المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المؤلف:


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-153-2
الصفحات: ٢٢١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

هذا التناول لمفردات الطبيعة كمواد تعبيرية ، أضفى عليه الطابع الفكري لمسات واقعية إيمائية أبعدت عنه النَفَس الرومانسي الحالم المتأوّه لكي يقفل بالإشارة المكرّرة ( كيلا يكون الحسن ) منبّهاً على استحالة عدم كينونته ووقوف القوانين الطبيعية والسنن الكونية ضد هذا ، فلن تقف عجلات الزمن ويبقى الربيع يأتي :

فتبدو على كلّ زهرة روض سمات البقيع

ووجه الحسن

تبدأ بعد ذلك قطعة ختامية يخاطب فيها الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم الإمام الحسن عليه‌السلام مباشرة ، وهي نفثة روحية حرّة امتزج فيها تمكّن الشاعر من النظم العمودي مع محاولته لكتابة شعر حرّ لا يتقاطع مع تجارب شعراء هذا النمط ، بل ينفرد عنهم بسبب بروز الدوافع الأخلاقية السلوكية الضاغطة على تجربة آل قاسم الشعرية.

فقصيدته وعظية تنجح في إخفاء ما تريد تحت أجنحة المعالجة الفنية الجمالية ، وتنجح أيضاً في استقلال شخصيتها ومُزاوجتها بين متطلبات الشكل وشروط المضمون ، لتجعلنا نقول أنّ تجربته الشعرية بوتقة مختبرية تصهر الأخلاق والسلوك مع الجمالية والحقائق التاريخية في نسيج فنّي يستخدم من الرومانسية مفرداتها الرقيقة ، ومن الواقعية حبكاتها المتداخلة ، ليحقّق نصّاً هو بدايته المتمكّنة التي نتوقّع لها أكثر من ذلك حينما تتواشج وتتقاطع مع تجارب الآخرين الشعرية عِبر مسارات الشعر المعاصر.

وعلى مستوى التجريب الواعي فإنّ الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم قطع مسافة شاسعة نحو الإبداع والتجدّد.

١٨١
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMojtaba-Wamidh-Harf-Wahj-Ghafiehimagesrafed.jpg

١٨٢
 &

كبد وجراحك الخضراء

الاستاذ معروف عبد المجيد

لا تقترب يا نجمُ ، وابق هناك محجوباً بأسداف الزمن

لا تحرق الدنيا بطلعتكَ الوضيئةِ حين تولَدُ ..

فالظلام يلوك فاكهة الخلودِ

وألفُ عاصفة تهبُّ وتكسر الأمواج والقمر المعلّق في الصواري المائساتِ

وتستبيح البسمة الحسناءَ في ثغر السُفنْ

لا تدنُ من أرض يلذُّ لها الهجوعُ ، وتستكين ذليلةً ..

فوق التواريخ الكسيحةِ والمرايا السودِ والحمّى .. وأكتاف المحنْ ..!

وانظر إلى هذا الوجودِ تجده قفراً ، لا تداعبه النسائم والخزامى ..

والرياحين الطريّةُ والبحيرات العِذاب ، ومهرجان الطير والروضُ الأغنّْ ..!

واربأ بهامتك الكريمة عن عوالمنا الذميمة .. إذْ هَوَتْ مزقاً محرّقةً بأخدود الفتنْ ..

واعبر مدارات الحياةِ

فكأس ( جعدة ) دائرٌ يسقي الحماماتِ النبيلةَ والأحبّةَ .. والوطنْ ..

١٨٣
 &

وارحم ثكالى الخلق .. والأمل المذهّب في بطون الاُمّهاتِ

وهدأةَ الرّيف الملفّع بالطفولةِ واشتعال الشيب في رأس المُدن.

فالأرض أضعف طاقةً من أن تراك تجود بالنفس الزكيّة مرّة اُخرى

وتقتل يا حسن !!

إرفق بنا ..!

فعيوننا لم تكتحل بالنور دهراً ..

وتعوّدت أجفانُنا برموشها السوداءِ أن تغفو ..

وتحلمَ أنّ أشواكَ الظلامِ غدت نجيمات .. وزهرا

حتى مآقينا .. ترجّح أن تشبّ الاُمنيات الزغْبُ .. في أرحامها البتراءِ جمرا

فإذا صحت .. ورأتك واقعها المضيءَ تحيَّرت ..!

