره الشاعر هكذا :

وسوف أراك بها شاخصاً من بعيد

وجوداً .. وجوداً

مقابل ان كلّ الوجودات غيره فانية حتى أكفّ الحياة التي قرأها الشاعر.

ولا يفوتني ان اُشير إلى أنّي أقرأ لعلي الفرج محاولته الاُولى في الشعر الحرّ التي تكشفه لنا متمكّناً أيضاً في هذا النوع من الفن الشعري الذي اتمنّى أن يواصل كتابته فيه شاعراً ولائياً تحاصره الحداثة وتطرق بواباته نصف المغلقة.

أمّا عن قصيدته العمودية ( صوفيّة جرح ) فقد تعمّد علي الفرج فيها ان يقف مع الجمال على أرضيته ، وأن يحلّق في فضاءاته الواسعة على حساب كلّ ما هو بليغ ، فقصيدته جميلة أكثر منها بليغة ، بل انّه بدأ ينسف بعض الجسور التي تجعله متواصلاً مع البلاغة القديمة ، ولنقل أيضاً : إنّ الشاعر بدأ يتلمّس طريقه إلى بلاغة جديدة من صنعه هو ، وهذه الخطوة المفتوحة بقوّة في طريقه الإبداعي محسوبة على محاولاته للخروج والتجاوز والتخطّي وعلى مستويات عدّة ، فمنها انّ الشاعر اختار النظم ـ عمودياً ـ على بحر الخفيف المجزوء وهو صيغة حديثة في النظم انتشرت بكثرة منذ أقل من قرن من الزمان في الشعر العمودي ، وهو لم يكتف بذلك فقط ، بل دوّر ( ٣٢ ) بيتاً من أصل ( ٤٥ ) بيتاً على غير عادة النظم في هذا البحر ، ليحقّق تعبيراً صارخاً عن ضيقه بهيكلية الصدر والعجز في البيت الشعري ، وتوزيع الكلمات والجمل عليهما ، فلو نظرنا إلى توزيع عدد الأبيات على القوافي لرأينا الآتي :

قافية حرف القاف ( ١٣ ) بيتاً ، قافية حرف الفاء ( ١١ ) بيتاً ، قافية حرف الراء ( ١٠ ) أبيات ، قافية حرف الميم ( ١١ ) بيتاً.

٢١٧
 &

ممّا يؤشّر أنّ الشاعر لم يحتفل بنظام حسابي معيّن لهندسة قصيدته ، وهذا أيضاً يوضّح نفوره وضيقه من التقليد ويؤكّد خروجه وتجاوزه لما هو سائد ومألوف :

أمّا على المستوى التركيبي فسنرى :

كان نهراً محاصراً

وحريقاً تدفّقا

أو :

فتمشّى به الجحيم شفيفاً وأزرقا

أو :

أنا شيء من الرماد صريع بأحرفي

من فجائية التركيب يصل الشاعر إلى صوره الجميلة ، والتراكيب عنده عبارة عن مادّة تعبيرية يوصل بها ما يريد وما يختار ، فشعره منحاز إلى الصيرورة والتوليد أكثر من انحيازه للكينونة والثبات ، بمعنى انّه يجمع احتمالات الولادة والطزاجة ليفاجىء المتلقّي ويسحره ويسحبه إلى داخل عوالمه الجميلة :

وارتمى بعض ضوئه في يد الاُفق وانهمر

فغدا يصنع الصباح الذي يشرب السحر

أمّا على المستوى الدلالي فأنّ القصيدة قد تلاعبت بضمائر ثلاثة ( أنا .. أنتَ .. هو ) أو ( المتكلّم والمخاطب والغائب ) ثلاثة أشخاص تناوبوا على أبيات القصيدة.

فافتتح الشاعر القصيدة مع ضمير الغائب بسبعة أبيات ليعرض حالة وجه ممزّق ونهر محاصر وحريق ، وهذه كلّها إسقاطات للجرح الذي يدور بصوفيّته على ما أراد الشاعر التعبير عنه وتوصيله لنا بعد ذلك :

يحتدم بعدها الحوار بين ( أنا وأنتَ ) أي بين المتكلّم والمخاطب وعلى

٢١٨
 &

امتداد ( ١٧ ) بيتاً ليُطرح هذا التساؤل المضطرب :

أنتَ مَن أنتَ يا هوىً عسليّاً لمدنفِ

ونستمع إلى ( ١٠ ) أبيات رائية من حديث رؤى المتكلّم مع المتكلّم نفسه :

حدّثتني رؤاي أنّك شيء قد انتثر

أو :

حدّثتني رؤاي أنّك في رحلة السفر

وحديث الرؤى حديث كشف لحقيقة المخاطَب ، فنحن نقترب من شخصية الإمام الحسن عليه‌السلام وخصوصاً في هذا البيت :

أنت تغضي ويظلمون وتعفو وتؤتسرْ

ونعود في نهاية القصيدة إلى المتكلّم الذي يؤشّر بقعة جغرافية محدّدة ( البقيع ) ليؤكّد لنا انّه كان يتكلّم عن الإمام الحسن عليه‌السلام :

أنا شيء على البقيع هيام على هيامْ

لتبدأ بعدها تساؤلات تدخلنا إلى مناطق اضطراب الدلالة وكثرة احتمالات التأويل.

وننتهي مع الشاعر الذي يؤكّد انتماءه ومحبّته ، لكن بطريقة أقرب للغرابة منها للوضوح التقريري ، وهي تلامس أكثر من نمط من أنماط الغموض الجميل ، لكن القصيدة تمضي إلى النجاح بأكثر من خطوة موفّقة.

٢١٩
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMojtaba-Wamidh-Harf-Wahj-Ghafiehimagesrafed.jpg

٢٢٠