وهي التي لم تحتضن أهدابُها من قبل .. لألاءً .. وبدراً

حتى المآذن .. والسواقي .. والفصول الخضرُ ما عادت تؤذّنُ

أو ترشُّ على التلال ندىً وتكبيراً .. وغزلاناً وزغردة وعطرا

حتى المواسمُ .. والمواكبُ والكواكبُ

لم تعد تُضفي على الأعشاشِ .. والأعشاب والليل الحزينِ بشاشةً سكرى ..

وإشراقاً .. وسحراً ..

حتى الليالي لم تعد تنأى ليلتمس الحيارى البائسون هدىً وأسحاراً .. وفجراً.

حتى المحافلُ .. والرحيلُ الحلوُ في زهو الذُّرى والاُمسياتُ ودهشةُ الشُعراءِ

ما عادت تفيض على السهول وهودج العشاقِ وحياً .. وارتعاشاتٍ وشعراً

فإذا أتى الميلادُ يحمل للحزانى فرحةً .. ونبوءة تشدو .. وبشرى

وتفجّرت آفاق هذا الشرق نوراً

وهجُهُ :

١٨٤
 &

طه ، وحيدرةٌ ، وزهرا ..

فلتبتهج يا عمرنا الخالي من الفرحِ المجنَّحِ فهي ذكرى .. أيُّ ذكرى ..!!

وتجيء تسبح في الدّماءِ وفي رؤاك الطفُّ ، والعطش الرهيبُ

وشهقةُ الأطفال ، والشفق النحيلْ ..

وأخوك ممدودٌ على وجه الثَّرى كالكون. أضجعه الزمان على الرمال

فبدؤهُ : قِدَمُ الخليقةِ

والنهاية .. في امتداد المستحيل

وأخوك شعشعةُ النجوم على الممالكِ واشتعالاتُ التجلّي واقتدارُ الضوء ..

والمشكاة .. والقنديلْ

وأخواك جمهرةٌ من الأفلاكِ ترفض أن تحطّ على الترابِ

وأن تذوب مع انطفاءات الأصيلْ

وأخوك جلجلة الفوارسِ والتماعات السيوفِ

تضنّ أن تهوي .. فيسكتها الردى

وتدوسها ضعة السنابك وانتكاساتُ الخيولْ ..!

وأخوك زلزلةُ الملاحمِ وازدهاراتُ الفتوحِ وثورةُ البركان .. والغزواتُ

والفَرَسُ الأصيلْ

وأخوك خامس خمسةٍ تحت الكساءِ ، الله سادسهم .. وجبرائيلْ

وأخوك جوهرةُ الإمامةِ وانفجارُ الوحي .. والقولُ الثقيلْ ..

وأخوك أسفار البشارةِ و ( المؤيّدُ ) للمسيح وصرخةُ الشهداء في التنزيلْ

وأخوك هدهدةُ الولايةِ بين أحضان النبيِّ ومعجزات المرسلين وفلكُ نوحٍ

والأساطيرُ المجيدة ، والشرائعُ ، والنقوشُ ..

وآية الرهبان في ديرٍ على بَرَدى وأسرارُ النبوءات الخبيئة في ضفاف النيلْ

١٨٥
 &

وأخوك أحزانُ الفراتِ وولولاتُ البدو في غسق الخيام

وأنّة الأنسام في سعف النخيلْ

وأخوك أوصال النهارِ تناثرت فوق المدائن وانشطار الشمس والخطب الجليل

وأخوك حُرقتنا .. وآهتنا وقصّتنا التي اختزلت بها الدنيا حكاياها العجيبةَ ..

فهي تقصرُ .. كي تطول ..!

فأخوك عاشوراءُ والقتل المحرّمُ والدم المطلولُ والدمع الهطولُ

وأخوك راسٌ ناشرٌ حُمْرَ الجدائلِ

واختضاب الجرح في وجع الضفائر

والتهاب البوح في هلع الذهولْ

وأخوك أنفاسٌ .. وأوردةٌ

تمزّقها الضغائن .. والنصولُ

وأخوك عزفٌ .. كالعواصف في متاهات المدى

وأخوك نزفٌ .. كالسيول

وأخوك تقدمةٌ .. وأضحيةٌ ومذبحةٌ .. تجولْ !

وأخوك زينبُ .. والسبايا والرسالة .. والرسولْ

وأخوك مأتَمُنا الموشّح بالسوادِ تنوح فيه الحور من أزلٍ

وتندبُ فيه حواءٌ ، وآمنةٌ ومريمُ ، والبتولُ

وأخوك قبتنا الذبيحة في جنائز كربلاء

تمدُّ كفّيها المخضبتين بالدم للسماء

وتشتكي لله أحفاد المغولْ

وأخوك سامرّاءُ .. والأملُ المغيّبُ في الضمائر والمشاعر والعقولُ

وأخوك نكبتنا .. ومحنتنا الحبيسةُ في ذراري النسلِ جيلاً بعد جيلْ

١٨٦
 &

وأخوك : أنت .. وأنتما : أنتمْ ..

وأنتم كلكم حيٌّ كدفق النبض في قلب الحياة

وكلّنا .. نحن القتيلْ ..!

يا لي .. ويا لربابتي الرعناءِ كيف تميتني صمتاً

لتعزف ما تمنّت أن تقولْ ..!!

قد كنت أرجو أن أصوغ قصيدةَ الميلادِ

في هذا المساءِ الطلقِ لكنَّ الحسين ..

جراحُهُ سكنت فمي

فتحوّلت فيه الأغاريد البهيجة نوحةً

وتحوّل النّغم الطروبُ إلى عويل ..!!

يا كلَّ آياتِ النبوّةِ والأناشيد النديّةِ في شفاه المصطفى ..

يا سبطه المسمومَ .. قامَ ومزّق الأكفانَ وهو يطوف حول البيت .. متّئداً

ويسعى بين مروةَ .. والصفا

قعدوا .. ولم تقعد ..!

ولكنّ الخيانةَ في ( النّخيْلةِ )

وانكفاءات القبائلِ حمّلتك من الشدائد ما كفى ..!

خذلوك ، وانتهبوا المصلّى والمتاعَ ونازعوك بساطك النبويَّ

ثم تأمّلوا أن يُسلموك إلى ابن هندٍ حيلةً .. وتزلّفاً ..!

غصصٌ .. على غُصصٍ ..!!

وهم من جرّعوا أضعافها ـ يوماً ـ أباكَ .. فما احتفيت .. وما احتفى..!

طعنتكَ شرذمةُ النّفاقِ

ولو تخيّرت القتالَ

١٨٧
 &

بدا من الغدر المُبيّتِ .. ما خفى !

يا عزَّ هذا الدين

كم ذُلّتْ رقابٌ خالفتكَ

وكم من الفرسان حين البأسِ صار مخالفاً ..!

صلحٌ .. به حُقنت دماءٌ لو جرت .. لأتوا على الثقلين

موجدةً .. وحقداً تالداً .. وتعسفاً

عهدٌ .. به بيّضت وجه المسلمين

فبئس مَن جافى .. وعزّك في الخطاب وأرجفا ..!

لو لم يكن نصراً .. فكيف بغى معاوية عليك وما وفى .. ؟!

مهَّدْتَ للثوار دربَهمُ الطَّويلَ فحمحمت خيل الحسين

وأدرك التاريخ أن النخل حين يموت من ظمأٍ يظل على الدوام مرفرفا ..

ومعانقاً هامَ السماءِ وواقفا.

يا أيّها المظلومُ .. أمنحك الفؤادَ مفتّتَ الرئتينِ يخفقُ .. نازِفا

اُهديك في الميلاد تاريخاً ، وشمساً لا تغيبُ ومُصْحَفا.

١٨٨
 &

الاستاذ معروف عبد المجيد :

قصيدة معروف عبد المجيد سياحة عريضة في أصقاع الوقائع ، وانتقالة واسعة الخطى في مساحات الحقائق ، وهذه السياحة أو الانتقالة لا يحلو لها الإقامة في مكان ولا يحلو لها التعشيش على غصن معيّن ، فهي سفر متواصل يعوّل على وحدات المعنى وسعة المضامين أكثر من اطمئنانه في الإخلاص للقول الشعري.

والشاعر بمقارباته النظمية لتفاصيل الحقائق ووثاقتها ، يحاول أن يردم فجوة عميقة قائمة بين الواقعة التاريخية ـ وهي البعد الغائر والمستتر من الوقائع ـ وبين عملية الإبداع الشعري.

وبسبب إخلاص الشاعر للجوانب والمستويات المعنوية والمضمونية والفكرية نرى في شعره مسحة منطقية مستحكمة ، فألفاظه مثلاً لا تنحرف كثيراً عن وظيفتها لتسلك مسالك الإيحاء أو الإيماء أو الترميز ، فهي مهتمة بنقل الحقيقة المنطقية عبر نظام توصيل يصوغ التعبيرات صياغة إخبارية ، فلو نظرنا إلى مقاطع القصيدة لرأينا أنّ كلّ مقطع قائم على وحدات منطقية منظّمة تنظيماً يتجاوز الجمال لصالح الحقيقة ، ففي كل مقطع وحدة مضمونية مسؤولة عن نقل التعبير إلى المتلقّي بحبكة منطقية محكمة ، أو هناك سرد محبوك بدراية منطقية واضحة. فمعروف عبد المجيد يهتمّ بنقل التعبير ليوصله للمتلقّي عبر أدوات لا تؤكّد هويتها الشعرية ، ويكفي أنّه ينقل التعبير ولا يعبّر ، وبالنتيجة فهو ميّال إلى البرهنة على قضاياه بالأدوات الشعرية وهذه الطريقة أو الاُسلوب ـ أي استخدام الشعر لتنفيذ وظائف اُخرى ربّما يقتل الشاعرية أو يخنق ما هو شعري في تجربة معروف عبد المجيد المعرفية الواسعة.

إنّ معالجة الشاعر لقصيدته لا تكتفي بوجودها أو حضورها المتطلّع إلى

١٨٩
 &

آفاق الجمال والفن ، فهو يشحنها ـ بتفان ـ بآفاق معرفية يعرض من خلالها أفكاره وتوجّهاته ووعيه التاريخي بشكل مباشر ، فهو لا يميل إلى الكشوفات الإيحائية التي يجب أن تصبغ الفنون بصبغاتها الحدسية ، بل يميل إلى إخضاع التجربة الجمالية لرغبات ذهنية عقلية تقول : إنّ الحقيقة هي الجمال ، والجمال هو الحقيقة فهو مع قول أحدهم :

وكم يبدو الجمال أشدّ حسناً

بما تهب الحقيقة من جمال

ومع وجع الحقيقة انعكست رؤى الشاعر مأساوية الظلال ، فجائعية الإشعاع لتبعد الفرح عن مسار القصيدة وسياقها منذ الخطوة الاُولى التي عانقت ( لا ) الناهية بكل حدّة ليقول :

لا تقترب يا نجم ..

ليلحق هذه الحدّة عبر فعل الأمر ( ابق ) ليواصل التحذير :

وابق هناك محجوباً بأسداف الزمن

ويطغى الألم على التصوّر ليجعل النور محرقاً فيخاطبه ناهياً أيضاً :

لا تحرق الدنيا بطلعتك الوضيئة

وعبر مشاعر الخوف والخشية والرهبة من تكرّر المأساة يستمر خطاب الشاعر للإمام الحسن عليه‌السلام بالعرض والتوسّل والطلب والرجاء وتعود ( لا ) الناهية مرّة اُخرى لترجو وتتوسّل :

لا تدن من أرض يلذ لها الهجوع

ويستسلم الشاعر لسوداويّة مطلقة ، فهو يؤبّد الظلام ويجعله خالداً بتصوّر اُسطوري واضح الدلالة :

فالظلام يلوك فاكهة الخلود

ويشحن الجو المأساوي العام بتفاصيل الكارثة فهناك :

١٩٠
 &

الف عاصفة تهبّ

وهناك أيضاً :

التواريخ الكسيحة والمرايا السود والحمّى

ويعود الشاعر ليتوكّأ على طلباته وتوسُّلاته بعدم الحضور ، فيواصل رحلته مع أفعال الأمر ( انظر ، اربأ ، اعبر ، ارحم ) ليعلن إعلاناً هو إلى خيال الأماني أقرب من الحقيقة التاريخية ليقول : إنّ الأرض لا يمكنها استقبال الإمام عليه‌السلام إذا أراد أن يجود بدمائه مرّة اُخرى.

في المقطع الثاني يحدث بعض الانفراج من ضغط الأحزان والواقع المأساوي المحاصِر لرؤى الشاعر ، فيبتدىء من فعل الأمر المتوسِّل بالإمام الحسن عليه‌السلام.

ارفق بنا .. فعيوننا لم تكتحل بالنور دهراً

لنصل بعد رحلة سرديّة بتفاصيل الأوجاع عبر تداعيات متواصلة ومتداخلة إلى منطقة صغيرة يعالج الشاعر بدايتها بـ ( لام الأمر ) ليقول :

فلتبتهج يا عمرنا الخالي من الفرح المجنّح فهي ذكرى .. أي ذكرى

ويدخلنا الشاعر إلى مقطع قصيدته الثالث باستهلال فاجع عن الإمام الحسن عليه‌السلام:

وتجيء تسبح في الدِّما

وهذا الاستهلال قابل لقراءتين ؛ الاُولى تبدو فيها الولادة والمجيء سابحتين في الدماء ، أمّا الثانية فيمكننا أن نتصوّر فيها مجيء ذكرى الولادة لا الولادة نفسها ، على أنّ الشاعر أراد ان يتخلّص إلى موضوع مركزي يتحدّث فيه ويسهب عن الإمام الحسين عليه‌السلام فأكمل شطره هكذا :

في رؤاك الطف والعطش الرهيب وشهقة الأطفال والشفق النحيل

ليبدأ التخلّص في الشطر الثاني :

١٩١
 &

وأخوك ممدود على وجه الثرى

ليعرض الشاعر في أطول مقاطع القصيدة مأساة الحسين عليه‌السلام في صور تقرّر تفاصيل المأساة وتنقل استنساخاً مقارباً لذاك الحدث التاريخي ، ومع تكرار لفظة ( أخوك ) ٢٤ مرّة تنثال التداعيات المجاورة للوقائع لتخبرنا وتحقّق وظيفة الإبلاغ ونقل التعبير المُصاحِب للمعلومات ولدقائق الاُفق المعرفي الذي يريدنا الشاعر ان نطّلع عليه داخل حلّته الشعرية.

ونظراً لهذا الإخلاص في استخدام الأداة الشعرية لإنجاز وظائف حياتية اُخرى ، أفلتت بعض المتطلّبات الأساسية المرادة في الجانب الإجرائي التنفيذي لعملية بناء القصيدة.

فمع تدفّق القصيدة بتفعيلات بحر الكامل عانت بعض الخلل الإيقاعي الذي جاء به الشاعر بتجوّز واضح ، فبعد انتظام المقطع الأوّل مع صحيح الكامل ، والمقطع الثاني مع الكامل المرفّل ، ابتدأ الشاعر مقطعه الثالث مع الكامل المذيّل ، أي انّه كان يضيف حرفاً ساكناً إلى تفعيلات نهايات الأشطر في ( النحيل ، المستحيل ) إلّا انّه أورد ( القنديل ) وهو معالج عروضياً بزحاف وعلّتين ، فالزحاف هو الإضمار حين سكّن الحرف الثاني المتحرّك من تفعيلة بحر الكامل ( مُتَفاعلن ) فتحوّلت إلى ( مُتْفاعلن أو مستفعلن ) ، ثمّ عالج الناتج بعلّة الحذف عندما حذف الوتد المجموع من ( مستفعلن ) فبقي ( مستف ) وهذا الناتج يقابل تفعلية الخبب ( فعلن ) ، ثم ذيّل هذه التفعيلة عندما أضاف حرفاً ساكناً إليها فأصبحت ( فعلان ) وهي وزن ( قنديل ) وهذه المعالجة لا تقابل ما قبلها إيقاعياً مع كون القافية متّحدة ، وتكرّر هذه الكسر الإيقاعي في مواقع اُخرى ( جبرائيل ، التنزيل ، النيل ).

ويصل الشاعر إلى مقطع قصيدته الرابع ، ليبرّر لنا ما يمكن تسميته بضغط

١٩٢
 &

الحزن على رؤاه وأبعاد تصوّراته الشعرية :

قد كنت أرجو أن أصوغ قصيدة الميلاد

في هذا المساء الطلق

لكن الحسين .. جراحه سكنت فمي

وبعد التبرير المختصر بشطرين يمثّلان مقطعاً كاملاً يعود الشاعر في مقطع قصيدته الأخير للسرد التاريخي الذي يعمّق المأساة والحزن والألم ثانية ، فيذكر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وخيانة النخيلة وخذلان القبائل وصلح الإمام الحسن عليه‌السلام. بحيث تغلب اللغة النثرية التقريرية الإبلاغية الإخبارية على أشطر المقطع الذي لم يوفّق الشاعر فيه إلى اكتشاف أرضية جمالية ، أو انّنا نقول انّه رأى أن يسمّي الأشياء والمفاهيم والأفكار بمسمياتها المباشرة بدون أن يعطي للتأمّل الشعري فرصة لطرح ما يعادل الأفكار شعرياً فنقرأ :

بيَّضت وجه المسلمين

أو :

لو لم يكن نصراً فكيف بغى معاوية عليك وما وفى ؟

ووصل المستوى التعبيري إلى حدّ المفارقة في استخدامه للفظة ( الفؤاد ) وهي لفظة يتبادر معناها إلى ذهن المتلقّي انّه ( القلب ) فكيف استخدمت بهذا الشكل المنافي لمعناها في :

يا أيّها المظلوم أمنحك الفؤاد مفتّت الرئتين

فالقلب هنا له رئتان مفتّتان وهذا خلل واضح على المستوى الدلالي ، يضاف إلى خلل في نظام التقفية عندما استخدم الشاعر القوافي التالية ( مخالفاً ، ما كفى ، ما خفى ، ما وفى ، واقفاً ، نازفاً ) وهذا من عيوب القافية الذي يسمّى بـ ( سناد التأسيس ).

١٩٣
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMojtaba-Wamidh-Harf-Wahj-Ghafiehimagesrafed.jpg

١٩٤
 &

الندى المحترق

الاستاذ يقين البصري

مقدّمة

تعال إلى روح شفيف هيامُها

وعين برغم الصبح طال ظلامُها

تعال نلمّ الشوق ورداً ونسمة

ومُفردةً عذراء ثرٌّ غمامها

تعال نوافيك الهوى جمر ليلة

تطول كليل القطب كيف تنامها

لنرحل صوب الشمس عجلى خيولنا

وقد ساقها يحدو الرّكابَ مرامها

فجازت بنا والنجم يرقب شوطنا

وقد طاف في أقصى الفضاء سلامها

إلى مولد السبط الذي شعّت الدُّنى

بمولده مذ حلّ فجراً هُمامها

فيا صابراً صبر المسيح وملجماً

خطوباً على الإسلام صعبٌ لجامها

فرغم دعاوى البغي كنتَ زعيمَها

لك انقاد رغم البغي طوعاً زِمامُها

الندى المحترق

نزفنا في الغميم دماً مضافاً

فأورثنا الصدى سُمّاً زُعافا

يفيض بداوةً وتفيض مجداً

ونغترف السمو به ٱغترافا

١٩٥
 &

هبي دمنا المفجَّر أريحياً

فكيف رميته البيض الخِفافا

وكيف رأيت مجدك أن تصفّي ( م )

الأسنّة والسيوف له اصطفافا

رغبت عن العلى شرفاً ومجداً

وتأبين المروءة والعفافا

سطوت بغدرة فزرعت لؤماً

وعُدنا نحصد الشرف المضافا

ولو لا ما أراد الله فينا

لأورثناكِ ذلاً واعتسافا

وأوردناك فيضَ دمٍ وكأساً

مُصبَّرة وبالسيف ٱنتصافا

بدأت بحربنا حتى مضينا

عن البيت ابتعاداً وانصرافا

فليت شعاب مكة ما استفاقت

على سمّ القطيعة أن يدافا

ورحت تحكّمين السيف دهراً

إلى أن كَلَّ عزمُك أو تنافى

وأرخصت الدماء إذ انتضينا

سيوف نبوّةٍ بيضاً رهافا

وأيّ مدى يغطّي الشمس حتى

تنكّر مستريبٌ أو تجافى

وآمنّاك من فزع وإنا

نُؤمِّن مستغيثا أن يخافا

وآثرنا عليك الوحي حتى

ملكنا البيت رُكناً والطّوافا

وأعطيناك فكراً مستنيراً

ففضلت التنافر والخلافا

وكم سطعت لنا شمس فعادت

على عينيك قاراً أو غلافا

كأنّك ترتدين الليل ستراً

ليفضحك النهار إذا توافى

ركبت خيولَ حقدك فاستشاطت

وأزمعت الشقاق والاختلافا

وكم رحمٍ قطعت بغير حقّ

ركبت هوىً وأحلاماً خفافا

وفي بيت النبي أطلّ فجرٌ

ورفرف بيرق خفق انعطافا

فأسرجنا إليك لسانَ وحي

يقارع ألف صرحٍ إن تنافـى

ويا بكر النبوّة ألف نجم

إلى قدميك قد سجد اعترافا

تلاقى فيك عُرْفُ دم كريم

فلامس بالهدى منك الشِّغافا

١٩٦
 &

على كفّيك ماءُ حياً تصافى

ومن عينيك أطلقتَ الرِّعافا

وطرزت المدى ألقاً كريماً

كأنّ النجم طلّ به وطافا

تساقينا هوى عينيك سكراً

نعاف به الكؤوس أو السُّلافا

وأفرغنا الجوى ليلمَّ عنّا

عيون اللّيل والسهد المضافا

نجرّ لك الخطى شوقاً وسكراً

ونعتمر التمنّع والعفافا

يعير الشمس وجنته افتخاراً

فتنهل منه عبَّا واغترافا

تدين له المكاره قبل ألف

ويغمر من سماحته الصّحافا

مشى مجداً وطاف هُدى وأسرى

كريم الطبع قد سلك القيافا

وعش تحت الكرامة مستظلّاً

من المجد اعتباراً لا يكافى

تمطّر عارض هطل فسالت

مرابع طالما شكت الجفافا

يطيب بك الزمان أريج قدسٍ

تذوق به الدُّنى طعماً نطافا

سقتك من النبوة ألفُ عينٍ

وعاد جناك يُقتطَف ٱقتطافا

تطير بك السماء لتمتطيها

وتحتضن الشواطىء والضفافا

ولدت بمهده فحباك حجراً

فكنتَ به المُشرَّف والمُعافى

١٩٧
 &

الاستاذ يقين البصري

قصيدة يقين البصري تعجن إمكاناتها عجناً فنّياً من جهة وأخلاقياً من جهة اُخرى لتقترب من آفاق القصيدة ـ النموذج ـ بصيغة المحاكاة الساعية إلى المضاهاة ، فهي ترتدي المتاح لها في زمانها وتمدّ يدها إلى مشجب الآتي ، محاولة سحب حلّة لم تلبس بعد لتتوشّح بها ، وبين هذه التجسّدات يمتد نتاج البوتقة السحرية ليبلّلنا رذاذه المتصاعد.

لو تأمّلنا المقطوعة الافتتاحية لرأينا بصمات النموذج واضحة المعالم ، بارزة التأثّر على مستوى البناء الفنّي وعلى مستوى المضمون الأخلاقي أيضاً ، فأن إلحاق ضمير الغائبة إلى روي القصيدة ما هو إلّا محاولة للتقرّب غير المتوجّس لفتح حساب يسحب أرصدة مجمّدة قد كانت عملة من عملات ذلك الزمان لا تصرف في غيره ، مع كثرة ما في مصارف التراث من مجوهرات ثمينة تباع في كلّ زمان ومكان ، فهي مفتوحة للتداول والتلقّي بمساحاته العريضة ذوقاً وتحسّساً واستجابة.

وهذه الخطوة هي ابتداء التحرّك إلى اُفق النموذج فهي الواجهة الأمامية أو السياج الخارجي للمقطوعة ، وإذا أضفنا النظم على بحر الطويل المقبوض إلى ذلك ، وهو بحر الفروسية والفرسان تأكّد لدينا أنّ هناك قصدية تحاول الانتخاب والاختيار والالتقاء.

فالنفس الأخلاقي لدى يقين البصري يلبسُ حلّة الفرسان المفتخرين بسلوكياتهم ، وهذا المنحى يكاد يتكرّر في قصائد البصري على الرغم من اختلاف المواضيع التي يعالجها شعرياً ، وإمعاناً في تأصيله لهذا المنحى نرى الفروسية عنده مستمدّة من النائي البعيد في أغوار الشخصية العربية الباحثة عن مكارم الأخلاق عرفاً ولو على مستوى الجو العام الذي يغلّف القصيدة ، فهي

١٩٨
 &

أقرب إلى النفس الأخلاقي في الجاهلية منها إلى غيره. وهو بهذا يحاول أن يضاهي ليتجاوزه أكثر من أن يحاكي ليتطابق ، فأجواء قصائد الفرسان في الجاهلية تحيط قصيدة البصري بمدارات متخفيّة ، فربّما هناك عنترة أو دريد بن الصمّة أو عروة بن الورد ، أو الشنفرى يطلّون على مساحة النص من منافذ يسترها الشاعر ويخفيها بحذق غير مكتمل ، ونقول : الأجواء العامّة والآفاق المترامية تخلّصاً من التدقيق المتفحّص والتنقيب المتأنّي اللّذين لا يتفقان مع عجالة هذا الجهد المبسّط ، لكنّنا نشير إشارات من المستوى النحوي إلى بعض الظواهر مثل استخدام الصفة المقطوعة عن الموصوف في :

تعال إلى روح شفيف هيامها

أو استخدام جملة الحال الاسميّة :

لنرحل صوب الشمس عجلى خيولنا

أو استخدام اسم الفاعل العامل في :

فيا صابراً صبر المسيح وملجماً

خطوباً ..............

ويمكن للدقّة والفحص النقدي المتأنّي أن يكشف إشارات المحاكاة أو المضاهاة في مستويات اُخرى كالمستوى التركيبي أو المستوى الدلالي.

أمّا عن قصيدته ( الندى المحترق ) فسرعان ما نكتشف أنّ العنوان كان اختفاءاً رومانسياً وواجهة برّاقة لا تشف عمّا في داخلها ، فلا نستطيع أن نوازن بين موضوع القصيدة وهو ميلاد الإمام الحسن عليه‌السلام وبين الندى المحترق ، حتى لو أخذنا بالاشتراك اللفظي لكلمة ( الندى ) التي تعني قطرات الماء المتساقطة فجراً على الأوراق والغصون وتعني كذلك الكروم ، وكلا المعنيين كاشف عن العطاء مثلاً أو الرقّة أو الطراوة ، فعندما تحترق هذه المعاني ـ تجوّزاً ـ تجد لها مبرّراً شاعرياً رومانسيّ التركيب ، لكنّنا لا نتوافق مع الشاعر في هذا الاختيار

١٩٩
 &

على الرغم من وجود نبرات الألم والتوجّه في قصيدته ، فهو لم يفارق توجّهاته الأخلاقية وموقفه السلوكي في الضغط على أجواء القصيدة وأراضيها ، وسنرصد مثلاً اختياره للفظة ( المجد ) وكيف استطاع الشاعر أن يركّبها ويفرّعها ويفعّلها ليضفي من خلال معانيها مسحاته السلوكية على مضمون القصيدة ، فهو يرى أنّ المجد يقابل التمدّن الساعي إلى التحضّر :

يفيض بداوة وتفيض مجداً

ونغترف السمو به اغترافا

ويرى ( المجد ) انتصاراً أخلاقياً ليخاطب :

وكيف رأيت مجدك أن تصفي ( م )

الأسنّة والسيوف له اصطفافا

ويراه منبعاً أخلاقياً للخلود في :

رغبت عن العلى شرفاً ومجداً

وتأبين المروءة والعفافا

ويعود ليراه سلوكاً تفصيلياً يومياً لمكارم الأخلاق في :

مشى مجداً وطاف هدى وأسرى

كريم الطبع قد سلك اقتيافا

ويراه أيضاً مظلّة يتفيّأ الفرسان ظلالها في :

فعش تحت الكرامة مستظلّاً

من المجد اعتباراً لا يكافى

ويقين البصري لا يكفّ عن استخدام معجمه اللغوي الذي اختاره ، مخصّصاً أكثر من مكان للألفاظ ذات الصبغة الأخلاقية مثل ( الشرف ، العلى ، المجد ، أريحي ، المروءة ، العفاف ، انتصاف ، كريم ، الهدى ، افتخار ، المكارم ، السماحة ، الكرامة ) وربّما نلاحظ افتنانه باستخدام لفظة ( كريم ) في معظم قصائده فلا تخلو هذه القصيدة من هذه اللفظة أيضاً فهو يوردها ليحدّد نجابة الاُصول والانحدار العرقي فيما مضى من أصل الإمام الحسن عليه‌السلام :

تلاقي فيك عرف دم كريم

فلامس بالهدى منك الشغافا

ويورد هذه اللفظة المجرّدة مع لفظة حسيّة ليعطي التركيب المتحصّل

٢٠٠